الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

ذلك فلما ذا يجد في نفسه الرغبة للتدخل في حياة الآخرين الخصوصية والتجسّس عليهم والكشف عن أسرارهم؟ هذه المقارنة وعملية استنطاق الذات للحكم في هذه المسألة يمكنها أن تمثّل رادعاً قوياً للإنسان ، وكذلك الإلتفات إلى الآثار السلبية والنتائج السيئة للتجسّس على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وشدّة العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة ، وأنّ كلّ شخص يسعى لإذاعة أسرار الآخرين والكشف عن خباياهم فإنّ الله تعالى سيكشف عيوبه وأسراره على الملأ ويزيل ستره عن هذا الإنسان في الدنيا والآخرة ، فمثل هذه الامور يمكنها أن تخلق أثراً نفسياً قوياً يمنع الإنسان من التورّط في هذه الخطيئة.

ولكن المهم والضروري ليس في علاج هذه الخصلة الأخلاقية فحسب بل في الصفات والخصال السلبية الاخرى ، وهو ضرورة تكرار العمل المانع عن ارتكاب هذه الرذيلة ، فيطالع ما ذكرناه آنفاً من الآثار السلبية والعقوبات الإلهية والدوافع الشريرة لهذه الحالة الذميمة ويكرّرها مرّات عديدة لتحصل له بذلك حالة زاجرة ورادعة بإمكانها أن تقلع جذور هذا المرض من قلبه وتحلّي الروح والنفس بأنوار الفضيلة والهدوء والاستقرار.

حفظ السِّر وإفشائه :

هذه المسألة في الحقيقة تعدّ تكملة للأبحاث السابقة ، أو بعبارة اخرى ، يمكن أن نضع حفظ السر وإفشاءه بعنوان فضيلة أخلاقية للأول ورذيلة بالنسبة إلى الثاني ودراستهما بشكل مستقل ، ويمكن أن نضعهما ضمن بحث التجسّس ولكونه مسألة من مسائل موضع التجسّس وداخل في إطار هذا الموضوع.

وعلى أيّة حال فإنّ تعريف حفظ السر أنّ الكثير من الناس لديهم أسرار خفيّة على الناس سواء كانت حسنة أو سيئة ، فلو اذيعت على الملأ فإنّهم يتعرّضون للخسارة والضرر ، مثلاً إذا كان الشخص ذا مكانة اجتماعية كبيرة ومنزلة قويّة في المجتمع ولكن بسبب غلبة الوساوس الشيطانية ارتكب بعض الذنوب الكبيرة ، وقد علم بذلك شخص أو عدّة أشخاص

٣٢١

من الناس ، فلو أنّ هذا السر اذيع على الناس وعلم به الآخرون فانّ ذلك من شأنه أن يهدد شخصيته الاجتماعية ومكانته المرموقة بالسقوط ، ولذلك فإنّه يطلب من ذلك الشخص أو الأشخاص الذين علموا بهذا السر أن يتحرّوا إخفاءه ويجتنبوا إذاعته للناس.

أو أنّه يقوم بعمل صالح ونافع للناس ولكن إذا علم الناس بذلك وفهموا ما لهذا الإنسان من مقامات عالية وأخلاق سامية فمن الممكن أن تزداد فيهم حالة التمجيد والثناء تجاه هذا الشخص وبالتالي تتعرّض نيّته الخالصة إلى التزلزل والتلّوث أو يبتلى بالعجب والغرور ، ولذلك فانّه يطلب من هذا الفرد أو الأفراد الذين علموا بصدور هذا الفعل الحسن منه أن يكتموا عليه هذا السر ولا يذيعوه للناس.

أو أنّه يقوم بعمل مهم على المستوى الاقتصادي ولكن لو علم بذلك منافسوه في السوق فإنّ منافعه ومصالحه المادية تتعرض للخطر ، ولذلك يطلب من الشخص الذي علم بذلك أن يكتم عليه هذا العمل ولا يفشي سرّه على الناس ، وعليه فإنّ مسألة حفظ السر لا تختص في الذنوب والرذائل الأخلاقية بل قد تتعدّى إلى الفضائل المعنوية أو المنافع والمصالح المادية المهمّة ، وبكلمة واحدة فإنّ حفظ السر يتعلّق بالأسرار التي إذا اذيعت فسوف تسبب الضرر والخسارة على صاحبها ، سواء كان هذا السر يتعلّق بشخص خاص أو بالمجتمع الإسلامي.

وقد لا نجد في الآيات القرآنية الكريمة ما يدلّ بصراحة على ضرورة حفظ السر أو قبح إفشاء السر ، وبالطبع فإنّ كلمة (السر) وردت في القرآن الكريم مرّات عديدة ولكن ليس واحد منها يرتبط ببحثنا الحاضر ، بل في الغالب تتضمّن علم الله تعالى بجميع الأسرار وخفايا الامور ، وبعبارة اخرى : إنّها تحكي عن سعة علم الله تعالى ، ومع الأسف فاننا نرى بعض الكتّاب الإسلاميين بدون الإلتفات إلى مضمون هذه الآيات تصوّروا أنّها تتحدّث عن مسألة حفظ السر.

هذا ولكن وردت في القرآن الكريم تعبيرات اخرى تدل على موضوعنا بالأدلة الالتزامية وتتضمّن مدح فضيلة حفظ السر أو اقبح إفشاء السر ، ومن ذلك :

١ ـ ما ورد في الآية ١٦ من سورة التوبة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ

٣٢٢

جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

فهذه الآية تخاطب المسلمين بأنّ يحفظوا أسرارهم عن الأشخاص الذين لا يثقون بهم ولا يطمئنون إليهم ، بل يكشفوا أسرارهم إلى من يطمئنوا إليهم ويثقوا بهم ، ومفهوم هذه الآية الشريفة هو أنّ حفظ السر يعتبر فضيلة من الفضائل الأخلاقية بخلاف إفشاء السر الذي يعدّ رذيلة في المقابل.

٢ ـ ونقرأ في الآية ١١٨ من سورة آل عمران قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً).

(بطانة) لها مفهوم يماثل مفهوم كلمة (وليجة) فكليهما معنيان محرم الأسرار وأنّ الله تعالى يخاطب جميع المؤمنين ويقول مؤكّداً عليهم أن لا يجعلوا غير المسلمين محرم أسرارهم ، فهو في الواقع إشارة إلى لزوم حفظ الأسرار والذم لمن يعمل على إفشاء السر ، غاية الأمر أنّ هذه الآية والآية التي قبلها ليست ناظرة للأسرار الخاصة والشخصية ، بل ناظرة إلى أسرار المجتمع الإسلامي التي يمثل إفشاؤها للأعداء ضربة كبيرة للمسلمين.

وقد يتصوّر أنّ الآية ٨٣ من سورة النساء التي تقول : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ).

أنّ الله تعالى في هذه الآية الشريفة يتحدّث عن المنافقين أو بعض الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان واهتزاز العقيدة ويذمّهم على أنّه إذا وصل إليهم خبر انتصار المسلمين أو هزيمتهم في ميدان القتال أذاعوا هذا الخبر ونشروه بين الناس.

ولكن ذيل الآية يدلّ على أنّها ناظرة إلى إشاعة الشائعات الواهية أو المشكوكة لأنّها تقول بعد ذلك : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً)(١).

والتعبير بالأمن أو الخوف الوارد في هذه الآية هو إشارة إلى أنّ الأعداء أحياناً يشيعون

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ٨٣.

٣٢٣

أخباراً تتعلق بانتصار المسلمين لكي تضعف فيهم الرغبة في القتال والجهاد ، وأحياناً يبثّون الشائعات التي تتحدّث عن هزيمة المسلمين ليدّب اليأس في قلوبهم ، القرآن الكريم يحذّر المسلمين هنا عن تصديق هذه الشائعات لكي لا تؤثر خطط الأعداء ومؤامراتهم في نفوسهم فلا يصلوا إلى مقاصدهم من تضعيف معنويات المسلمين.

وبالطبع فإنّ القرآن الكريم في مورد زوجات النبي ولزوم حفظ السر تحدّث بالتفصيل في سورة التحريم التي تعرّضت إلى بعض أزواج النبي من موقع الذم والتوبيخ الشديد لأنّهن قصّرن في حفظ أسرار بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ)(١).

أمّا ما هو السر الذي أذاعته بعض زوجات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فهناك بحوث مفصّلة بين المفسّرين يطول إيرادها وذكرها في هذا المقام ويمكن للقاريء الكريم أن يرجع إلى التفسير الأمثل ذيل هذه الآية ٣ و ٤ من سورة التحريم.

المورد الآخر الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حفظ السر (وطبعاً بالإشارة لا بالتصريح) هو في مورد قصّة أبو لبابة الذي إستشاره بنو قريضة (وهم قبيلة من اليهود الذين كانوا يكيدون للمسلمين ويتآمرون عليهم بشدّة) وهل أنّهم سيتسلمون لحكم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فأشار إليهم أبو لبابة على رقبته بالذبح ، أي أنّكم لو استسلمتم للنبي فإنّه يأمر بقتلكم جميعاً ، ثمّ أنّه ندم على ذلك أشدّ الندم وأدرك أنّه ارتكب خيانة كبيرة للمسلمين ، فما كان منه إلّا أن ربط نفسه بأحد اسطوانات المسجد وتاب من فعلته هذه فتاب الله عليه ، ونزلت الآية ٧٢ من سورة التوبة تعلن قبول توبته حيث تقول الآية : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وكلمة (آخرون) إشارة إلى أنّ محتوى هذه الآية لا يتعلّق بشخص خاص أو فرد معيّن ،

__________________

١ ـ سورة التحريم ، الآية ٣ و ٤.

٣٢٤

بل يستوعب جميع الذين ارتكبوا بعض الذنوب وانطلقوا من موقع الندم وجبران هذا النقص وتابوا توبة صالحة وصادقة.

هذا ما يتعلّق بمجموع الإشارات الواردة في آيات القرآن الكريم بالنسبة إلى مسألة حفظ السّر وإفشائه.

حفظ السِّر في الروايات الإسلاميّة :

ونجد في الروايات الإسلامية تعبيرات مختلفة وكثيرة فيما يتعلّق بحفظ السر وضرورة الالتزام بعدم إفشائه وإذاعته ممّا يدلّ على إهتمام الإسلام بهذا الموضوع حتى أنّه قرّر أنّ أسرار الآخرين بمنزلة الأمانة لدى الشخص وإفشائها يعني الخيانة للأمانة :

١ ـ ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إِذا حدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ إلتَفَتَ فِهي أَمانَةٌ» (١).

هذه الالتفاتة تعني أنّه لا يريد أن يسمعه آخر ، فحينئذٍ يكون إفشاء هذا السرّ بمثابة الخيانة بالأمانة.

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «مَنْ أَفشى سرَّاً إِستَودَعَهُ فَقَدْ خانَ» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَ حَجابَ بَيتِه» (٣).

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «جُمِعَ خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ فِي كُتمانِ السِّرِّ وَمُصادَقَةُ الأَخيارِ وَجُمِعَ الشَّرِّ فِي الاذاعَةِ وَمُواخاةُ الأَشرارِ» (٤).

وطبعاً فإنّ كتمان السر يمكن أن يكون إشارة إلى كتمان سر الإنسان نفسه ، ولكنّ اطلاق

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٣٧.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧١ ، ص ١٧٨ ، ح ١٧.

٣٢٥

العبارة يدلّ على شمول الحديث لكتمان الأسرار الذاتية التي تتعلّق بالآخرين.

أقسام حفظ السِّر :

لحفظ السّر أقسام متعددة منها :

١ ـ حفظ أسرار الآخرين.

٢ ـ حفط أسرار النفس.

٣ ـ حفظ أسرار أولياء الدين.

٤ ـ حفظ أسرار النظام والحكومة الإسلامية.

أمّا ما ورد في الروايات المذكورة آنفاً فإنّه يتعلّق بحفظ أسرار الآخرين ، ولكن هناك روايات واردة في حفظ أسرار النفس أيضاً حيث توصي المسلمين بحفظ أسرارهم الخاصة في حياتهم الفردية ، لأنّه قد تكون إذاعتها وإفشائها سبباً لإثارة عناصر الحسد والحقد والمنافسة غير المنصفة ، وبالتالي يقع الإنسان مورد عدوان الأشخاص الذين يعيشون الحقد وضيق الافق وتتعرّض مصالحه إلى خطر كما نقرأ فيما يلي نماذج لهذه الروايات :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ وإِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» (١).

٢ ـ ويقول عليه‌السلام في حديث آخر : «سِرُّكَ أَسِيرُكَ فَإنْ أَفشَيتَهُ صِرتَ أَسِيرَهُ» (٢).

٣ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام قوله : «صَدرُ العاقِلِ صُندُوقِ سِرِّهِ» (٣).

٤ ـ ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «سِرُّكَ مِنْ دَمِكَ فَلا يَجرِينَ فِي غَيرِ أَودَاجِكَ» (٤).

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٦.

٤ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ٤٢٧.

٣٢٦

٥ ـ وجاء في حديث عميق المعنى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّا إذا توفّرت فيه ثلاث خصال : «فَسُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ كِتمانُ سِرِّهِ قَالَ اللهُ تَعالى :

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)» (١).

ونقرأ في بعض الروايات أيضاً أنّها توصي بحفظ الأسرار وعدم إذاعتها حتى لأقرب المقرّبين من الأصدقاء ، لأنّه يمكن أن تتغيّر الظروف والأيّام وينقلب الصديق إلى عدو وبالتالي سوف يتحرّك على مستوى إذاعة هذه الأسرار وإفشائها.

ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا تَطَّلِع صَدِيقَكَ مِنْ سِرِّكَ إِلّا عَلى ما لَو اطَّلَعتَ عَلَيهِ عَدُوَّكَ لَمْ يَضُرُّكَ فَإنَّ الصَّدِيقَ قَد يَكُونَ عَدُوُّاً يَوماً ما» (٢).

أمّا في مورد إفشاء أسرار أولياء الله تعالى والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فقد وردت روايات مهمّة جدّاً تؤكّد بشدّة على كتمان هذه الأسرار.

وهذه الأسرار يمكن أن تكون إشارة إلى المقامات المعنوية المهمّة للمعصومين بحيث أنّ الأعداء إذا اطّلعوا عليها حملوا ذلك على محمل الغلو وكان ذلك ذريعة بيدهم لتكفير الشيعة أو تضعيفهم أو القضاء عليهم في حين أنّها ليست من الغلو بل هي مقامات موافقة للقرآن الكريم وللسنة النبوية.

أو هي إشارة إلى أسرارهم بالنسبة إلى العمل في نشر مذهب أهل البيت في المناطق المختلفة من البلاد الإسلامية حيث يثير هذا الموضوع حساسية المخالفين فيزدادوا تعصّباً ويعملوا على منع هذه الأعمال والنشاطات الدينية.

أو أنّها إشارة إلى زمن الظهور للإمام القائم عليه‌السلام من أهل البيت عليهم‌السلام كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات الشريفة وأنّ بعض الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام عزم على القيام بوجه الحكومات الظالمة في ذلك الزمان ، ولكن بما أنّ بعض الشيعة أذاعوا أسرار هذه النهضة فإنّ ذلك أدّى إلى فشلها وإجهاضها ، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات التي تحثّ

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٦٨.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ٤٢٧ ، ح ٨٤١٩.

٣٢٧

الشيعة على كتمان أسرار المعصومين عليهم‌السلام ومن ذلك :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِذا تَقارَبَ هذا الأَمرُ كانَ أَشَدُّ لِلتَّقِيَّةِ» (١).

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام قوله : «مَنْ أَفشى سِرَّنا أَهلَ البَيتِ أَذاقَهُ اللهُ حَرَّ الحَدِيدِ» (٢).

٣ ـ ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه : «آمُرُكَ أَنْ تَصُونَ دِينَكَ وَعِلمَنا الَّذِي أَودَعناكَ وَأَسرارنا الَّذِي حَمَلناكَ فَلا تُبدِ عُلُومَنا لِمَنْ يُقابِلُها بِالعَنادِ ... ولا تُفشِ سِرَّنا إِلى مَنْ يَشِيعُ عَلَينا عِندَ الجاهِلِينَ بِأَحوالِنا» (٣).

ويستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ إذاعة أسرار الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أمام أهل الحق ومن يتحرّك في سبيل طلب الهداية والحق فإنّه لا بأس به ولا مندوحة منه ، ولكنّ المنع الوارد في الروايات يختصّ باذاعتها للأشخاص الذين يعيشون العناد والحقد وأنّهم لو سمعوا بمقامات أهل البيت وفضائلهم وعلومهم فإنّهم سيجدون في أنفسهم الحسد وتتحرّك فيهم البغضاء فيتكلّمون بكلمات غير مسؤولة ويثيرون المصاعب والمشكلات أمام أتباع أهل البيت عليهم‌السلام.

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «إِمتَحِنوا شِيعَتَنا عِندَ ثَلاثٍ : عِندَ مَواقِيتِ الصَّلاةِ كَيفَ مُحافَظَتَهُم عَلَيها ، وعِندَ أَسرارهِم كَيفَ حِفظُهُم لَها عَنْ عَدُوِّنا وَإِلى أَموالِهِم كَيفَ مُواساتِهِم لإِخوانِهِم عَلَيها» (٤).

٥ ـ وورد في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَلَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» (٥).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٤١٢.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٤١٨.

٤ ـ المصدر السابق ، ج ٨٠ ، ص ٢٢.

٥ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٠ ، ح ٤.

٣٢٨

٦ ـ وفي الحقيقة أنّ الكثير من المشكلات والمصاعب التي واجهها الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وتعرّضوا بالتالي إلى الوقوع في أسر الظالمين والأعداء بسبب أنّ بعض أفراد الشيعة لم يكونوا ملتزمين بالانضباط في كلماتهم وأحاديثهم فكانوا يتحدّثون عن فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ومناقبهم أو عن رذائل أعدائهم ونقاط ضعفهم ويذيعونها إلى القريب والبعيد ، فتصل إلى أسماع الحكّام والامراء فتؤدّي إلى مضاعفة عمليات التضييق والارهاب في حق أهل البيت عليهم‌السلام وقد تفضي إلى قتلهم على يد حكومات الجور ، وكذلك في إذاعة الأخبار التي تتحدّث عن قائم أهل البيت عليه‌السلام وانتقامه من الأعداء والتي تورث هؤلاء الاعداء الخوف والوحشة ، فيتحرّكون في المقابل بالانتقام من أهل البيت عليهم‌السلام.

٧ ـ وجاء في حديث آخر بهذا المضمون ولكن بصياغة جديدة عن هذا الإمام أيضاً في تفسير الآية الشريفة : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)(١) ، قال : «أَما وَاللهِ ما قَتَلُوهُم بِأَسيافِهِم وَلَكن أَذاعُوا سِرَّهُم وَأَفشَوا عَلَيهِم فَقُتِلُوا» (٢).

٨ ـ ونقرأ في حديث آخر عن المفضّل بن عمر قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام يوم صلب فيه المعلى فقلت له : يا ابن رسول الله ألا ترى هذا الخطب الجليل الذي نزل بالشيعة في هذا اليوم؟ قال : وما هُو؟ قال : قلت : قَتلُ المُعلى بن خُنيس ، قال : «رَحِمَ اللهُ المُعلَّى قَد كُنتُ أَتَوقَّعُ ذِلِكَ أَنّهُ قَد أَذاعَ سِرَّنا ، وَلَيسَ النَّاصِبُ لَنا حَرباً بِأَعظَمَ مَؤونَةً عَلَينا مِنَ المُذِيعُ عَلَينا سِرَّنا» (٣).

وعلى أي حال فإنّ حفظ أسرار أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وبشكل عام حفظ أسرار المذهب من المسائل المسلّمة التي لا ينبغي الترديد فيها ، لأنّ هذه الأسرار إذا اذيعت ووصلت إلى أيدي الأعداء فسوف يتحرّك فيهم عنصر الحسد بالنسبة إلى فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ومناقبهم ، فيسعون إلى التصدّي لنشاطات الأئمّة في الدائرة الاجتماعية والتربوية والثقافية ويجهضوا أي عمل نافع للُامّة ، ولهذا السبب ورد التأكيد في الروايات الشريفة على حفظ هذه الأسرار.

__________________

١ ـ آل عمران ، الآية ١١٢.

٢ ـ مرآة العقول ، ج ١١ ، ص ٦٤ ، الرقم الجديد ٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٦٢.

٣٢٩

والقسم الأخير من حفظ السر هو المحافظة على الأسرار العسكرية والسياسية للدولة الإسلامية ، ووجوبه من البديهيات ، ولهذا نجد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إهتمّ بهذا الأمر غاية الاهتمام ، وأوصى كذلك أصحابه بالمحافظة على هذه الأسرار أيضاً ، والكثير من الأنتصارات التي حققّها المسلمون على أعدائهم من المشركين واليهود وقوى الانحراف الاخرى كان بسبب الالتزام والانضباط في هذه المسألة الدقيقة ، فمثلاً نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّه لو أنّ تلك المرأة (سارة) كانت قد وصلت إلى مكة وأخبرت المشركين بما يعدّه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمون من الجيوش والقوى العسكرية لفتح مكّة ، فمن الطبيعي أنّ فتح مكة لا يتيسّر للمسلمين بتلك السهولة ، وقد تراق في سبيل ذلك الكثير من الدماء من الطرفين ، ولكن تأكيد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على حفظ الطرق وارساله من يعيد هذه المرأة النمامة تسبب في أن يصل جيش الإسلام إلى أسوار مكة بدون أيّة صعوبة وبسرعة فائقة حتى أنّ المشركين انبهروا وتخاذلوا لما تفاجئوا من قوة الإسلام وسرعة المبادرة وعملية المباغتة لهم واستسلموا جميعاً.

ونقرأ في الروايات الإسلامية إشارات إلى هذه المسألة أيضاً بتعبيرات عميقة المغزى ، ومن ذلك :

١ ـ ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الظَّفَرُ بِالحَزمِ بِإجالَةِ الرَّأَي ، وَالرَّأي بِتَحصَينِ الأَسرارِ» (١).

٢ ـ وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَيَّرَ قَوماً بِالإِذاعَةِ فَقَالَ : إِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنُ أو الخَوفِ أَذاعُوا بِهِ ، فَإِيَّاكُم وَالإِذاعَةِ» (٢).

٣ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : «إِظهارُ الشَّيءِ قَبلَ أَنْ يَستَحكُمَ مَفسَدَةٌ لَهُ» (٣) ، لأنّ المخالفين عند ما يطلعون عليه فربّما تحركوا في سبيل المنع من تحقيقه ونجاحه.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكمات القصار ، الكلمة ٤٨.

٢ ـ مرآة العقول ، ج ١١ ، ص ٦٥.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٧١.

٣٣٠

معطيات حفظ السّر وإفشائه :

إنّ جميع الناس في حياتهم الخصوصية لديهم بعض الأسرار المتعلّقة بنقاط ضعفهم وعيوبهم ، وأحياناً يتعلق بموفقيّاتهم وأعمالهم الإيجابية ، ومن المعلوم أنّ إفشاء ما يتعلّق بنقاط الضعف والعيب يؤدّي إلى سقوط إعتبار وحيثيّة هؤلاء في نظر الناس ، وقد يفضي إلى سلب الثقة منهم وسقوطهم الاجتماعي وإراقة ماء وجههم ، ولهذا السبب نراهم يحرصون على التكتم على تلك الأسرار لتتسنّى لهم الفرصة لإصلاح تلك المعايب وجبران نقاط الضعف في واقعهم.

أَمّا إفشاء ما يتعلّق بنقاط القوّة والصفات الإيجابية فإنّه من شأنه أن يسعر نار الحسد في قلب الحسّاد ويعمل على تحريك عناصر الشر في قلوب البخلاء وأصحاب الشخصيّات الهزيلة والمعقدة ، وعلى أيّة حال فإنّه سيكون مصدر الشر والفساد والشقاء على المستوى البعيد ، ولهذا قد يحرص بعض الناس على التحفّظ من الكشف عن هذه الموفقيّات والإيجابيات في واقعهم.

ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنّه قال : «إن كانَ فِي يَدِكَ هذِهِ شَيء فإنْ استَطَعتَ أَنْ لا تَعلَم هِذِه فافعَل ؛ قَالَ : وَكَانَ عِندَهُ إنسان فَتَذاكَرُوا الإذاعَةَ ، فَقَالَ : احفَظ لِسانَكَ تُعِزَّ ، ولا تُمَكِّن النَّاسَ مِنْ قِيادِ رَقَبَتِكَ فَتَذِّلَ» (١).

والملفت للنظر أنّ الإمام عليه‌السلام قال في بداية هذا الحديث : «إِنْ كانَ فِي يَدِكَ هذِهِ شَيءٌ فِإنْ إِستَطعتَ ألّا تُعلَمَ هذِهِ فَافعَل» (٢).

ومن هنا يتّضح أنّه إذا علم الإنسان بخبر مكتوم للآخر وانكشف له سر من أسراره فإنّ ذلك يعدّ أمانة لديه ، فلو أذاعه فإنّه قد خان الأمانة وتسبب في أن يقع الطرف الآخر في دوامة من المشكلات والأضرار الكبيرة أو يؤدّي إلى أن يتعرّض إلى الخطر في شخصيته الاجتماعية ومكانته في الناس أو يؤدّي إلى تفعيل عناصر الشر لدى الحسّاد والبخلاء

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٢٥ ، ح ١٤.

٢ ـ المصدر السابق.

٣٣١

وأصحاب النفوس الضيقة ، أو يطمع الاراذل والأوباش في ماله وعرضه.

ولذا ورد في الأحاديث السابقة أنّ الإمام قال : «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ وإِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» (١).

وعليه فلا بدّ للإنسان أن يحفظ أسراره مهما أمكن ولا يذيعها إلى الآخرين ، وبعبارة اخرى : أن يجعل صدره صندوق أسراره ، فلو اضطر في مورد معيّن أو إتفق له أن اطلع على سرّ من أسرار أخيه المؤمن فإنّه يجب عليه أن يسعى لحفظه ولا يرتكب الخيانة في حق أخيه المؤمن.

أمّا بالنسبة إلى إفشاء أسرار المذهب أمام المتعصّبين والحاقدين الذين لا يتحمّلون سماع الرأي الآخر ولا يرون أي فكر حقّاً غير فكرهم القاصر فكذلك ، وخاصة بالنسبة إلى فضائل الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام التي لا يطيق سماعها الأعداء المعاندين والحاسدين ، وهكذا الحال بالنسبة إلى حفظ الأسرار السياسية والعسكرية للبلد الإسلامي حيث يؤدّي إذاعتها إلى تعرّض مصالح الامّة ومصير النظام الإسلامي إلى الخطر أو يتسبب في إراقة الكثير من الدماء البريئة وتلف الثروات الطائلة أو هتك الشخصيّات المرموقة في المجتمع الإسلامي ، ولذلك فإنّ حفظ هذه الأسرار يعدّ من أهمّ الوظائف الدينية ، وفي المقابل فإنّ إفشاء هذه الأسرار يعدّ من أقبح الرذائل الأخلاقية ويترتّب عليه عقوبة شديدة ، ولهذا السبب قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَلَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» (٢).

وقد أورد العلّامة المجلسي في بحار الانوار حديثاً جذّاباً حيث يقول ما خلاصته : «دخل على أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلان من أصحابه فوطىء أحدهما على حيّة فلدغته ووقع على الآخر في طريقه من حائط عقرب فلسعته وسقطا جميعاً فكأنّهما لما بهما يتضرّعان ويبكيان ، فقال لهما أمير المؤمنين عليه‌السلام :

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٠ ، ح ٤.

٣٣٢

«ما اصِيبَ وَاحدٌ مِنكُما إِلّا بِذَنبِهِ.

أَمّا أَنتَ يا فُلان ـ وَأقبل على أحدهما ـ أَتَذكُر يَومَ غَمَزَ عَلى سَلمانِ الفارِسي فُلان وَطَعَنَ عَلَيهِ لِموالاتِهِ لَنا فَلم يَمنَعُك مِنَ الرَّدِّ وَالإِستخفَافِ بِهِ خَوفاً عَلى نَفسِكَ وَلا عَلى أَهلِكَ وَلا عَلَى وُلدِكَ وَمالِكَ أَكثَرَ مِن أَنْ استَحييتَهُ ، فَلِذلِكَ أَصابَكَ.

فإنْ أَرَدتَ أَنْ يُزِيلَ اللهُ ما بِكَ فاعتَقِد أَنْ لا تَرى مرزئاً عَلَى وَليٍّ لَنا تَقدَرُ عَلَى نُصرتِهِ بِظَهرِ الغَيبِ إلّا نَصَرتَهُ ، إلّا أَنْ تَخافَ عَلَى نَفسِكَ وَأَهلِكَ وَوُلدِكَ وَمالِكَ.

وَقالَ للآخَر : فَأَنتَ أَتَدرِي لِما أَصابَكَ ما أَصابَكَ؟

قال : لا.

قَالَ عليه‌السلام : أَما تَذكُر حِيثُ أَقبَلَ قَنبَرَ خادِمِي وَأَنتَ بِحضرَةِ فُلانَ العاتِي فَقُمتَ إِجلالاً لَهُ لإجلالِكَ لِي؟

فَقالَ لَكَ : أَوَ تَقُومُ لِهذا بِحضرَتِي؟

فَقُلتَ لَهُ : وَما بالِي لا أَقُومُ وَمَلائِكةُ اللهِ تَضَعُ لَهُ أَجنِحَتِها فِي طَريقِهِ ، فَعلَيها يَمشِي ، فَلَمّا قُلتَ هذا لَهُ ، قَامَ إِلى قَنبَرَ وَضَرَبَهُ وَشَتَمَهُ وَآذاهُ وَتَهَدَّدنِي وَأَلزَمَنِي الإغضاءَ عَلىَ قَذى ، فَلِهذا سَقَطتْ عَلَيكَ هذِهِ الحَيَّةُ.

فَإنْ أَردتَ أَنْ يُعافِيكَ اللهُ تَعالى مِنْ هذا فاعتَقِد أَنْ لا تَفعَلَ بِنا وَلا بِأَحدٍ مِنْ مَوالينا بِحضَرةِ أَعدائِنا ما يُخافُ عَلينا وَعَليهِم مِنهِ» (١).

وكذلك نقرأ ما ورد في التواريخ الإسلامية أنّ بعض قادة الإسلام اعدموا الجواسيس بسبب أنّ عملهم يؤدّي إلى سفك الدماء البريئة ولذلك حكموا بقتلهم وإعدامهم.

الضرورات :

أحياناً تدفع الحاجة أو الضرورة الإنسان إلى إخبار الآخر بسرّه ، ففي هذه الموارد يجب

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٢٦ ، ص ٢٣٧ ، مع التلخيص.

٣٣٣

على هذا الإنسان أن يختار لذلك الشخص الأمين العاقل ليضع عنده سرّه كما قال الإمام علي عليه‌السلام : «مَنْ أَسَرَّ إِلى غَيرِ ثِقَةٍ فَقَد ضَيَّعَ أَمرَهُ» (١).

وحتى أنّ الإمام أوصى في حالة الضرورة وعند ما يريد الإنسان أن يودّع سرّه عند أخيه المؤمن أن يتلقى في المقابل سرّاً من ذلك الشخص لكي يكون بمثابة الضمانة لحفظ سرّه حيث يقول : «لا تَضع سرِّكَ عِندَ مَنْ لاسِرَّ لَهُ عِندَكَ» (٢).

ويجب الانتباه إلى أنّ الأشخاص الذين لا يعيشون الانضباط في حفظ أسرارهم فإنّهم لا يليقون بالثقة والاعتماد لحفظ أسرار الآخرين ، فينبغي الاجتناب عن وضع السرّ عندهم.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال : «مَنْ ضَعُفَ عَنْ حِفظِ سِرِّهِ لَم يُطِق سِرَّ غَيرِهِ» (٣).

دوافع إفشاء السّر وعلاجها :

إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية تنشأ من دوافع ونقاط ضعف مختلفة منها :

١ ـ إنّ الشخص الحسود يسعى لإفشاء أسرار الطرف الآخر لتوجيه ضربة إلى نقاط قوّته وشخصيته بين الناس ، ويسعى لذلك لإراقة ماء وجهه أو تهديد مصالحه الدنيوية والمادية.

٢ ـ إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحقد والعقدة تجاه الآخرين فإنّهم يسعون أيضاً ولغرض الانتقام من الطرف الآخر وارضاء دافع الحقد في نفوسهم إلى إفشاء أسرار الآخرين.

٣ ـ ومن الدوافع الاخرى لهذه الرذيلة هو عنصر الجهل وضيق الافق ، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الحالات الوضيعة ليست لديهم اللياقة لحفظ أسرار الآخرين.

ونقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «ثَلاثٌ لا يُسْتَوْدَعْنَ سِرّاً : المَرأَةُ وَالنّمّامُ وَالأْحْمَقُ» (٤).

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ غر الحكم.

٣٣٤

وفي حديث آخر عن الإمام عليه‌السلام نفسه أنّه قال : «لا تُسِرَّ إِلَى الجاهِلِ شَيْئاً لا يُطِيقُ كِتْمانَهُ» (١).

٤ ـ وأساساً فإنّ إفشاء السِّر وبشكل عام نشر الأخبار الخفيّة والجديدة وأحياناً العجيبة والغريبة تجد في قلوب الناس جاذبية خاصة تقودهم إلى الرغبة الشديدة في الإستماع والإصغاء لهذه الأخبار ،. هذا المعنى قد يتسبب إلى أن يرغب بعض الناس لإفشاء أسرار الآخرين ليلفتوا إليهم نظر المستمعين.

٥ ـ ومن العوامل المهمّة الاخرى لإفشاء الأسرار هو الأخطاء والاشتباهات وعدم الالتفات إلى كون هذا الأمر من الأسرار ، ولهذا السبب فقد يصدر من بعض الناس المنضبطين في مسألة حفظ السر بعض الاشتباهات والزلل في هذا الأمر حتى قيل : «كُلُّ سِرٍّ جاوزَ الإثنِينَ شاعَ».

ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال لأحد أصحابه ويدعى عمّار حيث سأله الإمام الصادق عليه‌السلام : «هَل أَخبَرتَ بِما أَخبِرتُكَ بِهِ أَحَداً؟ قَلتُ : لا إلّا سُلَيمَانِ بنِ خالِدَ ، قالَ : أَحسَنتَ أَما سَمِعتَ قَولَ الشَّاعِر :

فَلا يَعدُوَنْ سِرِّي وَسِرِّكَ ثالثاً

أَلا كُلُّ سِرٍّ جاوَزَ الإِثنِينِ شايعُ

والسبب في ذلك واضح لأنّه إذا كان البناء على أن يقوم كل شخص بأخبار أحد أصدقائه الموثوقين بأسرارهم ، ويقوم الشخص الثاني بمثل العمل ، وهكذا الثالث والرابع فلا تطول المدّة حتّى ينتشر السِّر في المجتمع كلّه.

أمّا العلاج :

فقد رأينا في الأبحاث السابقة أنّه إذا كان موضوع إفشاء الأسرار يتعلّق بخصوصيات الأشخاص الآخرين فيترتب على ذلك الآثار السلبية الكثيرة من قبيل سقوط شخصيته ومنزلته الاجتماعية ، وزوال ثقة الناس واعتمادهم عليه قد يصل الأمر إلى سقوط شخصيته

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٣٣٥

نهائياً في أنظار الناس وتلف جميع إيجابيّاته ونقاط قوّته في المجتمع.

وإذا كان إفشاء السّر متعلّقاً بالمجتمع أو المذهب والدين فقد يؤدّي أحياناً إلى تعرّض ذلك المجتمع للخطر أو يتعرّض أتباع ذلك المذهب إلى مشاكل كثيرة وقد تسفك في ذلك دماء بريئة وتهتك حرمات المؤمنين وتصادر أموالهم من قبل الأشخاص الذين يعيشون التعصّب الأعمى والجهالة والانحراف.

إنّ الالتفات إلى هذه العواقب والآثار السلبية الأليمة في إفشاء الأسرار يعدّ أحد العوامل المؤثّرة في الوقاية من هذه الرذيلة الأخلاقية ، كما أنّ التدبّر في الآثار السلبية في كل صفة رذيلة من الصفات الأخلاقية الذميمة يعدّ عاملاً للتوقّي من الوقوع والابتلاء في هذه الرذيلة.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو القضاء على أسباب ودوافع هذه الرذيلة واقتلاع جذورها من واقع النفس ، أي عنصر الجهل والحسد والحقد أمثال ذلك.

ومن الطرق الاخرى هو سعة ظرفية الإنسان وأفقه وشرح صدره وروحه وقوّة شخصيته ، فهذا من شأنه أن يساعده على المحافظة والانضباط في دائرة الأسرار.

وكذلك التفكّر في العقوبات الإلهية الشديدة المترتبة على إفشاء أسرار الناس والمجتمع والتي تقدّم الحديث عنها سابقاً يمكن أن يعدّ من الامور النافعة للوقاية من هذه الرذيلة أو علاجها.

ومن العوامل المهمّة الاخرى هو الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ إفشاء أسرار الآخرين إذا تسبب في لحوق الضرر والخسارة بهم فإنّ المذيع لسّرهم يعدّ مسبباً لهذه الأضرار وفي الكثير من الموارد يعتبر ضامناً شرعاً وقانوناً لها.

٣٣٦

١٤

الحلم والغضب

تنويه :

(الغضب) من أخطر الحالات والانفعالات في الإنسان التي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها والسيطرة عليها فإنّها قد تظهر بشكل جنوني على سلوكيات الفرد وتفقده أيّة سيطرة على أعصابه ، وحتى أنّ الكثير من السلوكيات الخطرة والجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعية تكون بدافع الغضب ويترتب عليه دفع كفّارة وضريبة ، وبعكسه ، نرى صفة الحلم وهي من الصفات الاخلاقية الحميدة ، ونرى القرآن الكريم قد إهتم بهذه الصفة أيما اهتمام ، وقد وردت في الآية ١٣٤ من سورة آل عمران يصف فيها المتقين حيث ذكرت بعد صفة الانفاق ، لما لهذه الصفة من آثار ايجابية على وضع الفرد والمجتمع. إنّ حالة الغضب كالنار المحرقة التي قد تأتي على الأخضر واليابس من حياة الإنسان وتكفي شرارة صغيرة منها إلى إحراق بيوت ومدن كاملة وتحويلها إلى رماد.

وإذا تصفّحنا التاريخ البشري فإننا نجد أنّ المشكلات الكثيرة التي ابتلت بها المجتمعات البشرية كانت بدافع من قوّة الغضب هذه حيث تسببت في الكثير من الحوادث المؤلمة والأزمات الخطيرة والخسارة الهائلة على المستوى الفردي والاجتماعي.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها دورساً وعبراً في خطر هذه

٣٣٧

الرذيلة الأخلاقية وكذلك بركات الحلم وآثاره الإيجابية في النقطه المقابلة لها :

١ ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(١).

٢ ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٢).

٣ ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٣).

٤ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(٤).

٥ ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(٥).

٦ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)(٦).

٧ ـ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٧).

٨ ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٨).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث التي تتحدّث عن أوصاف طائفة من المؤمنين الصادقين الذين شملهم الله تعالى برحمته وعنايته الخاصة ، فتقول بعد أن تذكر إيمانهم وتوكّلهم على الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).

وبعبارة اخرى : أنّ هؤلاء عند ما تشتعل في نفوسهم نار الغضب يتحرّكون على مستوى

__________________

١ ـ سورة الشورى ، الآية ٣٧.

٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٣٤.

٣ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٨٧.

٤ ـ سورة التوبة ، الآية ١١٤.

٥ ـ سورة هود ، الآية ٧٥.

٦ ـ سورة الصافات ، الآية ١٠١.

٧ ـ سورة الفرقان ، الآية ٦٣.

٨ ـ سورة الاعراف ، الآية ١٩٩.

٣٣٨

ضبطها والسيطرة عليها ولا يسمحون لأنفسهم بالتلّوث بأنواع الخطايا والذنوب لأجل ذلك.

إنّ ذكر هذه الصفة بعد مسألة التوقّي من الذنوب والآثام الكبيرة لعله بسبب أنّ حالة الغضب تقود النفس إلى التحرر من قيود العقل وتفكّ عن قوى الشر جميع الضوابط الأخلاقية والشرعية لتتحرّر وتنطلق في كل إتجاه.

ومن الملفت للنظر أنّ هذه الآية لا تقول : إنّ هؤلاء لا يغضبون ، لأنّ الغضب في مواجهة المصاعب اللاملائمات والتحدّيات هو حالة طبيعية لدى الإنسان ، بل تقرر أنّ هؤلاء في حال الغضب يتحركون من موقع السيطرة على حالة الغضب هذه وأن لا يخضع الإنسان لايحاءات هذه القوة في نفسه وخاصة أنّ قوّة الغضب لا تقع دائماً في جانب الشرّ في الإنسان ولا تمثّل عنصراً سلبياً في دائرة السلوك المخرّب ، فأحياناً تكون قوّة مثمرة وبنّاءة كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد باذن الله تعالى.

وتأتي «الآية الثانية» وبعد أن تستعرض وعد الله تعالى للمتّقين بالجنّة التي وسع عرضها السموات والأرض لتتحدّث عن أوصاف هؤلاء ، وأوّل صفة تذكرها لهؤلاء هي صفة الانفاق وتقول : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ثمّ تضيف الآية (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وفي النتيجة : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فمن يعيش هذه الحالات الايجابية والقيم الأخلاقية فهو من المحسنين الذين تقول عنهم الآية في ذيلها : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها وعدت هؤلاء بعفو الله ومغفرته في حال صدور الخطأ منهم ، وأنّهم عند ما يتحرّكون صوب الانحراف وارتكاب الخطأ يتذكّرون الله تعالى ويستغفرونه فيشملهم الله بعفوه ومغفرته.

وهذا إشارة إلى أنّ هؤلاء كما أنّهم يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع العفو والصفح عن أخطاء الغير فإنّ الله تعالى كذلك يعفو عنهم ويصفح عن أخطائهم.

وعلى أيّة حال فإنّ (كظم الغيظ) في هذه الآية ورد بعنوان أحد الصفات الإيجابية المرموقة لهؤلاء المتّقين.

٣٣٩

«الآية الثالثة» تتحدّث عن حالة الغضب التي عاشها أحد الأنبياء الإلهيين ، وهو النبي يونس عليه‌السلام تجاه امّته وقومه ، وهو الغضب المقدس في ظاهره ، ولكنّه في الواقع صادر من التسرع والاستعجال وعدم إدراك بواطن الامور ، ولهذا فإنّ الله تعالى قد جعله يواجه ظروفاً صعبة بسبب تركه للاولى وأخيراً فإنّ هذا النبي الكريم قد تاب من ترك الاولى ، وتقول الآية : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

وهكذا وبعد تحمّل صعوبات هائلة وقاسية قبل الله توبته ولم تستطع الحوت أن تهضمه في بطنها ، بل قذفته إلى الساحل بجسم نحيف وضعيف وهزيل ، أمّا ما هي المدّة التي مكث فيها يونس عليه‌السلام في بطن الحوت؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين بين من يقول أربعين يوماً ، ومن يقول اسبوعاً واحداً وثلاثة أيّام ، وطبقاً لرواية عن الامام علي عليه‌السلام أنّ المدّة تسع ساعات ، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المدّة مهما طالت أو قصرت فإنّها ممّا لا تطاق حتى للحظة واحدة.

ولكن ما ذا هو ترك الأولى الذي ارتكبه النبي يونس عليه‌السلام حتى استحق هذه العقوبة الشديدة ، رغم أننا نعلم أنّ الأنبياء معصومون عن الزلل والذنب؟

إنّ ما يتبادر إلى الذهن في البداية أنّ يونس عليه‌السلام غضب على قومه الضالّين الذين لم يقبلوا دعوته الإلهية وتحرّكوا في مقابله من موقع العناد واللجاجة ، فمن الطبيعي أن يغضب يونس عليه‌السلام لذلك ، ولكن هذا الغضب بالنسبة لنبي كبير مثل يونس عليه‌السلام كان يعدّ من الترك للأولى ، أي كان الأولى له بعد إطّلاعه على وقت نزول العذاب الإلهي على قومه أن يبقى معهم إلى آخر لحظة ولا ييأس من هدايتهم ، فلو أنّ يونس عليه‌السلام لم يغضب هناك فلعل قومه يسمعون لكلامه ويلبّون دعوته في آخر اللحظات ، والتجربة تؤيد هذا المعنى حيث إنتبه قومه في اللحظات الأخيرة وتابوا إلى الله تعالى فقبل الله توبتهم وأزال عنهم العذاب.

فمثل هذا الغضب ليونس عليه‌السلام (والذي لم يكون بدون دليل أيضاً) فإنّ الله تعالى لم يغفر لنبيّه ذلك وعاقبه بتلك العقوبة ، فكيف الحال فيما لو كان الغضب الذاتي للإنسان بدافع الحقد

٣٤٠