الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

٧ ـ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً). (١)

٨ ـ (... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٢).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» : تحذّر الأشخاص الذين يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية والاستهزاء : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).

أمّا تفسير (همزة) و (لمزة) والفرق بينهما هناك كلام كثير بين المفسّرين وقد تحدثنا عنه في التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة ، والمهم هو أنّه على أحد التفاسير فإنّ المراد من الآية أعلاه هو الإشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون على مستوى النميمة بين الأفراد ، وقد سئل ابن عباس عن المقصود من هذه الآية ، ومن هم هؤلاء الذين يهدّدهم الله تعالى بالويل ، فقال : ابن عباس : «هُم المَشاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المَفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ النَّاعِتُونَ لِلنّاسِ بِالعَيبِ».

ويذكر المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) هذا المعنى بعنوان أول تفسير له لهذه الآية ، والفخر الرازي يذكره بعنوان التفسير التاسع والأخير لهذه الآية ، ونظراً للمفهوم الواسع الذي يدخل في مضمون (همزة ولمزة) فإنّ كل أشكال الغيبة والنميمة والسخرية تندرج تحت مفهوم هذه الآية ، وهنا نرى أنّ الله تعالى قد وعد هؤلاء الأشخاص بالعقاب الشديد وهو (الحطمة) وهي النار التي سعّرها الله تعالى في قلوب هؤلاء بحيث تندلع من قلوبهم لتستوعب كل وجودهم.

ويستفاد من هذه الآية أنّ نار الآخرة بخلاف نار الدنيا ، فإنّها تنبع من داخل النفس وأعماق القلب ثم تسري إلى الظاهر ، ولعلّ ذلك بسبب أنّ الرذائل الأخلاقية والأعمال

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١١٤.

٢ ـ سورة هود ، الآية ٨٨.

٢٦١

القبيحة تنبع من ذات الإنسان وأعماقه ثم تظهر على السطح على شكل ممارسة عملية في الواقع الخارجي.

«الآية الثانية» : تخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنهاه عن إطاعة هؤلاء النمّامين بعد عدّة أقسام وتقول : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)

وتبعاً لهذه الصفات الأخلاقية القبيحة تضيف الآيات التالية صفات اخرى من قبيل المنع من عمل الخير ، العدوان ، الحقد ، الخشونة ، الكفر بآيات الله تعالى ، ثم تقول : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) وهكذا سيفتضح أمره في الدنيا والآخرة.

أمّا ذكر النميمة في تسلسل الرذائل المهمّة الاخرى وكذلك الكفر بآيات الله تعالى يدل على قبح هذه الخصلة الشنيعة في سلوك الإنسان.

وعبارة «مشّاءِ بنميم» جاءت بصيغة المبالغة ، وهي إشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون دائماً بين الناس بالنميمة ويثيرون العداوة والبغضاء فيما بينهم ، وهذا بحدّ ذاته يعدّ من أهم الذنوب الكبيرة.

(حلّاف) يطلق على الشخص الذي يحلف ويقسم بالله كثيراً ، وعادة فمثل هؤلاء الأشخاص لا يعتمد الناس عليهم ولا هم يعتمدون على أنفسهم ، ووصفهم بكلمة (مهين) أيضاً شاهد آخر على هذا المعنى ، ولهذا فإنّهم وبدافع من شعورهم بالحقارة والذلة يعيبون على الآخرين ويمشون بينهم بالنميمة والفساد وكأنّهم يتألمون ممّا يرون من المحبّة والالفة والتكاتف بين الناس ويريدون ايقاع العداوة والحقد بين الأشخاص كما هو حالهم في أنظار الناس حيث ينظر الناس إليهم نظرة الحقارة والازدراء.

«الآية الثالثة» : وطبقاً لسبب نزولها المعروف تتحدّث عن (الوليد بن عقبة) الذي أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لجمع الزكاة من قبيلة (بني المصطلق) : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم هابهم فرجع

٢٦٢

إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يغزوهم ، فبينما هم على ذلك قدِم وفدهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : «يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً فبلغنا أنّه زعم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك ، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(١).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد وأمره أن يتثبّت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتّى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه ، فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعاد إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره ، فنزلت هذه الآية ، فكان يقول نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «التَّأَنِي مِنَ اللهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشّيطانِ» (٢).

وطبقاً لحديث شريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام فإنّ الآية محل البحث تشير إلى النمّام (٣).

ومن هنا يتّضح أنّ النميمة تشمل الكذب أيضاً.

«الآية الرابعة» : من الآيات محل البحث أوردها بعض العلماء كالعلّامة المجلسي في بحث النميمة وقال : إنّ من يشفع شفاعة سيئة الوارد في هذه الآية (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) له مفهوم واسع ويشمل النميمة أيضاً لأنّها شفاعة سوء بالحقيقة ، بل هي أسوأ حيث يشعل النّمام نار العداوة بين الرجلين من المسلمين فيتحرّكوا فيما بينهما من موقع سوء الظن والحقد والكراهية ، ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أَمَرَ بِسُوءٍ أَو دَلَّ عَلَيهِ أَو أَشارَ فَهوَ شَرِيكٌ».

__________________

١ ـ سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٣٠٨.

٢ ـ تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦١٣١.

٣ ـ مستدرك سفينة البحار ، ج ١٠ ، ص ١٥٢.

٢٦٣

«الآية الخامسة» : تتحدّث عن إصلاح ذات البين والذي يقع في النقطة المقابلة للنميمة وإفساد ذات البين ، وتقول : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنّها نزلت بعد غزوة بدر حيث حدثت بين رجلين من الأنصار مشاجرة لفظية على الغنائم الحربية ، وصرّحت الآية بأنّ الغنائم الحربية أمرها بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليكم أن تسعوا لإصلاح ذات البين وإزالة الفرقة والاختلاف بين المسلمين.

«الآية السادسة» : تشير إلى الذين يجعلون الله عرضة لأيمانهم في تقواهم واصلاح ذات البين : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وقد ورد في تفسير هذه الآية رأيان :

الأول : أنّ هذه الآية ناظرة إلى الأشخاص الذين تتملكهم الحدّة أحياناً فيقولون : سوف لا نفعل الخير أبداً لفلان وفلان ، أو لا نتحرّك لغرض الإصلاح فيما بينهم ، فنزلت الآية الشريفة وقالت إنّ هذه الإيمان باطلة فلا شيء يمكنه أن يمنع عمل الخير والإصلاح بين الناس (وقد ذكر لهذه الآية سبب لنزولها يؤيّد هذه الرؤية حيث ذكر أنّه حصل اختلاف بين زوجين أحدهما بنت أحد الصحابة ويدعى (عبد الله بن رواحة) وقد حلف هذا الصحابي أن لا يقدم على إصلاح ما بينهما من الخلاف والنزاع ، ونزلت الآية وأكّدت على بطلان مثل هذا القسم).

الثاني : هو أنّ هذه الآية تنهى عن القسم لغرض أعمال الخير والتقوى والإصلاح بين الناس ، لأنّ رجحان مثل هذه الأعمال وفضلها إلى درجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى القسم.

وعلى أيّة حال فانّ أهميّة إصلاح ذات البين يتّضح من هذه الآية جيداً وخاصة أنّها ذكرت هذه الفضيلة إلى جانب أعمال الخير والتقوى والبر.

٢٦٤

تتحرك «الآية السابعة» : من موقع الحديث عن النجوى بين الأشخاص والذي قد يتسبب أحياناً في أذى الآخرين وسوء ظنّهم ، وأحياناً يوفّر الأرضية المساعدة لتنفيذ خدع الشيطان ولذلك تقول الآية : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ).

ولكنّها تضيف مباشرة هذا الاستثناء : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

إنّ استثناء مسألة إصلاح ذات البين من الذم للنجوى من جهة ، وجعل الإصلاح إلى جانب الصدقة والمعروف من جهة اخرى ، وكذلك بالوعد بالثواب العظيم عليه من جهة ثالثة كلّها شاهد على أهمية هذا الفعل والسلوك الإنساني.

أمّا ما الفرق بين الصدقة والمعروف؟ فقد ذهب البعض إلى أنّ الصدقة تعني المعونة المالية بلا عوض ، والمعروف هو القرض الحسن ، وذهب بعض آخر إلى أنّ المعروف له مفهوم عام يشمل جميع أفعال الخير (وعليه تكون النسبة بين الصدقة والمعروف نسبة العموم والخصوص المطلق).

وجاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أحد أفضل الصدقات التي يحبّها الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو (إصلاح ذات البين) ويقول : «ألا أَدُلُّكَ عِلى صَدقَةٍ يُحبُّها اللهُ وَرَسُولُهُ؟ تُصلِحْ بَينَ النّاسِ إِذا تَفاسَدُوا وَتَقَرِّبْ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» (١).

وعليه فإنّ إصلاح ذات البين ذكر بشكل مستقل تارةً ، واخرى بعنوانه أحد المصاديق البارزة للصدقة والمعروف ، وبتعبير آخر أنّ إصلاح ذات البين هو المصداق الكامل للمعروف والصدقة في هذا المورد.

وجاءت «الآية الثامنة» : والأخيرة من الآيات محلّ البحث لتتحدّث عن منهج أحد الأنبياء العظام باسم (شعيب عليه‌السلام) حيث يبيّن للناس هدفه «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» ، وهذا الهدف يشترك فيه جميع الأنبياء الإلهيين على مستوى إصلاح العقيدة ،

__________________

١ ـ تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٩٥٥.

٢٦٥

إصلاح الأخلاق ، إصلاح العمل ، وإصلاح الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

وذهب بعض المفسّرين في تفسير كلمة الإصلاح أنّ مفهومها هو أَنني اريد إصلاح دنياكم بالعدالة وآخرتكم بالعبادة ، ولكن من الواضح أنّ الإصلاح له مفهوم واسع يستوعب العدالة وغيرها أيضاً.

ثمّ إنّ الآية الشريفة تذكر أنّ النبي شعيب عليه‌السلام ولغرض التوفيق في هذا الأمر المهم ، أي إصلاح دين ودنيا الناس في جميع الموارد يطلب من الله تعالى التوفيق لذلك يقول : «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».

واللطيف أنّ النبي شعيب عليه‌السلام قال هذا الكلام في حين أنّ قومه كانوا قد غرقوا في دوامة الفساد المالي والأخلاقي ، بحيث كانوا يعدّون نهي شعيب إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف في الميزان والفساد المالي مخالف لحريتهم ويقولون : نحن نتعجّب منك ومن عقلك أنّك تريد أن تقف أمام حرّيتنا على مستوى الفكر والعمل ، وكأنّهم مثلما نجده من بعض الناس في هذا الزمان الذين لا يدركون جيداً المفهوم الصحيح للحرّية ولا يعلمون أولا يريدون أن يعلموا أنّ الحرية التي يفتخر بها الإنسان لا بدّ وأن تكون مؤطّرة باطار القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وإلّا فإنّ مصير الناس إلى الضلال والانحراف والسقوط ، وبذلك أجابهم النبي شعيب عليه‌السلام أنّ هدفي هو الإصلاح بالمعنى الواقعي للكلمة لا الاستسلام لأهوائكم وطموحاتكم الدنيوية.

والملفت للنظر أنّ قوم شعيب وصفوا نبيّهم بأنّه إنسان عاقل ورشيد (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) ، ولكنّهم بمجرد أن رأوا هذا النبي يقف أمام مطامحهم ويتصدّى لإصلاح فسادهم المالي والعقائدي ، فإنّهم برزوا له بالمخالفة والعناد.

ومن مجموع الآيات أعلاه تتّضح نقطتين مهمّتين :

الاولى : هي أنّ النميمة والسعي لإيجاد الاختلاف بين الناس يعدّ من أكبر الذنوب وأقبح الصفات الأخلاقية الرذيلة.

٢٦٦

الثانية : أنّ الإصلاح بين الناس يعدّ أحد الوظائف المهمّة الإلهية والإنسانية والتي لا يمكن إهمالها والتغاضي عنها بأي دليل.

النميمة في الروايات الإسلامية :

نظراً لأنّ النميمة تعدّ أشنع الظواهر الاجتماعية التي تنخر في مفاصل المجتمع البشري وتكون مصدراً ومنبعاً لكثير من المفاسد الاخرى وحتى القتل وسفك الدماء ، فلذلك نجد أنّ الأحاديث الإسلامية قد نهت عن هذا السلوك الذميم بشدّة وجاء في مضامين هذه الروايات ما يثير العجب من وخامة هذه الظاهرة وبشاعة هذا السلوك ومنها :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال يوماً لأصحابه : «أَلا انَبِّئُكُم بِشَرارِكُم ، قَالُوا : بَلى يا رَسُولَ اللهِ ، قالَ : المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمِةِ وَالمُفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ الباغُونَ لِلبُرآءِ المَعايبِ» (١).

النميمة بمعنى الصوت الواطيء الهاديء والذي يصدر من حركة شيء أو اصطدام قدم الإنسان في الأرض حال المشي ، وبما أنّ النّمام عادة يتحدّث من موقع النميمة بهدوء وإخفات لكي يلقي في نفس السامع أنّه يحمل إليه خبراً مهمّاً ، ولذلك أطلقت هذه الكلمة على النّمام ومن يسعى بين الأشخاص من موقع التفرقة وإثارة الاختلاف (٢).

وذهب البعض إلى أنّ النميمة في الأصل بمعنى تزيين الكلام الباطل والكاذب (لأنّ الشخص النّمام يسعى إلى أن يلبس لكلامه الكاذب لباساً جميلاً) (٣).

وشبيه هذا المعنى ورد أيضاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤).

٢ ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «الجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ عِلى القَتَّاتِينَ المَشَّائِينَ بِالنَّمِيمَةِ» (٥).

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٦.

٢ ـ مقتبس من مفردات الراغب ، (مصطلح النميمة).

٣ ـ مقتبس من لسان العرب (من مصطلح النميمة).

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦١٧.

٥ ـ المصدر السابق.

٢٦٧

«قتّات) من مادة قت (على وزن شط) وهي في الأصل بمعنى الكذب واستراق السمع ، سواءاً كان يحمل في طيّاته النميمة أم لا ، وعليه فإنّ القتّات هو الشخص الذي يريد أن يطّلع على أسرار الناس ويسعى بينهم لإفساد ذات البين والذي يقترن أحياناً بالنميمة أيضاً.

وقد ورد في بعض الروايات وكتب اللغة أنّ القتّات والنّمام بمعنى واحد.

٣ ـ وجاء في حديث آخر عن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يا أَبا ذَر صاحِبُ النَّمِيمةِ لا يَستَرِيحُ مِنْ عَذابِ اللهِ فِي الآخِرَةِ» (١).

٤ ـ وورد في حديث آخر تعبير أشدّ عن الأشخاص النّمامين حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحد خطبه : «وَمَنْ مَشى فِي نَمِيمَةٍ بَينَ إِثنَينِ سَلَّطَ اللهُ عَلَيهِ فِي قَبرِهِ ناراً تُحرِقُهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ» (٢).

٥ ـ وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَصابَ بَنِي إِسرائِيلَ قَحطٌ فاستَسقى مُوسى مَرات فَما اجِيبَ فَأَوحى اللهُ تَعالى إِلَيهِ إِني لا أَستَجِيبُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ وَفِيكُم نَمَّام قَدْ أَصَرَّ عَلى النَّمِيمَةِ ، فَقالَ مُوسى : يا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتّى نُخرِجُهُ مِنْ بَينِنا؟ فَقالَ : يا مُوسى أَنهاكُم عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونَ نَمّاماً فَتابُوا بِأَجمَعِهِم فَسُقُوا» (٣).

٦ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال : «أَربَعَةٌ لا يَدخُلُونَ الجَنَّةَ : الكَاهِنُ وَالمُنافِقُ وَمُدمِنُ الخَمرِ وَالقَتَّاتُ وَهُوَ النَمامُ» (٤).

٧ ـ ورد عن أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «النَّمَ امُ جِسرُ الشَّرِّ» (٥).

٨ ـ وفي حديث آخر عن الإمام صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه أنّه قال : «لا تَجتَمِعُ أَمانَةٌ وَنَمِيمَةٌ» (٦) ، أي الشخص النمّام هو خائن أيضاً.

٩ ـ ونختم البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ح ٤.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٦١٨ ، ح ٦.

٣ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٧٦.

٤ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨. ، ص ٦١٩ ، ح ١١ (باب تحريم النميمة).

٥ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٧٩.

٦ ـ غرر الحكم.

٢٦٨

الباب ، قال : «إِنَّ أَحَبَّكُم إِلى اللهِ الَّذِينَ يُؤلَفُونَ وَيَألِفُونَ وإِنَّ أَبغَضَكُم إِلى اللهِ المَشَّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَينَ الإخوانِ» (١).

ومن مجموع هذه الأحاديث يستفاد جيداً أنّ النميمة تعتبر من الذنوب الكبيرة والخطرة جدّاً وتسبب خسران الدنيا والآخرة ، والأشخاص الذين يرتكبون هذا الفعل الشنيع ويفرّقون بين الأحبّة والأقرباء لا يرون سيماء الجنّه أبداً إلّا بأن يتوبوا من ذنوبهم ويتحرّكون على مستوى جبران أعمالهم وإصلاح ما أفسدوه ، ومن خلال هذه الروايات نرى إشارات عميقة إلى حكمة تحريم هذا العمل السيء وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة أيضاً.

النتائج السلبية للنميمة :

سبق وأن قلنا أنّ الأساس والقاعدة الأصلية التي يقوم عليها المجتمع البشري هو الاعتماد المتقابل بين الأفراد ، وهذا الاعتماد المتقابل هو سبب إتّحاد الصفوف والتعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع وبالتالي يتسبب في تقدّم المجتمع وتكامله على جميع الصُعد.

وقد أولى الإسلام أهميّة كبيرة لحفظ هذا العنصر الأساس وهو اعتماد الناس ووحدة صفوفهم وحرّم أي فعل من شأنه أن يلحق الضرر بوحدة المجتمع وقوّته ، وأوجب كذلك كل فعل يسبب في تقوية شرائح المجتمع وشد أركانه (تارة من خلال الحكم الوجوبي واخرى من خلال الحكم الاستحبابي.

ولا شك أنّ النميمة هي من العوامل المهمّة للتفرقة وإيجاد سوء الظن بين أفراد المجتمع وتفضي إلى العداوة وتعميق حالة الحقد والكراهية بين الأفراد ، وتارة تؤدّي إلى تلاشي الأسر وتمزّق العوائل ، ولهذا السبب فإنّ الروايات المذكورة آنفاً تعدّ الشخص النّمام أشر أفراد المجتمع وأسوأهم.

__________________

١ ـ آثار الصادقين ، ج ٢٤ ، ص ٤١٦.

٢٦٩

ونقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «إِيّاكُم وَالنِّمائِمَ فَإِنَّها الضَّغائِنِ» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أيضاً قوله : «إِيّاكَ وَالنَّميمةَ فَإِنَّها تزرَعُ الضَّغِينَةَ وَتُبَعِّدُ عَنِ اللهِ وَالنّاسِ» (٢).

وجاء في أحاديث اخرى التعبير بكلمة (شحناء) والتي تأتي بمعنى العداوة والضغينة أيضاً ، ويتّضح من الأحاديث الشريفة السابقة أنّ النمّام هو أسوأ خلق الله تعالى بسبب سعيه للتفرقة بين الأحبّة والأصدقاء وتحرّكه من موقع إتّهام الأشخاص الطاهرين.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ الشخص النّمام يعيش في المجتمع منفوراً ومطروداً ، لأنّ طرفي النزاع اللذين استمعا لكلامه وصدقا به فإنّهما غالباً يندمان بعد ذلك ويجدان في أنفسهما الكراهية الشديدة للشخص الذي سبب الفرقة بينهما ويلعنانه ويحذّران الناس من الاتّصال مع هذا الشخص والتصديق بأقواله ، وقد مرّ علينا في أحد الأحاديث الشريفة أنّ النمام بعيد عن الله وبعيد عن خلق الله.

والإمام الصادق عليه‌السلام يشبّه النّمام بالساحر الذي يفرّق بين الأحبّة بسحره ويقول في حديث مختصر وعميق المغزى : «إِنّ مِنْ أَكبَرِ السِّحرِ النَّمِيمَةِ يُفَرِّقُ بِها بَينَ المُتَحابِينَ وَيَجلِبُ العَداوَةَ عَلى المُتَصافِّينَ وَيَسفِكُ بِها الدِّماءَ وَيَهدِمُ الدُّورَ وَيَكشِفُ بِها السُّتُورَ ، وَالنَّمامِ أَشرُّ مَنْ وَطأ عَلَى الأرضِ بِقَدَمِ» (٣).

وطبعاً النميمة ليست بسحر ، ولكنّها تحمل في نتائجها آثار السحر ، ولذلك فإنّ الإمام قال عنها أنّها من أكبر أنواع السحر.

والجدير بالذكر أنّ النميمة لها أثر تخريبي كبير وعادة تكون العناصر المخرّبة أقوى أثراً وأسرع نتيجة من العناصر الخيّرة والمصلحة ، لأنّ الأرضية لسوء الظن موجودة في القلوب ، وعند ما يتحرّك النّمام في إثارتها وتفعيلها فإنّها تتحرّك بسرعة وتستيقظ بذلك عناصر الشر

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٢٩٣ ، ح ٦٣.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٦٠ ، ص ٢١ ، ح ١٤.

٢٧٠

في واقع الإنسان ونفسه ، ومن الممكن أن تقوم كلمات قليلة بعملية التفرقة بين صديقين حميمين مضى على صداقتهما أربعون سنة ، كما أنّ بناء سد مفيد لخزن المياه يمكن أن يستغرق عشرات السنين ولكنّ تخريبه وانهدامه بواسطة الديناميت والمواد المتفجرة قد لا يستغرق سوى بضع ساعات ، ونختم هذا الكلام بالحديث الشريف عن الإمام الصادق حيث قال : «السَّاعِي قاتِلُ ثَلاثَةٍ ، قاتِلُ نَفسَهِ وَقاتِلُ مَنْ يُسعى بِهِ وَقاتِلُ مَن يُسعى لَهُ» (١).

الكثير من الموارد المشهودة في حالات الامراء والملوك تبيّن أنّ من سعى إليهم بالنميمة ضدّ شخص آخر فإنّه يلاقي حتفه على يدهم ، وبهذه الصورة يكون الساعي أي النّمام قاتل نفسه أمام الله تعالى ، وكذلك الشخص الذي سعى إليه بالوشاية لأجل عدم التحقيق الكافي فَكأنّه قتل بيد ذلك الساعي لأنّه قتل بريئاً.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ بعض العلماء وأرباب اللغة ذهبوا إلى إشراك السعاية والنميمة في المعنى في حين أنّه من الممكن وجود فرق بينهما (رغم أنّهما متشابهان جدّاً) فالنميمة هي التفرقة بين صديقين أو بين قريبين أو شريكين ، ولكنّ السعاية هي أن يتحدّث الشخص بعيوب شخص آخر عند كبير من الكبراء ، وبهذا يعرض ذلك الشخص إلى الخطر ، ولذلك وردت السعاية في كثير من الروايات بعنوان السعاية عند السلطان وأمثال ذلك ، ولكن تشابههما في المعنى تسبب في أن يذكران تحت عنوان واحد.

دوافع النميمة :

وهذا الصفة الرذيلة كسائر الصفات الاخرى ترتبط مع الكثير من الرذائل الأخلاقية برابطة وثيقة ، ومنها الحسد ، لأنّ الشخص الحسود لا يتمكن أن يتحمل سعادة الآخرين وراحتهم والمودّة التي تحكم بين الأفراد المتحابين والتعاون والتكاتف الذي يرى في تعاملهما وحياتهما المشتركة ، ويتألم ممّا يرى من روابط المودّة ووشائج المحبّة بين الزوجين والعوائل فيما بينهم ، ولذلك يسعى من خلال النميمة أن يزرع بذور الفرقة وسوء

__________________

١ ـ الخصال ، للشيخ الصدوق ، ٢٢ ، الباب ٣.

٢٧١

الظن بين هؤلاء الناس ويغرس العداوة والنزاع بين الأفراد.

ومن الدوافع الاخرى للنميمة هو حبّ الدنيا ، لأنّ المحبّ للدنيا والعاشق لها يرغب في زرع نبتة الاختلاف والفرقة بين الناس ويرى أنّ كسبه وعمله الاقتصادي والاجتماعي في تقوية عناصر الشر والكراهية بين الأفراد.

النفاق يعدّ عاملاً مهمّاً آخر من عوامل النميمة ودوافعها ، يقول القرآن الكريم عن المنافقين : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(١).

أجل فعملهم هو إيجاد الفساد والفتنة بأي وسيلة كانت ، ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق قوله : «عَلامَةُ النِّفاقِ الحَثُّ عَلَى النَّمِيمَةِ» (٢).

فمثل هذا الشخص يذهب إلى تلك الجهة ، ويبدأ ببيان معايب الجهة الاخرى ويذمّها ويتظاهر بأنّه إنّما يريد الخير لهذا الطرف دون ذاك ، فيلقي بكلامه المسموم لدى هؤلاء ، ثمّ يتوجّه إلى الطرف المقابل ويكرّر نفس هذا العمل أيضاً ، فهذا الشخص هو مصداق للإنسان ذي الوجهين وذي اللّسانين والذي يهدف إلى إيجاد التفرقة والاختلاف وزيادة حدّة الصراع الاجتماعي والتضاد الفئوي كيما يجد له فرصة من العيش وفسحة من الوقت.

العامل الآخر من العوامل الموروثة للنميمة هو ما يسمّى في هذا العصر بالمرض الأخلاقي (السادية) ، فبعض الأفراد وبسبب عقدة الحقارة أو حبّ الانتقام أو الانحرافات والأمراض النفسية الاخرى يجدون لذّة وراحة من أذى الآخرين والإضرار بهم ، ويتألمون ويحزنون عند ما يرون الناس يعيشون براحة ونعمة ، فهؤلاء الأشخاص يتحرّكون لهدم وحدة المجتمع وتدمير سعادة الناس من خلال السعاية بالآخرين والنميمة ثم يجلسون جانباً ويشاهدون بلّذة الصراع والنزاع الدائر بين الأطراف والفئات الاجتماعية.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ أحد الأسباب في تفعيل حالة النميمة وإيجاد هذه الصفة في النفس هو عدم طهارة المولد وعدم نقاء النطفة (وطبعاً هذا العامل لا يعدّ عامل اجبار ، بل

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٢.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٦٩ ، ص ٢٠٧ ، ح ٨.

٢٧٢

يهيء الأرضية لذلك أي من العوامل المساعدة لظهور المرض) كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «السَّاعِي إِلَى النَّاسِ لِغَيرِ رُشدِهِ» (١).

أي يسير في مسير الباطل ، ذكر البعض أنّ (لغير رشده) يعني أنّه ليس بولد حلال.

ومن الأسباب الاخرى الاعتياد على الكذب ، فالإنسان الذي يعتاد على الكذب ويتعامل في حياته مع الآخرين من موقع الإصرار على الكذب يجد في نفسه دافعاً ، لأنّ ينقل لهذا الشخص خبراً كاذباً عن ذلك الشخص ويوقع بينهما بحيث يؤدّي إلى ارباك العلاقة بينهما وافسادها.

وفي الحديث المطوّل عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حول علائم الصفات الإيجابية والسلبية نقرأ : «أَمّا عَلامَةُ الكَذَّابِ فَأَربَعَةٌ ... إِنْ قالَ لَم يَصدُق وإِنْ قِيلَ لَهُ لَم يُصَدِّق وَالنَّمِيمَةُ وَالبُهتُ» (٢).

يعني عند ما تتجذّر صفة الكذب في أعماق الإنسان يظهر على سلوكه هذه الأفعال الأربعة.

طرق العلاج :

ولا بدّ لغرض علاج هذه الظاهرة المشؤمة في سلوك الفرد الأخلاقي وقطع جذورها من واقع الإنسان ونفسه من الذهاب والتوجّه إلى العلل والدوافع ، ومن المعلوم أنّه ما دام عنصر الحسد ، وحبّ الدنيا ، والنفاق ، وحبّ العدوان ، والانتقام ، التي تمثّل الدوافع الأصلية لهذه الظاهرة الذميمة ، باقية في وجود الإنسان فإنّ هذه الرذيلة الأخلاقية باقية كذلك ولا يمكن إزالتها بسهولة من باطن الإنسان ، ومن الممكن للإنسان أن يحدّد أو يزيل هذه الخصلة بعزم شديد وتصميم قوي لمدّة محدودة ولكنها تظهر في مواطن معينة لاحقاً.

ولا ننسى أنّ الكثير من الفضائل أو الرذائل الأخلاقية بينها تأثير متقابل وكل واحد منها

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ١ ، ص ١٢٢.

٢٧٣

يعدّ سبباً وعلّة للآخر وأحياناً مسبباً ومعلولاً ، وذلك في حالات ومواطن مختلفة.

ومن جهة اخرى فإنّ التأمل في الآثار السلبية الكثيرة المترتبة على النميمة والسعاية والتي تورث المجتمع الدمار والخراب وتفضي إلى عواقب وخيمة على مستوى العوائل والاسر كما تقدّم تفصيل ذلك في الأبحاث السابقة ، وكذلك ما يترتّب على النميمة من العذاب الإلهي في الدنيا والآخرة فإنّ ذلك يشكل عاملاً مهمّاً من عوامل التصدي لاستفحال هذه الظاهرة والحالة الذميمة وبالتالي إزالتها من موقع النفس.

إنّ الشخص النّمام وخاصة إذا كان قد إعتاد على النميمة يجب عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار الآثار الوخيمة الاجتماعية والعقوبات الإلهية المترتبة على هذا العمل ويعيد إلى ذهنه هذا المعنى كل يوم ويلقّن نفسه أنّ عاقبة النميمة والسعاية هي هذه وهذه ، وإلّا فإنّ الوساوس الشيطانية والأهواء النفسية لا تدعه لحاله.

معاشرة الأفراد المؤمنين يمكنها أن تكون عاملاً آخر من عوامل التصدّي للنميمة ، لأنّ الشخص المبتلى بهذا المرض عند ما يتحدّث في مجالس المؤمنين ويرى أنّهم لا يعتنون بكلامه ولا يهتمّون لأقواله وقد يطرودنه من مجالسهم بسبب ذلك ، فإنّه سينته بسرعة إلى عدم وجود المشتري لكلامه ، بل إنّ كلامه تسبب في نفرة الناس من حوله وسوء ظنّهم به ، ونفس هذا الأمر يقوي فيه الإرادة على ترك هذا العمل القبيح وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «أَكذِبِ السِّعايَةَ وَالنَّمِيمَةَ باطِلةً كانَتْ أَو صَحِيحَةً» (١).

ونقرأ في حديث آخر أنّ رجلاً جاء بكتاب له إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب فيه النميمة عن شخص آخر فقال له الإمام عليه‌السلام : «إِنْ كُنتَ صادِقاً مَقَتناكَ وإِنْ كُنتَ كاذِباً عاقَبناكَ وإِن أَحببتَ القَيلَ أَقَلناكَ ، قالَ : بَل تُقِيلُني يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ» (٢).

ومن الجدير بالذكر أنّ الأشخاص الذين يتحرّكون نحوك بالنميمة والتحدّث بالسوء عن شخص آخر فإنّهم سوف يتحدّثون عنك بسوء لدى ذلك الشخص أيضاً كما ورد في روضة

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ٦٨٥ ؛ ومثله في بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٧٠.

٢٧٤

بحار الانوار عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «وَمَنْ نَمَّ إِلَيكَ سَيَنُّمُ عَلَيكَ» (١).

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ أغلب المفاسد الأخلاقية الكامنة في الصفات الرذيلة ناشئة من ضعف الإيمان ، فكلما سعى الشخص لتقوية دعائم إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر ، فإنّ هذه الرذائل سوف تتلاشى وتزول من باطنه تدريجياً.

موارد الاستثناء :.

إنّ حرمة النميمة بعنوان أنّها من الذنوب الكبيرة والقبيحة في نظر علماء الأخلاق يعدّ أصلاً أساسياً يجب الإهتمام به دائماً ، ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون لهذا الحكم استثناءات كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية حيث يكون نقل الكلام من هذا إلى ذاك ليس جائزاً فحسب ، بل يكون واجباً ، ومن تلك الموارد ما إذا شعر الإنسان أنّ الشخص الفلاني أو الفئة الفلانية تريد قتل زيد من الناس وكانت المسألة جدّية ، فهنا يكون نقل كلامهم إلى زيد ليتّخذ جانب الحذر والاحتياط ويبتعد عن الخطر من الواجبات لإنقاذ نفس بريئة ، كما حدث ذلك لموسى عليه‌السلام بعد ما قتل القبطي المعتدي فجاء أحد الأشخاص وقال له : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(٢).

وأحياناً تؤدّي النميمة نتائج إيجابية للمؤمنين تعمل على إيجاد الفرقة والاختلاف في صفوف الأعداء ، فهذا المورد من موارد الجواز أو الوجوب كما ورد في قصّة (نعيم بن مسعود) في حرب الأحزاب حيث أوقع الفرقة والاختلاف بين طائفتين من أعداء المسلمين وهم المشركون واليهود بما نقل من كلمات هؤلاء لهؤلاء وبالعكس فكانت النتيجة إساءة الظنّ بينهم وتخاذلهم عن قتال المسلمين.

ولكنّ مثل هذه الاستثناءات نادرة جدّاً فلا ينبغي أن تكون ذريعة للتلّوث بهذه الخطيئة وقبول كلام من يسعى بالنميمة بين الناس ، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٣٠.

٢ ـ سورة القصص ، الآية ٢٠.

٢٧٥

قال : «لا تَعجَلَنَّ إِلى تَصدِيقِ وَاشٍ وإِنْ تَشبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ» (١).

النقطة المقابلة للنميمة والسعاية هي إصلاح ذات البين بأن يسعى الإنسان بكلامه الجميل إلى إقرار الصلح والصفاء بين شخصين متخاصمين ومتعاديين ، وهذه الصفة تعدّ أحد الفضائل المهمّة الأخلاقية والتي وردت الإشارة إليها في آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

وقد تمّ استعراض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذا المعنى في ذيل الآيات المتعلقة بذم النميمة والسعاية على المستوى السلبي ، وهنا نشير إلى طائفة من الروايات الشريفة في هذا المجال :

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ مَشى فِي صُلحٍ بَينَ اثنَينِ صَلَّى عَلَيهِ مَلائِكَةُ اللهِ حَتّى يَرجَعَ وَاعطِي ثَوابَ لَيلَةِ القَدرِ» (٢).

٢ ـ وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في آخر وصاياه لولديه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما‌السلام أنّه قال ضمن وصيّته لهما بعدم ترك إصلاح ذات البين : «فَإِنِّي سَمِعتُ جَدَّكُما صلى‌الله‌عليه‌وآله يَقُولُ صَلاحُ ذاتِ البَينِ أَفضَلُ مِنْ عامَةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ» (٣).

٣ ـ وجاء في حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَلا أَخبرُكُم بِأفضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ إِصلاحُ ذاتِ البَينِ ، فَإنَّ فَسادِ ذاتِ البينِ هِي الحالِقَةُ» (٤).

٤ ـ وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «صَدَقَةٌ يُحِبُّها اللهُ إصلاحُ بَينَ الناسِ إِذا تَفاسَدُوا وَتَقارِبُ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» (٥).

٥ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال للمفضّل بن عمر : «إِذا رَأَيتَ بَينَ اثنَينِ مِن شِيعَتِنا مُنازَعَةً فأَفتَدِهِ مِنْ مالِي» (٦).

__________________

١ ـ غر الحكم.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٦٣ ، ح ٧.

٣ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٤٧.

٤ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٥١٧.

٥ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٠٩ ، ح ١.

٦ ـ المصدر السابق ، ح ٣.

٢٧٦

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ويدعى أبُو حَنِيفَة سابُقُ الحَجِّ قالَ : «مَرَّ بِنا المُفضَّل وَأَنا وَخِتنِي نَتَشاجَرُ فِي مِيراثِ ، فَوَقَفَ عَلَينا ساعَةً ثُمَّ قالَ لَنا : تَعالُوا إِلَى المَنزَلِ فَأَتَيناهُ فَأَصلَحَ بَيننا بِأَربَعَمائةَ دِرهِمٍ فَدَفَعها إِلَينا مِنْ عِندِهِ حَتى إِذا استَوثَقَ كُلُّ وَاحدٍ مِنّا مِنْ صاحِبِهِ ، قالَ : أَمّا إِنَّها لَيستْ مِنْ مالي ولَكن أَبُو عَبدِ اللهِ عليه‌السلام أَمَرَنِي اذا تَنازَعَ رَجُلانِ مِنْ أَصحابِنا أَن أَصلِحَ بَينَهُما وَأَفتَدِيهما مِنْ مالِهِ ، فَهذا مِنْ مالِ أَبِي عَبدِ اللهِ عليه‌السلام» (١).

٦ ـ وورد في تفسير الآية الشريفة : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إذا دُعِيتَ لِصُلحِ بَينَ اثنَينِ فَلا تَقُل عَلَىَّ يَمِينِي أَنْ لا أَفعَلَ» (٢).

وهذا الحديث يشير إلى أنّه لو واجه الإنسان حين إقدامه لإصلاح ذات البين بعض المشاكل ثمّ حلف أن يترك هذا السلوك الإصلاحي فإنّ الإمام يقول بأنّ مثل هذا القسم والحلف لا إعتبار له وإنّ المشاكل المحيطة بمثل هذا العمل لا يمكنها أن تمنع الإنسان من سلوك هذا الطريق والعمل على إصلاح ذات البين.

٧ ـ وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «مَنْ استَصلَحَ الأضدَادَ بَلَغَ المُرادَ» (٣).

والمراد من الأضداد في الحديث الشريف ليست الأضداد الفلسفية التي لا تقبل الجمع ، بل الأضداد العرفية ، وطبعاً هناك تفسير آخر لهذا الحديث أيضاً وهو أن يكون المراد أنّ الإنسان إذا استطاع التنسيق بين الأشخاص والفئات التي تعيش أفكار مختلفة ومتنوعة ، فإنّه يبلغ مراده ويكون ذلك نعم العون له على إدارة امور المجتمع لكل هذه الأفكار المُتضادة.

٨ ـ إنّ أهميّة إصلاح ذات البين هي إلى درجة أنّ الكذب قد يكون مباحاً في هذا السبيل كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الكَلامُ ثَلاثَةٌ صِدقُ وَكِذبٌ وَإصلاحٌ بَينَ النِّاسِ قِيلَ جُعِلتُ فِداكَ ما الإِصلاحُ بَينَ النّاسِ؟ قالَ : تَسمَعُ مِنَ الرَّجُلِ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٠٩ ، ح ٤.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٢١٠ ، ح ٦.

٣ ـ غرر الحكم.

٢٧٧

كَلاماً يَبلُغُهُ فَتَخبُتُ نَفسُهُ فَتَلقاهُ فَتَقُولُ سِمِعتُ مِنْ فُلانٍ قَالَ فِيكَ مِنَ الخَيرِ كَذا وَكَذا خِلافَ ما سَمِعتَ مِنهُ» (١).

ويقول المرحوم العلّامة المجلسي في شرح هذا الحديث : «وهذا القول وإن كان كذباً لغة وعرفاً جائز لقصد الإصلاح بين الناس ، وكأنّه لا خلاف فيه عند أهل الإسلام ، والظاهر أنّه لا تورية ولا تعريض فيه وإن أمكن أن يقصد تورية بعيدة كأن ينوي أنّه كان حقّه أن يقول كذا ، ولو صافيته لقال فيك كذا ، ولكنه بعيد» (٢).

ولا شك أنّ الكلام يحتمل وجهين ، فامّا مطابق للواقع ومخالف له ، فالأول يدعى صدقاً والثاني كذباً ، ولكن بما أنّ الكلام المخالف للواقع بدوره على قسمين : فإمّا أن يكون موجباً للفساد أو موجباً للصلاح ، فإنّ الإمام قد فصّل بين هذين القسمين وقرّر بأنّ القسم الموجب للصلاح هو قسم ثالث من أقسام الكلام.

ومن مجموع ما تقدّم من الأحاديث الشريفة يتّضح جيداً أنّ من بين أعمال الخير يندر وجود عمل مهم وفضيلة أخلاقية تكون في مرتبة إصلاح ذات البين ، فهي إلى درجة أنّ الملائكة تصلّي على هذا الشخص المصلح ويكون عمله أسمى وأفضل من الصلاة والصوم بل يكون في مرتبة الجهاد في سبيل الله.

ومن البديهي أَنّ إصلاح ذات البين لا يتسبب في الخير والصلاح على المستوى الفردي فحسب ، بل يتسبب في إنسجام طوائف المجتمع وتقوية دعائمه وتوطيد أركان المحبّة والمودّة بين أفراده ، وهذا الاتّحاد والانسجام يتسبب في انتصار وعزّة المجتمع الإسلامي في حركة التقدّم الحضاري والإنساني.

طرق إصلاح ذات البين :

إنّ عملية الإصلاح بين الناس على شكل أفراد أو جماعات وطوائف هو عمل معّقد

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٤١ ، ح ١٦.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٥٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح ١٩.

٢٧٨

ودقيق ولا سيما إذا كانت العداوة والكراهية قد توغّلت في الأعماق ، ولهذا فقد يستغرق تحقيق هذا المعنى وقتاً طويلاً ، ولا بدّ من مراعاة بعض الدقائق والنكات الظريفة في هذا السبيل ، وكذلك يحتاج إلى التعرّف على بعض مباديء علم النفس وتوصيات علماء النفس في هذا المجال ، ومن المعلوم أنّ الوصول إلى هذا الهدف المؤثر لا بدّ له من رعاية بعض الاصول والنقاط المهمّة ، ومنها :

١ ـ العثور على جذور الاختلاف والنفاق ، لأنّ الإنسان ما لم يعرف الأسباب ويبحث في جذور المشكلة ، فإنّ علاجها يكون عسيراً للغاية ، فلو أنّ الإنسان تحرّك على مستوى البحث على جذور الخلاف والنزاع وسعى إلى إزالة هذه الأسباب والجذور من واقع النفس لدى المتخاصمين فإنّه يحصل على النتيجة أسرع.

٢ ـ إنّ التسّرع في عملية إصلاح ذات البين في كثير من الموارد تعطي نتائج معكوسة ، وخاصة إذا كانت الاختلافات عميقة ومتجذرة ، ففي هذه الموارد يجب دراسة أوجه الاختلاف بدقّة وأحياناً يتطلب ذلك كتابتها في دفتر وبالأرقام ثمّ تحليلها ودراستها وحلّها واحدة بعد الاخرى ، ويعطي لكلّ طرف من المتخاصمين إمتيازات معقولة وبهذا يوجد التعادل والانسجام بينهما ويترتب على ذلك النجاح في عملية الإصلاح.

٣ ـ يجب الاستفادة من المسائل العاطفية والدينية أفضل استفادة من خلال تلاوة بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة التي من شأنها تحريك عناصر الخير وعواطف المحبّة في نفوس المتخاصمين ، والسعي لدعم شخصية كل طرف لكي يتحرّك باتّجاه الطرف الآخر على مستوى العفو والصفح من موقع الاحساس لشخصيته وكرامته لا من موقع الاجبار والإذعان للأمر الواقع.

٤ ـ وأحياناً يجب على المصلح أن يضحي بشيء من الأشياء وعلى سبيل المثال يدفع للطرفين المتخاصمين مبلغاً من المال أو يهدي لهما هدية كما قرأنا في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام الذي خاطب فيه المفضّل ، ومن المعلوم أنّ المال الذي ينفق في هذا السبيل يعدّ من أفضل أنواع الانفاق في سبيل الله.

٢٧٩

٥ ـ إنّ المصلح يجب أن يتوقّى التحيز إلى أحد الطرفين ويتجنّب ذلك مهما أمكن وبعبارة اخرى أن يكون محايداً وفي نفس الوقت محبّاً ونصوحاً إلى كل واحد من الطرفين ، لأنّ أي تحيز إلى أحدهما سوف يمنعه من الوصول إلى النتيجة المطلوبة ، وطبعاً يستثنى من ذلك الأشخاص الذين لم يتعلّموا المنطق الإنساني ولا يتعاملون إلّا من موقع الجهل والتعصّب والعناد أمام الحق وعملية الإصلاح فإنّه ينبغي سلوك طريق آخر معهم كما تقدّم في تفسير الآيات أعلاه.

٦ ـ وفي كثير من المواقع يحتاج الإصلاح إلى سلوك طريق طويل محفوف بالمكاره ويحتاج إلى الصبر والتأنّي والتعامل مع القضية ببرود الأعصاب ، فالشخص المصلح لا ينبغي أن ييأس بسرعة ويوصد الأبواب أمامه ، بل يجب أن يعلم أنّ أشدّ التعقيدات الاجتماعية وأعمق المشكلات يمكن حلّها بالصبر والتأنّي والتفكير والتدبير ، وعليه فإذا لم يفلح في مرحلة من المراحل فلا ينبغي أن يعلن فشله ويتراجع عن مسيرته الإصلاحية.

وبتعبير آخر : إنّ الافساد بين الناس عمل تخريبي يسير ولكن الإصلاح له بعد بناء ومعقّد ، فالبناء العظيم يمكن تدميره بعدّة قنابل فيغدوا تراباً في لحظات ، ولكنّ تشييد مثل هذا البناء يحتاج إلى سنوات مديدة ، وهكذا الحال في بناء الثقة والمحبّة والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع البشري ، فتخريب مثل هذا البناء الاجتماعي سهل يسير ، ولكنّ بناءه وتشييده هو عملية معّقدة تحتاج إلى مدّة طويلة وصبر كبير ، وعليه فإنّ عملية الإصلاح لا تنسجم مع التسّرع والعجلة.

ونختم هذا الكلام بحكاية ذات مغزى أوردها المجلسي في كتاب بحار الانوار ، نقلاً عن بعض العلماء وهو أنّه : باع بعضهم عبداً وقال للمشتري ما فيه عيب إلّا النميمة ، قال رضيت به ، فاشتراه فمكث الغلام أيّاماً ثم قال لزوجة مولاه : إنّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتسرى عليك فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتى أسحر عليها فيحبّك ، ثم قال للزوج : إنّ امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف ، فتناوم فجاءته

٢٨٠