الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

لا يعرف حدّاً معيّناً ، وعلى سبيل المثال يمكننا بيان ما تقدّم من الفرق بين هذين النحوين من الغضب بالقول بأنّ الغضب المقدّس حاله حال السيل النازل من الجبال والمجتمع خلف السد حيث يتمّ الإستفادة منه بشكل منظّم ومحسوب ، مياهه تجري في قنوات خاصة وتتسبب في عمران المنطقة وزيادة البركة والخير العميم ، في حين أنّ الغضب الشيطاني حاله حال السيول المخرّبة التي تسيل من الجبال ولا تجد أمامها مانعاً من الموانع وبالتالي فإنّها تدّمر كل شيء تجده أمامها.

ونختم هذا الحديث بكلام عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول : «إِنَّما المُؤمِنُ الَّذِي إِذا غَضَبَ لَم يَخرُجهُ غَضَبُهُ مِنْ الحِقِّ وَإِذا رَضَيَ لَم يَدخُلهُ رِضاهُ فِي باطِلٍ» (١).

الحلم وسعة الصدر :

النقطة المقابلة لحالة الغضب والحدّة المذمومة هي الحلم وضبط النفس وسعة الصدر كما ورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام عند ما سئل عن معنى الحلم فقال : «كَظمُ الغَيظِ وَمِلكُ النَّفسِ» (٢) ، ومن علاماته حسن التعامل مع الناس والمعاشرة بالمعروف مع الآخرين كما ورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «لَيسَ بِحَليمٍ مَنْ لَمْ يُعاشِرِ بِالمَعرُوفِ مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعاشَرَتَهُ» (٣).

أمّا الأشخاص الذين يتحلّمون بسبب عجزهم وعدم قدرتهم على إشهار الغضب وممارسته فهم يفتقدون في الواقع لفضيلة الحلم وسعة الصدر ، لأنّهم كلّما وجدوا القدرة على ممارسة غضبهم وإخراجه إلى دائرة العمل يتحرّكون فوراً للإنتقام من الطرف الآخر كما ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «لَيسَ الَحلِيمُ مَنْ عَجَزَ فَهُجِمَ وإِذا قَدَرَ إنتَقَمَ إِنَّما الحَلِيمُ مَنْ إِذا قَدَرَ عَفى» (٤).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٤ ، ص ٣٥٤.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ١٣٠ ، ح ٥٨١٥.

٤ ـ غرر الحكم.

٣٦١

وعلى أية حال فإنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من أفضل وأكرم القيم الأخلاقية وخاصة للرؤساء والمدراء والأولياء على العوائل حيث يتسبب في تكاملهم المعنوي وقوّة مديريّتهم وجذب القلوب إليهم وبالتالي بإمكانه أن يحل لهم الكثير من المشكلات ويهوّن عليهم المصاعب ، أمّا بالنسبة إلى أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية فنختار في هذا المضمون عدّة روايات واردة في هذا الباب :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَلا اخبِرُكُم بِأشبَهَكُم بِي أَخلاقاً؟ قالُوا : بَلى يا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ : أَحسِنَكُم أَخلاقاً وَأَعظَمَكُم حِلماً وَأَبَرَّكَمُ بِقَرابَتِهِ وَأَشَدَّكُم إِنصافاً مِنْ نَفسِهِ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا» (١).

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً قوله : «ما جُمِعَ شَيٌّ إِلى شَيٍّ أَفضَلَ مِنْ حِلمٍ إِلى عَلمٍ» (٢).

٣ ـ وورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «أَشجَعُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ الجَهلَ بِالحِلمِ» (٣).

ويشبه هذا المعنى ما ورد أيضاً عن الإمام عليه‌السلام أنّه قال : «أَقوَى النّاسِ مَنْ قَوى عَلى غَضِبِهِ بِحِلمِهِ» (٤).

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام أنّه قال : «إِنَّ أَفضَلَ أَخلاقِ الرَّجالِ الحِلمُ» (٥).

٥ ـ وفي حديث شيّق عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إِنَّ المُؤمِنَ لَيُدرِكَ بِالحِلمِ واللِّينِ دَرَجَةَ العابِدِ المُتَهَجِّدِ» (٦).

وهذا تعبير في الحديث الشريف يبيّن بوضوح أنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من العبادات المهمّة في دائرة القرب الإلهي.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ١٥٢ وورد مثلها مع تفاوت يسير في وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٢١١.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٢١٢.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المصدر السابق.

٦ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١١ ، كتاب الجهاد ..

٣٦٢

٦ ـ وجاء في حديث آخر عميق المعنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مِنْ أَحَبَّ السَّبِيلِ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جُرعَتانِ جُرعَةَ غَيطٍ تَرُدُها بِحِلمٍ وَجُرعَةُ مُصِيبَةٍ تَرُدُّها بِصَبرٍ» (١).

٧ ـ وسمع الإمام علي عليه‌السلام يوماً رجلاً يشتم خادمه قنبر وكأنّ قنبر أراد أن يجيبه فقال له الإمام : «مَهلاً يا قَنبَر ، دَع شاتِمَكَ ، مُهاناً ، تَرضي الرَّحمنَ ، وَتُسخِطُ الشَّيطانَ ، وَتُعاقِب عَدوَّكَ ، ، فَوَ الَّذِي خَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرأَ النَّسَمَةَ ما أَرضى المُؤمِنُ رَبَّهُ بِمِثلِ الحِلمِ ، وَلا أَسخَطَ الشَّيطانَ بِمثلِ الصَّمتِ ، وَلا عُوقِبَ الأَحمَقُ بِمثلِ السُّكُوتِ عَنهُ» (٢).

٨ ـ وورد عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ كَظَمَ غَيظاً وَهُوَ قادِرٌ عَلى إِنفاذِهِ وَحَلُمَ عَنهُ أَعطاهُ اللهُ أَجرَ شَهيدٍ» (٣).

٩ ـ وورد في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّ أباه علي بن الحسين عليه‌السلام قال : «إنَّهُ لَيُعجِبُنِي الرَّجُلُ أَنْ يُدرِكُهُ حِلمُهُ عِنَدَ غَضَبِهِ».

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام (رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب) ورد في هذا الحديث عن حفص ابن أبي عائشة قال : بعث أبو عبد الله عليه‌السلام (الصادق) غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج أبو عبد الله عليه‌السلام على أثره لمّا أبطأ ، فوجده نائماً ، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه ، فلمّا تنبّه قال له أبو عبد الله : «يا فلان واللهِ ما ذَلِكَ لَكَ ، تَنامُ اللّيلَ وَالنَّهارِ ، لَكَ اللّيلُ وَلَنا مِنكَ النّهارُ» (٤).

هذا السلوك الممعن في المحبّة والتواضع والحلم للإمام عليه‌السلام يمكنه أن يكون اسوة للأشخاص الذين يعيشون حالة الغضب والحدّة وأنّهم في مثل هذه الموارد عليهم أن يسدلوا الستار على غضبهم ويسلكوا طريق الحلم وضبط النفس.

وهنا ينبغي استعراض بعض الامور المهمّة في هذا الباب :

١ ـ إنّ الحلم وضبط النفس له آثار إيجابية كثيرة في حياة الناس على المستوى الفردي والاجتماعي ، ومن ذلك :

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١١٠ ، ح ٩.

٢ ـ سفينة البحار ، مادة الحلم.

٣ ـ جامع الأحاديث ، ج ١٣ ، ص ٤٧٩ ، ح ١٢.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١١٢ ، ح ٧.

٣٦٣

إنّه يحفظ الإنسان من أخطار الغضب التي قد تدمّر حياته وتجعله يعيش الندم إلى آخر عمره.

والآخر أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وقوّة الشخصية والشرف ، لأنّ جميع الناس يرون أنّ الحلم وضبط النفس في مقابل الأشخاص الجهلاء والحاقدين دليل على عظمة النفس وقوّة الشخصية ورجحان العقل ، ولذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «مَن حَلُمَ سادَ» (١).

مضافاً إلى ذلك أنّ الحلم في مقابل الجهلاء يتسبب في أنّ الناس يهرعون لنصرة الحليم ضدّ الجاهل ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إنَّ أَوّلُ عِوَضِ الحَليمِ مِنْ خِصلَتِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلُّهُم أَعوانُهُ عَلى خَصمِهِ» (٢).

ومضافاً إلى أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وماء الوجه في حين أنّ الغضب العجين بالجهل يتسبب في إراقة ماء الوجه وهتك حرمة الإنسان ، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما عَزَّ اللهُ بِجهلٍ قَطُّ وَلا أَذَلَّ بِحلمٍ قَطُّ» (٣)

والخلاصة أنّ فضيلة الحلم وضبط النفس وسعة الصدر لها بركات وإيجابيات كثيرة في حياة الإنسان ، وأفضل ما قيل في هذا الباب ما ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَأَمّا الحِلمُ فَمِنهُ رُكُوبُ الجَمِيلِ ، وَصُحبَةُ الأَبرارِ ، وَرَفعٌ مِنَ الضِّعَةِ ، وَرَفعٌ مِنَ الخَساسةِ وَتَشهِّي الخَيرِ ، وَيُقَرِّبُ صاحِبَهُ مِنْ مَعالِي الدَّرَجاتِ ، وَالعَفوَ وَالمَهلِ وَالمَعرُوفِ والصَّمتِ ، فَهذِا ما يَتَشَعَّبُ لِلعاقِلِ بِحِلمِهِ» (٤).

٢ ـ إنّ الحلم وضبط النفس حاله حال سائر الصفات الأخلاقية للإنسان من حيث الدوافع والأسباب المتعددة التي تقود الإنسان باتّجاه هذه الفضيلة ، ويمكننا استعراض بعض هذه الأسباب والدوافع :

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٠٨ ، ح ١.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١١٢.

٤ ـ تحف العقول ، ص ١٩.

٣٦٤

الف) إنّ التسلط على النفس وضبط القوى والنوازع النفسية يتسبب في أن يصمد الإنسان أمام المصاعب والأزمات فلا ينهار أمامها ، وبالتالي لا يخضع أمام قوّة الغضب والانفعال ، كما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام في تعريف الحلم الإشارة إلى هذا المعنى حيث قال : «كَظمُ الغيظِ ومِلكُ النَّفسِ» (١).

ونفس هذا المعنى ورد أيضاً عن الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام (٢).

ب) ومن الامور التي تمنع الإنسان من الانهيار والخضوع أمام الغضب وتقوّي في واقعه فضيلة الحلم هو علو الطبع وعلو الهمّة وقوّة الشخصية في الإنسان والتي لا تدعه يواجه الغضب والحدّة من موقع الانفعال ويسلك سلوك الجهلاء كما يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الحِلمُ وَالأَناهُ تَوأَمانِ يَنتُجُهُما عُلوُ الهِمَّةِ» (٣).

ج) ومن الأسباب الاخرى في تقوية هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع الإنسان وقلبه هو الإيمان بالله تعالى والتوجّه إلى الذات المقدّسة من موقع الذوبان في صفاته وأسمائه الحسنى ومنها صفة الحلم الإلهي مقابل العصاة والمجرمين من عباده كما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «الحِلمُ سِراجُ اللهِ يَستَضيء بِهِ صاحِبُهُ إِلى جَوارِهِ وَلا يَكُونُ حَليماً إِلّا المَؤيَّدُ بِأَنوارِ اللهِ وَبِأَنوارِ المَعرِفَةِ وَالتَّوحِيدِ» (٤).

د) ومن العوامل الاخرى لتفعيل هذه الفضيلة هو مطالعة آثارها الإيجابية ونتائجها الحميدة على حياة الإنسان وكذلك مطالعة الآثار السلبية للغضب والحدّة بإمكانه الحدّ من قوّة هذه الحالة النفسية والتقليل من أضرارها ، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «الحِلمُ نُورُ جُوهَرَهُ العَقلَ» (٥).

وقال عليه‌السلام أيضاً في حديث آخر : «بِوُفُورِ العَقلِ يَتَوَفَّرُ الحِلمُ» (٦).

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ١٩.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ١٠٢.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٦٠.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٤٢٢ ، ح ٦١.

٥ ـ غرر الحكم.

٦ ـ المصدر السابق.

٣٦٥

ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام قوله : «عَلَيكَ بِالحِلمِ فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ العِلمِ» (١).

٣ ـ موارد الاستثناء ، رغم أنّ الحلم يعدّ من الفضائل الأخلاقية البارزة في حياة الإنسان وسلوكه ، ولكن هناك بعض الموارد في حركة التفاعل الاجتماعي لا يكون فيها الحلم فضيلة أخلاقية ، ومثل هذه الاستثناءات موجودة في سائر الفضائل الأخلاقية أيضاً ، مثلاً في الموارد التي يتسبب فيها الحلم وضبط النفس زيادة الجرأة لدى الجهلاء والمتعصبين الذين يستغلون الخُلق السامي لدى الطرف الآخر فيتعاملون معه من موقع العقدة والخصومة وزيادة العدوان ، فهنا يكون الحلم غير مؤثّر في التأثير على الجاهل الجاهل بل ينبغي استعمال طرق اخرى لإسكاته وكبح جماحه وردعه عن غيّه.

وكذلك في الموارد التي يؤدّي فيها الحلم إلى الإضرار بالمجتمع أو بالمذهب والدين فهنا من الخطأ استخدام صفة الحلم وسعة الصدر والسكوت.

وكذلك من الموارد الاخرى هو ما إذا كان سلوك طريق الحلم يحسب من علامات الضعف والذلّة في صاحبه.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٣٦٦

١٥

العفو والانتقام

تنويه :

إنّ من أكبر الفضائل الأخلاقية التي لا يصل الإنسان إلى مراتب الكمال بدونها هي صفة العفو والصفح عند القدرة على الردّ العملي على الطرف المقابل وترك الانتقام منه.

إنّ الكثير من الناس يعيشون حالة الحقد الكامن في قلوبهم وأعماقهم وينتظرون الفرصة السانحة للانتقام من عدوّهم والظفر به ، فلا يتحرّكون في خط الرد بالمثل وجواب السيئة بالسيئة فقط ، بل يردون السيئة الواحدة بأضعافها من السيئات والأعمال الانتقامية ، والأسوأ من الجميع أنّ هذه الصفة الرذيلة تتجلّى بمظهر الصفة الحسنة التي تبعث على الفخر والاعتزاز فيقول الإنسان إنني قد ظفرت بعدوّي وأذقته العذاب الشديد وفعلت معه كذا وكذا.

إنّ التاريخ البشري مليء بحالات الانتقام والقسوة من قبل السلاطين والامراء ورؤساء القبائل لأقوامهم أو لأقوام اخرى من أعدائهم.

والعجيب هو أنّ حالات الانتقام هذه تتشابك مع بعضها بصورة سلسلة وحلقات متوالية ، فعلى سبيل المثال أنّ إحدى القبائل تقوم بقتل شخص من القبيلة الاخرى ، فتقوم قبيلة المقتول عند توفّر الفرصة بالثأر لنفسها وتقتل خمسين شخصاً من القبيلة الاخرى وهكذا

٣٦٧

يستمر النزاع والصراع وسفك الدماء.

إنّ أشكال النهب والسلب وهتك النواميس والأعراض والقتل الفجيع في التاريخ البشري معلول لهذه الصفة الخبيثة والذميمة في أعماق البشر وتمتد إلى ذواتهم الحيوانية وعناصر الشر فيهم.

وبعكس ذلك ما نجده في سيرة الأنبياء والأولياء هو أنّهم عند ما تسنح لهم الفرصة ويتغلّبون على عدوهم فإنّهم يتحرّكون من موقع العفو والصفح عن جرائمه السابقة وبذلك يعملون على تبديل أشدّ الأعداء إلى أقرب الأصدقاء.

إنّ مثل هذه الشخصيات الفذّة في التاريخ البشري لا يعيشون حالة الرغبة في الثأر لأنفسهم والانتقام من عدوّهم وغسل الدم بالدم (إلّا في الموارد الاستثنائية) والردّ بالسيئة بمثلها ، بل على العكس من ذلك كانوا يتحرّكون ما أمكنهم على مستوى جواب السيئة بالحسنة ، لأنّ هدفهم تربية النفوس وتهذيبها والسير بها في خط الصلاح والإيمان والهداية لا في خط الانتقام ، ولذلك كانوا يهدفون إلى إطفاء الفتنة لا إشعال نار جديدة.

ولكن من اليقين أنّ مثل هذا السلوك الإنساني لا يتسنى من أيّ شخص كان ، بل يختص به الأشخاص الذين يعيشون الإيمان والتقوى والتسلّط على النفس في أعلى مستوياته ، إنّه عمل الأشخاص الذين يعيشون الفضيلة والأخلاق السامية ، وإلّا فانّ من يعيش التوحش والقساوة في قلبه لا يعرف سوى الانتقام ولا يفتخر إلّا بالثأر لنفسه.

وأمّا بالنسبة إلى الآيات القرآنية والروايات الإسلامية فنجدها مليئة في بيان فضيلة العفو والصفح وذم روح الانتقام والثأر ، والشاهد على ذلك ما نقرأه في سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في هذا الباب ، ونموذج لذلك ما ورد في قصّة فتح مكّة والعفو العام الذي أصدره النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أعدائه الشرسين والحاقدين.

ومع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً في العفو والصفح أو ما ورد فيه من ذم غريزة الانتقام والثأر (والجدير بالذكر أنّ مفردة (الانتقام) لم ترد في القرآن الكريم بالمعنى المذكور آنفاً ، بل بمعنى العقاب الإلهي ، ولذلك فكل مورد وردت فيه هذه

٣٦٨

الكلمة فإنّه يراد بها ما ينسب إلى الله تعالى من العقاب على المجرمين ولا يرتبط ببحثنا الحاضر) :

١ ـ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(١).

٢ ـ (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

٣ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٣).

٤ ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٤).

٥ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ)(٥).

٦ ـ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٦).

٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٧).

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٨).

٩ ـ (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً)(٩).

١٠ ـ (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(١٠).

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية ٤٠.

٢ ـ سورة النور ، الآية ٢٢.

٣ ـ سورة الاعراف ، الآية ١٩٩.

٤ ـ سورة النحل ، الآية ١٢٦.

٥ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٩٦.

٦ ـ سورة فصلت ، الآية ٣٤ و ٣٥.

٧ ـ سورة البقرة ، الآية ١٧٨.

٨ ـ سورة التغابن ، الآية ١٤.

٩ ـ سورة النساء ، الآية ١٤٩.

١٠ ـ سورة المزّمل ، الآية ١٠.

٣٦٩

تفسير واستنتاج :

تتعرض «الآية الاولى» من الآيات محل البحث إلى الحديث عن مسألة المقابلة بالمثل وجزاء السيئة بالسيئة وأنّ ذلك من حق المؤمنين (لكي لا يرى المعتدي والمجرم نفسه في أمن من العقاب) ثمّ أشارت الآية إلى مسألة العفو والصفح وترك الانتقام وتقول : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

ونظراً إلى أنّ سورة الشورى من السور التي نزلت بأجمعها في مكّة المكرّمة ، ونعلم أنّ المسلمين في ذلك الزمان كانوا في دائرة العدوان الواسع الموجّه إليهم من قبل الأعداء المشركين ، ومع ذلك فالقرآن الكريم في الآية ٣٩ من هذه السورة يأمر المسلمين أن لا يستسلموا في مقابل الظلم والعدوان ، وعند ما يواجهون حالة الظلم هذه فعليهم أن يستمدّوا العون من إخوانهم ويتكاتفوا فيما بينهم لردع هذا العدوان ، ثم يشير في الآية ٤٠ إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا ينبغي أن يتحرّكوا من موقع الانتقام والثأر بسبب ما يرونه من العدوان على بعض أصدقائهم ورفاقهم وبالتالي يتجاوزون الحدّ بالردّ بالمثل فيكونون في صف الظالمين أيضاً ، وعليهم كذلك أن يتخذوا العفو والصفح سلوكاً إنسانياً لهم فيما لو لم يترتب عليه آثار سيئة.

أمّا المراد من كلمة (وأصلح) في هذه الآية والتي وردت بعد كلمة العفو ، فالمفسّرون ذهبوا إلى تفسيرات متعددة ، فبعض ذهب إلى أنّ المراد من الإصلاح هو الإصلاح بين الإنسان وربّه ، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد به الإصلاح بين المظلوم والظالم حتّى لا تتكرّر هذه القضيّة بينهما مرّة اخرى ، وذهب ثالث إلى أنّ المراد به هو إصلاح النفس وتطهيرها من أدران الانتقام وشوائب الغضب والتوتر الذي تفرضه حالات الصراع مع الطرف الآخر ، وذهب بعض إلى أنّ معناه ترك القصاص.

ولا يبعد أن يراد بهذه الكلمة جميع هذه المعاني التي ذكرت في تفسيرها ، وعلى أيّة حال فإنّ الآية تبيّن بوضوح هذه الحقيقة ، وهي أنّ العفو والإصلاح الذي يأتي بعده بإمكانه أن يقلع جذور الحقد من قلوب الناس ، وعبارة (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) بشكل مطلق وبدون تعيّين

٣٧٠

حدود لهذا الأجر حتّى الجنّة أيضاً يدلّ على أنّ هذا الأجر والثواب إلى درجة من العظمة والسعة أنّه لا يعلم مقداره إلّا الله تعالى.

أمّا «الآية الثانية» فناظرة إلى حادثة الإفك التي وقعت في صدر الإسلام ، يعني ما قام به بعض المنافقين من إتّهام إحدى زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بما ينافي العفة ولغرض الخدشة في شخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وموقعيّة الإسلام ، فتشير الآية الشريفة إلى أنّ مسألة العفو والصفح مطلوبة في كل الأحوال حتّى تجاه المذنبين والملوّثين ، لأنّ هذه الآية نزلت عند ما أقسم بعض الصحابة بعد قضية الإفك أنّهم لن يساعدوا أي شخص من الأشخاص الذين اشتركوا في هذه الواقعة ، فمنعتهم عن استخدام أدوات العقاب وأمرتهم بالعفو والصفح تجاه هؤلاء الخاطئين وقالت : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

ثمّ تضيف الآية : إنّ على المؤمنين أن يسلكوا طريق العفو والصفح وتقول : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) ، في حين أنّكم تأملون من الله الرحمة والمغفرة ، فكذلك عليكم أن تسلكوا هذا الطريق تجاه الآخرين : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لكم أيضاً ويرحمكم.

والملاحظة الملفتة للنظر هنا أنّ قضية الإفك كانت بمثابة مؤامرة خطيرة استهدفت الإسلام وشخصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث تبنّى هذه المؤامرة جماعة من المنافقين ، ولكنّ بعض المسلمين الغافلين إنخدعوا بهذه الحيلة وتورّطوا في هذا الإثم ، ورغم ذلك فالقرآن الكريم يوصي المؤمنين بالعفو والصفح عن هؤلاء الغافلين الذين تورّطوا بهذه المؤامرة من موقع الجهل لا من موقع الخبث والحقد والنفاق ، وعليه فبالنسبة إلى المسائل الشخصية والامور الخاصة بالأفراد فالعفو يكون بطريق أولى.

أمّا الفرق بين (العفو) و (الصفح) فيقول الراغب في مفرداته ، إنّ العفو بمعنى المغفرة والصفح ترك اللّوم والتوبيخ والذي هو مرحلة أعلى من العفو ، لأنّه يمكن أن يعفو الإنسان

٣٧١

عن الطرف المقابل إلّا أنّه لا يترك لومه وتوبيخه أو معاتبته ، ولكن بما أنّ الصفح في اللغة يعني الإعراض بالوجه عن الإنسان المذنب فيمكن أن يكون إشارة إلى لزوم تناسي ذنب المذنب ووضعه في زاوية الإهمال والغفلة ولا يكتفي بترك اللّوم فقط ، أي أنّ لا يترتّب أي أثر سلبي على العلاقة بين الطرفين.

وهنا ملاحظة مهمّة اخرى وهي أنّ هذه الطائفة من المؤمنين أقسموا على أن لا يمدّوا يد العون لجميع المتورّطين في قضيّة الافك ، أي أن قسمكم بالنسبة إلى مثل هذه الامور لا أثر له على مستوى العمل والممارسة لأنّه لا يقع في دائرة التكليف بالنسبة إلى الامور الخيّرة.

«الآية الثالثة» تأمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأوامر أخلاقية ثلاثة ويتّضح منها تكليف الآخرين أيضاً وتقول : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

هذه التعليمات الثلاثة التي وردت في الآية الشريفة بمثابة أوامر صادرة من الله تعالى إلى نبيّه الكريم باعتباره قائداً للُامّة واسوة حسنة لسائر المسلمين وبذلك توضّح في مضمونها أهميّة العفو والصفح في دائرة المسؤولية الملقاة على عاتق القادة الإلهيين ، فالأمر الأوّل من هذه الأوامر الإلهية هو الأمر بالعفو والصفح ، والأمر الثاني إشارة إلى أنّ على القائد أن لا يحمّل الناس ما فوق طاقتهم وقدرتهم وأن لا يطلب منهم سوى المعروف الممكن ، وفي الأمر الثالث نجد التوصية بأهمال الكلمات اللامسؤولة الصادرة عن الجاهلين والمخالفين وعدم ترتيب الأثر على مزاحماتهم وما يرتكبونه تجاه أتباع الحق من ممارسات سلبية وكلمات شانئة.

إنّ القادة الحقيقيين والسالكين طريق الحق يواجهون في مسيرتهم الإلهية الكثير من الأفراد المتعصّبين والجاهلين والمعاندين الذين لا يجدون فرصة في الوقيعة بأصحاب الحق وإيجاد الأذى والضرر بهم إلّا واستغلّوها ، فالآية أعلاه وكذلك الكثير من الآيات القرآنية الاخرى تؤكّد على المؤمنين السالكين في خط الله والتقوى أن يجنّبوا أنفسهم الصراع مع هؤلاء وأنّ الأفضل لهم التعامل مع مثل هذه المسائل من موقع اللآمبالاة

٣٧٢

والإهمال والإعراض ، والتجربة العملية تشير إلى أنّ أفضل طريق لإيقاظ هؤلاء من غفلتهم وإطفاء نار غضبهم وصدهم وتعصّبهم هو هذه الطريقة في التعامل معهم من موقع قوّة الشخصية وكبر النفس.

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه عند ما نزلت هذه الآية الشريفة سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرائيل عن ذلك فقال : لا أدري حتّى أسأل العالم ، ثمّ أتاه فقال : «يا مُحِمَّد إِنّ اللهَ يَأَمُرُكَ أَنْ تَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعطِي مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ» (١).

وينطلق الحديث في «الآية الرابعة» ليخاطب جميع المسلمين ويأمرهم بأنّهم إذا أرادوا التعامل بالمثل مع الأعتداء الموجّه من الآخرين ويعاقبوا عليه فعليهم أن لا يتجاوزوا المقدار المشروع وهو مقدار المثل فقط لا أكثر ، ولكنّهم إذا التزموا جانب البر والعفو والصفح فإنّ ذلك أفضل من الحل السابق وتقول الآية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

وقد ورد في الروايات الشريفة أنّ هذه الآية نزلت في معركة احد عند ما نظر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جسد عمّه حمزة ، وقد استشهد في ميدان المعركة ومثّل به الأعداء القساة وشقّوا بطنه وأخرجوا كبده وقطعوا اذنه وأنفه ، فلّما رأى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك تأثّر كثيراً وبعد أن حمد الله وأثنى عليه شكى له حاله وقال : «أَصبِرُ أَصبِرُ» (٢).

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تقول : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) وهي إشارة إلى أنّ على الإنسان الذي يعيش هذه اللّحظات الأليمة وتستولي على وجوده سحابة من الحزن والهم بسبب ما يواجهه من عدوان القساة وجرائمهم فإنّ عليه أن يلتحف بالصبر والصفح رغم أنّها حالة صعبة وعسيرة لا يستطيعها الإنسان إلّا بمدد من الله تعالى ومعونته.

وبالطبع فإنّ السماح بالردّ بالمثل الوارد في أوّل الآية الشريفة يعود إلى أصل قتل العمد ،

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ٢ ، ص ٥١٢.

٢ ـ تفسير العياشي ؛ والدر المنثور ، في ذيل الآية المبحوثة.

٣٧٣

ولكن بالنسبة إلى المثلة والتي هي عمل غير إنساني وصادر من روحيّة ملّوثة فإنّ المقابلة بالمثل لا تجوز في هذه الحالة ، وهذا المعنى ورد بصراحة في الروايات الإسلامية التي تؤكّد عدم جواز المثلة حتّى بالكلب العقور ، فحتّى لو استفيد من الآية الشريفة جواز المثلة (١) فإنّه يكون المراد منها بمعونة الروايات الصريحة هو أصل القتل فقط لا المثلة ، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مسألة الانتقام بالأكثر من الحد الشرعي والتهديد بالمثلة لم يكن صادراً من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من المسلمين ، وعمومية الخطاب في الآية الشريفة تؤيّد هذا المعنى وأنّ هذا التصميم صدر من المسلمين لا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وتأتي «الآية الخامسة» لتتحدّث إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأمره بما فوق العفو والصفح وتقول : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ).

أمّا «الآية السادسة» فتؤكّد هذا المعنى أيضاً بعبارة اخرى تقول : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

ونقرأ في الآية ٢٢ من سورة الرعد عند ما تستعرض صفات اولوا الألباب والعقول أنّ إحدى صفاتهم هي : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يتحرّكون على مستوى جبران أخطائهم وذنوبهم بالحسنات وأعمال الخير ، وكذلك يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يجيبون الإساءة الموجّه من الغير بالإحسان من جهتهم ولا يردّون بالمثل على الطرف الآخر لكي يوقضوا عناصر الخير في وجدان الطرف الآخر ويجعلونه يعيش الندم على ما صدر منه تجاههم.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أن يكون كلا المعنيين مراداً لها (٢).

ويستفاد من هذه الآيات الثلاثة جيداً أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك المؤمنين مأمورون

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٤٧.

٢ ـ راجع تفسير الميزان ج ١٦ في تفسير ذيل الآية.

٣٧٤

بتجاوز حالة العفو والصفح والصعود إلى مرتبة أرقى منها ورد السيئة بالحسنة وهو العمل الذي لا يتيسّر من أي شخص كان ، ولهذا فإنّ الآية التي بعدها تقول : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وفي الحقيقة فإنّ مقابلة السيئة بالحسنة عمل ثقيل جدّاً لا يستطيع النهوض به إلّا من اوتي القدرة على النهوض بالأعمال الخيّرة المهمّة ، والذين يعيشون الإيمان والتقوى والقيم الإنسانية بالمستوى الأعلى.

والملفت للنظر أنّ سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام طافحة بمثل هذه النماذج من السلوكيات الأخلاقية والإنسانية حتّى أنّه أحياناً يؤدّي سلوكهم الإنساني هذا إلى انقلاب الطرف الآخر من موقع الشر والعداوة إلى موقع الخير والمحبّة ، والتجارب العملية الكثيرة تشير إلى التأثير الكبير لهذه الأعمال الأخلاقية في دائرة السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية.

وتتعرض «الآية السابعة» إلى الحديث عن مسألة القصاص والتي تعدّ أحد الأحكام الاجتماعية المهمّة للإسلام والتي تضمن حقوق الناس وتحفظ لهم أنفسهم ودمائهم من أشكال العدوان بحيث أنّ القرآن الكريم يعبّر عن القصاص بكلمة «الحياة» ولكنّه في نفس الوقت يفضّل عليه العفو والصفح وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).

وبعد أن تذكر الآية موارد القصاص بالمثل تقول : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

فلو أنّ القصاص تبدّل إلى الدية فعلى الطرف الآخر أن يتّخذ سبيل المعروف في عملية أداء الدية إلى ولي المقتول ، وهذا المعنى بمثابة التخفيف والرحمة من الله تعالى للناس.

وفي ختام الآية صرح القرآن الكريم أنّ بعد العفو والصفح أو تبديل القصاص إلى الدية لا حقّ في الرجوع في ذلك وممارسة سلوك العدوان والقساوة وقتل القاتل عند القدرة

٣٧٥

والاستطاعة ، وتحذّر المسلمين من هذا الموقف الخطير وتقول : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

لأنّ بعد العفو عن القاتل أو تبديل القصاص بالدية فإنّ ذلك يعني إغلاق الطريق تماماً عن العودة وبذلك يسقط حق القصاص تماماً ، وعليه يكون الانتقام من القاتل بمثابة القتل العمد الذي يترتب عليه العقوبة في الشريعة الإسلامية.

وهذه الآية تضع القاتل بين الخوف والرجاء ، فمن جهة تفتح عليه باب القصاص حتى لا يتجرأ أحد على تلويث يده بدماء الأبرياء خوفاً من القصاص ، ومن جهة اخرى فإنّها قد فتحت باب العفو ثم حذّرت من الانتقام بعده ولتقف حائلاً في طريق الخشونة والعدوان اللّامسؤول من بعض الجماعات المتطرفة والمنفعلة ، وهذا هو منتهى التدبير والحكمة في هذه المسألة الاجتماعية المهمّة.

والتعبير بكلمة (أخيه) في الآية المذكورة يشير إلى أنّه حتى لو وقعت حادثة قتل بين المسلمين فإنّ ذلك لا يعني قطع رابطة الاخوّة بينهم ، وفي صورة عدم وجود ضرورة للقصاص فلا ينبغي إتّخاذه سبيلاً لحلّ الأزمة ، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الإسلام يرجّح العفو على القصاص ويتحرّك من موقع تفعيل الشعور بالمحبّة والاخوّة لدى الأولياء بدلاً من روح الثأر والانتقام.

وقد ورد هذا المضمون في رواية عن ابن عباس أيضاً (١).

وكذلك عبارة : (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) تدلّ مرّة اخرى على المفهوم القرآني في ترجيح العفو والصفح على القصاص أو تبديله بالدية.

وفي «الآية الثامنة» نقرأ خطاباً لجميع المؤمنين في دائرة الاختلافات والنزاعات العائلية حيث تقول الآية محذّرة للمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ).

__________________

١ ـ تفسير روح البيان ، ج ١ ، ص ٢٨٥.

٣٧٦

وهذه العداوة يمكن أن تتجسد في السلوك العملي للشخص بطرق مختلفة ، فمثلاً تتجلّى العداوة في البعد المعنوي كأن تمنع الزوجة أولادها المسلمين من الهجرة إلى المدينة في عصر البعثة ، أو استعمال أساليب الضغط النفسي لعدم الوصية ببعض التركة والميراث إلى أعمال الخير وما ينفع الإنسان في آخرته أو تعرض الإنسان لبعض الأذى وتحميل الظروف الصعبة من قبل الزوجة المشاكسة أو الأبناء المنحرفين ولكن الآية الشريفة تصرّح في ذيلها بأنّ العفو والصفح أفضل وتقول : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولا شك أنّه لو لا وجود العفو والصفح في أجواء العائلة من قبل الأب والولي على امور الأهل والأطفال أو كان كل فرد من أفراد الاسرة يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الانتقام وأخذ الحق والمقابلة بالمثل ، فإنّ هذه الأجواء الاسريّة ستتحوّل إلى جهنّم ومحرقة يعيش فيها الأفراد القلق والاضطراب الدائم وعدم الأمن والراحة وبالتالي يتسبب ذلك في إنهدام العائلة وتلاشيها.

والملفت للنظر أنّ الله تعالى يذكر في هذه الآية الشريفة بصراحة أنّ العفو في المرتبة الاولى ثم الصفح بعده ، ويذكر في ذيل الآية بشكل ضمني الأمر مرّة اخرى بالمغفرة لأنّه يقول : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أو إذا تحركتم أنتم من موقع العفو والصفح والمغفرة فستكونون مشمولين لعفو الله تعالى ومغفرته أيضاً.

أمّا الفرق بين العفو والصفح والغفران (١) ، فالظاهر أنّ العفو هو المرتبة الاولى في عملية التعامل بالحسن في مقابل العمل السيء ويعني ترك الانتقام وردّ الفعل المماثل ، وأمّا الصفح فيعني الإعراض عن السيئة وعدم الاعتناء بها وكأنها لم تكن ، وأمّا الغفران فيعني التغطية على آثار الخطيئة والذنب بحيث ينساها الناس ، وهذه آخر مرحلة من مراحل مقابلة السيئة والتعامل معها بالطريقة الإيجابية ، وهي أفضل مقامات الإنسان المؤمن في مقابل خطأ الآخرين وسيرتهم.

__________________

١ ـ الملفت للنظر أنّ كلمة (غفران) كما أنّها تطلق على الله تعالى ، كذلك تطلق على الإنسان في آيات عديدة مثل : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) (الجاثية ، الآية ١٤) ، و (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) الشورى ، الآية ٣٧.

٣٧٧

وفي «الآية التاسعة» نجد أنّ العفو والصفح ذكرا إلى جانب أعمال الخير الاخرى وأنّ الله تعالى وعد بالعفو أيضاً في مقابل ذلك العمل فتقول : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً).

وعليه فلا ينبغي أن يتصوّر الإنسان أنّ الانتقام عند القدرة سيجلب له الفخر والعزّة ، فالفخر هو أن يتحرّك الإنسان في هذه الموارد من موقع ضبط النفس وتحريك عناصر الخير في أعماقه والمقابلة بالعفو والصفح فيما إذا كان العفو في موقعه ولم يثر في نفس الطرف الآخر عناصر الشر أو سو الظن.

وتتعرض «الآية العاشرة» والأخيرة من الآيات محل البحث إلى موقف النبي من المشركين وتوصيته بأن يتخذ الصبر جلباباً في مقابل أذى المشركين وعدوان المعاندين والمخالفين وتقول : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً).

ومعلوم أنّ أحد الوسائل في عملية التصدّي للرسالة والدعوة الإلهية وما كان يمارسه المشركون والأعداء تجاه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أنواع الهتك والإهانة والشتم والأذى للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث كان يشتد على قلب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك أحياناً ، ولكن مع ذلك فإنّ الله تعالى يوصيه بالتزام الصبر والمداراة وغض الطرف عن ذلك الواقع المؤلم وأن يهجرهم هجراً جميلاً.

والمراد ب (الهجر الجميل) هو الهجران المقترن بالمحبّة وحسن الخلق والتأسف على حال هؤلاء الناس المشاكسين ودعوتهم إلى الحق والخير ، وهذه هي إحدى الطرق التربوية في مقابل الأفراد الذين يعيشون حالة الجهل والعناد في مقابل الحق بحيث إذا تعامل معهم الإنسان بالمثل فإنّ ذلك من شأنه أن يزيدهم طغياناً وعناداً ، ولذا أمرت الآية الشريفة أن يتّخذ الإنسان موقف اللامبالاة أمام أذاهم وكلماتهم اللامسؤولة ، ولكن البعض تصوّر أنّ الأمر في هذه الآية كان قبل نزول آية الجهاد التي نسخت هذه الآية واستبدلت العفو بالجهاد ، وفي حين أنّ الأمر ليس كذلك ، لأنّ الجهاد له محل معيّن ، والهجر الجميل له محل آخر.

٣٧٨

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية توصي بإتّخاذ سلوك العفو والصفح وخاصة في مقابل الأشخاص الذين ينطلق لسانهم دائماً بالكلمات الوقحة واللّامسؤولة ولا يمتنعون عن أي كلام وقح وذميم ، لأنّ الهجر الجميل لا يتحقّق بدون عملية العفو والصفح.

وكما يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ هذه الآية بمثابة الخطاب لجميع الدعاة والمبلّغين في كل زمان ومكان أن يلتزموا جانب ضبط النفس في مقابل أذى المخالفين والأعداء ولا يستسلموا أمام حالات الانفعال لموقف الجهلاء وكلماتهم اللّامسؤولة ويقابلوهم بحسن الأخلاق والمداراة والإغماض (١).

وهكذا توضّح الآيات أعلاه والتي تخاطب أحياناً جميع المسلمين وأحياناً اخرى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان قائد الامّة الإسلامية ، المقام السامي للعفو والصفح من بين الفضائل الأخلاقية والمثل الإنسانية العليا في مقابل الحوادث الصعبة وتحدّيات الواقع الاجتماعي غير الملائم ، وتجعل من هذه الفضيلة الأخلاقية أساساً للتعامل الإسلامي بين أفراد المجتمع وحتى في مقابل الأعداء والمخالفين فيما لو لم يترتب على العفو والصفح أثراً سلبياً.

العفو والانتقام في الروايات الإسلامية :

أمّا في دائرة الروايات الإسلامية فنجد لمسألة العفو وكونه من الفضائل الأخلاقية السامية وكذلك ذم الانتقام إنعكاساً كبيراً ، فقد وردت عبارات مثيرة في هذا الباب ومن ذلك :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إِذا كانَ يَومَ القَيامَةِ نادى مُنادٍ مَنْ كانَ أَجرُهُ عَلَى اللهِ فَليَدخُلِ الجَنَّةَ فَيُقالُ مَنْ ذا الَّذِي أَجرُهِ عَلَى اللهِ فَيُقالُ

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٧٩.

٣٧٩

العافُونَ عَنِ النَّاسِ فَيَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ» (١).

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال في أحد خطبه : «ألا اخبِرُكُم بِخَيرِ خَلائِقِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ العَفوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَالإِحسانُ إِلى مَنْ أَساءَ إِلَيكَ ، وَإِعطَاءُ مَنْ حَرَمَكَ» (٢).

فنرى في هذا الحديث الشريف المرتبة السامية للعفو والصفح ، وهو جواب السيئة بالحسنة وأنّ هذا المقام هو مقام الأنبياء والأولياء والصلحاء من الناس.

٣ ـ وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العَفوُ تاجُ المَكارِمِ» (٣).

ونعلم أنّ التاج هو علامة العظمة والقدرة والعزّة وكذلك يستخدم كزينة ويوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهو الرأس ، وهذا التعبير الوارد في الحديث الشريف يشير إلى أنّ العفو والصفح له مقام ممتاز من بين الفضائل الأخلاقية الاخرى.

٤ ـ وورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام أنّه قال : «شَيئانِ لا يُوزَنُ ثَوابُهُما العَفوُ وَالعَدلُ» (٤).

إنّ جعل العفو إلى جانب العدل في الحديث الشريف يوضّح من جهة أهميّة العفو في عملية التفاعل الاجتماعي والمرتبة المعنويّة العالية له ، ومن جهة اخرى يدلّ على أنّه قرين العدل ، لأنّ العدل مضافاً إلى أنّه سلوك الفرد في خط الحق فإنّه يتسبب في تقوية مفاصل النظام في المجتمع ، ولكن العفو بما هو فضيلة أخلاقية يتسبب في رفع الحقد والكراهية واستبدالهما بالعواطف الإنسانية والمحبّة في العلاقات الاجتماعية ، واقتران هذين العنصرين في الدائرة الاجتماعية يرفع كل أشكال الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين.

٥ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام في وصفه لأشقى الناس : «شَرُّ النَّاسِ مَنْ لإ

__________________

١ ـ المصدر السابق ، في تفسير ذيل الآية الشريفة ٤٠ من سورة الشورى.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٧.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٣٨٠