الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

يَعفُ عَنِ الزَّلَّةِ وَلا يَستُرُ العَورَةَ» (١).

٦ ـ ونقرأ في حديث آخر أنّه جاء شخص من الأشقياء إلى المأمون وكان المأمون قد عزم على قتله ، وكان الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حاضراً في ذلك المجلس فقال المأمون : «ما تَقُولُ يا أَبا الحَسَنِ ، فَقَالَ : أَقُولُ : إِنَّ اللهَ لا يَزيدُكَ بِحُسنُ العَفوِ إلّا عِزَّاً فَعفى عَنهُ» (٢).

وهكذا نجد أنّ المأمون قد عفى عن هذا الشخص الذي تجرّأ على ارتكاب ما هو ممنوع (وباحتمال قوى أنّه ارتكب جرماً سياسياً).

٧ ـ وجاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «قِلَّةُ العَفوِ أَقبَحُ العُيُوبِ وَالتَّسَرُعُ إِلى الإنتِقامِ أَعظَمُ الذُّنُوبِ» (٣)

٨ ـ وجاء في نهج البلاغة في الكلمات القصار عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «إذا قَدَرتَ عَلَى عَدُوكَ فَاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً لِلقُدرَةِ عَلَيهِ» (٤).

ونفس هذا المعنى ورد بصورة اخرى ومن ذلك قوله : «العَفوُ زَكاةُ الظّفَرِ» (٥).

٩ ـ وورد في حديث الإمام أبو الحسن الرضا عليه‌السلام (أو الإمام الهادي عليه‌السلام) أنّه قال : «ما التَقَتَ فِئَتانِ قَطُّ إلّا نَصَرَ اللهُ أَعظَمُهُما عَفواً» (٦)

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «دَعِ الإِنتِقامَ فَإِنَّهُ مِنْ أَسوءِ أَفعالِ المُقتَدِرِ» (٧).

ويستفاد من مجموع هذه الأحاديث الشريفة الأهميّة الكبرى التي يوليها الإسلام للعفو والصفح وكذلك يتّضح قبح الحقد والانتقام والثأر ، والأحاديث الشريفة في هذا الباب كثيرة لا يمكننا استعراضها في هذا المختصر.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٤٩ ، ص ١٧٢ ، ج ١٠.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١١.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٤٢٤ ، ح ٦٥.

٧ ـ غرر الحكم.

٣٨١

أقسام العفو :

إنّ فضيلة العفو والصفح وترك الانتقام والثأر تعتبر أصلاً من الاصول الشرعية والعقلية الواردة في الكتاب والسنة ، ولكنّه لا يعني عدم وجود الاستثناء في بعض الموارد ، بل هناك موارد يكون العفو والصفح فيها سبباً لجرّأة المجرمين والمنحرفين ، ولا شك أنّه لا أحد يرى في العفو في مثل هذه الموارد فضيلة أخلاقية ، بل إنّ حفظ نظام المجتمع والنهي عن المنكر والتصدّي لمنع وقوع الجريمة تقتضي عدم التساهل مع المجرم ، وترك العفو في مثل هذه الموارد ، والعمل بمقتضى العدل وما يفرضه من العقاب على المجرم.

ولذلك ورد في القرآن الكريم بالنسبة إلى المقابلة بالمثل في الآية ١٩٤ من سورة البقرة إشارة إلى هذا المعنى حيث تقول : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).

وطبعاً هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية ، وهو أنّ هذه الآية في مقام جواز القصاص العادل فقط ولا تدلّ على الوجوب أو الاستحباب (وفي الاصطلاح أنّ الأمر هنا هو في مقام توهّم الخطر والمنع).

وعلى أية حال فإنّ العفو والعقوبة لكل واحدة منهما محلّاً خاصاً لا ينبغي استخدام أحدهما مكان الآخر ، فالعفو إنّما يكون فضيلة فيما لو كان الإنسان قادراً على الإنتقام والمقابلة بالمثل وأنّه لو سلك طريق العفو لم يكن ذلك من موقع الضعف والتخاذل ولا يرى الطرف الآخر أنّ هذا الموقف الإنساني نقطة ضعف في هذا الشخص ، فمثل هذه الحالة للعفو تكون مفيدة وبنّاءة للطرفين ، فإنّها بالنسبة إلى الطرف المظلوم والذي مكنته الظروف من الظالم يسبب في صفاء قلبه وضبط جماح نفسه وسيطرته على نوازعه وأهوائه النفسانية ، وكذلك يعتبر مفيداً للظالم المغلوب حيث يدفعه إلى إصلاح نفسه وتهذيبها وعدم تكرار ذلك العمل العدواني.

وقد نجد في الأحاديث الإسلامية أيضاً إشارة إلى هذا الاستثناء ، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «العَفوُ يُفسِدُ مِنَ اللَّئِيمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الكَرِيمِ» (١).

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٢ ، ص ١٨٢ ؛ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج ٢٠ ، ص ٢٧٠ ، ح ١٢٤.

٣٨٢

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله : «العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لا عَنِ المُصِرِّ عَفو» (١).

وأيضاً ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام عليه‌السلام أيضاً قوله : «جاز بِالحَسَنَةِ وَتَجاوَزَ عَنِ السَّيئَةِ ما لَم يَكُن ثَلماً فِي الدِّينِ أَو وَهناً فِي سُلطانِ الإسلامِ» (٢).

ففي مثل هذه الموارد يجب التحرّك على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسيء.

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام في تأييد هذا المعنى حيث قال : «حَقٌ مَنْ أَساءَكَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ ، وَإِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ يضِرُّ إِنتَصَرتَ قالَ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالَى وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلِمهِ فَاولَئِكَ ما عَلَيهِم مِنْ سَبِيلٍ» (٣).

ولكن لا ينبغي أن يكون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف في بعض الموارد وأن يجعلها بعض الناس ذريعة للإنتقام في مورد العفو بحجّة أنّ العفو هنا يتسبب في زيادة الجرأة لدى المذنب والمجرم ، بل ينبغي النظر بأخلاص وبعيداً عن حالات التعصّب إلى أصل العفو والصفح وموارد الاستثناء بدّقة كبيرة والعمل طبق هذه الموارد والاستثناءات.

والجدير بالذكر أنّ العفو في دائرة إجراء الحدود والتعزيرات الشرعية غير جائز إلّا في بعض الموارد المنصوصة في الروايات الإسلامية ، لأنّ إجراء الحد والتعزير يعدّ من الواجبات الشرعية في مواردها.

الآثار الإيجابية والثمار الطيبة للعفو والصفح :

رأينا أنّ العفو والصفح باعتبارهما من الفضائل الأخلاقية التي وردت كثيراً في الآيات والروايات الشريفة تجتمع فيها آثار إيجابية ومعطيات حميدة كثيرة في حركة الحياة الفردية والاجتماعية حيث يمكن بيان خلاصتها :

١ ـ إنّ سلوك طريق العفو والصفح يمكنه أن يبدّل العدو الشرس أحياناً الى صديق حميم وخاصة فيما لو كان متزامناً بالإحسان إلى الطرف المقابل ، أي بالإجابة بالحسنة مقابل

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ح ٧٨٣ ، والمصدر نفسه ، ص ٣٣٠ ، ح ٧٨٣.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ ميزان الحمة ، ج ٣ ، ص ٢٠١٥ ، ح ١٣٢٢٥.

٣٨٣

السيئة كما وردت الإشارة إلى ذلك في الآية ٣٤ من سورة فصلت.

٢ ـ إنّ العفو والصفح يتسببان في دوام الحكومات واستمرار القدرة السياسية بين ذلك الحاكم الذي يمارس العفو مقابل أعدائه حيث يقلل من حالة العداء والخصومة لدى مخالفيه ويزيد من جماعة الأصدقاء والمحبّين ، ونقرأ ذلك في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عَفوُ المُلُوكِ بَقاءُ المُلكِ» (١).

٣ ـ إنّ العمل بمقتضى العفو والصفح يتسبب في زيادة عزّة الشخص وتقوية مكانته وشخصيته في المجتمع ، لأنّ ذلك علامة على قوة الشخصية والشرف وسعة الصدر ، في حين أنّ ممارسة الانتقام والثأر يدلّ على ضيق الافق وعدم التسلّط على النفس وانفلات قوى الشر وتسلطها على الإنسان ، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «عَلَيكُم بِالعَفوِ فَإِنَّ العَفوَ لا يَزيدُ إِلّا عزاً» (٢).

٤ ـ إنّ العفو يقطع تسلسل الحوادث اللّاأخلاقية في واقع الناس من الحقد والبغضاء وكذلك السلوكيات الذميمة والقساوة والجريمة ، وفي الواقع فإنّ العفو بمثابة المحطّة الأخيرة التي تقف عندها كل عناصر الشرّ هذه فلا يتجاوزها ، لأنّ الانتقام والثأر يتسبب من جهة إلى تسعير نار الحقد في القلوب ويدعوها إلى التعامل بقساوة أشد ويفعّل فيها الكراهية وعناصر الخشونة ، وهكذا يستمر الحال في عملية تصاعدية ، وأحياناً يؤدّي الحال إلى نشوب معارك طاحنة بين طائفتين أو قبيلتين كبيرتين أو تسفك في ذلك الكثير من الدماء وتدمر الكثير من الطاقات والأموال والثروات.

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «تَعافُوا تَسقُطُ الضِّغائِنُ بَينَكُم» (٣).

٥ ـ إنّ العفو يتسبب في سلامة الروح وهدوء النفس وسكينة القلب وبالتالي يتسبب في طول العمر كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ كَثُرَ عَفوُهُ مُدَّ فِي عُمرُهُ» (٤).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ١٦٨.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٨.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٣٧٣ ، ح ٧٠٠٤.

٤ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ح ١٣١٨٤.

٣٨٤

وبالطبع فما ذكرنا أعلاه هو من قبيل الآثار الإيجابية الدنيوية والبركات الاجتماعية للعفو والصفح ، وأمّا النتائج المعنوية والأجر والثواب الاخروي فأكثر من ذلك بكثير ، ونكتفي في هذا المعنى بحديث عن أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه : «العَفوُ مَعَ القُدرَةِ جُنَّةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ سُبحانَهُ» (١).

وأمّا أسباب ودوافع الانتقام والثأر فكثيرة أيضاً ومنها ضيق الافق والصدر وعدم النظر إلى المستقبل ، والحسد والحقد ، وضعف النفس ، واتباع الهوى ، والكثير من الصفات الذميمة الاخرى التي تدفع كل واحدة منها أو بضمّها إلى الاخرى الإنسان إلى السقوط في نار الانتقام وحالة الردّ بالمثل للتشفي والأخذ بالثأر ، وبالتالي زيادة النزاعات والصراعات بين الأفراد ممّا يفضي أخيراً إلى هدم نظام المجتمع وتلف الأموال والأنفس وهدر الطاقات والإمكانات للمجتمعات البشرية.

طرق علاج الانتقام وكسب فضيلة العفو :

إنّ أفضل الطرق لعلاج صفة الانتقام الرذيلة والصعود إلى أوج العزّة والكرامة باكتساب فضيلة العفو والصفح يكمن في الدرجة الاولى بالتفكر السليم حول معطيات وآثار كل واحد من هاتين الصفتين الأخلاقيتين ، فعند ما يرى الإنسان ما في العفو والصفح من البركات والمواهب والمعطيات الدنيوية والاخروية وكيف أنّه يتسبب في زيادة مكانته وعلو قدره وعزّته في نظر الخلق والخالق ويريح الإنسان من الكثير من المشكلات والمصاعب فيفتح له أبواب الحياة الكريمة ويثير المحبّة له في قلوب الناس ، في حين أنّ الانتقام والردّ بالمثل أحياناً يؤدّي إلى انهدام عناصر الخير في حياة الإنسان ويعرّض نفسه وماله وسمعته إلى الخطر الأكيد ، فحينئذٍ إذا قارن الإنسان بين هذه المعطيات الإيجابية والسلبية للطرفين فإنّه سيأخذ جانب العفو قطعاً ويرجحّه على جانب الانتقام ويستمر في سلوك هذا الطريق حتّى تحصل لديه ملكة أخلاقية لفضيلة العفو والصفح.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٣٨٥

ومن جهة اخرى فعند ما يتأمل الإنسان في جذور الحالة السلبية للإنتقام والدوافع النفسية التي تثير هذه الحالة في نفسه فإنّه سيتحرّك حتماً نحو علاجها والحد من شرّها وبذلك يتسنى له القضاء على المعلول في القضاء على علّته ، فيتبدّل الحقد والكراهية وحبّ الانتقام إلى الاخوة والمحبّة والعفو والصفح.

وبهذا نأتي على ختام بحثنا في فضيلة العفو والصفح وكذلك رذيلة حبّ الانتقام والثأر والردّ بالمثل رغم وجود مسائل كثيرة لم يسع المقام لذكرها.

٣٨٦

١٦

الغيرة وعدم الغيرة

تنويه :

إنّ (الغيرة) وردت في الروايات الإسلامية والنصوص الدينية بعنوان أنّها فضيلة أخلاقية مهمّة ، وهي في الأصل بمعنى الدفاع الشديد عن العرض والناموس أو المال والدين والمذهب والوطن وأمثال ذلك ، وخاصة أنّ هذه المفردة وردت في موارد يكون فيها الحق مختصّاً بشخص معيّن أو جماعة ، ويريد الآخرون التعرّض لهذا الحق وسلبه من صاحبه أو أصحابه ، فيقوم الطرف الآخر بالدفاع الشديد عن حقّه.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الصفة إذا تحلّى بها الإنسان وسلك بها طريق الاعتدال فإنّها تعدّ فضيلة كبيرة في دائرة الأخلاق والقيم الإنسانية ، فما أعظم حالاً من أن يقوم الإنسان بالتصدّي ومنع الأجنبي عن التخطي إلى حريم عرضه أو وطنه ويقف في مقابل هذا العدوان ويدافع عن حقّه إلى حدّ الموت.

ومع الأسف فإننا نعيش في العالم المعاصر الذي إفتقد كثيراً من القيم الأخلاقية واستولت عليه الكثير من الانحرافات الأخلاقية في دائرة الاسر والعوائل الخاصة ، ولا سيما ما نجده في العالم الغربي من الإرتباط اللّامشروع بين النساء والرجال بحيث نسيت هذه الصفة الأخلاقية ، بل إنّها وصلت لدى البعض إلى حالة معاكسة فأصبحت مخالفة للقيم

٣٨٧

والاصول الأخلاقية واعتبرت من قبيل التعصّبات العمياء والأنانية ، وهذا يعدّ بذاته فاجعة كبيرة على المستوى الأخلاقي والثقافي ، في حين أنّ الإنسان والمجتمع البشري لا يستطيع أن يتحرّك باتّجاه حماية الأخلاق والقيم والمباديء الدينية والاجتماعية بدون عنصر الغيرة.

وفي هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دورساً وعبراً في هذه المسألة المهمّة والأساسية في حياة الإنسان الاجتماعية :

١ ـ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(١).

٢ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)(٢).

٣ ـ (... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ)(٣).

تفسير واستنتاج :

تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات محل البحث عن ثلاثة طوائف من الفئات الشريرة في المجتمع الإسلامي الأول في المدينة ، فتذكر الآية هذه الطوائف الثلاث بأسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون ، أي الذين يتحرّكون في بث الشائعات والأكاذيب بين الناس لتضعيف معنويّات المسلمين وإتهام النساء العفيفات والمحصنات وتحذّرهم الآية بأشد العذاب الإلهي وتقول : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً).

__________________

١ ـ سوره الأحزاب ، الآية ٦٠ ـ ٦٢.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٣٣.

٣ ـ سورة النور ، الآية ٣١.

٣٨٨

هذه الغيرة الإلهية التي تقود المسلمين إلى الدفاع الشديد عن أعراضهم ونواميسهم وكيانهم هي اسوة لجميع المسلمين في مسألة الغيرة على الدين والناموس ، وتدلّ على أنّ الإنسان الذي يتحرّك في خط الإيمان والحق لا ينبغي أن يواجه ممارسات الأراذل والمنافقين والأشرار من موقع اللّامبالاة وعدم الاهتمام والبرودة.

وهذا التعبير الوارد في الآية الكريمة يدلّ على أنّ هذه المسألة عبارة عن فضيلة أخلاقية كبيرة ووظيفة اجتماعية للمؤمنين رغم ما أورده التاريخ من سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتشدّد في مثل هذه الموارد مع المخالفين وقوى الإنحراف.

إنّ الصفات الثلاثة التي ذكرتها الآية لهؤلاء المخالفين : (الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ) يمكنها أن تشير جميعها إلى طائفة معيّنة تتحرّك باتّجاهات مختلفة لتكريس حالة التخاذل والوهن والضعف بين المسلمين ، ولكنّ ظاهر الآية وما ورد في شأن نزولها من الروايات يشير إلى أنّ هذه الصفات الثلاث هي لثلاث طوائف من هؤلاء المنحرفين وهم : المنافقون الذين يتحرّكون في بث الشائعات حول غزوات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لتضعيف روحية المسلمين وتقوية عنصر الانهزام والتخاذل في قلوبهم ، وطائفة الأراذل والأشرار الذين يتعرّضون لنساء المسلمين ويتسببون في إزعاجهّن والتحرّش بهنّ ، والطائفة الثالثة يتحرّكون في عملية بث الشائعات عن النساء المؤمنات وإتهامهنّ في عفتهن حيث يؤلمهنّ ذلك بشدّة ، فنزلت الآية أعلاه من موقع التهديد لهذه الفئات الثلاث بالنفي والقتل.

أمّا قوله : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فقد يرد في الآيات القرآنية بمعاني مختلفة ، فأحياناً يشير إلى النفاق مثل ما ورد في الآية ١٠ من سورة البقرة : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ، وأحياناً اخرى يرد في مورد الأشخاص الذين يتّبعون غريزتهم الجنسية في دائرة الحيوانية كما ورد في الآية ٣٢ من هذه السورة التي تخاطب نساء النبي وتوصيهنّ بأن لا يخضعن بالقول للأشخاص الأجانب حتى لا تتحرّك فيهم الغريزة ويطمعوا بالحرام فيقول : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).

٣٨٩

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم بعد هذه الآيات (الآية ٦٠ و ٦١) يضيف أنّ هذه هي سنّة الله في الأقوام السالفة (ولا تنحصر بالامّة الإسلامية ولا تبديل لسنة الله).

وهذا السياق الشريف يشير إلى حكم عام وارد في جميع الأديان الإلهية ، وسنة إلهية قطعية لا تتبدّل ، وهي ضرورة المواجهة الجادّة مقابل المنافقين والانتهازيين والذين يبثون الشائعات المغرضة (طبعاً مع حفظ جميع المقرّرات الشرعية والعقلية) وهذا هو مفهوم الغيرة بكل وضوح.

وتتحرّك «الآية الثانية» لتحكي لنا عن نموذج للغيرة الدينية التي تتجلّى في سلوك أحد أكبر الانبياء الإلهيين ، أي النبي يوسف عليه‌السلام وذلك عند ما تعرّض للتحرش من قبل نساء مصر وخاصة زليخا إمرأة العزيز حيث طلبت منه الإستسلام والرضوخ لمطاليبهن اللّامشروعة وارتكاب الفاحشة ، وبينما كان يوسف عليه‌السلام في سن الشباب والمراهقة وتهب في صدره أعاصير الحيوية والغريزة والانجذاب إلى الدنيا ، إلّا أنّه قاوم كل هذه التحدّيات الداخلية والخارجية الصعبة حتى أنّه فضّل دخول السجن مع جميع مشقاته وآلامه على الاستسلام لمطاليبهن والرضوخ لعناصر الشهوة والمقام والجمال وطلب من الله تعالى أن يوفقّه لدخول السجن للخلاص من هؤلاء النسوة وقال : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ).

وهذا السياق الشريف يكشف عن مقام العصمة والعفّة ليوسف عليه‌السلام وكذلك يحكي عن غيرته وتقواه أمام الهزات ، فعند ما نقارن بين هذه الروحية العالية في دائرة التعفف والصمود والإرادة مع ما نجده لدى عزيز مصر من عدم الغيرة والتساهل في أمر العفّة لدى زوجته بعد ما ثبت له سلوك زوجته الخائن اكتفى بالقول : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(١).

ويتّضح جليّاً الفرق بين هذين الرجلين من موقع الأمانة والتقوى والعفّة النفسية ، ولم

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٢٩٠.

٣٩٠

يكن يوسف عليه‌السلام يقصد طلب السجن من الله تعالى بالذات ولغرض شخصي بل كان هدفه التخلص من ممارسة اللّامشروع وأنّه إذا خيّر بين السجن وبين الممارسة اللّامشروعة فإنّه يفضّل السجن على ذلك العمل.

وتأتي «الآية الثالثة» لتستعرض الأمر الإلهي للنساء المؤمنات بأنّه مضافاً إلى لزوم حفظ الحجاب فيجب عليهنّ أن لا يضربن بأرجلهن أثناء المشي في الطرقات لكي لا يسمع الأجنبي صوت الخلاخل من الزينة وتقول : (... وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).

فنرى في هذه الآية الشريفة إقتران الغيرة مع العفّة إلى درجة أنّه لم يسمح للنسوة أن يضربن بأرجلهن فيسمع الرجال أصوات الخلاخل في أرجلهن ، وكما أشرنا آنفاً أنّ الإسلام يأمر نساء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (بعنوان كونهنّ اسوة وقدوة لسائر النساء المسلمات) أنّه عند ما يتحدّثن مع الغرباء فلا يخضعن بالقول ولا يرى الغريب عنصر المرونة واللطافة في كلامهنّ ولئلّا تتحرّك فيه عناصر الشر ، كل ذلك يعدّ تأكيداً لرعاية العفّة من جهة ، وكذلك الالتزام بفضيلة الغيرة من جهة اخرى.

الغيرة في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية الأهمية الكبيرة التي يوليها الإسلام لمسألة الغيرة بعنوانها فضيلة أخلاقية في دائرة القيم والمثل والمعنوية والكمالية للإنسان وحتى أنّ الله تعالى وصف بالغيور (أي الذي يغار كثيراً) ومن ذلك :

١ ـ ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِنَّ اللهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ وَلِغيرَتِهِ حَرَّمَ الفَواحِشَ ظاهِرَها وَباطِنَها».

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال : «إذا لَم يَغُرِ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنكُوسُ القَلبِ» (١).

__________________

١ ـ فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٥٣٦ ، ح ٢.

٣٩١

وقال العلّامة المجلسي قدس‌سره إنّ المراد بالقلب المنكوس هنا هو التشبيه بالإناء المقلوب الذي لا يبقى فيه شيء من الطعام أو الماء ، فالحديث الشريف يقرّر أنّ قلب مثل هؤلاء الأشخاص الفاقدين للغيرة خالٍ من الصفات الأخلاقية السامية وفارغ من المثل الرفيعة (١).

وهذا التعبير يدلّ بوضوح إلى أنّ صفة الغيرة ترتبط برابطة وثيقة مع سائر الصفات الأخلاقية العليا للإنسان.

٣ ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «كانَ إِبراهَيمُ أَبِي غَيُوراً وَأَنا أَغيَرُ مِنهُ وَأَرغَمَ اللهُ أَنفَ مَنْ لا يُغَارُ مِنَ المُؤمِنِينَ» (٢).

٤ ـ وجاء في حديث آخر عن هذا النبي الأعظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «إِنِّي لَغَيُورٌ وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَغيَرُ مِنِّي وَأَنَّ اللهَ تَعالى يُحِبِّ الَغَيُورَ».

٥ ـ وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال : «إنَّ الغِيرَةَ مِنَ الإِيمانِ» لأنّ الإيمان يدعو الإنسان إلى حفظ الدين والبلد الإسلامي والسلوك في طريق التصدّي للأخطار التي تواجه هذه المتعلقات المهمّة للإنسان ، فمن لم يتحرّك على مستوى الدفاع عنها ولم يتحرك عنصر الغيرة في أعماق ذاته فإنّه بعيد عن الإيمان (٣).

٦ ـ وورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «قَدْرُ الرَّجُلِ قَدْرِ هِمَّتِهِ ... وَشَجاعَتُهُ عَلى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَعِفَّتِهِ عَلى قَدْرِ غَيرَتِهِ» (٤).

٧ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «أَتى النَّبِيّ بِاسارى فَأَمرَ بِقَتلِهِم وَخلَّا رَجُلاً مِنْ بَينِهِم فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : كَيفَ اطلَقتَ عَنِّي؟

فَقَالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَخبَرَنِي جِبرئيل عَنِ اللهِ أَنَّ فِيكَ خَمسُ خِصال يُحِبُّها اللهُ وَرَسُولُهُ : الغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلى حَرَمِكَ وَالسَّخاءُ وَحُسْنُ الخُلقِ وَصِدقُ اللِّسانِ وَالشَّجاعَةَ».

__________________

١ ـ مرآة العقول ، في ذيل الحديث المبحوث.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ١٠٠ ، ص ٢٤٨ ، ح ٣٣ ؛ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٣٨٧ ، ح ٧٠٧٦.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٣٨٥ ، ح ٧٠٦٥.

٤ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٧.

٣٩٢

فلما سمع الرجل أسلم وحسن اسلامه وقاتل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى استشهد (١).

٨ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ضمن توبيخه لأهل العراق الذين تخرج نساؤهم من منازلهم بدون اهتمام بالحجاب ويختلطن مع الرجال فقال : «لَعَنَ اللهُ مَنْ لا يغارُ» (٢).

تعريف أقسام الغيرة :

كما أشرنا آنفاً أنّ الغيرة هي صفة أخلاقية تدفع الإنسان في طريق الدفاع المستميت عن الدين والمذهب والعرض والبلد ، وأساساً فإنّ كل حالة من الدفاع الشديد عن القيم الإنسانية فهي تتضمّن نوع من الغيرة ، ورغم أنّ هذه المفردة تستعمل غالباً في دائرة الغيرة على العرض والناموس ولكنّ مفهومها واسع يستوعب مصاديق أكثر.

وبالطبع فإنّ هذه الصفة الأخلاقية حالها حال الصفات الاخرى من حيث أنّها قد يسلك بها الإنسان سبيل الافراط والتفريط وبذلك تتبدّل إلى خلق ذميم ، وذلك في صورة ما إذا كان الدفاع المذكور يتّخذ صبغة التعصّب الذميم والوسواس والدفاع غير المنطقي وغير العقلائي.

فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مِنَ الغِيرةِ ما يُحِبُّ اللهُ وَمِنها ما يَكرَهُ اللهُ فَأَمّا ما يُحِبُّ فَالغِيرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمّا ما يَكرَهُ فَالغَيرَةِ فِي غَيرِ الرِّيبَةِ» (٣).

يعني أنّ الإنسان يتّهم زوجته مثلاً بعدم العفّة على أساس من الظن والاحتمال وتعتمل في صدره عناصر الوسواس والشك تجاه زوجته البريئة ، فمثل هذه الحالة السلبية تكون خطرة على سلامة الإنسان والاسرة وتؤدّي إلى تشجيع الأشخاص الأبرياء إلى الوقوع في وحل الخطيئة وتقودهم إلى مستنقع الرذيلة.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في أحد كتبه إلى إبنه الإمام

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ١٠٩ ، الباب ٧٧ ، ح ١٠.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٦ ، ص ١١٥ ، ح ٧.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٣٨٥ ، ح ٧٠٦٧.

٣٩٣

الحسن عليه‌السلام يقول : «وَإِيّاكِ وَالتَّغايُرَ فِي غَيرِ مَوضِع غَيرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدعُو الصَّحِيحَةَ إِلى السَّقمِ وَالبَرِيئَةَ إِلى الرَّيب» (١).

وفي الحقيقة أنّ الافراط في كل شيء مذموم وخاصة في أمثال هذه الموارد من السلوك الأخلاقي تجاه العرض والحساسية المفرطة تجاه سلوك الزوجات والأرحام من النساء والنظر إلى سلوكهنّ من موقع الريبة والشك والتهمة ، فقد يكون هذا الأمر هو السبب في وقوعهنّ في وادي الرذيلة والفساد ، وعلى أيّة حال إنّ هذه الموارد من الغيرة وسوء الظن تعتبر حراماً شرعاً ويجب اجتنابها والابتعاد عنها تماماً ، وقد ورد في الأخبار المتعلقة بزمن الجاهلية أنّ أحد الأسباب المهمّة لوأد البنات هو عنصر الغيرة المنحرف واللّامنطقي لدى هؤلاء الجاهلين حيث كانوا يقولون : إنّ من الممكن أن تكبر هذه البنات وتتعرّض للأسر من قبل أفراد القبيلة المعادية فتكون أعراضنا في معرض النهب والتلاعب بيد الأعداء ، فالأفضل أن ندفنهنّ وهنّ صغار لحفظ العرض.

آثار الغيرة في حركة الحياة :

إنّ الغيرة إذا استعملت بصورة صحيحة ومعتدلة إيجابية فإنّها بمثابة قوّة دفاعية عظيمة تدفع الإنسان إلى التصدّي للأعداء والانتصار عليهم ، لأنّ مثل هذه القوّة الباطنية عند ما تتعرّض نفس الإنسان وأمواله وناموسه ودينه وإيمانه أو استقلال وطنه إلى الخطر المحدق فإنّ هذه القوّة تعبيء جميع الطاقات والقوى الذاتية والباطنية في الإنسان وتوحّدها تحت قيادة عنصر الغيرة لتعين الشخص في عملية الدفاع الشريف ، وأحياناً يعيش الإنسان الغيور تحت عنصر الغيرة بحيث تتضاعف قوّته إلى قوّة عشرة أشخاص وتدفع به إلى حد التضحية بنفسه والصمود البطولي بشجاعة وشهامة كبيرة ، ولهذا السبب كانت الغيرة أحد العوامل المهمّة في طريق العزّة والافتخار والحياة الشريفة.

أمّا الأشخاص الذين يعيشون الانحراف والتلّوث فعند ما يواجهون إنساناً غيوراً في تحرّشهم بأعراض الناس فإنّهم يفقدون مقاومتهم بسرعة ويتراجعون أمامه في صورة من التخاذل والذلّة ، وهذا هو أيضاً من بركات الغيرة.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٣١.

٣٩٤

الغيرة تسبب أيضاً في تقوية عناصر الشد للقيم الأخلاقية والمثل الرفيعة للمجتمع الإنساني وتجعله محفوظاً من التلّوث والانحراف في منزلقات الخطيئة.

إنّ الغيرة تتسبب أيضاً في حفظ أمن المجتمع وإزالة مظاهر الفساد والفحشاء ، في حين أنّ عدم الغيرة يهدم أمن المجتمع ويعمل على تحطيم المثل الإنسانية والقيم الأخلاقية في أفراد المجتمع وبالتالي ينزلق مثل هذا المجتمع نحو الفساد والانحطاط الأخلاقي.

ونقرأ في سيرة الأنبياء أنّه عند ما رأى النبي لوط عليه‌السلام مظاهر الفساد والتلّوث من قومه الأشقياء حتى أنّهم راودوه عن ضيفه (وهم ضيوفه من الملائكة الذين دخلوا عليه على شكل فتيان حسان الوجوه ولم يكن لوط عليه‌السلام عليم بواقعهم) تملّكه الخوف والاستياء الشديد ممّا رأى من تعرّض قومه الأشرار إلى هؤلاء الضيوف عند ما سمعوا بهم قد دخلوا في بيت لوط ، وكلما نصحهم لوط عليه‌السلام فإنّ كلامه ذهب أدراج الرياح ولم يؤثر في هؤلاء الأشرار شيئاً حتى أنّه عرض عليهم الزواج من بناته (فيما إذا تابوا وآمنوا) ولكنّهم رغم هذا الإيثار العظيم من لوط لم يرتدعوا عن غيّهم واستمروا في طلبهم الدنيء وممارسة الضغط على لوط عليه‌السلام ليسلمهم الضيوف الكرماء ، فقال لهم لوط : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)(١).

ولكن عند ما رأى أنّ كلامه لا يؤثر شيئاً في نفوس هؤلاء الأشرار ولا يرتدعون عن غيّهم ازداد حزناً وألماً ونصباً وعند ما كشف هؤلاء الضيوف عن واقعهم وأنّهم من الملائكة وطمأنوه بأن لا يخاف من هؤلاء الأشرار فإنّ العذاب الإلهي نازل بحقهم وسيتعرّضون للهلاك عمّا قريب.

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول : «إِنّ المَرَأ يَحتاجُ فِي مَنزِلِهِ وَعيالِهِ إِلى ثَلاثِ خَلالِ يَتَكَلَّفُها وَإِنْ لَم يَكُن فِي طَبعِهِ ذَلِك : مَعاشِرَةٌ جمِيلَةٌ ، وَسِعَةٌ بِتَقدِيرٍ وَغَيرَةٌ بِتَحصِينٍ» (٢).

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٧٨.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٣٦.

٣٩٥
٣٩٦

١٧

الأُلفة والانفراديّة

تنويه :

لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع تحت عنوان المعاشرة والعزلة في كتبهم الأخلاقية ، ونقرأ أحياناً في هذه الكتب اختلاف العلماء في أيّهما الأفضل ، المعاشرة مع الناس أو العزلة والانزواء؟ فقد يرى البعض أنّ العزلة أو الانزواء عن الناس أفضل من معاشرتهم والاختلاط بهم ، وبعض آخر رجحّ المعاشرة والاختلاط على العزلة ، وذهب ثالث إلى أنّ ذلك يختلف باختلاف الظروف والشرائط ، فتارة يكون الأول أفضل من الثاني واخرى بالعكس.

ولكن المحققين (وخاصة في عصرنا الحاضر) وبالاقتباس من الكتاب والسنة ودليل العقل يرون أنّ الأصل في حياة الإنسان هو أن يعيش حالة الأُلفة ، وذهبوا إلى أنّ الإنسان موجود اجتماعي ولا يتمكن من الصعود بمستواه الأخلاقي وتكامله المعنوي والنضج العقلي إلّا في ظل المجتمع والاختلاط مع الآخرين ، وبذلك يتسنى له التسريع في حلّ مشاكله والتخفيف من آلامه ووصوله إلى السعادة المنشودة.

هؤلاء يرون أنّ الانزواء أو العزلة لا تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة ولا تتوافق مع روح التعليمات الإسلامية والقرآنية ، بل إنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد على الروح

٣٩٧

الاجتماعية لدى الإنسان وتجعل من المعاشرة البنّاءة بشكل عبادة جماعية من قبيل صلاة الجمعة والجماعة والمسائل المتعلّقة بحقوق الإنسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجراء الحدود وإحقاق الحقوق والتعاون على البر والتقوى وأمثال ذلك.

إنّ الإسلام يرى أنّ «يَدُ اللهِ مَعَ الجَماعَةِ» كما ورد في الحديث الشريف ، وأنّ أي إبتعاد عن صفوف المسلمين يؤدّي إلى نفوذ الشيطان واستيلائه على الإنسان كما ورد في نهج البلاغة : «والشَ اذُّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئِبِ» (١).

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستعرض الآيات الشريفة في هذا الموضوع :

١ ـ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٢).

٢ ـ (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)(٣).

٣ ـ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤).

٤ ـ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ)(٥).

٥ ـ (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها)(٦).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٠٣.

٣ ـ سورة النساء ، الآية ١١٥.

٤ ـ سورة الانفال ، الآية ٦٢ و ٦٣.

٥ ـ سورة الصف ، الآية ٤.

٦ ـ سورة الحديد ، الآية ٢٧.

٣٩٨

تفسير واستنتاج :

إنّ كل واحدة من الآيات الشريفة المذكورة آنفاً تشير إلى جهة خاصة من مسألة أهميّة المعاشرة والاجتماع وأهميّة الوحدة والاتّحاد بين أفراد المجتمع ، ففي «الآية الاولى» نقرأ دعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتمسك به وعدم سلوك طريق الفرقة والاختلاف وتقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)

أمّا ما هو المراد من حبل الله الوارد في الآية الشريفة؟ فإنّ المفسّرين اختلفوا في ذلك ، وقد ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ المراد منه هو القرآن الكريم الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون محوراً لوحدتهم وتماسكهم ، وفي بعض الروايات الاخرى ذكرت أنّ المراد من حبل الله هو أهل البيت عليهم‌السلام ، ومعلوم أنّ كل هذه المعاني تشترك في حقيقة واحدة ، وهي أنّ حبل الله تعالى هو ما يربط الإنسان بالله تعالى سواءاً عن طريق القرآن الكريم أو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام.

وكما نرى أنّ هذه الآية الشريفة تؤكّد على مسألة المودّة ووشائج المحبّة بين المسلمين وترك العداوة والفرقة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يتوافق مع عزلة الإنسان وإنزوائه عن المجتمع ولا مفهوم حينئذٍ للإعتصام بحبل الله تعالى ، واللطيف أنّ القرآن الكريم في الآية أعلاه يقرّر أنّ العداوة هي من سنن الجاهلية وأنّ المحبّة والصداقة هي من خصائص الإسلام ويقول في ذيل الآية الشريفة مؤكّداً على هذا المعنى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

والجدير بالذكر أنّ الإسلام لا يرى العلاقة بين المسلمين هي علاقة الصداقة فحسب ، بل علاقة الاخوة التي تعمّق في الناس الرابطة العاطفية بين الأخوان القائمة على أساس المساواة والمحبّة المتبادلة.

وبديهي أنّ هذه المحبّة الأخوية لا يمكن أن تتجلّى وتتفاعل في حال ابتعاد الاخوة عن بعضهم البعض ، فلا بدّ لتفعيل هذه العاطفة الإنسانية من الحياة المشتركة والمعاشرة فيما بين الاخوة.

٣٩٩

والملاحظة المهمّة الاخرى هي أنّ الامور المادية والدنيوية لا يمكن أن تكون محور وحدة المجتمع وأداة قويّة لتعميق الروابط الاجتماعية بين الأفراد ، لأنّ الامور المادية عادة تكون سبباً للتنازع والاختلاف والفرقة ، فحاجات الناس الدنيوية والمادية غير محدودة ، وأمّا الامور المادية في الطبيعة فمحدودة ، ومن هنا ينشأ التضاد والاختلاف ، ولكن حبل الله تعالى والارتباط مع الله تعالى هو أمر معنوي وروحاني ويمكنه أن يحقّق أفضل رابطة عاطفية بين أفراد البشر من كل قوم ولون وقبيلة ولغة.

وتأتي «الآية الثانية» لتتحدّث لنا عن المصير المؤلم للأشخاص الذين يعيشون بعيداً عن جماعة المسلمين ويسلكون سبيلاً مستقلاً ومنفصلاً عن المجتمع الإسلامي وتقول : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

هذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ الله تعالى يأمر المسلمين في المجتمع الإسلامي بضرورة الالتزام الاجتماعي وعدم الانفصال والفرقة وأن يسير المؤمنون سويّة في خط الإيمان والانفتاح على الله تعالى ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار جملة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) وكذلك عبارة (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يتّضح جيداً أنّ المراد هو التنسيق بين أفراد المجتمع الإنساني من خلال إتّباع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والسير إثر خطواته الحكيمة في خط الإيمان والطاعة لله تعالى حيث تكون التقوى والإيمان محوراً للسلوك الاجتماعي ، وإلّا فلا معنى لأنّ تعني الآية مفهوم المعاشرة الاجتماعية بدون هذا المحور المعنوي.

ولا شكّ أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الجماعة دائماً ، فكان يصلّي معهم خمسة مرّات في اليوم ويصلّي صلاة الجمعة في اجتماع أعظم ، وكذلك في اجتماع المسلمين العام لمراسم الحج ، فكل هذه البرامج العبادية تنضوي تحت مدلول الآية الشريفة ، ومعلوم أنّ الأشخاص الذين يعيشون الإنزواء والعزلة وينفصلون عن جماعة المؤمنين سيكونون مشمولين للتهديد والوعيد وبالعذاب الأليم المذكور في الآية الشريفة.

٤٠٠