الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة والموحشة عسير جدّاً وقد يورثهم الكثير من الأمراض الجمسية والروحية أيضاً.

ومن جهة ثالثة فإنّ الأمانة تقلل كثيراً من نفقات المعيشة ومصاريف الحياة وتسبب في الاقتصاد في الوقت والعمر والمال ، لأنّ الخيانة إذا فتحت طريقها إلى المجتمع فانّ المسؤولين وأصحاب المواقع الاجتماعية يضطرون إلى تخصيص نفقات باهظة لإيجاد سجّلات خاصة ومحاسبين ومفتشين لدرء احتمال الخيانة في حساباتهم ، وأحياناً يضطرون إلى إيجاد مفتشين على المفتشين الأوائل لضبط أعمالهم ويشرفوا على حساباتهم ، ومع ذلك فانّ مثل هذه الامور لا تستطيع أن تحلّ المشاكل الناشئة من الخيانة تماماً ، ولكن على أي حال يقتضي الواقع المفروض تخصيص هذه النفقات للتصدّي إلى هذه المشكلة ، ونشاهد في مجتمعنا الحالي أيضاً مثل هذه الامور الأليمة بالنسبة إلى الامور المالية وعدم الأمن الاقتصادي وكثرة من يلقى في السجن بسبب زوال الثقة وعدم الاعتماد المتقابل بين الناس ، ولو أنّ أفراد المجتمع تحلّوا بقليل من الصدق والأمانة بدلاً من هذه النفقات والمصروفات والجهود المهدورة ، فاننا سوف لا نبتلى بمثل هذا الاسراف الفضيع وإتلاف الثروات الاجتماعية الكبيرة.

ومن جهة رابعة فإنّ الأمانة قد تسبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين الأفراد ، في حين أنّ الخيانة تعتبر عاملاً للكثير من الجرائم والحوادث السلبية وأشكال الخلل الاجتماعي ، وإذا طالعنا وثائق المحاكم والسجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم معلولة لحالة الخيانة ، وعند ما ندرس ظاهرة كثرة الطلاق وحالة إنحلال الأُسر وتلاشي العوائل نرى أنّ الكثير من هذه الحالات يعود إلى خيانة أحد الزوجين بالنسبة للآخر.

وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا

١٦١

الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» (١).

ومن جهة خامسة فإنّ مفهوم الأمانة يمتد ويتسع ليشمل الموارد والمسائل العلمية ، فإنّ تطور العلوم والمعارف البشرية كان بسبب وجود العلماء الذين كانوا يتحرّكون من موقع الأمانة والصدق في تحقيقاتهم ومطالعاتهم وتجاربهم العلمية فكانوا يقدّمون للآخرين ما اكتسبوه من تجارب ثمينة وعلوم جديدة بأمانة وصدق ، وهذا هو الذي أدّى إلى التطور الحضاري والعلمي في عالمنا المعاصر في حين أنّه لو لم يكن أصل الأمانة في المطالعات العلمية فإنّ ذلك قد يفضي إلى التيه العلمي ويتسبب في اضلال الناس ووقوعهم في التخبط الثقافي والعلمي.

ونقرأ في هذا الصدد حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «كُلُّ ذِي صَناعَهٍ مُضطَرٌّ إِلى ثَلاثِ خِلالٍ يَجتَلِبُ بِها المَكسَبَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حاذِقاً بِعَمَلِهِ مُؤَدِّياً لِلأَمانَةِ فَيهِ ، مُستَمِيلاً لَمَنْ إِستَعمَلَهُ» (٢).

والجدير بالذكر أنّ الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث أيضاً كما أنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة ، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول ، والأمانة نوع من الصدق في العمل ، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك ويعبّران عن وجهين لعملةٍ واحدة ، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الأمانَةُ تُؤدِّي إِلى الصُّدقِ» (٣).

وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «إذا قَويَتْ الأَمانَةُ كَثُرَ الصّدقُ» (٤).

دوافع الأمانة والخيانة :

إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الخيانة ويفضّلونها على

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١١٥.

(٢) المصدر السابق ، ج ٧٥ ، ص ٢٣٦.

(٣) غرر الحكم.

(٤) المصدر السابق.

١٦٢

الأمانة فأنّهم يعيشون ضيق الافق في منافعهم ومصالحهم ويفكّرون في المنافع العاجلة فحسب ، لأنّ الخيانة تؤفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة وتحقق لهم بعض المصالح الفردية على حساب اهتزاز كرامتهم المعنوية ومن دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستوى الدنيوي والاخروي ومكانتهم الاجتماعية.

هؤلاء الأفراد يعيشون في سجن الحرص والطمع فلذلك قليلاً ما يفكّرون في عواقب الخيانة ، لأنّ المنافع العاجلة حجبت أعينهم وعقولهم عن مشاهدة ما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة في المستقبل.

هؤلاء وبسبب ضعف الإيمان وعدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً ووعدت من يعيش الأمانة والصدق منهم بالثواب العاجل والآجل فإنّهم قد حجبوا بصيرتهم عن ذلك جميعاً وتحرّكوا من موقع التغافل عن الوجدان وعن تحذيرات الشرع وتورّطوا في شراك الخيانة وفخاخ الشيطان.

وعلى هذا الأساس يمكننا في هذا الصدد ذكر دوافع الخيانة فيما يلي :

١ ـ ضعف الإيمان واهتزاز العقيدة وعدم التوجّه إلى حالة التوحيد الأفعالي لله تعالى وحاكميته المطلقة على جميع الأشياء.

٢ ـ غلبة الأهواء والشهوات وحبّ الدنيا.

٣ ـ تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان.

٤ ـ عدم التفكّر في نتائج الخيانة في حركة الحياة المادية والمعنوية.

٥ ـ ترك السعي المستمر والعمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق مشروعة وذلك بسبب التكاسل وحبّ الراحة وضعف الإرادة.

وعند الإلتفات إلى هذه الامور تتّضح النقطة المقابلة لها ، وهي دوافع الأمانة وذلك :

إنّ الأمانة تنبع من الإيمان واليقين بقدرة الله تعالى وعلمه المطلق والاعتماد عليه في جميع الامور.

١٦٣

الأمانة تعدّ من معطيات العقل والتدبّر السليم والالتفات إلى عواقب الامور ونتائج الأفعال.

الأمانة هي دليل على أنّ الإنسان يعيش الواقع الحاضر ويرى حقائق الامور ويترك الخوض في الأوهام والخرافات والتصورات الزائفة.

الأمانة تنبع من شخصية الإنسان السامية وتمثّل نتيجة لحالة التفاني والتعالي في الروح الإنسانية ، لأنّ مثل هذا الإنسان لا يكون مستعداً لئن يبيع شخصيته ووجدانه لتحصيل المال والمقام وزخارف الدنيا عن طريق الخيانة.

وبكلمة واحدة فإنّ الأمانة وليدة الفهم والشعور والعقل والإيمان والاخلاص وأصالة الشخصية ، وأحياناً يكون الفقر والظلم عاملان من عوامل الخيانة ، فمن لا يحصل على حقوقه المشروعة في المجتمع من الطرق الصحيحة ويقع تحت طائلة الفقر والعوز فإنّه قد يؤدّي به إلى التلّوث بالخيانة ، ولهذا نرى أن التعاليم الدينية أكّدت على أن يموّل القاضي من بيت المال بشكل تام كيما يحفظ أمانته في القضاء بين الناس ، ونقرأ في عهد الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر أنّه يقول : «وَافسَحْ لَهُ فِي البَذلِ ما يُزِيلُ عِلَّتَهُ ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ ، وَأَعطِهِ مِنَ المَنزِلَةِ لَديكَ ما لا يَطمَعُ فِيهِ غَيرُهُ مِنْ خاصَّتِكَ لَيأَمَنَ بِذَلِكَ إِغتِيالَ الرِّجالَ لَهُ عِندَكَ فَانظُر فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً» (١).

ونختم هذا البحث بحديث مهم عن الإمام الصادق عليه‌السلام في هذا الصدد يشير فيه إلى مصادر الخيانة المتنوعة ويوصي بالتوجّه إليها لحفظ الأمانة في واقع الإنسان والمجتمع فيقول : «مَنْ اؤتُمِنَ عَلى أَمانَةٍ فَأَدّاها فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَةٍ مِنْ عُقَدِ النّارِ ، فَبادِرُوا بِأَداءِ الأَمانَةِ ، فَإنَّ مَنْ اؤتِمِنَ عَلى أَمانَةٍ وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِائةَ شَيطانٍ مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ لِيُضِلُّوهُ وَيُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه إلّا مَنْ عَصَمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١١٤.

١٦٤

طرق الوقاية والعلاج :

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنى إلّا في ظل التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي ، لأنّه كما تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ أحد جذور الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة الله تعالى ورازقيته ، ولهذا فالأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان ويتصوّرون أنّهم سوف يعيشون الفقر في حالة تحلّيهم بالأمانة والصدق وأنّهم سوف لا يحصلون على ما يحتاجونه إلّا بواسطة الخيانة يكبلون أنفسهم بطوق الخيانة ، ولكن عند ما يتحرّكون من موقع تقوية دعائم الإيمان في قلوبهم وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على الله تعالى والثقة بوعده ، فانّ ذلك يتسبب في تصحيح مسارهم في عملية الوصول وتحصيل مواهب الحياة.

ومن جهة اخرى فبما أنّ أحد العوامل المهمّة للخيانة هي الحاجة فاذن لا بدّ للإنسان من تدبير حاجاته وحاجات من يلوذ به المعقولة والمشروعة بصورة حسنة لئلّا يضطرّ إلى كسر قيود الأمانة والتلّوث بالخيانة بدافع من حاجاته المادية والنفسانية.

ومن جهة ثالثة فانّ من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورط بالخيانة هو التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة وما يترتب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق وبالتالي الابتلاء بالفقر المزمن الذي سعى إلى الفرار منه بارتكاب الخيانة ، ومن المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج والافرازات السلبية لسلوك طريق الخيانة سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها.

عند ما يتأمل الشخص نصيحة لقمان لابنه على مستوى بيان معطيات الأمانة حيث يقول : «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» (١).

فعندها يعيش الشوق في وجوده نحو تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية أي الأمانة ويجتنب التحرّك في خط الخيانة ، ولو تأملنا كذلك كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول :

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٢١٥.

١٦٥

«رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ» (١).

ويقول في مكان آخر : «رَأسُ النِّفاقِ الخِيانَةُ» (٢).

ويقول أيضاً في حديث آخر : «جانِبِ الخِيانَةَ فَإنَّها مُجانِبَةِ الإِسلامِ» (٣)

فعندها يسيطر عليه الخوف من الخيانة ويدرك عظمة هذا الذنب الكبير الذي يساوق في إثمه وابتعاده عن الله تعالى والإسلام الكفر والنفاق ، وحينئذٍ سيتحرّك بعيداً عن ممارسة الخيانة أو التفكير بها.

وإذا أردنا أن نتعمّق في خطر الخيانة وشؤمها فلنستمع إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه المثير عن بعض عناصر الشر وعوامل الانحراف حيث يقول : «أَربَعٌ لا تَدخُلِ بَيتاً وِاحُدَةٍ مِنهُنَّ إلّا خَرَبَ وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ الخِيانَةِ والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنا» (٤).

ومن المعلوم أنّ المجتمع الذي يعيش أحد هذه العناصر الأربعة أو كلّها فانّه يكون مصداقاً لهذا الحكم النبوي وسوف يخلو من البركة وبالتالي يصيبه الدمار والاندثار.

ومن الملفت للنظر أنّه كما أنّ الشخص الأمين يجب أن لا يخون الأمانة ، فكذلك المودع للأمانة وصاحب المال يجب أن يكون ذكيّاً ولا يودع أمانته عند أي شخص كان ، فإذا وضع أمانته تحت تصرّف شخص سيء السمعة ثمّ خانه هذا الشخص فعليه أن يلوم نفسه كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم أنّه قال : «من أئتمن غير أمين فليس له على الله ضمان لأنّه قد نهاه أن يأتمنه».

ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «من إتمن غير مؤتمن فلا حجة له على الله».

وعلي هذا الأساس يجب على جميع الإداريين وأصحاب المسؤوليّات في المجتمع الإسلامي أن يكونوا على درجة من الذكاء والحنكة ولا يضعوا امور الناس والمناصب

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٧٦ ، ص ١٢٥.

١٦٦

الحسّاسة في الحكومة والتي هي أهم أمانة إلهيّة بيدهم عند الأشخاص الذين يشم منهم رائحة الخيانة ، فإنّه عند ذلك سوف يفسد دينهم ودنياهم ويكونون مسؤولين أمام الله تعالى.

الأمانة والخيانة في بيت المال :

إنّ الأمانة خلق محمود ومطلوب في أي مكان ومورد ، ولكن بالنسبة إلى بيت المال ورءوس الأموال المادية والمعنوية المتعلّقة بالمجتمع لا بشخص معيّن فقد ورد التأكيد على الأمانة فيها بشكل خاص في النصوص الدينية ، والحكمة في ذلك واضحة لأنّه أولاً : أنّ البعض يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن بل هي ملك عموم الناس فإنّهم أحرار في تصرفاتهم وتعاملهم بها.

وثانياً : إذا تفشّت الخيانة بالنسبة إلى الأموال العامة وبيت المال فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى وينهار ، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشري وجه السعادة أبداً.

ومن أجل درك أهميّة هذا الموضوع يكفي مطالعة قصّة(الحديدة المحماة) حيث ورد أنّ عقيل رضى الله عنه جاء إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه‌السلام وطلب منه أن يزيده قليلاً من حصّته وسهمه من بيت المال دون مراعاة ضوابط العدالة والمساواة بين المسلمين على أساس العلاقة الاخويّة بينه وبين الإمام علي عليه‌السلام ، فما كان من الإمام علي عليه‌السلام إلّا أن أحمى له حديدة وقرّبها منه ، صرخ عقيل من حرارتها فقال له الإمام عليه‌السلام : «يا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحماها إِنسانَها لِلَعبِهِ وَتَجِرُّنِي إِلى نارٍ سَجَرَها جَبارُها لِغَضَبِهِ ، أَتَئِنُّ مِنْ الأَذى وَلا أَئِنُّ مِنْ لَظى» (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في مكان آخر كلاماً مثيراً بالنسبة إلى عطايا عثمان من بيت المال إلى أقربائه وذويه حيث عزم الإمام علي عليه‌السلام على ردّها جميعاً إلى بيت المال وقال : «وَاللهِ لَو وَجَدته قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ومُلِكَ بِهِ الإِماءُ لَرَدَدتُهُ ، فَإنَّ فِي العَدلِ سَعَةً ، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجَورُ عليه أَضيَقُ» (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٤.

٢ ـ المصدر السابق ، الخطبة ١٥.

١٦٧

وعند ما اقترح عليه استخدام الأشخاص المعروفين في تدبير أمر الحكومة وزيادة رواتبهم وعطاياهم من بيت المال لغرض الإستعانة بهم في امور الدولة والحكومة (ولا أقل في بداية خلافته) فقال : «أَتَأمُرُنِي أَنْ أَطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن وُلِّيتُ عَلَيهِم وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ ما سَمَرَ سَمِيرٌ وَما أَمَ نَجمٌ فِي السَّماءِ نَجمَاً ، وَلَو كانَ المَالُ لِي لَسَويَّتُ بَينَهُم فَكَيفَ وَإِنَّما المَالُ مالُ اللهِ» (١).

بل إنّ الإمام علي عليه‌السلام تحرّك لحفظ الأمانة في بيت المال من موقع التهديد الشديد لأقرب المقرّبِينَ إليه حتّى يتّعظ بذلك الأبعد من الناس ويعلم أنّ المسألة هنا جدّية فلا مهادنة في بيت المال ، ولذلك نقرأ في الكتاب الذي أرسله أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بعض امرائه في البلد الإسلامي الذي أساء الاستفادة من بيت المال وأنفقه في موارد اخرى ، فكتب له الإمام يقول : «فَاتَّقِ اللهَ واردُد إلى هَؤلاءِ القَومِ أَموالَهُم فَإِنَّكَ إنْ لَم تَفعَل ثُمَّ أَمكَننِي اللهُ مِنكَ لأَعذِرنَّ إِلى اللهِ فِيكَ وَلأَضرِبَنَّكَ بِسَيفِي الَّذِي ما ضَربَتُ بِهِ أَحَداً إِلّا دَخَلَ النَّارَ ، وَاللهِ لَو أَنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ فَعَلا مِثلَ الَّذِي فَعَلتَ ما كَانَتْ لَهُما عِندِي هَوادَةٌ ، ولا ظَفِرَا مِنِّي بِأرَادَةٍ حَتّى آخُذَ الحَقُّ مِنهُما» (٢).

ونعلم أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما فتح مكّة قد عفى عن قريش وجميع المجرمين والجناة من قريش وغير قريش الذين حاربوه قرابة عشرين سنة وسفكوا دماء الكثير من المسلمين ورغم ذلك فقد أصدر النبي أمره بالعفو عنهم وإسدال الستار على ما مضى من جرائمهم وعداوتهم ، ولكن مع ذلك فقد استثنى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدّة أشخاص من هذا العفو وأهدر دمهم وأمر بقتلهم في أي مكان كانوا ، وأحد هؤلاء هو (ابن خطل) وكان ذنبه أنّه اعتنق الإسلام في الظاهر وهاجر إلى المدينة ، فجعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الزكاة وجمعها وأرسل معه شخصاً من قبيلة خزاعة ، فعند ما ذهب لجمع الزكاة واجتمع لديه مقدار مهم من الزكاة قتل صاحبه وهرب بالأموال إلى مكّة ، وعند ما سأله المشركون في مكة عن سبب رجوعه قال :

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٦.

٢ ـ المصدر السابق ، الرساله ٤١.

١٦٨

«لم أجد ديناً أفضل من دينكم» ، وأخذ يهجو النبي بقصائد من الشعر وكانت لديه بعض الجواري المغنيّات والراقصات ، فكان يجلس مجالس الطرب واللهو ويشترك معه مجموعة من المشركين فيشربون الخمر ويهجون النبي بهذه الأشعار ، وبما أنّه بلغ من الوقاحة والخيانة في بيت المال إلى هذه الدرجة العظمية حتّى أنّ هذه الخيانة تسببت في إرتداده عن الإسلام وهتكه لحرمة النبي الأكرم ، فلذلك أصدر النبي أمره هذا ، فلّما سمع بذلك التجأ إلى الكعبة ، وبما أنّ من يلوذ بالكعبة سوف يصان دمه ، فلذلك سحبوه إلى خارج الحرم وقتلوه (١).

فهذه التصريحات الشديدة والأحاديث المثيرة تشير إلى أنّ الخيانة في بيت مال المسلمين ورغم أنّ البعض يتصوّر أنّها سهلة ويسيرة فإنّها من أعظم الذنوب والخطايا ، وعقوبتها من أشدّ أنواع العقوبات الدنيوية والاخروية.

ونختم هذا البحث بالإشارة إلى حادثة وقعت في زمان رسول الله حيث تبيّن الأهميّة الكبيرة لبيت المال ، والحادثة هي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما عاد من خيبر ووصل إلى وادي القرى كان معه غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي قال : فو الله إنّه ليضع رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتاه سهم غرب فأصابه فقتله ، فقلنا : هنيئاً له الجنّة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كَلّا والذي نفس محمد بيده إنّ شَملتّهُ الآن لتحترق عليه في النار كان غلها من فيء المسلمين يوم خيبر».

قال : فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه فقال : يا رسول الله أصبت شراكين لنعلين لي ، قال :

فقال عليه‌السلام : «يُقد لك مثلهما من النار» (٢).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ، ج ١٨ ، ص ١٤ و ١٥.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٣٥٣.

١٦٩
١٧٠

٧

الصدق

تنويه :

إنّ هذه الصفة هي أحد العلائم المهمّة في عناصر الشخصية لكل إنسان ، وعند ما يجتمع الصدق مع الأمانة تشكل من ذلك أساس الشخصية الإنسانية السويّة والكاملة بحيث لا يمكن اطلاق اسم الإنسان الحقيقي عند من يخلو من هاتين الصفتين الأخلاقيتين.

وهاتان الصفتان لهما جذر وأصل مشترك ، لأنّ الصدق ليس شيئاً سوى الأمانة في القول ، والأمانة ليست شيئاً سوى الصدق في العمل ، ولهذا السبب فقد وردت في الروايات الإسلامية وكلمات المعصومين عليهم‌السلام هاتان الصفتان أي (صدق الحديث وأداء الأمانة) سوية.

وإلى جانب هذه الصفة نرى وجود صفات ممتازة اخرى في منظومة القيم الأخلاقية لدى الإنسان والتي هي في الواقع من قبيل اللازم والملزوم ، لأنّ الصادقين هم عادة يتحلّون بالشجاعة ، صراحة اللهجة ، قلّة الطمع ، الأخلاص ، الابتعاد عن الافراط في الحب والبغض والتعصب ، في حين أنّ من يعيش الكذب في سلوكه وأقواله فهو يتحلّى عادة بصفة الخوف ، الرياء ، التعصّب واللجاجة ، الطمع ، والافراط في الحب والبغض.

الإنسان يعيش الانضباط في حياته باصول أخلاقية ويتحرّك من موقع المسؤولية مع

١٧١

الآخرين في حين أنّ الشخص الكاذب منافق عادة ويعيش الحالة الانتهازية في تعامله مع الناس.

وبكلمة واحدة يمكن القول : إنّ الصدق والأمانة مفتاحان للكشف عن باطن الأشخاص في أبعاد مختلفة ، ولذلك كما سوف يأتي في البحث الروائي في كلمات المعصومين أنّ هاتين الصفتين يمثلان الأداة البليغة لأختبار الأشخاص ، فلو أردت معرفة حسن الشخص أو سوئه فعليك بأمتحانه واختباره بالصدق وأداء الأمانة.

وبهذه الإشارة نعود إلى الآيات القرآنية والروايات الإسلامية الشريفة التي تتحدّث في أجواء الصدق والدوافع والنتائج المترتبة على هذه الصفة الأخلاقية وبعض النقاط المتعلّقة بهما ثمّ نستعرض بعض ما يتعلق بصفة الكذب وآثاره السلبية في حركة الإنسان والمجتمع.

وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدّث عن أهميّة الصدق منها :

١ ـ «قَالَ اللهُ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»)(١).

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(٢).

٣ ـ (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)(٣).

٤ ـ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) ... (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)» (٤).

٥ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)(٥).

٦ ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٦).

__________________

١ ـ سورة المائدة ، الآية ١١٩.

٢ ـ سورة التوبة ، الآية ١١٩.

٣ ـ سورة الاحزاب ، الآية ٢٤.

٤ ـ سورة الاحزاب ، الآية ٣٥.

٥ ـ سورة محمد ، الآية ٢١.

٦ ـ سورة العنكبوت ، الآية ٣.

١٧٢

تفسير واستنتاج :

إنّ العبارات الواردة في الآيات الكريمة التي تتحدّث عن أهميّة الصدق لا نجد مثيلاً لها في دائرة المفاهيم القرآنية الكريمة ، ومن جملة التعابير الشديدة الواردة في هذه الصفة الأخلاقية هو ما ورد في «الآية الاولى» من الآيات محل البحث والتي جاءت بعد بيان مفصّل عن ظاهرة انحراف النصارى عن دائرة التوحيد وسؤال الله تعالى المسيح يوم القيامة عن سبب هذا الانحراف وتبرئة المسيح لنفسه عن هذه التهمة وحينئذٍ تقول الآية : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)

وهذه إشارة إلى أنّ اتصافهم بالصدق في الحياة الدنيا سوف ينفعهم في حياتهم الاخروية يوم القيامة ويكون سبباً لنجاتهم من النار (لا أنّ صدقهم يوم القيامة سيكون سبباً لنجاتهم في ذلك اليوم لأنّه لا تكليف يوم القيامة).

ثمّ تستمر الآية الشريفة في استعراض ما يترتب من النتائج الايجابية والثواب العظيم على هؤلاء الصادقين وتقول : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

فمن جهة سوف ينالون الجنّة ويتمتعون بعظيم نعيمها ومواهبها الخالدة ، ومن جانب آخر ينالون رضا الله تعالى عنهم ، والتعبير بالفوز العظيم في الآية يدلّ بوضوح على عظمة مقام الصادقين ، ولعلّه لهذا السبب فإنّه بالإمكان جمع كافة أعمال الخير والصلاح وإدخالها في دائرة الصدق ، أو بتعبير آخر أنّ الصدق هو مفتاح لكافّة أعمال الخير والصلاح.

ومن البديهي أنّ الله تعالى إذا رضي عن عبد فإنّه سوف يعطيه ما يريد ، وطبيعي أنّ الإنسان إذا أعطي كل ما يريد فإنّه سيعيش حالة السعادة المطلقة وعليه فإنّ رضى الله تعالى سيتسبب في رضا العبد ، وهذا الرضا المتقابل يعدّ نعمة عظيمة لا تصل إليها أي نعمة اخرى ، وهي موهبة إلهية للصادقين من الناس.

وعبارة (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وردت في القرآن الكريم في أربع موارد والتوفيق فيها يبيّن عظمة هذا المفهوم السامي ، ففي أحد الموارد يتحدّث القرآن الكريم عن

١٧٣

المهاجرين والأنصار والتابعين ، وفي مكان آخر يتحدّث عن حزب الله تعالى ، وفي مورد ثالث يتحدّث عن (خير البرية) ، وفي هذه الآية محل البحث يتحدّث عن الصادقين ، وهذا يدلّ على أنّ الصادقين هم حزب الله تعالى وخير البرية ، ومن المهاجرين والانصار والتابعين.

«الآية الثانية» تخاطب جميع المؤمنين من موقع الأمر بتقوى الله تعالى الذي يقترن مع الصدق وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

ونظراً إلى أنّ مثل هذه الخطابات القرآنية وكما ورد في الاصطلاح أنّها خطابات المشافهة فإنّها تستوعب في دائرتها ومصاديقها جميع المؤمنين في كل زمان ومكان ، ومن الواضح أنّ الكون مع الصادقين وظيفة وواجب على الجميع في أي مكان وزمان ، وهذا يدلّ على أنّ الإنسان إذا أراد التحرّك في خط التقوى والإيمان والاستقامة فعليه أن يعيش مع الصادقين ويلتزم بهم.

أمّا المقصود من الصادقين في هذه الآية ما هو؟ فهناك تفاسير متعددة لذلك ، فالبعض ذكر أنّ المقصود هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، وذهب البعض الآخر إلى أنّ مراد الآية من الصادقين هم الأشخاص الذين يتمتعون بصدق النيّة والصلاح في العقائد والأعمال ، وأورد آخرون تفاسير اخرى لهذه العبارة.

ولكن عند الرجوع لسائر الآيات القرآنية نجد أنّ القرآن نفسه يفسّر المراد من هذه الآية حيث يقول في سورة الحجرات : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١)

وهكذا نرى أنّ هذه الآية قد ذكرت للصادقين صفات سامية كالإيمان الذي لا يشوبه أي شك وريب والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس وأمثال ذلك.

وقد ذكرت الآية ٨ من سورة الحشر أحد المصاديق البارزة للصادقين وهم المهاجرون

__________________

١ ـ سورة الحجرات ، الآية ١٥.

١٧٤

الذين تركوا أموالهم وبيوتهم وهاجروا في سبيل الله وكانوا ينصرون دين الله ونبيّه الكريم دائماً.

ونقرأ في الآية ١١٧ من سورة البقرة صفات مهمّة اخرى لهؤلاء الصادقين من قبيل الإيمان بالله تعالى ويوم القيامة والكتب السماوية والأنبياء وإنفاق الأموال في سبيل الله وإقامة الصلاة وأداء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر على المشكلات والصعوبات التي يواجهها المؤمن في حالات الجهاد.

ومن مجموع هذه الصفات الكريمة يتبيّن جيداً أنّ الصادقين ليس هم الصادقين في الكلام فقط ، بل الصدق في الإيمان والعمل من خلال التقوى والتضحية وطاعة الله تعالى والتحرّك في خط الإيمان ، رغم أنّ هذا المفهوم يمتد ليستوعب دائرة واسعة من المفاهيم الأخلاقية لكن النموذج الأكمل والأتم لذلك هم المعصومون عليهم‌السلام ولذلك ورد في الروايات الشريفة من طرق الشيعة وأهل السنة في تفسير هذه الآية أن المقصود بها علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه ، وكذلك ورد أنّ المقصود علي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم‌السلام.

وقد أورد العلّامة (الثعلبي) في تفسيره عن ابن عباس أنّه قال : «مَعَ الصّادِقِينَ يَعنِي مَعَ عَلي بن أَبِي طالب وَأصحابِهِ» (١).

وقد ذكرت جماعة اخرى من علماء أهل السنة مثل العلّامة الگنجي في كفاية الطالب وسبط ابن الجوزي في التذكرة نفس هذا المعنى والمضمون مع تفاوت أنّه بدل كلمة الأصحاب وأورد ذكر أهل البيت عليهم‌السلام حيث يقول في ذيل هذه الرواية : «قَالَ ابنُ عَباس : عَلِيٌّ سَيِّدُ الصَّادِقِينَ» (٢).

وجاء في الرواية الشريفة عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضى الله عنه عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير الآية أنّه قال : «أَي آلُ مُحَّمد» (٣).

وقد استوحى الكثير من المفسّرين من اطلاق هذه الآية أنّ هذا الأمر يشمل جميع

__________________

١ ـ احقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٢٩٧.

٢ ـ المصدر السابق.

٣ ـ تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٨٠.

١٧٥

المسلمين في كل زمان ومكان ، وبما أنّ الصادق المطلق هو الإمام المعصوم فالآية تدلّ على أنّه يجب وجود إمام معصوم في كل زمان (والتعبير بصيغة الجمع «الصادقين» لغرض أنّ المخاطب هو كافة الناس في كل زمان).

والنتيجة المستوحاة من هذه الآية هي أننا جميعاً مطالبون في أن نكون دائماً مع الصادقين ، وهم الذين وردت أوصافهم في الآيات أعلاه والمصداق الأكمل لهم هم المعصومون عليهم‌السلام.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن الثواب الذي ينتظر الصادقين يوم القيامة وقد جعلتهم الآية في مقابل المنافقين ، وبعد أن بيّنت حال المؤمنين الصادقين والذين استشهدوا في سبيل الله وكذلك من ينتظر الشهادة منهم فتقول : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

وبهذا يتبيّن الثواب العظيم على المستوى المادي والمعنوي الذي ينتظر الصادقين في الجنّة ، وهم الصادقون في القول والعمل والعقيدة ، وأمّا من خرج من دائرة الصدق وسلك في خط الباطل والكذب فإنّه يسقط في وادي النفاق والضلال.

«الآية الرايعة» من الآيات محل البحث تشير إلى عشرة طوائف مبشّرة إيّاهم بالمغفرة والثواب الجزيل ، والطائفة الرابعة منهم هم الصادقون والصادقات ، وهذا يعني أنّ الإنسان بعد إعتناق الإسلام والإيمان والطاعة لله تعالى فلا فضيلة بعدها أعلى من الصدق في السلوك العملي حيث تبيّن هذه الآية إلى أية درجة يرتقي الصدق بالإنسان سواء الرجل أو المرأة ، وقد ورد في الحديث النبوي المعروف : «لا يَستَقِيمُ إِيمانُ عَبدٍ حَتّى يَستَقِيمَ قَلبُهُ وَلا يَستَقِيمُ قَلبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانُهُ» (١).

ويستفاد من هذا الحديث أنّه حتى الإيمان الكامل لا يحصل للإنسان إلّا بعد الصدق

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

١٧٦

وإصلاح اللسان والقول ، وأمّا الأشخاص الذين يعيشون الكذب في كلامهم فهم الفارغون من الإيمان الكامل.

«الآية الخامسة» وبعد الإشارة إلى الحالة السلبية للمنافقين وتذبذبهم وتناقضهم في القول والعمل وخوفهم العظيم من الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو في الحقيقة أصل العزّة والفخر للإنسان المؤمن تقول الآية : «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ».

فهؤلاء كانوا يقولون أننا عند ما ينزل علينا الأمر بالجهاد فسوف نتحرّك من موقع الطاعة ولا نقول سوى المعروف والصدق ، ولكن عند ما يحين الوقت وينزل الأمر بالجهاد يتجلّى حينئذٍ عدم صدقهم وتهافتهم وتخاذلهم في حين أنّهم لو صدقوا الله لكان خيراً لهم.

هذا التعبير يدلّ على أنّ الكذب هو أحد علامات المنافقين ، فقبل أن يواجهوا الأمر الواقع وتحين لحظة الحسم فأنّهم ينطلقون من موقع الوعد بالجهاد والثبات والانطلاق من موقع المسؤولية ، ولكن عند ما تحين اللحظة الحاسمة يتّضح كذبهم ونفاقهم ، أي أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية وهي الكذب تعدّ باباً ومفتاحاً للنفاق.

«الآية السادسة» : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ).

ولا شك أنّ أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تجاوزوا اختبارات صعبة في ميدان العمل والواقع ، وأحد أهم هذه الاختبارات هي مسألة الهجرة ، التي تعني ترك البيوت والأموال وغض الطرف عن الأوطان وجميع التعلّقات التي ألفها الإنسان في وطنه والانتقال إلى مكان آخر يبدأ فيه الحركة والحياة من نقطة الصفر ويعيش هناك مع أنواع الحرمان والنقص في موارد المعيشة ، وفي حالة ما إذا لم تهاجر معه الزوجة والأطفال فالصعوبات التي يواجهها هذا الإنسان المهاجر ستتضاعف وتشتد.

١٧٧

القرآن الكريم يتحرّك في هذه الآية من موقع التحذير لأصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ هذه الهجرة هي إمتحان إلهي كبير (فاذا بقوا في مكّة فسوف ينالهم أنواع التعذيب من قبل المشركين ولو هاجروا إلى المدينة فسيواجهون أنواع الحرمان والفاقة) فيقول لهم القرآن الكريم أنّه لا تتصوّروا أنّ هذا الامتحان العسير في مواجهة تحدّيات الواقع من تعذيب المشركين أو الهجرة إلى المدينة أو الجهاد في سبيل الله ومواجهة الأعداء في ميدان القتال وأمثال ذلك منحصر بكم ، فقد سبق أن اختبرنا الأقوام السالفة بأنواع الاختبارات والابتلاءات ، وأساساً فإنّ الحياة الدنيا تدور حول الإمتحان والاختبار الإلهي ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب والمدّعي.

وفي الواقع أنّ هذه الآية تتحدّث عن الصدق بعنوان أنّه علامة الإيمان والكذب علامة النفاق والكفر.

وطبعاً إنّ الصدق والكذب في هذه الآية هو الصدق والكذب في العمل لا في القول ، العمل الذي ينسجم ويتوافق مع ا دّعاءات الإنسان السابقة ويرسم له سلوكه الاجتماعي في حركة الحياة ، والكاذب هنا هو الذي لا يتحرّك في سلوكه بما ينسجم مع إدعاءاته ، وأيضاً الصدق والكذب في العمل وفي القول لهما جذر مشترك ، لأنّ الصدق هو بيان الحقيقة والكذب على العكس من ذلك ، وهذا التبيّن تارة يكون بوسيلة القول واخرى بوسيلة العمل.

ومن مجموع الآيات أعلاه يتبيّن الأهميّة الكبيرة للصدق والصادقين وأنّ هذه الصفة تعد فضيلة أخلاقية من الفضائل التحتية للبناء الأخلاقي الفوقاني للإنسان ، نعم فإنّه متى ما وجد الصدق فإنّ الصفاء والأمانة والثقة والاعتماد والشجاعة سوف تحصل للإنسان بالتبع ، ولو لم يكن الصدق في واقع الإنسان فإنّ جميع هذه الصفات ستتبخّر وتتلاشى ويعيش الإنسان بدونها حالة الفراغ الروحي والجفاف المعنوي وحتّى أنّ الإيمان والعقيدة سوف لا تبقى سليمة كما هو المطلوب ، والملفت للنظر أنّ الآيات الكريمة تذكر الصدق بعنوان أنّه صفة من الصفات الأصلية للقادة الإلهيين كما أشارت إلى ذلك الآيات أعلاه وهذا إنّما يدلّ على أنّ سائر فضائل الإنبياء والأولياء تدور حول محور الصدق وعلينا إذا أردنا معرفتهم والاطّلاع

١٧٨

على أحوالهم أن نتحرّك لتتبع أثر هذه الصفة الأخلاقية فيهم.

الصدق في الروايات الإسلامية :

إنّ أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية في الروايات الإسلامية أكثر من أن يقال أو يذكر في هذا المختصر ، فالأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في هذا المجال تجاوزت حد الحصر ، ولكننا نكتفي في هذا الفصل بذكر نماذج منها لبيان أهميّة هذه الصفة من بين الصفات الأخلاقية للإنسان حيث يستفاد جيداً من الروايات أنّ جميع الفضائل الإنسانية تنبع من حالة الصدق.

١ ـ ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان أهميّة الصدق والذي تقدّم ذكره في الفصل السابق ولكننا نذكره مرة اخرى لأهميته : «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانةِ» (١).

٢ ـ ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إِن اللهَ لَم يَبعَثْ نَبيّاً إلّا بِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمانةِ إِلَى البِرِّ والفاجِرِ» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام يقول حول تأثير الصدق في جميع أعمال الإنسان وسلوكياته «وَمَن صَدَقَ لِسانُهُ زكَى عَمَلُهُ» (٣) ، لأنّ الصدق يمثل الجذر والأساس لجميع الأعمال الصالحة ، وسوف يأتي لاحقاً بيان هذا المطلب بالتفصيل.

٤ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق أيضاً في كتابه إلى أحد أصحابه ويُدعى عبد الله بن أبي يعفور حيث قال له : «انظُر ما بَلَغَ عَلَيٌّ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فَأَلزَمَهُ ، فَإنَّ عَلِيّاً عليه‌السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمانَةِ» (٤).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٩ ، ح ١٣.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٤ ، ح ١.

٣ ـ المصدر السابق ، ح ٣.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٤ ، ح ٥.

١٧٩

هذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان حتّى لو كان شخصية كبيرة وعظيمة مثل علي بن أبي طالب عليه‌السلام إنّما وصل إلى هذا المقام السامي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببركة هاتين الصفتين : صدق الحديث ، وأداء الأمانة.

٥ ـ وقد ورد في الحديث الشريف أنّه سُئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أي النّاسِ أَكرمُ؟ فَقَالَ : مَنْ صَدَقَ فِي المَواطِن» (١).

ونظراً إلى أنّ القرآن الكريم يقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(٢) يتضّح أنّ روح التقوى هي الصدق في الحديث.

٦ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يتحدّث فيه عن تأثير الصدق في نجاة الإنسان من الأخطار والمشكلات حيث يقول : «ألزموا الصدق فإنّه منجاة».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام ورد تشبيهاً جميلاً عن الصدق حيث يقول : «الصِّدقُ نُورٌ غَيرَ مُتَشَعشِعٍ إِلّا فِي عالَمِهِ كَالشَّمْسِ يَستَضيءُ بِها كُلُّ شَيٍّ يَغْشَاهُ مِنْ غَيرِ نُقصانٍ يَقَعُ عَلى مَعناها».

ويقول الإمام عليه‌السلام في ذيل هذا الحديث : «الصِّدقُ سَيفُ اللهِ فِي أَرضِهِ وَسَمائِهِ أَينما هَوى بِهِ يُقَّدُّ» (٣).

٧ ـ وعن أهميّة الصدق يكفي أن نذكر الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول : «الصِّدقُ رأسُ الدِّينِ».

ويقول في حديث آخر : «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَيءٍ».

ويقول في حديث آخر أيضاً : «الصِّدقُ أَقوى دَعائِمُ الإِيمانِ».

وفي رواية اخرى يقول : «الصِّدقُ جَمالُ الإنسانِ ودَعامَةُ الإيمانِ».

وأخيراً يضيف إلى ذلك تعبيراً مهمّاً آخر عن الصدق ويقول : «الصِّدقُ أَشرَفُ خَلائِقِ المُؤمِنِ» (٤).

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٦٧ ، ص ٩ ، ح ١٢.

(٢) سورة الحجرات ، الآية ١٣.

(٣) بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ١٠ ، ١٨.

(٤) غرر الحكم.

١٨٠