الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

والانتقام والحسد والدوافع الرذيلة الاخرى؟

ومن البديهي أنّ المراد من غضب يونس عليه‌السلام هنا هو غضبه على قومه الظالمين والفاسقين ، والمراد من العبارة (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) هو أنّ يونس عليه‌السلام تصوّر أنّ تركه لقومه لم يكن عملاً سيئاً بحيث يستلزم كل تلك العقوبة والتوبيخ ، والمقصود من إعتراف يونس عليه‌السلام بظلمه هو ظلمه لنفسه الذي قاده إلى هذه النتيجة الصعبة.

وأمّا الآيات التي تستعرض الحلم من موقع الثناء والتمجيد والمدح فهي كالتالي :

«الآية الرابعة والخامسة» من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم حالات النبي إبراهيم عليه‌السلام من موقع وصفه بعنوان : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) و (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، فالعبارة الاولى وردت في واقعة رفض آزر (عم إبراهيم) لدعوة إبراهيم للتوحيد ورفض الأصنام واستغفار إبراهيم عليه‌السلام له ، والثانية وردت في قصّة إخبار الملائكة لإبراهيم عن العذاب الإلهي النازل على قوم لوط وطلب إبراهيم الخليل عليه‌السلام من الله تعالى أن يخفّف عذابهم أو يمهلهم أكثر من ذلك.

«أوّاه» تأتي بمعنى الرحيم والحنون ، والذي يتحرّك قلبه لهداية قومه وامّته.

وعلى أيّة حال فإنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف النبي إبراهيم عليه‌السلام ب «أواه حليم) و (أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) يبيّن الرابطة الوثيقة بين هاتين الصفتين ، ويدلّ على أنّ كظم الغيظ والسيطرة على الغضب والتحرّك من موقع الحلم والمحبّة تجاه الآخرين حتّى لو كانوا مجرمين والسعي لإنقاذهم من الخطيئة والعقوبة كل ذلك يعدّ من الصفات الإيجابية البارزة للأنبياء الإلهيين.

إنّ النبي إبراهيم عليه‌السلام لم يكن حليماً تجاه عمّه آزر فحسب ، بل حتى بالنسبة إلى قوم لوط عليه‌السلام الذين كانوا قد غرقوا في ذلك الوحل العفن من الخطيئة حيث نرى إبراهيم عليه‌السلام ينطلق من قلب متحرّك ليرفع عنهم العذاب أو يؤجله إلى إشعار آخر كيما يتسنى لهم

٣٤١

الخلاص من ادران هذه الخطيئة وترك ذلك السلوك الشائن ويسيروا في خط الإيمان والتقوى والانفتاح على الله.

ولكنّ الأمر الإلهي كان قد صدر بحقهم رغم أنّ إبراهيم عليه‌السلام قد أظهر هذه الرحمة والشفقة تجاه عمّه أو قوم لوط لأنّهم لم يكونوا قابلين للهداية وخاصة ما كان عليه قوم لوط من الخطيئة المزمنة حيث أصابهم العذاب الإلهي أخيراً.

«الآية السادسة» تستعرض إحدى المواهب الإلهية الكبيرة على إبراهيم وتقول : إنّ الله تعالى قد استجاب لإبراهيم عليه‌السلام دعائه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

واللطيف أنّ من بين جميع الصفات الإيجابية الكبيرة للإنسان ، فإنّ هذه تشير فقط إلى صفة الحلم لدى هذا الغلام العزيز لإبراهيم عليه‌السلام.

ويقول الراغب في مفرداته بأنّ : الحلم بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب ، وبما أنّ هذه الحالة ناشئة من العقل فإنّه كلمّا وردت كلمة الحلم فإنّها قد يراد بها العقل أيضاً.

وهذه البشارة تحقّقت بالنسبة إلى إسماعيل عليه‌السلام عند ما بلغ سن الرشد ووهبه الله العقل والحلم والنضج الكبير ، وذلك عند ما صدر الأمر الإلهي لإبراهيم بذبح إبنه اسماعيل كما تتحدّث الآيات التي بعد هذه الآية وتقول على لسان إسماعيل عليه‌السلام : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) فنرى حالة التسليم المطلق أمام الأمر الإلهي ، وفي مقابل الذبح الذي صدر لإبراهيم.

وتأتي «الآية السابعة» لتبيّن صفات (عباد الرحمن) البارزة ، وتستعرض ضمن الحديث عن إثني عشر صفة من الصفات الكبيرة الأخلاقية وهذه الصفة خاصة وتقول : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

أي إذا واجههم الأشخاص الذين يعيشون الحمق والجهل والحقد بكلام غير مسؤول وألفاظ ركيكة فإنّ جوابهم لا ينطلق من موقع الانفعال والرد بالمثل ، بل يمرّون على كلامهم ذلك من موقع الحلم وسعة الصدر ورغم أنّ كلمة (حلم) لم ترد في هذه الآية ، ولكن المفهوم

٣٤٢

من مجموع الآية هو أنّ عباد الرحمن لا ينطلقون من موقع الانفعال والغضب للجاهلين الحوادث غير الملائمة وخاصة الكلمات غير المسؤولة للجاهلين والحاقدين ويجنبوا أنفسهم شرّ النزاع والصراع مع هؤلاء الأشخاص بأداة الحلم وسعة الصدر.

وقد ورد في الحديث الشريف في تفسير هذه الآية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال يوماً لأصحابه (مضمون الحديث) : «هؤلاء جماعة من امّتي احبُّهُم وَيُحبُّونني سيأتون بعدكُم (ثم أخذ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بذكر أوصافهم) ومن ذلك صفة الصبر والحلم وأنّهم يسلكون طريق الرفق والمداراة.

فقيل له : يا رسول الله هل يرفقون بغلمانهم؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس لهم غلمان ، وإنّما يرفقون مع الجهّال والسفهاء :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً»»)(١).

والمراد من كلمة (سلام) هنا هو أنّهم يتعاملون مع الآخرين من موقع المسالمة لا من موقع الخشونة والتحدّي والرد بالمثل ولا يواجهون كلمات غير مسؤولة لُاولئك الجاهلين إلّا من موقع عدم الاعتناء واللّامبالاة وكأنّما لم يسمعوها أصلاً.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث من سورة الأعراف تتحدّث عن ثلاثة أوامر مهمّة في خطابها للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (باعتباره اسوة لجميع المؤمنين) وتقول : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

ومن الطبيعي أنّ الأعراض عن الجاهلين يأتي بمعنى الحلم والصفح وترك أي شكل من أشكال الخصومة والشجار ، بل يمكن القول أنّ الجملتين السابقتين في هذه الآية من الأمر بالعفو وقبول العذر والدعوة إلى الأخلاق الحسنة هي نوع من أنواع الحلم كذلك ، وبالتالي

__________________

١ ـ تفسير منهج الصادقين ، ج ٦ ، ص ٤١٧ ، طقباً لنقل تفسير الاثني عشري في ذيل الآية المبحوثة ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٢٤١ أيضاً ذيل الآية المبحوثة.

٣٤٣

تدلّ وتشير إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت كذلك في مقابل الجاهلين والمعاندين حيث كان يظهر أمامهم منتهى الصبر وسعة الصدر والتحمّل والحلم ، ولا يتملكه الغضب اطلاقاً مقابل ما يسمعه منهم من كلمات غير مؤدّبة وعبارات غير مسؤولة.

والآية التي تلي هذه الآية تقول : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

يمكن أن تكون إشارة اخرى إلى هذا المعنى أيضاً وهو أنّ نار الغضب ما هي إلّا نزغ من نزغات الشيطان وعلى كل مؤمن أن يستعيذ بالله من هذه الحالة الشائنة.

والشاهد على ذلك ما ورد في الرواية الشريفة في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية وأنّه عند ما نزلت الآية السابقة وأمرت بالعفو والحلم أمام الجاهلين قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كَيفَ يا رَبِّ والغَضبُ» (٢).

فنزلت الآية التي بعدها وأمرت النبي أن يستعيذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : إنّ أجمع آية من آيات القرآن لمكارم الأخلاق هي هذه الآية.

وهو كذلك واقعاً ، لأنّ هذه الآية تتضمّن العفو والصفح أمام جهل الآخرين وتدعو الناس جميعاً لفعل المعروف ، وكذلك مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم وعدم مجادلتهم والتحدّث معهم من موقع الانفعال ، فهذه التعاليم الثلاثة تعد ثلاث برامج مهمّة فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعية للإنسان في حركة الحياة بحيث لو تسنى لأفراد المجتمع أن يترجموا هذه الدساتير الثلاثة على أرض الواقع ويجسّدوها في سلوكياتهم وأعمالهم فإنّ أكثر المشكلات الاجتماعية وما يترتب عليها من سلبيات اخرى ستجد طريقها إلى الحل.

ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً يتجلّى لنا أهميّة الحلم كفضيلة أخلاقية سامية ، وكذلك العواقب الوخيمة المترتبة على حالة الغضب الانفعالي والشيطاني.

__________________

١ ـ سورة الاعراف ، الآية ٢٠٠.

٢ ـ تفسير روح البيان ، ج ٣ ، ص ٢٩٨ في ذيل الآية المبحوثة.

٣٤٤

الغضب في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعبيرات عجيبة ومثيرة بالنسبة إلى الآثار السلبية للغضب وأضرار هذه الرذيلة الأخلاقية على حياة الإنسان الفردية والاجتماعية ، وقد اخترنا من بين الأحاديث الكثيرة إثني عشر حديثاً :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الغَضَبُ جَمرَةٌ مِنَ الشّيطانِ» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال : «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ» (٢).

٣ ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «أَعدَى عَدُوٍّ لِلمَرءِ غَضَبُهُ وَشَهوَتُهُ ، فَمَنْ مَلَكَهُما عَلَتْ دَرَجَتَهُ وَبَلَغَ غايَتَهُ» (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر عن الإمام عليه‌السلام نفسه قال : «الغَضَبُ نارٌ مُوقَدَةٌ مَنْ كَضَمَهُ أَطفَأَها وَمَنْ أَطلَقَهُ كانَ أَوَّلُ مُحتَرقٍ بِها» (٤).

٥ ـ وفي عبارة ناطقة وردت في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام أنّه قال : «لَيسَ لإِبلِيسَ جُندٌ أَشَدُّ مِنْ النِّساءِ والغَضَبِ» (٥).

٦ ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام في عبارة عميقة المعنى قوله : «الغَضَبُ مِفتاحُ كُلِّ شِرٍّ» (٦).

٧ ـ ونقرأ في أحد الأدعية المعروفة للصحيفة السجادية في بيان الإمام زين العابدين عليه‌السلام لأخطار وأضرار الغضب وأنّها إلى درجة من الشدّة بحيث أنّ الإمام نفسه يستجير بالله منها ويقول : «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ هَيجانِ الحِرصِ وَسُورَةِ الغَضَبِ وَغَلَبَةِ

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٦٥.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ آثار الصادقين ، ج ١٥ ، ص ٤٥٢.

٦ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٣.

٣٤٥

الحَسَدِ وَضَعُفِ الصَّبرِ وَقِلَّةِ القَناعَةِ» (١).

٨ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إِيَّاكَ وَالغَضَبَ فَأَوَّلُهُ جُنُونٌ وَآخِرُهُ نَدَمٌ» (٢).

٩ ـ وورد عن هذا الإمام عليه‌السلام في عبارة عميقة اخرى تتعلّق بالتقاطع بين الغضب والعقل ويقول : «عِندَ غَلَبَةِ الغَيظِ وَالغَضَبِ تُختَبَرُ حِلمُ الحُلُماءِ» (٣).

١٠ ـ وأيضاً ورد في كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام عن عواقب الغضب الأليمة قوله : «عُقُوبَةُ الغَضُوبِ وَالحَقُودِ وَالحَسُودِ تَبدَءُ بِأَنفُسِهِم» (٤).

١١ ـ وورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَورَتَهُ» (٥).

١٢ ـ ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، رغم وجود أحاديث كثيرة عن المعصومين في هذا الباب : «أَي شيءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَضَبَ يَقتُلُ النَّفسَ وَيَقذِفُ المُحصَنَ» (٦).

الآثار السلبية والمخرّبة للغضب :

إننا قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة تتضمّن عناصر الشر والتخريب مثلما لرذيلة الغضب ، ولو أننا كتبنا تفصيلاً عن الآثار السلبية للغضب لاتّضح لدينا أنّها أكثر من الرذائل الأخلاقية الاخرى ومن ذلك :

١ ـ ينبغي الإلتفات قبل كل شيء إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ حالة الغضب تقع ضمن أعداء الإنسان حيث أنّه يفقد عقله تماماً في ثورة الغضب ويتحوّل إلى كائن غير منسجم التصرفات والحركات بحيث يتعجّب منه من حوله من الناس ، بل إنّ الإنسان نفسه وبعد

__________________

١ ـ الصحيفة السجادية ، الدعاء ٨.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٩٣.

٦ ـ سفينة البحار ، مادة الغضب.

٣٤٦

هدوء هيجان الغضب يتعجّب من تصرفاته وسلوكياته الشائنة أثناء هذه الحالة ، وفي تلك الحال قد يهجم الشخص على أقرب المقرّبين إليه من دون أن يتعقّل ما ذا يفعل ، وقد يتسبب في تلوث يده بدماء الأبرياء أيضاً ، فيقتل ويحطّم ويسرق ويخرّب وكأنّه مجنون تماماً.

ولذلك ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «الغَضَبُ يُفسِدُ الألبابَ وَيُبعِدُ مِنَ الصَّوابِ» (١).

ولهذا السبب ورد في الروايات الإسلامية أنّه إذا أردتم أن تختبروا عقل الأشخاص وحنكتهم ورأيهم فعليكم بالنظر إليهم في حالة الغضب ومدى سيطرتهم على أنفسهم من شرّ هذه القوّة الهائجة ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لا يَعرِفُ الرَّأيُ عِندَ الغَضَبَ» (٢).

٢ ـ إنّ الغضب يؤدّي إلى إضمحلال إيمان الشخص وتلاشيه ، لانّ الشخص عند ما تمتلكه الحدّة فلا يرتكب الذنوب الكبيرة فقط بل يخرج من الإيمان أيضاً لأن هذه الحالة تتقاطع تماماً مع الإيمان الصحيح والعميق ، بل أحياناً يتجرّأ هذا الشخص على الله تعالى أو يعترض على حكمه وتقديره للُامور ، وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تمر بالإنسان في حالة سورة الغضب.

وقد قرأنا الأحاديث السابقة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ».

٣ ـ إنّ الغضب يعمل على تخريب منطق الإنسان وكلامه الموزون ، ويقوده إلى التلفظ بالباطل والكلمات اللّامسؤولة ، وعند ما يستند الغاضب مسند القضاء فإنّ حكمه سيكون غير سليم قطعاً ، ولذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «شِدَّةُ الغَضَبِ تَغَيِّرُ المَنطِقَ وَتَقطَعُ مادَةَ الحُجَّةِ ، وَتَفَرِّقُ الفَهمَ» (٣).

وقد ورد التصريح في آداب القضاء في الكتب الفقهية هذا المعنى أيضاً وأنّ القاضي لا ينبغي أن يجلس على كرسي القضاء في حالة الغضب.

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ١١٣.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٤٢٨.

٣٤٧

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «مَنْ ابتَلى بِالقَضاءِ فلا يَقضِي وَهُوَ غَضبان».

٤ ـ والآخر من الآثار السلبية لحالة الغضب هو إشهارها لعيوب الإنسان الخفيّة ، لأنّ هذا الشخص في حالاته العادية يتحرّك من موقع السيطرة على قواة النفسية ، فلا تتجلّى عيوبه ونقاط ضعفه للآخرين ، بل تبقى مستورة ويحفظ بذلك سمعته وماء وجهه في أنظار الناس ، ولكن عند ما تستعر في نفسه نار الغضب ، فإنّها تزيل السواتر والأقنعة عن واقع الإنسان وتكسر قيود العقل وتظهر عيوب صاحبها الخفيّة وتؤدّي إلى سقوط شخصيته ومكانته بين الناس.

ولذلك ورد في درر الحكم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «بئسَ القَرِينُ الغَضَبُ يُبدِي المَعايبَ وَيُدنِي الشَّرَّ وَيُباعِدُ الخَيرَ» (١).

٥ ـ إنّ الغضب بإمكانه أن يفتح طريق الشيطان للإنسان ويوقعه في شراكه ومصائده ، لأنّ الإيمان والعقل يعتبران مانعين مهمّين يصدّان هجمات الشيطان ، ولكنّهما في حالات الغضب سينكمشان ويدركهما الضعف وعدم الحيلة وبذلك ترتفع الموانع أمام الشيطان لينفذ بسهولة ويصل إلى قلب الإنسان ويحكم سيطرته على قواه ، ويفعّل عناصر الشر في نفسه وباطنه.

ونقرأ في الحديث المعروف : «أنّ نوح عليه‌السلام لمّا دعى ربّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلى قَومِهِ أَتاهُ إِبلِيسُ لَعنَهُ اللهُ فَقالَ : يا نُوحُ إِنَّ لَكَ عِندِي يَداً ارِيدُ أَن اكافِيكَ عَلَيه ، فَقالَ لَهُ نُوحٌ عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيبغَض إِليَّ أَن يَكُونَ لَكَ عِندِي يد فَما هِي؟ قالَ : بلى دَعوتَ اللهَ عَلى قَومِكَ فَأَغرَقتَهُم فَلم يَبقَ أَحدٌ أَغويهِ فأَنا مُستَريحٌ حتّى يَنسقَ قرنٌ آخر وَاغويهِم ، فَقال نُوحٌ عليه‌السلام : ما الّذِي تُريدُ أَن تُكافِينِي بهِ؟ قالَ : اذكُرنِي فِي ثَلاثِ مَواطِن فَإنّي أَقرَبُ ما أَكُونُ إِلى العَبدِ إذا كان في أحدهن : اذكُرنِي إِذا غَضِبتَ ، اذكُرنِي إِذا حَكَمتَ بَينَ اثنَينِ ، اذكُرنِي إِذا كُنتَ مَعَ امرأَةٍ خالياً لَيسَ مَعَكُما أَحَداً» (٢).

__________________

١ ـ جامع أحاديث الشيعة ، كتاب الجهاد ، ج ١٣ ، ص ٤٢٨.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ١١ ، ص ٣١٨.

٣٤٨

ونقرأ في حديث آخر : «عَن ذي القَرنَين أَنّه لَقى مَلَكاً مِنَ المَلائِكَةِ فَقالَ عَلِمنِي عِلماً أَزدادُ بِهِ إِيماناً وَيَقِيناً ، قالَ : لا تَغضَبْ فإنَّ الشَّيطانَ أَقدَرُ ما يَكُونُ عَلى ابنِ آدمَ حِينَ الغَضَبِ» (١).

ولا شك أنّ الغضب مضافاً إلى هذه الآثار السيئة على المستوى المادي والاجتماعي والأخلاقي فإنّه تترتب عليه آثار معنوية سيئة كثيرة أيضاً بحيث يستفاد من الروايات المختلفة أنّ الشخص الذي يسيطر على غضبه ويكظم غيظه له ثواب الشهداء (٢) ويحشر يوم القيامة مع الأنبياء (٣) ويملأ قلبه من نور الإيمان (٤).

أسباب ودوافع الغضب :

إنّ الغضب باعتباره ظاهرة روحية معقّدة له عوامل وأسباب مختلفة ، ومعرفة هذه العوامل والدوافع ضرورية في عملية الوقاية من أخطار هذه الحالة السلبية ، ومن جملة العوامل والأسباب لتفعيل هذه الحالة في نفس الإنسان وظهور آثارها السلبية الخطيرة هي :

١ ـ التسرع في الحكم : إنّ كل إنسان في حياته الفرديّة والاجتماعية يسمع يومياً بعض الأخبار غير المسّرة وقد يحكم عليها مباشرة من موقع حالة الغضب المستعرة في قلبه ، وقد يتصرف تصّرفاً أحمقاً ويرتكب بعض الأعمال الخطيرة وما أكثر ما يتبيّن عدم صحة الخبر أو على الأقل عدم مطابقته للواقعيات تماماً لدى التحقيق والتأنّي ، وبالتالي فلا مبرر له على الغضب والحدّة.

أجل فإنّ التسرّع في الحكم في مثل هذه المسائل يعدّ عاملاً مهمّاً لبروز حالة الحدّة والغضب على طول التاريخ وترتّب العواقب الوخيمة عليه.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «مَنْ طبائِعِ الجُّهالِ التَّسَرُّعُ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٩٣.

٢ ـ جامع أحاديث الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٤٧٩.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٤٧٨.

٣٤٩

إِلى الغَضَبِ فِي كُلِّ حالٍ» (١).

٢ ـ ضيق الافق : إنّ الأشخاص الذين يعيشون سعة الصدر وكبر الروح وقوّة الشخصية وسعة الفكر فإنّهم يتحمّلون الحوادث الصعبة ويواجهون تحدّيات الواقع المرّة بكامل الوقار وحفظ النفس ، ولكنّ الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق فإنّهم ينفعلون بأقل حادثة غير ملائمة وأحياناً يخرج زمام امورهم من أيديهم ويتصرّفون تصّرفاً طائشاً.

والحديث الذي قرأناه آنفاً من أنّ سرعة الغضب والحدّة من أخلاق الجهّال هو إشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

٣ ـ التكبّر والغرور : إنّ الأشخاص الذين يعيشون روح التكبّر والغرور ، ويرغبون دائماً في أن يحفظ لهم الآخرون احترامهم ولا يتجاوزوا حدودهم ويقومون لهم حين دخولهم المجلس إكراماً لهم واحتراماً يرون لأنفسهم إمتيازات خاصة على سائر الناس ، ولكن إذا لم يحصلوا على هذه التوقّعات ولم يجدوا في الناس ذلك الأحترام والإكرام فسوف تتحرّك فيهم حالة الغضب والحدّة ، في حين أنّ عنصر الشر موجود في باطنهم والعامل الأساس لشقائهم موجود في ذواتهم ولا ذنب للآخرين.

ونقل في الرواية عن السيد المسيح عليه‌السلام ضمن بيانه لأسباب الغضب أنّه عدّ التكبّر والعجب والغرور من العوامل لذلك (٢).

ونقرأ في حديث آخر عن السيد المسيح عليه‌السلام أيضاً أنّ الحواريين قالوا له : «يا مُعَلمَ الخَيرِ ، عَلِّمنا أَيّ الأَشياءِ أَشَدُّ؟

فَقَالَ عليه‌السلام : أَشَدُّ الأشياء غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالُوا : فَبِمَ يُتَّقى غَضَبُ الله؟ قَالَ : بِأَنْ لا تَغضَبُوا.

قَالُوا : وَما بِدؤ الغَضَبِ؟ قال عليه‌السلام : «الكِبرُ والتَّجبُّرُ وَمَحقَرَةُ النّاسِ» (٣).

٤ ـ الحسد والحقد : إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحسد والحقد تجاه الآخرين فإنّ

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ محجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٠٤.

٣ ـ سفينة النجاة ، مادة غضب.

٣٥٠

المواد الأولية لهذه الحالات الذميمة موجودة في باطنهم كما يخزن البارود والديناميت في مخازن ولا يحتاج إلّا إلى شرارة خفيفة من الخارج حتى ينفجر بركان الغضب ويستولي على جميع كيانهم ، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «الحِقدُ مَثارُ الغَضَبِ» (١).

٥ ـ الحرص وحبّ الدنيا : إنّ الأشخاص الذين يهيمون بحبّ الدنيا ويملأ وجودهم الحرص على تحصيل زخارفها وزبارجها ، فإنّهم لا يتحمّلون أن يجدوا أيّة مزاحمة وخسارة محتملة لمنافعهم الدنيوية ، ولذلك نجدهم يثورون لأتفه الأسباب فيما لو تعرّضوا لبعض الخسائر الطفيفة ، وبما أنّ الحياة الاجتماعية لا تخلو من أمثال هذه المزاحمات والمضايقات ، بل يمكن القول أنّ هذه المزاحمات والمضايقات جزء من كل يوم من أيّام الدنيا ، ولذلك نجد مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغضب والحدّة باستمرار وفيما لو لم يستطيوا إبراز غضبهم في بعض الحالات فإنّ نار الغضب تستقر في ذواتهم وتحرق طاقاتهم الخيّرة وإمكاناتهم الإيجابية في عالم النفس.

وكما ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السيد المسيح عليه‌السلام أنّه أشار إلى هذا العامل : «وَشِدَّةُ الحِرصِ عَلى فُضُولِ المَالِ وَالجاهِ».

علاج الغضب :

ونظراً إلى أنّ الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لحالات الغضب والحدّة كثيرة وخطرة جدّاً وأحياناً تؤدّي إلى تدمير حياة الإنسان على كل المستويات والصعد ، لذلك كان من الضروري بذل الجهد لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية ، وإلّا فإنّ الندم ينتظر هؤلاء الأشخاص ، وقد ذكر كبار علماء الأخلاق في هذا الباب أبحاثاً مهمّة وكثيرة ، والأهم من ذلك ما ورد من التعليمات الدينية في النصوص الإسلامية التي ذكرت إرشادات مؤثّرة لإطفاء نار الغضب في واقع الإنسان ، ونختار منها ما يلي :

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٣٥١

١ ـ أن يقوم الشخص الحاد المزاج بالتفكّر بآثار الغضب السلبّية وعواقبه السيئة قبل أن تستعر نيران الغضب في قلبه وتلتهم كيانه ، فيتحرك على مستوى التلقين والإيحاء لها بأنّ الغضب هو في الحقيقة نار يمكنها أن تأتي على الأخضر واليابس وتحرق إيمانه وسعادته ووجوده ، وتسعّر غضب الله عليه في الدنيا والآخرة ، وأنّ هذه الحالة الذميمة تبعد الناس من حوله وتفرّق عنه أصدقاءه وتكون ذريعة بيد أعدائه ، وللغضب آثار وخيمة على أعصاب الإنسان ويؤدي إلى قصر العمر ويهدد سلامة الشخص البدنية أيضاً ، ويمنعه من الصعود في مدارج الكمال الدنيوي والاخروي.

بخلاف حالة الحلم وسعة الصدر التي هي رمز موفقّية الإنسان وتقدّمه وتفوّقه وصحّته الروحية والبدنية والتي تمنحه الإحترام والمودّة في قلوب الناس وتوجب له رضا الله تعالى والابتعاد عن الشيطان ، وكذلك يتفكر في الثواب الإلهي لمن يعيش الحلم وسعة الصدر ، والعقاب الإلهي المترتب على من يعيش الحدة وسرعة الغضب.

وهذه الامور لا يتفّكر فيها الإنسان في حال الغضب فحسب بل عليه أن يتفّكر فيها قبل ذلك ويلقّن نفسه باستمرار لكي لا يتورّط في هذه الحالة الذميمة.

٢ ـ أن يفكّر في عواقب الغضب والحدّة ، وهذه المسألة مجربة تماماً ، وإذا لم يجرّبها الإنسان نفسه فقد جرّبها الآخرون وهي أنّ كل تصميم على عمل معيّن يتّخذه الإنسان في حال الغضب فأنّه يكون زائفاً وسخيفاً وغالباً ما يوجب له الندم ، فما أحسن أن يتذّكر هذه العبارة المعروفة عن أحد العلماء ، وهي أنّه في حالة الغضب لا ينبغي عليه التصميم ولا التوبيخ ولا العقوبة.

٣ ـ ومن الطرق المهمّة لعلاج حالة الغضب والتي ورد التأكيد عليها في الروايات الشريفة هو (ذكر الله) وقد ورد في بعض الروايات أنّ من ثارت فيه الحدّة عليه بقول : «أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ» (١).

__________________

١ ـ سفينة البحار ، مادة الغضب ، المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٠٧.

٣٥٢

وورد في رواية اخرى أن يقول في هذه الحالة : «لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ العَلِّي العَظِيمِ» (١) ، لتهدأ سورة الغضب في أعماقه.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّه ينبغي أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد لله تعالى.

ويقول أبو سعيد الخدري نقلاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أَلا إنَّ الغضَبَ جَمرَةٌ فِي قَلبِ ابنِ آدمَ ، أَلا تَرَونَ إِلى حَمرَةِ وَانتفاخِ أَودَاجِهِ فَمَن وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليلصَقِ خَدَهُ بِالأرِضِ» (٢).

ومن المعلوم أنّ كل شخص يسلك في حالة الغضب في خط العمل لهذه التوصيات والتعليمات الدينية ويلتجأ إلى الله تعالى من شرّ الشيطان فإنّ غضبه سيهدأ قطعاً.

ومعلوم أيضاً أنّ ذكر الله مؤثّر جدّاً في مثل هذه الأحوال ، ولكنّ ذكر الله بالكيفية المذكورة آنفاً أكثر تأثيراً من علاج هذه الحالة.

وقد أورد الشيخ الحر العاملي في كتاب وسائل الشيعة باباً تحت عنوان (باب وجوب ذكر الله عند الغضب) في أبواب جهاد النفس ، حيث يدلّ على أهميّة هذا الموضوع بالذات (٣).

٤ ـ تغيير الحالة الفعلية للشخص إلى حالة اخرى حيث تكون مؤثرة في علاج الغضب أيضاً كما ورد في الروايات الإسلامية أنّ الشخص إذا تملّكه الغضب وكان جالساً فعليه أن يقوم ، وإذا كان قائماً عليه أن يجلس ، أو يعرض بوجهه عن مواجهة الحدث ، أو يستلقي على الأرض ، أو إذا أمكنه أن يبتعد عن محل الحادثة ، أو يشغل نفسه بأمر آخر.

وهذا التغيّر في الحالة الفعلية يوثر كثيراً في تهدئة الغضب والحدّة فنقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «كانِ النَّبِيّ إذا غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ جَلَسَ وَإذا غَضِبَ وَهُوَ جالِسٌ اضطَجَعَ فَيَذهَبُ غَيضُهُ» (٤).

__________________

١ ـ جامع الأحاديث ، ج ١٣ ، ص ٤٢٧.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٠٨.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٢٩١ (باب ٥٤ من أبواب جهاد النفس).

٤ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٠٨ ؛ بحار الانوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٧٢.

٣٥٣

وقد ورد في بحار الانوار عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : «وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ فَليَجلِس فَإِنَّهُ سَيَذهَبُ عَنهُ رِجزُ الشَّيطانِ وَإِنْ كانَ جالِساً فَليَقُم» (١).

وجاء في ذيل هذا الحديث الشريف أنّه إذا غضب الإنسان على أحد أرحامه فعليه أن يلمس بدنه ليثير في نفسه عواطف الرحم ممّا يقوده إلى الهدوء وعودة حالته الطبيعية.

٥ ـ الوضوء ، أو شرب الماء البارد وغسل الرأس والوجه ، وكلّها تؤثر حتماً في تهدئة الإنسان وزوال حالة الغضب عنه ، بل ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إذِا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتَوضأ» (٢).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الوضوء مستحب في حالات الغضب ومؤثر في تسكينه وزواله.

وقد ذكر العلّامة المجلسي قدس‌سره في تحليله المختصر لهذا الحديث الشريف أنّ : «سَببُ الغَضَبِ الحَرارَةُ وَسَببُ الحَرارَةِ الحَرَكَةُ إذ قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنَّ الغَضَبَ جَمرَةٌ تَتوقَدُ أَلم ترَ إِلى انتِفاخ أَودَاجِهِ وَحُمرَةُ عَينَيهِ؟ فإِن وَجَدَ أَحِدُكُم مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليَتَوضأ بِالماءِ البارِدِ وَليَغسِل فَإِنَّ النِّارَ لا يُطفِئُها إِلّا الماءُ ، وَقَد قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إِذا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتوضأ وَليَغتسلِ فَانَّ الغَضَبَ مِنَ النَّارِ» (٣).

فإذا عمل الإنسان على ضمّ هذه الامور العملية إلى ما تقدّم من ضرورة التفكّر في الآثار الخطرة للغضب في الدنيا والآخرة وما يترتب عليه من العقوبات الإلهية فإنّ ذلك من شأنه أن يطفأ نار الغضب بالتأكيد ، ولكنّ المشكلة تبدأ من أنّ الإنسان ، لا يرغب في تغيير حالته والعمل بالتوصيات المذكورة لإزالة حالة الغضب عن نفسه ، وحينئذٍ فالنجاة والخلاص من الآثار السلبية المترتبة على هذه الحالة الذميمة يكون عسيراً للغاية ، بل غير ممكن أحياناً.

أقسام الغضب :

إنّ حالة الغضب ليست سلبية دائماً ، بل قد تترتب عليها آثار إيجابية على المستوى

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٧٢.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٧٧ ، ص ٣١٢.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ٧٠ ، ص ٢٧٢.

٣٥٤

المادي والمعنوي في حياة الإنسان وأحياناً تكون ضرورية ولازمة ، وعليه يمكننا تقسيم الغضب إلى إيجابي وسلبي ، أو ممدوح ومذموم ، فإذا ضممنا إليها الغضب في دائرة الالوهية تحصّلت لدينا ثلاثة أقسام للغضب :

١ ـ غضب الله تعالى : حيث ورد الحديث عنه في الكثير من الآيات القرآنية الشريفة وخاصة بالنسبة إلى بني اسرائيل حيث تشير الآيات إلى أنّ الله تعالى غضب عليهم ، بل ورد (المغضوب عليهم) حيث ذكر جماعة من المفسّرين أنّ المقصود بهذه العبارة هم بنو اسرائيل الفاسقون في كل زمان ومكان حيث سوّدوا صفحة التاريخ البشري بذنوبهم وأعمالهم الأثيمة.

ولا شك أنّ الغضب بمعنى الانفعال النفسي المقترن مع حبّ الانتقام والذي يتجلّى في ظاهر الوجه على شكل إحمرار الوجه واحتقان الدم وأمثال ذلك لا يرد قطعاً في مفهوم الغضب في دائرة الالوهية ، لأنّ الله تعالى منزّه عن الجسم والجسمانية والتغير والتبدّل في الحالات ، فلا مفهوم لها بالنسبة إلى الذات المقدّسة ، كما أنّ الانتقام بمعنى إرضاء حالة الغضب وتهدئة حرقة القلب الذي يصطلح عليه بالتشفّي المقترن مع تعذيب العدو وإلحاق الضرر به كذلك لا معنى ولا مفهوم بالنسبة إلى الذات الإلهية المقدّسة.

ومن ذلك فإنّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ غضب الله تعالى بمعنى إنزال العقوبة العادلة بالمذنبين والمجرمين في الدنيا والآخرة.

يقول الراغب في مفرداته بصراحة : أنّه عند ما يراد بالغضب صفة من الصفات الإلهية فإنّ المقصود هو الانتقام والعقاب من المجرمين.

فقد أشارت الأحاديث الإسلامية أيضاً إلى هذا المعنى ، كما نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام عليه‌السلام الباقر عليه‌السلام عن سؤال حول غضب الله تعالى ما ذا يعني؟ فقال : «غَضَبَ اللهُ تعالى عِقابَهُ يا عُمرَو (١) مَنْ ظَنَّ يُغَيِّرُهُ شَيءٌ فَقَدْ كَفَرَ» (٢).

__________________

١ ـ إشارة إلى عمرو بن عبيد المعتزلي الذي جاء مع جماعة إلى مجلس الإمام الباقر عليه‌السلام لاختباره ، ولكنهم رجعوا خائبين.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٤ ، ص ٦٨.

٣٥٥

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ غضب الله تعالى هو عقابه كما أنّ رضا الله هو ثوابه (لا أنّ الغَضَبَ حالَةٌ نفسيّة فِي الذَّاتِ المُقَدَّسةُ تِقتَضِي التَّغَيُّرَ وَالتَّبَدُّلَ الُّذي نَراهُ فِي صِفاتِ المُمكِناتِ).

وخلاصة الكلام أنّ الآيات والروايات الشريفة التي تتحدّث عن غضب الله وسخطه لا تتعلّق بحالة الغضب لدى المخلوقين ولا تشبهها بشكل من الأشكال ، بل هي في الواقع إنزال العقاب العادل في حق المجرمين ولغرض تربية الإنسان وايصاله إلى كماله اللّائق.

٢ ـ الغضب السلبي والمخرب ، الذي تقدّم البحث فيه بالتفصيل في الاحاديث السابقة ورأينا الأضرار الكبيرة المترتبة على هذه الحالة النفسية وبحثنا أسبابها وطرق علاجها بما لا حاجة إلى توضيح أكثر.

٣ ـ الغضب الإيجابي للإنسان : ومعلوم أنّ هذه القوّة لدى الإنسان لم تخلق من دون غرض وحكمة ، فلو تصوّر شخص أنّ هذه القوّة فد خلقها الله تعالى وجعلها في الإنسان لغرض التخريب والشر فإنّه لم يدرك جيداً حكمة الله تعالى في خلقه ، وفي الحقيقة أنّ توحيده الأفعالي ناقص.

فمن المحال أن يخلق الله تعالى عضواً من أعضاء بدن الإنسان أو قوّة في نفسه وروحه ليس لها فائدة ومنفعة في حياة الإنسان ومن ذلك قوّة الغضب.

عند ما يعيش الإنسان حالة الغضب وتسيطر عليه هذه القوّة فإنّها تعمل على تعبئة جميع طاقاته وقواه الفكريّة والجسدية تجاه الخطر وأحياناً تتضاعف قدرته أضعاف ما كانت عليه في الحالات العاديّة ، والحكمة الوجودية لهذه الحالة في الواقع هي الدفاع عن الإنسان ومنافعه في نفسه وماله وعرضه تجاه الخطر وتحدّيات الظروف الخارجية ، وهذه نعمة وموهبة إلهية كبيرة جدّاً.

إننا نرى الحيوانات أو الطيور أيضاً عند ما يشعرن بالخطر يتحرّكن ويلذن بالفرار بعيداً عن منطقة الخطر ، ولكنّ هذه الحيوانات عند ما يتعرّض أطفالهن إلى الخطر فإنّها تتصدّى إلى هذا الخطر وتدافع بنفسها عن أولادها ممّا يثير تعجّب الكثيرين ، وأحياناً قد يرى طائر

٣٥٦

جبان الخطر على فراخه فيهجم باتّجاه الخطر ويتصدّى إلى المهاجمين ويبعدهم عن أطفاله ويلحق بهم الهزيمة وحتى بعض الحيوانات كالقط إذا رأى نفسه محبوساً في غرفة وتعرّض للهجوم فإنّه يتصدّى أيضاً للدفاع عن نفسه ويتبدّل إلى حيوان متوحّش وخطر حيث يهجم أحياناً على الإنسان ويلحق به أضراراً كثيرة.

وعليه فإنّ قوّة الغضب هي في الحقيقة قوّة مفيدة ومهمّة في عملية الدفاع عن النفس وما يتعلّق بالإنسان من الامور المادية والمعنوية ، ولذلك فهي ضرورية في بقاء واستمرار الحياة وتكامل الإنسان بشرط أن تستخدم في مكانها وفي الغرض التي خلقت لأجله بدون افراط وتفريط.

ونقرأ في الآيات والروايات الإسلامية موارد كثيرة تتحدّث عن الغضب المقدّس الإيجابي والغضب الإلهي كذلك ، ومنها :

١ ـ نقرأ في قصّة موسى عليه‌السلام أنّه عند ما توجّه إلى جبل الطور لإستلام الوحي الإلهي والتوراة ، فإنّ السامري قد استغل هذه الفرصة في غياب موسى عليه‌السلام وصنع العجل الذهبي لبني اسرائيل ودعاهم إلى عبادته وقد أخبر الله تعالى موسى عليه‌السلام بهذا الحدث العظيم وهو في جبل الطور ممّا جعل موسى عليه‌السلام يغضب لذلك ويحزن ويعود إلى قومه وهو غارق في الهم ويعتصره الألم ، فألقى الألواح التي كتبت فيها التوراة والأحكام الإلهية وأخذ برأس أخيه وبلحيته موبّخاً إيّاه على تساهله مقابل ما صنعه السامري من اضلال بني اسرائيل وحتى أنّه وبّخه كما تقول الآية : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١).

هذه الحالة المثيرة والغضب الشديد الذي استعر في قلب موسى عليه‌السلام تجاه ما صنعه بنو اسرائيل من عبادة العجل قد أثر أثره الكبير في قلوب اليهود وهزّهم من أعماقهم فانتبهوا من غفلتهم وأدركوا سوء تصرّفهم في انحرافهم عن التوحيد وسلوكهم في خط الشرك وعبادة الوثن.

__________________

١ ـ سورة طه ، الآية ٩٢ و ٩٣ ؛ سورة الاعراف ، الآية ١٥٠ و ١٥١.

٣٥٧

ومعلوم أنّ مثل هذا الغضب الشديد في مقابل ظاهرة انحراف الناس وضلالهم هو من الغضب الإيجابي والبنّاء وله بعد إلهي في حركة حياة الإنسان المعنوية.

وهكذا الحال في جميع أشكال الغضب لدى الأنبياء الإلهيين في مقابل أقوامهم المنحرفين والضالّين.

ومن اليقين أنّ موسى عليه‌السلام إذا كان قد واجه هذه الظاهرة من موقع برودة الأعصاب وعدم تثوير حالة الغضب في نفسه فإنّ بني اسرائيل يستوحون من هذا السلوك إمضاءاً واعترافاً من موسى عليه‌السلام بأفعالهم وسلوكياتهم الخاصة ، وبالتالي فإنّ مواجهة هذا الانحراف قد يكون مشكلاً فيما بعد ، ولكنّ غضب موسى عليه‌السلام وهيجانه قد أثر أثره الإيجابي الكبير في رجوع بني اسرائيل عن خط الانحراف.

٢ ـ ونقرأ في سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أحياناً يتملكه الغضب الشديد تجاه بعض الحوادث والوقائع بحيث تظهر آثار الغضب على محياه ووجه المبارك.

من قبيل ما ورد في قصّة صلح الحديبية أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غضب بشدّة لبعض مقترحات (سهيل بن عمر) (وكيل قريش لعقد معاهدة الصلح مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله) وكان غضبه حول بعض الموارد المقرّرة لمكتوب الصلح بين الطرفين بحيث ذكر المؤرّخون أنّ آثار الغضب ظهرت على وجهه وسيمائه (وهذا الأمر تسبب في سحب سهيل اقتراحه وعدم ذكره في بنود الصلح) (١).

٣ ـ وورد في سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه غضب بشدة على أحد المسلمين الذي أضرّ بزوجته وهدّدها بالحرق ، فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن تأثر بشدّة لذلك وسحب سيفه على هذا الرجل وقال : «آمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَأَنهاكَ عَنْ المُنكَرِ وَتَردُ المَعروفَ؟ تُب وَإِلّا قَتَلتُكَ. (ولما علِم الشابُ أَنّه أَمير المؤمنين عليه‌السلام) قالَ : يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ اعفُ عَنِّي عفا اللهُ عَنكَ وَاللهِ لأَكُوننَ أَرضاً تَطأني ، فَأَمرها بِالدُخُولِ إِلى مَنزِلِها وانكفأ وَهُو يَقُولُ : لا خَيرَ فِي

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٢٠ ، ص ٣٦٠.

٣٥٨

كَثيرٍ مِنْ نَجواهُم إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ» (١).

ومن اليقين أنّ مثل هذ الغضب مقدّس وإلهي حيث يوثّر كثيراً على مستوى سوق الشخص المذنب بإتّجاه الحق والعدالة والسير في خط الإيمان.

٤ ـ ونقرأ في حالات أبي ذر رضى الله عنه عند ما لم يتحمل عثمان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أمر بتبعيده ونفيه إلى صحراء الربذة في أسوأ الظروف والحالات ، فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن حضر لتوديعه وقال له : «يا أَبا ذَر إِنَّكَ غَضِبتَ للهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَارْجُ مَنْ غَضِبتَ لَهُ إِنَّ القَومَ خافُوكَ عَلى دُنياهُم وَخِفتَهُم عَلى دِينِكَ ، فَاترُكْ فِي أَيدِيهِم ما خافُوكَ عَلَيهِ وَاهرُب مِنهُم بِما خِفتَهُم عَلَيهِ» (٢).

وبديهي أنّ غضب أبي ذر رضى الله عنه كان بالنسبة إلى ما يراه من التلاعب بأموال المسلمين وبيت المال وما يشاهده من الظلم والجور بحق سائر المسلمين فإنّ مثل هذا الغضب يقع في دائرة الغضب الإلهي المقدّس.

وفي كلام آخر لأبي ذر رضى الله عنه أيضاً عند ما أمر معاوية بنفيه عن الشام وابعاده عنه لشدّة انتقاداته اللاذعة وجرأته وشجاعته في الله حيث خاف معاوية على مقامه وسمعته بين أهل الشام ، فما كان من أبي ذر رضى الله عنه إلّا أنّ خاطب المسلمين من أهل الشام الذين جاءوا لتوديعه وقال : «أَيُّها النّاسُ إِجمَعُوا مَعَ صَلاتِكُم وَصَومِكُم غَضَباً لله عَزَّ وَجَلَّ إِذا عُصِيَ فِي الأَرضِ» (٣).

٥ ـ ونقرأ في حديث شريف عن سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام عند ما جاء إلى والي المدينة الوليد بن عتبة : «فَقَد كانَتْ بَينَ الحُسينِ عليه‌السلام وَبَينَ الولِيد بنِ عَقبةِ مَنازَعَةٌ فِي ضَيعَةٍ فَتَناوَلَ الحُسَينِ عليه‌السلام عَمامَةَ الوليدِ عَنْ رَأَسِهِ وَشَدَّها فِي عُنقِهِ وَهُوَ يَومَئِذٍ والٍ عَلَى

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٤٠ ، ص ١١٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٣٠.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٢٧٠.

٣٥٩

المَدينَةِ ، فَقالَ مَروانُ : بِاللهِ ما رَأَيتُ كَاليَومِ جُرأَةَ رَجُلٍ عَلى أَمَيرهِ ، فَقالَ الوَلِيدُ : وَاللهِ ما قُلتَ هذا غَضَباً لِي وَلَكِنَّكَ حَسَدتَنِي عَلى حَلمِي عَنهُ وَإِنّما كَانَتِ الضَّيعَةُ لَهُ ، فَقالَ الحُسَينُ عليه‌السلام : الضَّيعَةُ لَكَ يا وَلِيدُ وَقامَ» (١).

وهذه إشارة إلى أنّ غضبه عليه‌السلام لم يكن للدنيا وحطامها بل لإثبات عجز الوليد عن فرض رأيه بالقوة.

٦ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عند ما بعث بمالك الأشتر والياً على مصر فارسل معه كتاباً إلى أهل مصر يقول فيه : «مِنْ عَبدِ اللهِ عَليِّ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عليه‌السلام إلَى القَومِ الَّذِينَ غَضِبُوا للهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرضِهِ وَذُهِبَ بِحَقِّهِ» (٢).

٧ ـ وورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ الله تعالى أوحى لأشعياء النبي عليه‌السلام : «إِنِّي مُهلِكٌ مِنْ قَومِكَ مائَةَ أَلفٍ ، أَربَعينَ أَلفاً مِنْ شِرارِهِم وَسَتِّينَ ألفاً مِنْ خيارِهِم ، فقالَ عليه‌السلام : هَؤلاءِ الأَشرارِ فما بالُ الأَخيارِ؟ فَقالَ : داهَنُوا أَهلَ المَعاصِي فَلَم يَغضَبُوا لِغَضَبِي» (٣).

هذه وأمثالها من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية غير قليلة وتتحدّث جميعها عن الغضب المقدّس الذي يكون لله تعالى وللدفاع عن الحق مقابل الظالمين وقوى الانحراف وأصحاب البدع والضلالة.

أمّا الفرق بين الغضب المقدّس والمذموم هو أولاً : إنّ الغضب المقدّس يقع تحت سيطرة العقل والشرع ولا يتجاوز هذه الدائرة ويكون بهدف تعبئة جميع قوى الإنسان لمواجهة العمل المنكر الذي يراد ارتكابه لمنع وقوعه وارتكابه ، وأمّا الغضب الشيطاني فإنّه ليس فقط لا يقع تحت دائرة العقل والشرع ، بل يكون بوحي من الأهواء والشهوات والنوازع الذاتية التي تقود الإنسان في خط الانحراف والباطل.

ثانياً : إنّ الغضب المقدّس يتّجه لتحقيق أهداف مقدّسة ويتقارن مع المنهجية والنظم في دائرة السلوك والعمل ، في حين أنّ الغضب المذموم والشيطاني لا يهدف إلى تحقيق شيء مفيد ومقدّس ويفتقد كذلك إلى البرمجة والنظم.

ثالثاً : إنّ الغضب المقدّس له حدود معيّنة لا يتجاوز عنها ، في حين أنّ الغضب الشيطاني

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٤٤ ، ص ١٩١.

٢ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٣٨.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ١٤ ، ص ١٦١.

٣٦٠