الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

٨ ـ ونختم هذا البحث الطويل بحديث شريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدّث فيه عن مفتاح الجنّة والنار ويقول : «إِنّ رَجُلاً جاءَ إِلى النَّبِيِّ فَقالَ يا رَسُولَ اللهِ ما عَمَلُ الجَنَّةِ؟ قَالَ : الصِّدقُ ، إِذا صَدَقَ العَبدُ بِرَّ وإذا بَرَّ آمَنَ ، وإذا آمَنَ دَخَلَ الجَنَّةَ قَالَ : يا رَسُولَ اللهِ وَما عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ : الكِذبُ ، إِذا كَذِبَ العَبدُ فَجَرَ ، وَإِذا فَجَرَ كَفَرَ ، وإِذا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» (١).

والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يعدّ الصدق منبع الخير والصلاح وبالتالي فهو منبع الإيمان أيضاً ، وما ذلك إلّا لأنّ الفاسق يتحرّك في تبرير أعماله الدنيئة من موقع الكذب والدجل والخداع ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ روح الإنسان ستضعف بسبب الكذب وتدريجياً يضعف الإيمان أيضاً وبالتالي يفضي ذلك إلى الكفر والسقوط من درجة الإنسانية كما قال القرآن الكريم : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون» (٢).

٩ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله «إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدَاً أَلهَمَهُ الصِّدقَ» (٣).

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «أَربَعٌ مَنْ اعطِيَهُنَّ اعطِي خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ صِدقُ حَدِيثٍ وَأَداءُ أَمانَةٍ وَعِفَّةُ بَطنٍ وَحُسنُ الخُلقٍ» (٤).

ومن مجموع هذه الأحاديث الشريفة يمكننا أن نستوحي نكات مهمّة في دائرة هذه الصفة الأخلاقية :

إنّ الصدق هو أحد الطرق التي تتجلّى فيها شخصية الإنسان وإيمانه وبذلك يمكن اختباره من هذا السبيل.

إنّ الدعوة إلى الصدق هي أحدى البنود الأساسية لدعوة الإنبياء والمرسلين في خط

__________________

(١) ميزان الحكمة ، ج ٣ ، ص ٢٦٧٤.

(٢) سور الروم ، الآية ١٠.

(٣) غرر الحكم.

(٤) المصدر السابق.

١٨١

التكامل المعنوي والإلهي.

إنّ الصدق يتسبب في طهارة الأعمال وقبول الأفعال.

إنّ المقام المعنوي للإنسان عند الله تعالى يدور مدار الصدق.

إنّ أكرم الناس هم الصادقون.

إنّ الصدق يتسبب في النجاة في الآخرة.

إنّ الصدق أقوى دعائم الدين.

إنّ الصدق مفتاح الجنّة.

الصدق علامة محبوبية الإنسان لدى الله تعالى.

إنّ الإنسان الصادق سينال خير الدنيا والآخرة.

ونظراً إلى هذه النتائج والمعطيات العشرة للصدق يتّضح جيداً أنّ هذه الصفة الأخلاقية المهمّة لا تلحقها صفة اخرى بهذه المعطيات الكثيرة.

بقي هنا في هذا الموضوع المهم أن نذكر عدّة امور (رغم أنّه قد أشرنا إليها في ضمن الأبحاث السابقة).

١ ـ تأثير الصدق في حياة الإنسان

بالرغم من أنّ تأثير الصدق في حياة الإنسان يعدّ بديهيّاً وتوضيح هذا الأمر يعدّ من توضيح الواضحات ، ولكن عند ما ندخل تفاصيل المسألة نواجه المعطيات الإعجازية الكبيرة للصدق في جميع مفاصل الحياة البشرية ، والالتفات إلى هذه المعطيات المهمّة بإمكانه أن يكون دافعاً قوياً للتحلّي بهذه الصفة الأخلاقية الكبيرة.

وأول تأثير للصدق في حياة الإنسان هو مسألة الثقة وجلب الاطمئنان والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع في حركة التفاعل الاجتماعي.

ونعلم أنّ أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي ولا يتسنى ذلك إلّا بأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة واعتماد البعض

١٨٢

على البعض الآخر ، وهذا المعنى لا يتحصّل إلّا بتوفر عنصر الصدق والأمانة بينهم ، أجل فإنّ أهم وسيلة مؤثّرة في جذب إعتماد الناس هو الصدق ، وأخطر وسيلة وأداة لهدم العلاقات الاجتماعية وتخريب أواصر المودّة بين الأفراد هو الكذب ، ولا فرق في هذا الأمر بين المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

فالرجل السياسي المحنّك والذي يعتمد عليه الناس إذا تورط في مورد أو عدّة موارد من الكذب وسمع منه الناس ذلك ، فإنّهم سيتباعدون عنه وبهذا يخسر نفوذه وشخصيته بين الناس.

والعالم أو المكتشف إذا تلّوث بالكذب في تحقيقاته العلمية فقد إعتماد المحافل العلمية باختراعاته وتحقيقاته وبالتالي تذهب أتعابه أدراج الرياح وتكون تحقيقاته المدوّنة حبراً على ورق.

المؤسسات الاقتصادية أيضاً إذا تعاملت في الأعلان عن منتوجاتها وبضائعها من موضع الكذب والدجل فإنّ الناس سوف لا يثقون بمنتوجاتها بعد ذلك وسوف تخسر هذه المؤسسات زبائنها سريعاً.

وفي دائرة الإدارة إذا لم يصدق المدير مع مرؤوسيه وموظفيه فإنّ نظم هذه الدوائر أو المؤسسة سوف يتلاشى بالتأكيد ، وعلى هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ أساس جميع أشكال التقدّم المعنوي والمادي في المجتمع يتمثّل بالاعتماد المتقابل بين الأفراد والذي يعتمد بدوره على الصدق.

ولذلك ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين أنّه قال : «الصِّدقُ صلاح كُلِّ شيءٍ والكِذبُ فَسادُ كُلِّ شَيءٍ» (١).

وقال أيضاً في حديث آخر : «الكَذِّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» (٢).

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

١٨٣

والأمر الآخر هو أنّ الصدق يهب لصاحبه شخصية اجتماعية مرموقة في حين أنّ الكذب يتسبب في فضيحته وذهاب ماء وجهه وسمعته ، والإنسان الصادق يعيش حياة العزّة والكرامة دائماً أمّا الكاذب فيعيش حالة الدناءة والحقارة والانتهازية.

ولهذا ورد عن أمير المؤمنين أنّه قال : «عَلَيكَ بِالصِّدقِ فَمَنْ صَدَقَ فِي أَقوالِهِ جَلَّ قَدرُهُ» (١).

ومن جهة ثالثة نجد أنّ الصدق والأمانة يهبان للإنسان الشجاعة والشهامة في حين أنّ الكذب والخيانة يجرّان الإنسان إلى السقوط في هوة الخوف والفزع من إنكشاف أمره وافتضاح حاله وبالتالي خسران جميع ما أعدّه سلفاً لحياة كريمة وسعيدة من خلال الكذب والخداع والخيانة.

ومن جهة رابعة فإنّ الصدق بإمكانه أن ينقذ الإنسان من كثير من الذنوب والآثام ، لأنّه في حال ما لو ارتكب ذنباً معيناً ثمّ سأل عنه فإنّه لا يستطيع الإقرار بهذا الذنب والاعتراف به ، فمن الأفضل له أن لا يرتكبه سلفاً.

وقد ورد في الحديث الشريف المعروف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه جاء رجل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : أنا يا رسول الله استسر بخلال أربع ، الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، والكذب ، فأيّتهنّ شئت تركتها لك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دع الكذب».

فلما ولى هم بالزنا فقال : يسألني فان جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت ، ثم هم بالسرقة ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال : قد أخذت عليَّ السبيل كلّه فقد تركتهنّ أجمع (٢).

ومن جهة خامسة نجد أنّ الصدق يعمل على حلّ الكثير من المشاكل والأزمات في المجتمع ويسهّل للإنسان الوصول إلى مقصده ويقلّل من نفقات المسير ويهب الناس هدوءاً وطمأنينة ويزيل الاضطراب والقلق والتوتر الذي ينشأ من حالات احتمالات الكذب في

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي اللحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

١٨٤

أقوال الطرف الآخر ويوطد أركان المحبّة ويعمّق وشائج المودّة بين أفراد المجتمع وبذلك يفضي على شخصية هؤلاء الأفراد نوراً وبهاءً أكثر ، وقد أشارت الروايات الكريمة إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ شخصية الإنسان الذاتية هي التي تدعو لئن يكون الإنسان صادقاً كما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «أَحسَنُ مِنَ الصِّدقِ قائِلُهُ وَخَيرٌ مِنَ الخَيرِ فاعِلُهُ» (١).

ونختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام كشاهد صدق على هذا المطلب حيث يقول : «يَكتَسِبُ الصَّادِقُ بِصِدقِهِ ثَلاثاً ، حُسنُ الثِّقَةِ والمَحَبَّةِ لَهُ وَالمَهابَةُ مِنهُ» (٢).

٢ ـ دوافع الصدق

إنّ هذه الفضيلة الأخلاقية كسائر الفضائل الأخلاقية الاخرى لها جذور ودوافع في أعماق روح الإنسان منها :

الف : الاعتماد على النفس وعدم الشعور بالحقارة والدونية ، حيث تدعوه هذه الحالة النفسية الإيجابية إلى الصدق والتعامل مع الآخرين من موقع الثقة بالنفس والواقع.

ب : الشجاعة والشهامة الذاتية والاكتسابية فلا يخاف من ذكر الامور الواقعية.

ج : الطهارة القلبية من أدران الذنوب وعدم وجود نقطة ضعف في شخصية الإنسان تدعوه إلى قلب الواقع ، في حين أنّ الملّوث بالعيوب والخطايا قد يدعوه ذلك إلى الكذب لتغطية نقاط الضعف هذه.

د : والأهم من ذلك جميعاً هو أن يتجلّى الإنسان بالإيمان بالله والآخرة ويتحرّك في خط التقوى والاستقامة ، فذلك من شأنه أن يكون عاملاً أساسياً للصدق ، ولهذا السبب ورد في الحديث المعروف في نهج البلاغة قوله عليه‌السلام : «أَن تُؤثِرَ الصِّدقَ حَيثُ يَضُرُّكَ عَلَى الكِذبِ حَيثُ يَنفَعُكَ» (٣).

٣ ـ مفهوم الصدق

ورغم أننا نفهم من هذه المفردة وضوح المعنى والمفهوم ، ولكن في نفس الوقت هناك

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٩.

٢ ـ غرر الحكم.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الرقم ٤٥٨.

١٨٥

خلاف كثير بين العلماء في تعريفها ، فالبعض ذهب إلى أنّ الصدق هو مطابقة محتوى الكلام للواقع ، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصدق هو مطابقة الكلام لاعتقاد الشخص واستدل بالآية الشريفة من سورة المنافقين حيث يقول تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(١).

ومن البديهي أنّ المنافقين الذين يشهدون على نبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تكون شهادتهم هذه مطابقة للواقع ، ولكن بما أنّها غير مطابقة لاعتقادهم ، فلذلك ذكرهم الله تعالى بأنّهم كاذبون ونسبهم إلى الكذب ، لأنّ هؤلاء يستخدمون هذه الشهادة بنبوّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كأداة للتغطية على شخصيتهم حيث يكون مفهوم كلامهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لاعتقادهم الباطني ، وبما أنّ هذا الكلام غير مطابق لواقعهم ، فلذلك كانوا كاذبين ، أي أنّ هؤلاء يكذبون في ادعاءاتهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لمعتقدهم الباطني ، وعلى هذا الأساس يتبيّن أنّ الصدق على كل حال هو تطابق الكلام مع الواقع سواءاً كان الواقع الخارجي أو الباطني.

ولكننا نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام تعريفاً آخر للصدق والكذب وهو ناظر إلى بعد العبودية لله تعالى حيث يقول : «الصِّدقُ مُطابَقَةُ المنَطِقِ لِلوَضعِ الإِلَهي والكِذبُ زَوالُ المَنطِقِ عَنِ الوَضعِ الإِلَهي» (٢).

والمقصود من الوضع الإلهي ظاهراً هو وضع عالم الخلقة والوجود ، الذي يتحرّك بإرادة الله تعالى ، وعليه فإنّ هذا التعريف لا يخرج عن إطار التعريف السابق إلّا بدخوله في دائرة المضمون التوحيدي.

وبالطبع فإنّ الصدق والكذب كما يجريان في كلام الشخص فكذلك يجريان في عمله وسلوكه أيضاً ، فالأشخاص الذين يخالف عملهم ظاهرهم فإنّهم كاذبون من هذه الجهة ، والأشخاص الذين يتطابق ظاهرهم مع باطنهم وأعمالهم ، فإنّهم صادقون أيضاً.

__________________

١ ـ سورة المنافقون ، الآية ١.

٢ ـ غرر الحكم.

١٨٦

٨

الكذب وآثاره وعواقبه

تنويه :

كان من المفروض أن نبحث الصدق والكذب في فصل واحد للملازمة الشديدة بينهما ، ولأنّ أحدهما لا يعرف بدون الآخر ، ولكن بما أنّ هذه المسألة وردت في الآيات والروايات الشريفة وكلمات علماء الأخلاق بصورة منفصلة رأينا أنّ من الأفضل التفكيك بينهما لنؤدي المطلب حقّه من البحث والتفصيل.

أجل فإنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد كثيراً على مسألة محاربة الكذب والدجل إلى درجة أنّ الكاذبين في النصوص الدينية في عداد الكفّار والملحدين وأنّ الكذب هو مفتاح جميع الذنوب كما ورد التصريح بذلك في الروايات الشريفة ، بل إنّ الإنسان ما لم يترك الكذب بشتى أنواعه وأقسامه لن يذوق طعم الإيمان أبداً.

ونكتفي بهذه الإشارة إلى آثار الكذب وأخطاره لنعود إلى القرآن الكريم ونستوحي من آياته ما يتعلّق بهذا المفهوم والصفة الأخلاقية الذميمة :

١ ـ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١).

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ١٠٥.

١٨٧

٢ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ)(١).

٣ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(٢).

٤ ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٣).

٥ ـ (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(٤).

وفي مسألة التكذيب الإلهي الذي هو أيضاً نوع من الكذب ، وردت تعابير مهمّة في القرآن الكريم ، منها :

٦ ـ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)(٥).

٧ ـ (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)(٦).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تتحدّث عن أنّ الكاذب هو الشخص الذي إنعدم فيه الإيمان بالله تعالى وأنّ الكاذب الحقيقي هو غير المؤمنين فتقول : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ).

وهذا في الوقت الذي كان فيه أعداء الإسلام من المشركين الجاهليين عند ما يرون بعض آيات القرآن الكريم قد نسخت بسبب تغيير الظروف الزمانية وإستبدلت الأحكام السابقة بأحكام جديدة ، فكان ذلك ذريعة لديهم في إتهامهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكذب ، وقولهم أنّ هذا النبي له معلّم يعلّمه هذه الآيات (ومرادهم من المعلّم غلامين نصرانيين أحدهما يدعى يسار ، والآخر جبر ، أو رجل نصراني يدعى بلعام الرومي) في حين أنّ القرآن الكريم نزل بلسان عربي فصيح وهؤلاء كانوا من الأعاجم.

__________________

١ ـ سورة الزمر ، الآية ٣.

٢ ـ سورة غافر ، الآية ٢٨.

٣ ـ سورة التوبة ، الآية ٧٧.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠.

٥ ـ سورة يونس ، الآية ٦٩.

٦ ـ سورة آل عمران ، الآية ٦١.

١٨٨

القرآن الكريم في مقام الجواب على إدّعاءات المشركين الواهية يقرّر أنّ النبي الأكرم يتلقى الوحي الإلهي الذي ينزل به روح القدس من الله تعالى وأنّ آثار الإيمان والصدق جليّة في كلامه ، والأشخاص الذين يكذبون في كلامهم لا يؤمنون بالله تعالى ، أي أنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب ، والمؤمن الحقيقي لا يتحرّك لسانه من موقع الكذب اطلاقاً.

وجملة (يفتري الكذب) في الواقع تأكيد على كذبهم ، أي أنّهم يرتكبون الكذب والتهمة في نفس الوقت ، أو كما يقول الطبرسي في مجمع البيان بمعنى (يخترع الكذب) وهذا يعني أنّهم يختلقون كلاماً لا أصل له (الافتراء بمعنى فرية ، هو في الأصل بمعنى قطع ، ثم استعمل في كل عمل سلبي ومذموم ومنه الشرك والكذب والتهمة).

وفي الواقع فإنّ النسبة بين الكذب والافتراء هي نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالكذب يعني كل كلام مخالف للواقع ، ولكنّ الافتراء أو التهمة هي أن يكون الكلام يحتوي في مضمونه على نسبة عمل مذموم إلى شخص معيّن.

ويحتمل أنّ قوله (يفتري الكذب) إشارة إلى رؤساء المشركين وقادة الكفر حيث يختلقون الكذب والعناوين من قبيل شاعر وساحر وينسبونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتبعهم الآخرون بذلك.

وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبيّن بوضوح أنّ الكذب لا يجتمع مع الإيمان اطلاقاً ، ولذلك ورد في تفسير هذه الآية رواية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما سُئل : «يا رَسُولَ اللهِ المُؤمِنُ يَزني؟ قال : بلى ، قالوا : المُؤمِنُ يَسرُقُ؟ قال : بلى ، قالوا : المُؤمِنُ يَكذِبُ؟ قال : لا ، ثُمَّ قرأ هذه الآية ..» (١).

وبالطبع فلا بدّ من ملاحظة أنّ الإيمان له مراحل ومراتب مختلفة.

«الآية الثانية» من الآيات محل البحث تصّرح (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ).

__________________

١ ـ الطبرسي في مجمع البيان ؛ ابو الفتوح الرازي في تفسير روح الجنان ، في ذيل الآية المبحوثة.

١٨٩

ومن المعلوم أنّ الهداية والضلالة هما بيد الله تعالى حتى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتمكن أن يهدي شخصاً ما لم تتعلّق بذلك مشيئة الله تعالى وإرادته كما ورد في الآية الشريفة : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(١).

ولكن هذا لا يعني أنّ الله تعالى يجبر بعض الناس على الهداية والبعض الآخر على الضلالة والانحراف ، ثمّ يهب الجنّة ونعيمها الدائم الى الطائفة الاولى ويرسل الطائفة الثانية إلى النار ، فهذا هو مذهب الجبر الذي لا ينسجم مع العقل والمنطق ولا مع العدل الإلهي.

والمقصود من ذلك أنّه متى ما تهيأت الأرضية للهداية والضلالة في الإنسان بواسطة أعماله وأفعاله فإنّ الله تعالى سيمدّه بما يتوافق مع لياقته وقابلياته ، فيعين الطائفة الاولى للوصول إلى كمالهم المعنوي في خط الإيمان والعبودية والطاعة ويزيدهم من فضله ولطفه ، ويرفع يده عن الطائفة الثانية ليبقوا في حيرتهم وفي دوّامة من السلوكيات المنحرفة والعقائد الباطلة التي لا يصلون معها إلى مقصودهم النهائي.

ومن أهم الامور التي توفّر الأرضية للضلالة والزيغ والانحراف هو الكذب والاسراف وكفران النعمة التي وردت في هاتين الآيتين حيث يفهم بوضوح من سياق هاتين الآيتين أنّ من يقول بالجبر وأنّ الله تعالى هو الذي يهدي ويضل عباده دون أن يكون لهم الخيرة في ذلك فإنّ كلامهم هذا واعتقادهم مجانب للحق والصواب كثيراً وأنّ استدلالهم بهاتين الآيتين هو في الواقع خلاف الظاهر من جو هاتين الآيتين وسياقهما.

أجل ، فإنّ الكذب يعتبر من أهم العوامل في اضلال الإنسان وشقائه.

ويمكن أن يكون مورد هاتين الآيتين هو نسبة الكذب إلى الله تعالى والانحراف عن أصل التوحيد ، ولكنّ المورد لا يخصص الوارد كما في الاصطلاح ، أي أنّ خصوصية المورد لا تمنع من عمومية الحكم الوارد في هاتين الآيتين.

أمّا العلاقة بين الكذب وكفران النعمة الوارد في الآية الاولى فهو يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ بني اسرائيل كفروا بنعمة وجود موسى عليه‌السلام فيما بينهم لهدايتهم وكذّبوه ، والعلاقة بين

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٥٦.

١٩٠

الاسراف والكذب في الآية الثانية هو من جهة أنّ الفراعنة تحرّكوا من موقع عصيان الأمر الإلهي وظلمهم لبني اسرائيل وقتل أولادهم ، فهؤلاء سلكوا طريق الاسراف وكذّبوا بنبوّة موسى عليه‌السلام.

«الآية الرابعة» تستعرض اسلوب المنافقين في التظاهر بالإيمان والعمل الصالح وتتحدّث عن (ثعلبة بن حاطب الأنصاري) الذي كان قد عاهد الله تعالى أنّه إذا رزقه مالاً كثيراً فإنّه سيتصدّق على الفقراء والمساكين ولكنّ سلوكه العملي كان مخالفاً لقوله ووعده حيث نقض عهده مع الله تعالى بعد أن رزقه المال والثروة وأصبح من الموسرين ، ويقول الله تعالى في هذه الآية : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ).

ثم تضيف الآية أنّ ذلك كان بسبب نقضهم للعهد وكذبهم على الله تعالى : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

والجدير بالذكر أنّ نقض العهد مع الله تعالى يعتبر نوع من الكذب العملي.

وعلى أية حال فالآية أعلاه تصرح بأنّ نقض العهد كذب يورث الإنسان روح النفاق في قلبه إلى آخر حياته ، وما أشدّ هذه العقوبة في دائرة أركان الشخصية ودعائمها.

أمّا العلاقة بين هذين الذنبين (نقض العهد والكذب) وبين النفاق فواضحة ، لأنّ النفاق ليس شيئاً سوى اختلاف الظاهر والباطن وأن يكون الإنسان ذا لسانين كما في اصطلاح الروايات ، ونقض العهد والكذب أيضاً هو عبارة عن التظاهر بالتمسك والانضباط بالوعد وبالميثاق من موقع المسؤولية والتعهد القلبي في حين أنّ الواقع الباطني لا يتطابق مع هذا الظاهر الخادع.

أجل ، فإنّ الكثيرين من أمثال ثعلبة بن حاطب الأنصاري عند ما يعيشون حالة الضيق والعسر في حركة الحياة يلجأون إلى الله تعالى بجميع وجودهم وكيانهم ليحل لهم مشكلاتهم ويبذلون له العهود والمواثيق والنذور في هذا السبيل ، ولكن عند ما يستجيب الله تعالى لهم وتنفرج الأزمة ويحصلون على ما يريدون يتعاملون مع عهودهم ومواثيقهم من

١٩١

موقع النسيان والتغافل ، وهذا هو المصداق لنقض العهد والكذب والنفاق في عملية التعامل مع الحياة والواقع (نسأل الله تعالى أن يحفظنا من شرّ هذه الآثام والسلوكيات الدنيئة).

«الآية الخامسة» تتحدّث عن صفات وأعمال المنافقين القبيحة وتسلّط الضوء خاصة على مسألة الكذب وتقول : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

فهذه الآية لم تتحدّث بشكل دقيق عن نوع الكذب الذي كانوا يرتكبونه ولعله إشارة إلى الكذب الذي أشارت إليه الآية السابقة ، ومن ذلك إدّعائهم الإيمان بالله في حين أنّهم غير مؤمنين في قلوبهم ، والآخر الخداع والغش الذي كانوا يمارسونه مع المؤمنين ويستغفلونهم في عملية التعامل معهم ، والأهم من ذلك أنّهم كانوا يستفيدون من كل فرصة في سبيل تكذيب الرسالة الإلهية والرسول الكريم ، ولكن على أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تقول : إنّ العذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء هو بسبب كذبهم ، وهذا يدل على أنّ أشدّ وأشنع أعمال المنافقين هو أنّهم كانوا يرتكبون الكذب ويخترعون الإفك ، بالرغم من أنّهم كانوا يرتكبون ذنوباً كثيرة إلى جانب الكذب.

ومن الواضح أنّ المقصود بالمرض في هذه الآية هو مرض النفاق الذي يعدّ مرضاً أخلاقياً ناشئاً من انفصام شخصية المنافق واهتزاز وجدانه بحيث يعيش بين الناس بلسانين ووجهين وظاهره يختلف عن باطنه.

«الآية السادسة» تتحرّك على مستوى بيان قسم خاص من أقسام الكذب ، وهو الكذب على الله تعالى ، حيث تخاطب الآية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ).

أساساً فانّ الكذب لا يجتمع مع الفلاح والموفقّية في حركة الحياة وخاصّة إذا كان الكذب على الله والأنبياء الإلهيين ، والمراد من الكذب على الله في هذه الآية (وبقرينة

١٩٢

الآيات السابقة لها) هو أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة هم بنات الله ، وقيل أنّ المراد هو دعوى المسيحيين بأنّ المسيح ابن الله ، وكذلك دعوى اليهود بأنّ عزير إبن الله ، وعلى أية حال فانّ نسبة هذه الامور إلى الله تعالى من الكذب الفاضح والجلي ، لأنّ الله تعالى ليس بجسم ولا يتصف بالعوارض الجسمانيّة وليست له زوجة وأبناء.

وأساساً فانّ فلسفة وجود الابن تكون معقولة في دائرة نظام الخلقة على مستوى الإنسان وحاجاته الفطرّية والطبيعية ، فانّ الإنسان يحتاج إلى الأبناء لبقاء النسل والقيام بمعونته وإسناده في حركة المعيشة الشاقّة أمام تحدّيات الواقع والحياة ، أمّا مفهوم الأبن بالنسبة إلى الله تعالى وهو الغني على الاطلاق والقادر على كل شيء فلا معنى له في دائرة العقل والمنطق.

ومن الجدير بالتأمّل أنّ الآية المذكورة اعتبرت عمل المشركين مصداقاً للكذب والافتراء ، وهذا يعني أنّ الكذب له مفهوم واسع يستوعب في مضمونه الإفتراء أيضاً (وكما في الأصطلاح أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق) فالكذب هو أن يتحدّث الإنسان بكلام مخالف للواقع سواءً كان يتحدّث عن شخص معيّن أو شيء آخر ، ولكنّ التهمة والافتراء هو نسبة عمل قبيح وغير واقعي إلى شخص معيّن ، فهنا يتحقق مصداق الكذب ومصداق التهمة أيضاً.

ونفس مضمون هذه الآية ورد في الآية ١١٦ من سورة النحل حيث تقول الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تستعرض واقعة المباهلة المعروفة والتي تستبطن في طيّاتها الكلام عن قسم خاص من أقسام الكذب ، أي نسبة الكذب إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويترتّب على ذلك لعنة الله على الكاذبين حيث تقول الآية : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

١٩٣

(المباهلة) في الأصل من مادّة بهل (على وزن سهل) بمعنى الترك للشىء ، وقد ورد في التفاسير أنّ المباهلة تعني في المصطلح الديني أن تجتمع فئتان كل واحد منهما على مذهب معيّن فيتحاجون وأخيراً يتلاعنون ويدعون الله تعالى بأن ينزل لعنته على الطرف الآخر الكاذب ، وأي فئة تحقّق في موردها اللّعن ونزل عليها العذاب فهذا دليل على حقّانيّة الطرف الآخر ، وقد حدث ذلك في صدر الإسلام بين نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصارى نجران ، فعند ما تقررّت المباهلة بينهما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام إلى ساحة المباهلة وكانت تبدوا على سيماهم المباركة آثار إستجابة الدعاء ، فتراجع النصارى عن إدّعائهم وصالحوا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمور مذكورة بالتفصيل في التفاسير الشريفة ذيل هذه الآية ولذلك لا حاجة إلى الإطالة والتفصيل.

والمراد من قوله : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ، لبيان عظمة الكذب وأنّه يستحق نزول اللّعنة على صاحبه.

والآية أعلاه والتي إستعرضت تأكيدات قرآنية مهمّة بالنسبة إلى قبح الكذب وآثاره المشؤمة وعواقبه الوخيمة توضّح جيداً أنّ هذا الذنب إلى أي درجة من القبح والشر في دائرة المفاهيم القرآنية ، فينبغي على المؤمنين في المجتمع الإسلامي أن يعيشوا حالة التنفّر والكراهية لهذا النوع من السلوك الخاطيء والخلق الذميم ويتحرّكوا على مستوى تطهير مجتمعهم من شر هذه الخطيئة.

الكذب في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعابير مثيرة ومدهشة تتحدث عن قبح الكذب وشناعته وفيما يلى نماذج منها :

١ ـ يستفاد من بعض الروايات أنّ الكذب مفتاح الذنوب ، كما ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام قوله : «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشّرَّ اقْفالاً وَجَعَلَ مَفاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفالِ الشَّرابَ ، وَالْكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» (١).

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٣٣٩.

١٩٤

٢ ـ وورد في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام قوله : «جُعِلَتِ الْخَبائِثُ كُلُّها فِي بَيْتٍ وَجُعِلَ مِفْتاحُهُ الْكِذْبَ» (١).

والعلّة في ذلك جليّة ، وهي أنّ الإنسان الكاذب عند ما يجد نفسه في معرض الفضيحة فأنّه يتحرك في عمليّة التغطية على نقائصه ومعايبه من موقع الكذب والخداع ، وبعبارة اخرى : إنّ الكذب يبيح له إرتكاب أنواع الذنوب من دون أن يخاف الفضيحة ، في حين أنّ الإنسان الصادق سيجد نفسه مضطراً إلى ترك سائر الذنوب لأنّ الصدق لا يسوغ له إرتكاب الذنب ، والخوف من الفضيحة بسبب الصدق يدعوه إلى ترك الذنوب.

وكما سبق وأن ذكرنا الحديث المعروف عن الرجل الذي جاء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ملّوث بأنواع الذنوب وطلب منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك الكذب فقط فقبل منه ذلك ، وكان هذا سبباً في أن يترك جميع الذنوب (٢).

٣ ـ ويستفاد من الأحاديث الاخرى أنّ الكذب لا ينسجم اطلاقاً مع الإيمان كما نقرأ في الحديث الشريف : «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يَكُونُ الْمُؤمِنُ جُبانَاً؟ قالَ : نَعَمُ ؛ قَيلَ وَيَكُونُ بَخِيلاً؟ قالَ نَعم ، قِيلَ يَكُونُ كَذاباً قالَ : لَا» (٣).

ونفس هذا المضمون ورد بصورة اخرى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول : «لا يَجِدُ الْعَبْدُ طَعْمَ الإِيِمانِ حَتّى يَتْرُكَ الْكِذْبَ هَزْلَهُ وَجِدَّهُ» (٤).

ولكن لماذا لا ينسجم الكذب مع الإيمان؟ لأنّ الكذب إمّا أن يكون لغرض تحصيل الإنسان لمنفعة معيّنة أو للخلاص من مشكلة وأزمة ، فلو كان إيمان الإنسان قوياً ومستحكماً في القلب فأنّه يرى أنّ الخير والشر كلاهما بيد الله تعالى وهو الذي بأمكانه حلّ مشكلاته وإنقاذه من الازمات التي يمر بها في مواجهة تحدّيات الواقع والحياة وهو الذي يدفع عن الإنسان أنواع البلايا والمخاطر ، فلو أنّ الإنسان تمسك بغصن من أغصان التوحيد

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٩ ، ص ٢٦٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٣ ـ جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٣٢٢.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٤ ، ح ١١.

١٩٥

الأفعالي واعتقد بذلك بصدق فلا يجد نفسه بحاجة إلى التمسّك بذيل الكذب حينئذٍ.

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «وَشَرُّ الْقُولِ الْكِذُبُ» (١) ، لأنّ آثاره السلبية والمدّمرة أشد من كل ذنب آخر.

٥ ـ ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام حيث يقرّر أنّ الكذب من أعظم الخطايا ويقول : «أَعْظَمُ الْخِطايا عِنْدَ اللهِ الْلِسَ انُ الْكَذُوبِ وشَرُّ النَّدامَةِ نَدامَةُ يَوْمِ الْقِيامَةِ» (٢).

٦ ـ وورد في حديث آخر أنّ الكذب مصدر الفجور ومنبع الفحشاء وسبب الدخول في النار كما في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : «إِيَّاكُم وَالكِذبَ فإنَّ الكِذبَ يَهدِي إِلَى الفُجُورِ وَإنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النّارِ» (٣).

٧ ـ إنّ الكذب لا يتناغم ولا ينسجم مع العقل كما ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه‌السلام أنّه قال : «إِنَّ العاقِلَ لا يَكذِبُ وَإِن كانَ فَيهِ هَواهُ» (٤).

٨ ـ إنّ الكذب يبعد ملائكة الرحمة عن هذا الإنسان الكاذب ففي حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» (٥).

لأنّ الإنسان إذا تحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الكذب ، فإنّه يتظاهر في نفس الحال بمظهر الصدق في حين أنّ باطنه يختلف عن ذلك ، وهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن نوع من أنواع النفاق ، ولذلك كان الكذب من جملة الأعمال الشائعة لدى المنافقين.

١٠ ـ إن الكاذب يخسر اعتماد الناس وثقتهم به كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «مَنْ عُرِفَ بِالكِذبِ قَلَّتْ الثِّقَةُ بِهِ» (٦).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٨٤.

٢ ـ المحجة البيظاء ، ج ٥ ، ص ٢٤٣ ، وورد شبيه هذه الحديث مع تفاوت يسير في كنز العمال عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٦١٩ ، ح ٨٢٠٣).

٣ ـ كنز العمال ، ح ٨٢١٩.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٠٥.

٥ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٦ ـ غرر الحكم.

١٩٦

والنقطة المقابلة لذلك وردت أيضاً في كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «مَنْ تَجَنَّبَ الكِذبَ صَدَّقَتْ أَقوالُهُ» (١).

١١ ـ ونختم هذا البحث الطويل بحديث آخر من الأحاديث الحكيمة لأمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يحذّر الناس من الصداقة والتعامل مع الكاذبين ويقول : «وَإِيَّاكَ وَمُصادَقَةَ الكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرابِ يُقَرِّبُ عَلَيكَ البَعِيدَ وَيُبَعِّدُ عَلَيكَ القَرِيبَ» (٢).

ويستفاد من الروايات أعلاه أنّ الكذب منبع الذنوب والمعاصي المختلفة وعنصر اهتزاز الإيمان بالله والثقة بين الناس ويعتبر أشنع أقسام الكلام وفرع من فروع النفاق ويفسد العلاقة بين أفراد المجتمع ويعمل على هدم إتّحادهم ومروءتهم وقلّما نجد مثل هذه الآثار الذميمة لذنب آخر من الذنوب الفردية والاجتماعية.

بقيت هنا نقاط مهمّة نذكرها بشكل مختصر :

الآثار السلبية للكذب :

بالرغم من أنّ الآيات والروايات المذكوره آنفاً قد درست هذه المسألة بشكل مفصّل وكشفت الستار عن نقاط مهمّة فيها ، ولكن أهميّة هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر وأعمق.

وأول : أثر من الآثار المضرّة والسلبية للكذب هي الفضيحة وذهاب ماء الوجه وانهيار المكانة الاجتماعية للشخص الكاذب وسلب الثقة منه لدى الناس.

وكما يقول المثل المعروف : (الكاذب قرين النسيان) فإنّ التجارب تثبت أنّ الكلام الكاذب لا يمكن أن يستمر لمدّة طويلة في حجبه الحقيقة عن الناس ، وقد تطوى المسألة في زاوية النسيان إذا لم تكن ذات أهميّة ، ولكن إذا كانت المسألة مهمّة فإنّ الحقيقة سوف

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ نهج البلاغة ، القصار الكلمات ، الكلمة ٣٨.

١٩٧

تتجلّى في دائرة ويفتضح الكاذب حينئذٍ لا من أجل أنّ الكاذب ينسى ما قاله سابقاً ، بل من أجل أنّ الكذب بنفسه لا يتأطر بأطار الحافظة ، لأنّ الحادثة الواقعة في الخارج ترتبط بسلسلة من الحوادث الاخرى ومن موقع العلّة والمعلول وترتبط بما حولها من الحوادث بروابط عديدة وحتميّة ، فالشخص الذي يصوغ حادثة مختلقة يجد نفسه مضطراً إلى أن يربطها بما قبلها وبعدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص والحوادث المحيطة بها وكل ذلك يجب أن يختلقة بما ينسجم مع هذه الحالة الكاذبة ، وبما أنّ هذه الروابط ليس لها حد وحصر ، وعلى فرض أنّه استطاع أن يختلق عدّة حوادث وروابط منسجمة مع بعضها إلّا أنّه قد يترك ثغرات في كلامه حيث يتّضح من ذلك كذبه مثل ما رأينا من قصّة يوسف عليه‌السلام حيث جاء الأُخوة بقميصه الدامي إلى أبيهم واختلقوا قصّة أكل الذئب له ، ولكنّهم نسوا أن يمزقوا القميص من عدّة أماكن ، وهكذا إتّضح كذبهم من بقاء القميص سالماً ، أو مثل زوجة عزيز مصر عند ما إدّعت كذباً بأنّ يوسف كان يقصد بها سوء ولكنّها نسيت أنّ قميص يوسف عليه‌السلام قد قُدَّ من خلفه ، وهذا دليل واضح على كذبها وأنّها هي التي كانت تلحق يوسف عليه‌السلام لا العكس.

وفي هذا العصر فإنّ المحققين في عالم الجريمة يستطيعون بكل سهولة ومن خلال الأسئلة المتعددة عن الحادثة ولوازمها وخصوصياتها أن يكشفوا صدق أو كذب المدّعي بحيث نادراً ما يفلت منهم كاذب دون أن يفتضح ، أجل فإنّ الكاذب ليست له حافظة قويّة ، وسوف يفتضح سريعاً على أيّة حال.

الثاني : من النتائج السلبية للكذب هو أنّه يجر الإنسان إلى أن يكذب مرّات عديدة أو يرتكب ذنوباً اخرى للتغطية على كذبته الاولى أو يرتكب حماقات خطيرة لهذا الغرض.

الثالث : من مضرّات الكذب هو أنّه يبيح للشخص الكاذب أن يغطي على خطيئته وإثمه ولو بشكل مؤقت ويتستر على سلوكياته المنحرفة في حين أنّه لو كان يتحرّك من موقع الصدق فإنّه يجد نفسه مضطراً إلى ترك هذه الأعمال القبيحة.

الرابع : من مضرّات الكذب هو أنّه يدفع بصاحبه إلى أن يسلك في خط النفاق ويصبح من

١٩٨

زمرة المنافقين ، لأنّ الكذب فرع من فروع النفاق ، والكاذب هو الذي يظهر غير ما يبطن ويتكلم بخلاف الواقع وبخلاف ما يعلمه في نفسه ، فهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن سوف يسري بالتدريج إلى سائر أعماله وسلوكياته حتى يمسي منافقاً كاملاً.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الكذب يؤدي إلى النفاق».

الخامس : من مضرات الكذب هو أنّه لو كان الشخص يتمتع بلياقات كثيرة وطاقات ايجابية يمكنه إستخدامها في حركة التفاعل الإجتماعى فأنّه لو كان كاذباً في هذا المجال فسوف لا يستطيع الناس الإستفادة من لياقاته وطاقاته الإيجابيّة لأنهم سوف يتعاملون معه من موقع الشك والترديد في سلوكياته وكلماته.

ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية إعتبرت الكاذب مثل الميّت حيث ورد : «الكَذَّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» (١).

السادس : من النتائج السلبية المترتبة على الكذب هو أنّ الإنسان وبالاستفادة من أداة الكذب يمكنه أن يرتكب أعمالاً قبيحة اخرى ، فالحسود والحاقد والبخيل كل منهم يجد في الكذب وسيلة للتغطية على أعمالهم وسلوكيّاتهم وهكذا الحال في سائر الذنوب الاخرى ، مثلاً عند ما يأتي إليه شخص ويطلب منه قرضاً فأنّه يكذب عليه ويقول : لقد إقترضت الآن مبلغاً من المال وليس لدي ما أعطيك منه ، أو عند ما يطلب منه أن يصف شخصاً من الأشخاص فأنّه وبسبب الحسد لا يذكر منه سوى صفاته السلبيّة والحال أنّ ذلك الشخص هو إنسان شريف وثقة.

السابع : هو ما نراه من الآثار المخربة في دائرة العلوم والمعارف البشرية ، فلو أنّ المحققين والمخترعين والعلماء تحرّكوا من موقع الكذب في تحقيقاتهم واكتشافاتهم فانّ جميع الكتب والدراسات العلميّة سوف يلحقها فيروس الشك والترديد وبالتالي لا يضحى

__________________

١ ـ غرر الحكم.

١٩٩

هناك إعتماد على تحقيقات ودراسات الآخرين فتتوقف حركة التطور الحضاري والعلمي في المجتمع البشري.

وهناك نتائج سلبية ومضرات كثيرة اخرى تترتب على الكذب في حركة الحياة الفردية.

ومضافاً إلى هذه النتائج والآثار في حركة الحياة للإنسان فانّ هناك مضرات معنوية تترتب على الكذب وردت الإشارة إليها في الروايات الشريفة ومن ذلك :

أنّ الملائكة تبتعد عن الإنسان كما قرأنا ذلك سابقاً في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حيث قال : «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» (١).

والآخر إنّ الكاذب يحرم من صلاة الليل كما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «انَّ الَّرجُلَ لَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ فَيُحرَمُ بِها صَلاةَ الْلَيْلِ ، فَاذا حُرِمَ صَلاةُ اللَيْلِ حُرِمَ بِها الرِّزْقُ» (٢).

والثالث أنّ الكذب يؤدّي إلى عدم قبول بعض العبادات ، كما ورد في الصوم في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «فَإذا صُمتُم فَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم عَنِ الكِذبِ وَغُضُّوا أَبصارَكُم» (٣).

وهذا الحديث يدلّ على أنّ مثل هذه الأعمال المنافية للأخلاق تقلّل من قيمة الصوم.

والآخر أنّ الكذب يتسبب في قطع البركات الإلهية على الإنسان كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «إِذا كَذِبَ الولاةُ حُبِسَ المَطرُ» (٤).

وقد وردت بعض الآثار السلبية للكذب في الروايات والتي لها بعد معنوي مضافاً إلى البعد الاجتماعي والظاهري ، ومن ذلك ما يستفاد من الروايات المتعددة من أنّ الكذب يتسبب في حرمان الإنسان من الرزق ويؤدّي به إلى الوقوع في هوّة الفقر والمسكنة.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ٦ ، ص ٣٥٧.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٦٠.

٣ ـ وسائل الشيعة ، ج ٧ ، ١١٩ ، ح ١٣.

٤ ـ مسند الإمام الرضا عليه‌السلام ، ج ١ ، ص ٢٨٠.

٢٠٠