الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

عَلى أَخِيكَ وَلَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله يُداعِبُ الرَّجُلَ يُريدُ أَن يَسُرَّهُ» (١).

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «ما مِنْ مُؤمُنٍ إلّا وَفَيهِ دُعابَةٌ ، قلت : وَما الدُّعابَةُ؟ قال : المِزاح» (٢).

ويستفاد من هذا التعبير أن المؤمن لا ينبغي أن يكون جافّاً ، بل إنّ أغصان حسن الخلق هو المزاح وطبعاً مقرون بالتقوى.

٤ ـ ويستفاد من الروايات الشريفة أنّ المعصومين عليهم‌السلام أحياناً كانوا يتحرّكون لحث الآخرين للتمازح في مجلسهم ليتمّ بذلك إدخال السرور على قلوب المؤمنين ، ففي كتاب الكافي للمرحوم (الكليني قدس‌سره) نقرأ حديثاً شريفاً يرويه عن معمر بن خلّاد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام قلت : جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟

فقال عليه‌السلام : «لا بأسَ ما لَم يَكُن ، فَظَننتُ أَنّه عنى الفحش ، ثُمَّ قال : إنّ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانَ يَأتِيهِ الأعرابِي فَيَهدِي لَهُ الهديَّةَ ثُمَّ يَقُولُ مكانَهُ : أَعطِنا ثَمَنَ هَديتِنا فَيضحَكُ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وَكَانَ إِذا اغتَمَّ يَقُولُ : ما فَعَلَ الأَعرابي لَيتَهُ أتانا» (٣)

٥ ـ وقد ورد في الأحاديث الشريفة نماذج من موارد مزاح النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه منها ما ورد عن امرأة تدعى (ام أيمن) جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إنّ زوجي يدعوك ، فقال : ومن هو أهو الذي بعينه بياض ، فقالت : والله ما بعينه بياض ، فقال : بلى أنّ بعينه بياضاً ، فقالت : لا والله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أحد إلّا وبعينه بياض (٤).

وفي مقابل هذه الأحاديث هناك أحاديث كثيرة تنهى عن المزاح منها :

١ ـ في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَذهَبُ بِماءِ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٦٣ ، ح ٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٢.

٣ ـ المصدر السابق ، ح ١

٤ ـ تنبيه الخواطر ، ج ١ ، ص ١١٢.

١٤١

الوَجهِ وَمَهابَةِ الرِّجالِ» (١).

٢ ـ وأيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال : «إِذا أَحبَبتَ رَجُلاً فَلا تُمازِحهُ وَلا تُمارِهِ» (٢).

٣ ـ وفي حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَجُرُّ السَّخِيمَةَ وَيُورِثُ الضَّغِينَةَ وَهُو السَّبُّ الأصغَرُ» (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا تُمازِح فَيُجتَرَءُ عَلَيكَ» (٤).

* * *

وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ المزاح يبعث على الذهاب بوقار الإنسان والحط من شخصيّته أمام الناس ويسبب العداوة والبغضاء بينهم ويوجب تجرّؤ الجهّال ويعرّض شخصية الإنسان إلى المهانة والضعف والاهتزاز.

ومن خلال مطالعة التعبيرات الواردة في روايات الطائفة الاولى المادحة للمزاح وروايات الطائفة الثانية الناهية عنه يمكن معرفة السبل إلى الجمع بين هاتين الطائفتين ، وتوضيح ذلك أنّ المزاح أمر معقّد وأحياناً يتّسم بأنّه أشدّ من حالة الجدية في الكلام وبعبارة اخرى أنّ المزاح أمر رقيق جدّاً بحيث أنّه إذا خرج قليلاً عن حدّ المقرّر ، فإنّ له آثار مخرّبة مدمّرة.

إذا كان المزاح في الأطار المقبول ولم يخرج عن حدّ الاعتدال وكان لغرض رفع السأم والتعب والحزن عنهم مع رعاية الجهات الشرعية فإنّه يقع مطلوباً ومورد رضا الله تعالى.

ولكن إذا كان المزاح لغرض الانتقام والسخرية بالطرف الآخر وبدافع الحقد والكراهية وخاصة إذا كان بلباس الجدّية فإنّه لا يحقق الامور المذكورة فحسب ، بل إنّ البعض قد يهدف إلى أغراض شيطانية من خلال المزاح فلا شك في أنّه يقع مبغوضاً ومنفوراً وأحياناً

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٦٥ ، ح ١٦.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٦٦٤ ، ح ٩.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٦٦٤ ، ١٢.

٤ ـ المصدر السابق ، ص ٦٦٥ ، ح ١٨.

١٤٢

يكون أشدّ من السب والشتم.

وكذلك إذا استخدمت في المزاح كلمات واهنة ومبتذلة فلا شك أنّها تتسبب في هتك حرمة الإنسان وإزهاق شخصيته.

وهكذا إذا كان المزاح أمام أشخاص ليست لهم قابلية على تقبّله أو لا يحفظون حريم شخصيّة الإنسان ممّا يؤدّي إلى جرأتهم وتطاولهم على الكبير فيقولون من موقع المزاح ما يوهن شخصيته ويطعن في احترامه.

ومثل هذه الانحاء من المزاح ليست فقط غير مطلوبة بل أحياناً تقع في دائرة الذنوب الكبيرة أيضاً.

فعلى السالكين طريق الحق والذين يتحرّكون في تهذيب النفس وتزكيتها يجب عليهم الانتباه فلا يشطبون على المزاح تماماً ويحذفونه من حياتهم ويتحوّلوا إلى أشخاص جامدين ويعيشون الجفاف الروحي والعواطف البشرية واللطافة والمحبّة مع الآخرين ، ولا يتورّطون مقابل ذلك في الذنوب أو الأعمال المنافية للمروءة عند ممارسة المزاح ، فكثيراً ما رأينا بعض الأشخاص المتدينين حسب الظاهر عند ما يتحدّثون في مجالسهم ويتمازحون مع الآخرين يطلقون ألسنتهم بالحكايات المبتذلة التي يشمّ منها رائحة الغيبة أحياناً أو التهمة أو إشاعة الفحشاء أو يتسبب كلامهم في إهانة بعض المسلمين وجرح كرامتهم.

وحتى لو كان المزاح يخلو من أي مطلب منافي للشرع ، فإنّ الإكثار منه يسّبب آثار سلبية وكما يقول بعض العلماء(المَزاحُ فِي الكلامِ كَالمِلحِ فِي الطَّعامِ) ، فلو كان أكثر من اللازم أو أقل منه لما كان الطعام سائغاً وطيّباً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ من يكثر من المزاح فانّ كلامه الجدّي سوف يكون بدون قيمة ، ولا يقبل الناس كلامه الجدّي كما يرام ، وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال : «مَن كَثُرَ هَزَلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ» (١).

__________________

١ ـ غرر الحكم.

١٤٣

والملاحظة الجديرة بالذكر أنّ المزاح أحياناً يهدف إلى أغراض معقولة ومهمّة ، فلو كانت هذه الأهداف الجديّة تدخل في المسائل التربوية والبنّاءة لكان مفيداً جدّاً ، مثلاً أن يسعى الشخص لافهام الطرف الآخر من خلال المزاح أن يواظب على المسائل الدينية والقيم الأخلاقية ، فمثل هذا العمل مفيد جدّاً ، ولكن لو كان الهدف الجدّي المتضمّن للمزاح يؤدّي إلى مفسدة أو كان لغرض الانتقام وتخريب شخصية الآخرين ، فإنّ ذلك المزاح يكون مبغوضاً ومذموماً جدّاً وذلك بأن يقوم الإنسان بهتك حرمة الأشخاص في لباس المزاح ويهدم شخصيّتهم ويعمل على تسقيطهم بهذه الوسيلة.

١٤٤

٦

الأمانة والخيانة

تنويه :

(الأمانة) من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصية ، وعلى العكس من ذلك (الخيانة) التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الإجتماعي.

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيوية والاخروية في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء وبالتالي تخريب الاطر الإنسانية والحضارية في المجتمعات البشرية.

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع الله تعالى وكذلك تربطه مع غيره من أفراد البشر ، ومن جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً ومع الطبيعة والبيئة كذلك وقد اعتبرت الكتب السماوية والشرائع الإلهية أنّها أمانة بيد البشر.

إنّ جميع النعم المادية والمواهب المعنوية الإلهية على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان.

١٤٥

وهكذا الأموال والثروات المادية والمقامات والمناصب الاجتماعية والسياسية هي أمانات بيد الناس ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤولية.

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين ، والطلاب أمانة بيد المعلمين ، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه الله تعالى من الكائنات الطبيعية لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا كل ذلك يعتبر أمانة غالية بيد الإنسان والتي يعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب ومن الذنوب الكبيرة.

ونظراً إلى سعة مفهوم الأمانة والخيانة واستيعابها لأبعاد مختلفة وواسعة من حياة الإنسان ندرك جيداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الحكيمة ما يلقي الضوء على صفة الأمانة والخيانة في حركة الإنسان والمجتمع.

إنّ «الأمانة» وردت في القرآن الكريم مرّات متعددة بصورة مفردة أحياناً وبصورة جمع أحياناً اخرى.

وقد وردت بالنسبة إلى ستة من الأنبياء الكبار بعبارة : «إِنّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ» عن النبي نوح عليه‌السلام في سورة (الشعراء ، ١٠٧) والنبي هود عليه‌السلام (الشعراء ، ١٢٥) والنبي صالح عليه‌السلام (الشعراء ، ١٤٣) والنبي لوط عليه‌السلام (الشعراء ، ١٦٢) والنبي شعيب (الشعراء ، ١٧٨) والنبي موسى (الدخان ، ١٨) وهذا يدلّ دلالة واضحة على أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية إلى جانب مهمّة إبلاغ الرسالة الإلهية ، وبدون ذلك لا يمكن لهؤلاء الأنبياء من كسب ثقة الناس واعتمادهم على أقوالهم.

ومضافاً إلى ذلك فهناك آيات متعددة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي حيث نستعرض الآن هذه الآيات ونفسّرها :

١ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ)(١).

__________________

١ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٨ ؛ سورة المعارج ، الآية ٣٢.

١٤٦

١ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(١).

٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢).

٤ ـ (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ)(٣).

٥ ـ (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(٤)

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» تتحرّك من خلال بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين وضمن تبشيرهم بالفلاح والنجاة في الآخرة ، وبعد بيان أهميّة الصلاة والابتعاد عن اللغو والكلام لفارغ وأداء الزكاة واجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي يشير القرآن الكريم في الآية الخامسة والسادسة إلى مسألة حفظ الأمانة والالتزام بالعهد ويقول : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).

ونفس هذا التعبير ورد في سورة المعارج الآية ٣٢ ضمن بيان أوصاف الإنسان الجميلة والفضائل الأخلاقية ومنها الأمانة والوفاء بالعهد.

والملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذكرت بصورة الجمع وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة المالية بل يشمل الأمانات المعنوية كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعية وكذلك النعم الإلهية المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادية والمعنوية.

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ٥٨.

٢ ـ سورة الانفال ، الآية ٢٧.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٨٣.

٤ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٧٢.

١٤٧

ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتع باللّياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة ويهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية وأداء الوظيفة.

أمّا عطف الوفاء بالعهد على حفظ الأمانة فيبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذين المفهومين يعودان إلى جذر واحد ويشتركان في الأصل ، لأنّ نقض العهد يعتبر نوع من الخيانة في العهد والميثاق ، ورعاية الأمانة نوع من الوفاء بالعهد والميثاق أيضاً.

وتعبير (راعون) مأخوذ من مادة (رعاية) وهي من مادة (رعى) التي يراد بها رعي الأغنام ومراقبتها في عملية سوقها إلى حيث الماء والكلاء في الصحراء ، وهذا إنّما يدلّ على أنّ المقصود من هذه العبارة في الآية الكريمة هو أكثر من أداء الأمانة في مفهومها الظاهري ، أي النظر والمحافظة والمراقبة للشيء من جميع الجوانب.

وبديهي أنّ الأمانة تارة تكون ذات بعد فردي وتسلّم بيد شخص معين (كالأمانات المالية التي يودعها الإنسان لدى الآخرين) وتارة اخرى لها بعد جماعي مثل حفظ القرآن الكريم من التحريف والدفاع عن الإسلام والمحافظة على كيان الدول الإسلامية ، فهي كلّها أمانات وضعت بيد المسلمين وعليهم أن يتحرّكوا بصورة جماعية ويتكاتفوا فيما بينهم من أجل حفظ وصيانة هذه الأمانات الإلهية.

وتتحرك «الآية الثانية» لتثبيت أمرين إلهيين :

الأول : يتحدّث عن أداء الأمانة.

الثاني : يتحدّث عن الحكم بالعدل فتقول الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

ومع أنّ مسألة الحكومة العادلة أو التحكيم الصحيح والسليم بين الناس له مكانة سامية في نظر القرآن الكريم ، ولكن في نفس الوقت ورد الأمر بأداء الأمانة قبله وهذا يبيّن الأهميّة

١٤٨

العظيمة للأمانة وأنّ لها مفهوم عام يستوعب في مضمونه التحكيم بين الناس من موقع العدل وأنّه أحد مصاديق أداء الأمانة ، لأنّ الأمانة بمفهومها العام تشمل جميع المقامات والمناصب الاجتماعية التي تعتبر أمانات إلهية ، وكذلك أمانات بشرية من قبل الناس بيد أصحاب المناصب هذه.

والتأكيدات الواردة في ذيل الآية الشريفة تقرّر من جهة أنّ الأمر بالأمانة والعدالة ما هي إلّا موعظة إلهية حسنة للناس ، ومن جهة اخرى تحذّر الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالكم وسلوكياتكم ، وهذا يعطي أهميّة مضاعفة على هذين المفهومين وهما رعاية الأمانة والعدالة.

ونقرأ في التفسير الكبير للفخر الرازي أنّ الأمانة لها ثلاث موارد وفروع :

الأمانة الإلهية ، وأمانة الناس ، وأمانة النفس ، ثم يتطرّق الفخر الرازي إلى شرح كل واحدة من هذه الفروع والأغصان للأمانة بالتفصيل ومن جملتها أداء الواجبات وترك المحرمات حيث يعتبرها من موارد الأمانات الإلهية ، ويقسّمها إلى تقسيمات عديدة ، منها أمانة اللسان ، أمانة العين والاذن (أي أنّ الإنسان يجب أن لا يتحرّك بالمعصية ، والعين لا تنظر بنظر الخيانة ، والاذن لا تسمع الكلام المحرّم).

أمّا الأمانات البشرية فهي من قبيل الودائع التي يضعها بعض الناس لدى البعض الآخر وكذلك ترك التطفيف في الميزان وترك الغيبة ورعاية العدالة من جهة الحكّام والامراء وعدم تحريك العوام من موقع التعصّب للباطل وأمثال ذلك ، أمّا أمانة الإنسان بالنسبة إلى نفسه فيرى الفخر الرازي أنّ على الإنسان أن يختار لها خير الدين والدنيا ولا يستسلم لدوافع الشهوة والغضب وما يترتب عليهما من ذنوب وآثام. (١)

إنّ سعة مفهوم الأمانة وشمولها لكثير من الوظائف المهمّة والنعم الكثيرة قد ورد في الكثير من التفاسير المهمّة ، منها تفسير (أبو الفتوح الرازي) و (القرطبي) وتفسير (في ظلال القرآن) وتفسير (مجمع البيان) وغيرها من التفاسير الاخرى.

__________________

١ ـ تفسير فخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ١٣٩ ذيل الآية المبحوثة.

١٤٩

وقد ورد التصريح بهذا المعنى أيضاً في الروايات الإسلامية التي سوف نشير إليها لاحقاً.

أمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية فأنّه يشير بوضوح إلى سعة مفهوم الأمانة أيضاً ، لأنّ سبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات هو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما دخل مكّة منتصراً جاءه (عثمان بن طلحة) خازن الكعبة بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه مفاتيح الكعبة ليطهرها من الأصنام الموجودة في داخلها ، وبعد أن تمّ تطهير الكعبة من الأوثان جاء العباس عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكون خازن بيت الله وأن يسلّمه مفاتيح الكعبة والذي يعتبر منصباً مهمّاً لدى المجتمع العربي والإسلامي آنذاك ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يوافق على هذا الطلب وأعاد المفتاح إلى (عثمان بن طلحة) ثم تلى هذه الآية الشريفة ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) هذا في حين أنّ عثمان بن طلحة لم يعتنق الإسلام بعد.

«الآية الثالثة» تتحرّك من موقع النهي عن ثلاثة أشياء مخاطبة المؤمنين في هذا النهي وهي : خيانة الله ، خيانة الرسول ، خيانة أمانات الناس ، وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ)(١)(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ»).

والمشهور بين المفسرين أنّ المقصود بحفظ أمانة الله ورسوله والنهي عن خيانتهما هو عدم إفشاء أسرار المسلمين حيث قام بعض الأفراد من ضعفاء الإيمان إلى إفشاء أسرار المسلمين إلى المشركين بهدف حفظ منافعهم الشخصية ولكنّ الله تعالى أعلم بيّنة ذلك ، وكنموذج على هذا المضمون هو قصة (أبو لبابة) الذي أخبر عن بعض الأسرار العسكرية للمسلمين وكشفها لأعدائهم من اليهود من (بني قريظة) ، أو قصة حركة النبي لفتح مكّة وإفشاء هذا السر لأبي سفيان ، والمراد من الخيانة في أماناتكم الوارد في الآية الشريفة هو

__________________

١ ـ وردت احتمالات عديدة حول اعراب جملة «وتخونوا أماناتكم» والأنسب ما قيل في هذا المورد أن تخونوا مجزوم ب «لاء» محذوفة ومعطوف على لا تخونوا التي وردت في الجملة ، فعليه أنّ الواو ، واو عاطفة لا واو حالية بمعنى «مع».

١٥٠

الأمانات المتداولة بين الناس.

ويرى بعض آخر من المفسّرين أنّ المراد من خيانة الله هي ما يتعلق بالوظائف والواجبات الدينية والشرعية ، أمّا الخيانة للنبي فهي ما يتعلق بالسنن والسلوكيات الأخلاقية ، وأمّا خيانة أمانات الناس فهي ما يتعلّق بأموالهم المودعة لدى الآخرين.

وهناك احتمال آخر أيضاً أفضل وأشمل من الاحتمالات السابقة ، وهو أنّ مفهوم الآية عام وشامل لجميع مصاديق ومفردات الأمانات المعنوية والمادية والمالية وغير المالية ، وعلى هذا الأساس فالخيانة محرّمة لجميع أشكال الأمانة : الإلهية منها وأمانة النبي وهو الدين الذي أودعه النبي لدى امته ، وكذلك أمانات الناس بيد بعضهم للبعض الآخر سواءً كانت متعلّقة بالامور المالية أو بأسرار المعيشة والحياة الشخصية لدى الأشخاص ، ولذلك ورد في الحديث النبوي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي ذر رضى الله عنه : «يا أبا ذر المَجالِس بِالأمانَةِ وإفشَاءِ سرّ أَخِيكَ خِيانَة» (١).

وتوضح الآية ٢٨ من سورة الأنفال هذه اللاحقة لهذه الآية أنّ الخيانة محرّمة حتى لو عرّضت أموال الإنسان ومنافع أولاده إلى الخطر (كما قرأنا في قصة أبي لبابة وأنّ وجود أمواله وأولاده لدى اليهود هو السبب في إفشاءه أسرار المسلمين العسكرية للعدو) فتقول الآية (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وعلى هذا فالأمانات الإلهية والبشرية ليست شيئاً يمكن التضحية والتساهل معه وخيانة هذه الأمانات بأعذار وتبريرات مختلفة.

«الآية الرابعة» تتعرض للأمانات والودائع المالية لدى الناس وتتحدّث في سياقها عن لزوم تنظيم الوثائق والمستندات بالنسبة إلى هذه الودائع وتقول : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ).

أي يمكنه ذلك بدون كتابة السند أو أخذ الرهن ، وفي هذه السورة على الأمين حفظ

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ٨٩.

١٥١

الأمانة وردّها إلى صاحبها بالموقع المناسب وعليه أن يخاف الله فيما لو تحدّثت له نفسه بالخيانة.

أنّ تعبير الأمانة في الآية أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى القروض المالية التي يقرضها المسلم لأخيه المسلم من دون كتابة وثيقة أو تأمين وديعة ورهن وذلك بسبب الثقة المتبادلة بين الأفراد ، أو أنّها إشارة الى الأموال التي توضع لدى الشخص بعنوان الرهن ، أو كليهما ، وعلى كل حال فانّ الآية فيها دلالة واضحة على لزوم احترام الأمانة وأدائها في أيّة حالة.

أمّا «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات مورد البحث فتتحدّث أيضاً عن الأمانة الإلهية العظيمة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وحفظها ولكن الإنسان حملها لوحده وتقول : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

فما هي هذه الأمانة العظيمة التي خشيت السماوات مع عظمتها والأرض مع سعتها والجبال مع صلابتها أن يحملنها في حين أنّ الإنسان الضعيف والصغير جدّاً قد حملها؟

ولقد أورد المفسّرون من القدماء والمعاصرين احتمالات كثيرة في تفسير هذه الآية ، ولكنّ ما يقرب للنظر هو أنّ المقصود من الأمانة الإلهية الكبيرة هذه هو المسؤولية والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحرية والإرادة.

أجل فإنّ التكليف والمسئولية أمام الله تعالى والناس والنفس هي وظيفة ثقيلة لا يكاد يتحملها ولا يليق بحملها أي موجود آخر سوى الإنسان ، وبتبع ذلك فقد جعل الله تعالى العقل والحرية والإرادة في عملية الانتخاب هي الثواب والعقاب ، ومجموع هذه الصفات الثلاث تبيّن عظمة الإنسان بين المخلوقات بحيث إختاره الله لمقام الخلافة الإلهية وميزه على سائر المخلوقات الاخرى في عالم الوجود.

ولكن هذا الإنسان الظلوم والجهول لم يقدّر هذا المقام الرفيع وتورّط في منزلقات

١٥٢

الشهوة والأهواء الرخيصة وبذلك ظلم نفسه وحرمها من نيل السعادة العظيمة التي تنتظره في حركته التكاملية نحو الحق والانفتاح على الله.

وعلى هذا الأساس فكون الإنسان ظلوماً وجهولاً إنّما هو لم يكن بسبب قبول هذه الأمانة الإلهية ، لأنّ قبولها علامة العقل وسبب الافتخار ، ومن دون ذلك لا يصل إلى مقام الخلافة الإلهية ، بل كونه ظلوماً وجهولاً بسبب عدم حفظ هذه الأمانة وسلوكه طريق الخيانة في أداء هذه المسوؤلية الكبيرة.

أجل فإنّ الأمانة التي من شأنها أن توصله إلى ذروة السعادة الحقيقية في حال حفظها ، فإنّ خيانتها يتسبب كذلك في سقوط هذا الإنسان في مستنقع الذلّة والمسكنة والشقاء حتى أنّه يكون مصداق (بَل هُم أَضَلُ مِنَ الأنعامِ والدّوابِ).

وبعبارة اخرى : أنّ السموات والأرض والجبال مع عظمتها وسعتها ليست لها القابلية على قبول هذه الأمانة الإلهية ، وأعلنت عدم صلاحيتها لذلك بحالتها التكوينية وبلسان حالها ، ولكن الإنسان وبسبب وجود هذه القابلية والقوى الكريمة التي منحه الله تعالى إيّاها أصبح لائقاً تكوينياً لقبول هذه المنحة والأمانة الإلهية ، وهذا بحدّ ذاته إفتخار عظيم للإنسان من بين المخلوقات.

ولكن بما أنّ أكثر الناس لم يراعوا حق هذه الأمانة الإلهية ولم يتحرّكوا في سبيل حفظها وأدائها فلذلك إستحقوا عنوان الظلوم والجهول ، لأنّهم ظلموا أنفسهم أشدّ الظلم بحرمانها من نيل هذا الإفتخار العظيم الذي منحه الله تعالى للإنسان وعاشوا الغفلة عن هذه الموهبة الإلهية العظيمة وتركوها وراء ظهورهم.

وفي ذيل هذه الآية نجد إشارة إلى هذه النقطة المهمّة ، وهي أنّ الخيانة في الأمانة إنّما تنشأ من الظلم والجهل ، وهذا هو ما نسعى لتحقيقه وتقريره في هذا البحث الأخلاقي ، أجل فانّ حفظ الأمانة يدل على العقل والعدالة ، بينما الخيانة هي دليل على الظلم والجهالة.

وممّا تقدّم آنفاً يتّضح جيداً أنّ المراد من كون الإنسان ظلوماً وجهولاً هم الأشخاص الذين يعيشون حالة الكفر أو الذين يعيشون ضعف الإيمان والتقوى ، وإلّا فإنّ أولياء الله

١٥٣

تعالى والصالحين من العباد الذين يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي والاجتماعي تبعاً للأنبياء والأولياء فإنّهم يراعون حق هذه الأمانة ويسعون لأدائها والقيام بهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم ، وفي الحقيقة إنّ هؤلاء يمثّلون الهدف الأسمى من وجود عالم الخليقة ووجود الإنسان.

ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه يتّضح جيداً أهميّة حفظ الأمانة (سواءً الأمانات الإلهيّة أو الإنسانية) وجعله من علامات العقل والإيمان والعدالة.

الأمانة والخيانة في الروايات الإسلامية :

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الاصول والمباديء الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية ، وتارة اخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان ، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك ، وفيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة :

١ ـ ورد في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال للإمام علي عليه‌السلام : «يا أبا الحَسَنِ أَدِّ الأَمانَةَ للِبِرِّ والفاجِرِ فِي ما قَلَّ وَجَلَّ حتّى فِي الخَيطِ وَالمَخِيطِ» (١).

ويقول الإمام علي عليه‌السلام أنّ النبي قال لي ذلك في الساعة الأخيرة من حياته وكررها عليّ ثلاث مرّات.

٢ ـ وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا إِيمانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال : «إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّا بِصِدقِ

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ٢٧٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٦٩ ، ص ١٩٨.

١٥٤

الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفاجِرِ» (١).

وهذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق والأمانة جزءً مهمّاً من تعليماتها الدينية والإنسانية ومن الاصول الثابتة في الأديان الإلهية.

٤ ـ ورد عن الإمام أيضاً على مستوى إمتحان إيمان الناس أنّه قال : «لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإنَّ ذَلِكَ شَيءٌ إِعتَادَهُ فَلَو تَرَكَهُ إِستَوحَشَ لِذلِكَ وَلَكِنْ انظُرُوا الى صِدقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمانِتِهِ» (٢).

٥ ـ ومثل هذا المعنى ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعبير شديد حيث قال : «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ» (٣).

والهدف من هذا التعبير ليس هو أنّ هؤلاء لا يهتمّون بصلاتهم وصومهم أو يستخفّون بحجّتهم وإنفاقهم بل الهدف هو أنّ هذه الامور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص أي الصدق والأمانة.

٦ ـ وورد عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام في هذا المجال تعبير عجيب حيث يقول لشيعته : «عَلَيكُم بِأَداءِ الأَمانَةِ فَو الَّذي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ نَبِيَّاً لَو أَنَّ قاتِلَ أَبِي الحُسَينِ ابنِ عَلَيٌّ عليه‌السلام ائتَمَننِي عَلَى السَّيفِ الَّذِي قَتَلَهِ بِهِ لَأَدَّيتُهُ إِلَيهِ» (٤).

٧ ـ ومثل هذا المعنى ولكن بتعبير آخر ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً : «إنَّ ضارِبَ عَلِيٌّ بِالسَّيفِ وَقاتِلَهُ إِذا إِئتَمَننِي وَاستَنصَحَنِي وَاستِشارَنِي ثُمَّ قَبِلتُ ذَلِكَ مِنهُ لأَدَّيتُ إِلَيهِ الأمانَةَ» (٥).

٨ ـ وفي حديث آخر عن الإمام أيضاً يستفاد أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٤.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ١٠٥ ، ح ١٣.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١١٤ ، ح ٥.

٤ ـ المصدر السابق ، ح ٣.

٥ ـ مجموعة ورام ، ج ١ ، ص ٢٠.

١٥٥

للأئمّة المعصومين عليهم‌السلام مثل الإمام علي عليه‌السلام يتم عِبر صدق الحديث وأداء الأمانة ، حيث يقول الإمام الصادق لأحد أصحابه ويدعى (عبد الله بن أبي يعفور): «انظُر ما بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فَأَلزَمَهُ» ثم قال : «فَإنَّ عَلِيّاً عليه‌السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمانَةِ» (١).

٩ ـ ونقرأ في حديث آخر بالنسبة إلى الآثار والنتائج الدنيوية المهمّة للأمانة والخيانة فقد ورد عن علي عليه‌السلام أنّه قال : «الأمانَهُ تَجُرُّ الرِّزقَ وَالخِيانَةُ تَجُرُّ الفَقرَ» (٢).

١٠ ـ وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن هذا الإمام عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «رَأَسُ الإسلامُ الأَمانَةُ» (٣)

١١ ـ وورد شبيه لهذا الحديث مع اختلاف يسير عن لقمان الحكيم حيث أنّه قال : «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» (٤).

١٢ ـ ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا تَزَالُ امتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» (٥).

* * *

هذه الروايات ما هي إلّا موارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة وتوضّح جيداً أن هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمية من بين التعليمات الإسلامية ، وكذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة أي الخيانة ومدى اضرارها بدين الإنسان وشخصيته من موقع تخريب الإيمان وأنّها تورث الشقاء والبعد عن الله تعالى ، وكل واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد والآثار البنّاءة للأمانة أو

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٤ ، ح ٥.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٧٨ ، ص ٦٠.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ معاني الأخبار ، ٢٥٩ ؛ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١١٧.

٥ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ١١٥.

١٥٦

الأبعاد والنتائج السلبية والمخربّة للخيانة ، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها والتأمل والتدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلامية والقيم الأخلاقية والاجتماعية المهمّة والبنّاءة في حركة الحياة والمجتمع.

فروع الأمانة :

عند ما نتحدّث عن الأمانة فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الامور المالية ، ولكن كما تقدّم في تفسير الآيات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان.

هذه النعم والمواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تعد ، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم والإسلام والإيمان والولاية وحتّى إلى أقل النعم والمواهب المادية والمعنوية.

الأحاديث الشريفة التي تؤكد على أنّ الأمانة تورث الغنى ، وأنّ الخيانة تورث الفقر ناظرة إلى الأمانة المالية والمادية ، ولكنّ الآية الشريفة وبعض الروايات التي تشير إلى عرض الأمانة على السموات والأرض لا تقصد الأمانة المادية والمالية قطعاً بل تمتد أبعد من ذلك وتنظر إلى الأمانات المعنوية.

ونقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عند ما يحين وقت الصلاة فإنّ حاله يتغيّر وعند ما سئل عن ذلك قال : «جَاءَ وَقتُ الصَّلاةِ ، وَقتُ أَمانَة عَرضَها اللهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ مِنها» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إِنَّ اللهَ تَباركَ وَتَعالى خَلَقَ الأَرواحَ قَبَلَ الأَجسَادِ بِأَلفَي عامٍ فَجَعَلَ أَعلاها وَأَشرَفَها أَرواحَ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وَفاطِمَةَ وَالحَسنِ والحُسَينِ وَالأَئِمَةُ بَعدَهُم صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِم فَعَرضَها عَلى السَّمواتِ والأرضِ وَالجِبالِ ...

__________________

١ ـ نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣١٣.

١٥٧

إلى أن يقول : فولايَتُهُم أَمانَةٌ عِندَ خَلقِي» (١).

ويستفاد من أحاديث اخرى أنّ مفهوم خلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) أيضاً مصداق مهم من مصاديق الأمانة.

وكذلك الصلاة والزكاة والحج هي أمانات وودائع إلهيّة. (٣)

وكذلك الزوجة أيضاً أمانة إلهيّة (٤).

ونقرأ في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الأشعث بن قيس ، يقول له : «وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمانَةً» (٥).

وكذلك نقرأ في الحديث النبوي الشريف الذي ذكرنا فيما سبق أنّ «المَجالِس بِالأمانَةِ» (٦) ، لأنّ في المجالس الخصوصية تذكر أسرار تخص المجلس.

وحتى ورد في بعض الروايات أنّ غسل الجنابة (بعنوان أنّه تكليف إلهي) هو أمانة إلهية لدى المسلم (٧).

وعلى أي حال فإنّ الأمانة والخيانة لا تختصان بعمل معيّن ومصداق خاص ومحدود ، لأنّ النتائج المترتبة على هاتين الصفتين لا تتحدد بالامانة والخيانة المالية.

معطيات الخيانة والأمانة :

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة الناس ، ونعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبتنيّة على أساس التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع لحل المشاكل والتخفيف من تحدّيات الواقع والظروف القاهرة والاستفادة الأفضل من

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٢٦ ، ص ٣٢٠.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٩٩ ، ١٧٥.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٢٧٤.

٤ ـ المصدر السابق ، ج ٢١ ، ص ٣٨١.

٥ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥.

٦ ـ المحجة البيضاء ، ج ٣ ، ص ٣٢٧. ٠

٧ ـ بحار الانوار ، ج ١٠ ، ص ١٨١.

١٥٨

مواهب الحياة والطبيعة ، ولهذا فإنّ مسألة الثقة والاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي لأنّه لو لا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى جهنّم لا يطاق ، ويتعامل الأفراد بينهم من موقع التوحّش والأنانية ، ويسود قانون الغاب في مثل هذا المجتمع ، وبدلاً من أن تتكاتف القوى والطاقات على مستوى بناء المجتمع والتصدي لتحدّيات الظروف القاهرة فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك بالجهة المقابلة لتعميق التوحّش والتنفّر في المجتمع.

وبعبارة اخرى : إنّ المجتمع البشري سيفقد كل شيء بدون وجود حالة الاعتماد المتقابل بالرغم من توفّر كافة الأمانات والمواهب الطبيعية الاخرى ، وبعكس ذلك إنّ المجتمع الذي تتوفّر فيه حالة الاعتماد المتقابل سيحصل على كل شيء بالرغم من فقدانه للإمكانات والموارد الطبيعية.

وهذا الاعتماد الاجتماعي يرتكز على ركنين :

١ ـ الأمانة.

٢ ـ الصدق.

وما ورد في الروايات المذكورة آنفاً أنّ الأمانة تورث الغنى وعدم الحاجة والخيانة تورث الفقر فإنّ ذلك إنّما يشير إلى هذا الدليل.

وأمّا ما ورد في الروايات الشريفة أنّ جميع الأنبياء الإلهيين جعلوا من الأمانة وصدق الحديث محوراً لتعليماتهم فهو أيضاً ناظر إلى هذا المعنى.

ويذكر الكليني في (الكافي) قصّة جميلة في هذا الصدد ويقول : عن الحسين بن محمد ، عن محمد بن أحمد النهدي ، عن كثير بن يونس ، عن عبد الرحمن بن سيّابة قال : لما هلك أبي سيّابة ، جاء رجل من إخوانه إليَّ فضرب الباب عليَّ ، فخرجت إليه فعزّاني ، وقال لي : هل ترك أبوك شيئاً فقلت له : لا ، فدفع إليَّ كيساً فيه ألف درهم وقال لي : أحسن حفظها وكُلْ فضلها ، فدخلت إلى امّي وأنا فرح ، فأخبرتها ، فلمّا كان بالعشيّ ، أتيت صديقاً كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري ، وجلت في حانوت فرزق الله جلّ وعزّ فيها خيراً كثيراً ، وحضر

١٥٩

الحج ، فوقع في قلبي ، فجئت إلى امّي وقلت لها : إنّه قد وقع في قلبي أن أخرج إلى مكّة؟

فقالت لي : فردّ دارهم فلان عليه فهاتها ، وجئت بها إليه فدفعتها إليه فكأني وهبتها له ، فقال : لعلّك استقللتها فأزيدك؟

قلت : لا ، ولكن قد وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك ، ثم خرجت فقضيت نسكي ، ثمّ رجعت إلى المدينة فدخلت مع الناس على أبي عبد الله عليه‌السلام ـ وكان يأذن إذناً عاماً ـ فجلست في مواخير الناس وكنت حدثاً ، فأخذ الناس يسألونه ويجيبهم ، فلما خفّ الناس عنه ، أشار إليَّ فدنوت إليه ، فقال لي : ألك حاجة؟ فقلت : جُعلتُ فداك أنا عبد الرحمن بن سيّابة ، فقال لي : ما فعل أبوك؟ قلت : هلك ، قال : فتوجّع وترحّم ، ثم قال : قال لي : أفترك شيئاً قلت : لا ، قال : فمن أين حججت؟ قال : فابتدأت وحدثته بقصّة الرجل ، قال فما تركني أفرغ منها حتّى قال لي : فما فعلت في الألف؟ قال : قلت : رددتها على صاحبها ، قال : فقال لي : قد أحسنت ، قال لي : ألا اوصيك؟ قلت : بلى جُعلت فداك.

قال عليه‌السلام : «عَلَيكَ بِصدقِ الحَديثِ ، وَأَداءِ الأمانَةِ تُشرك النّاسَ فِي أَموالِهِم هكذا ـ وجمع بين أصابعه ـ» ، فحفظت ذلك عنه ، فزكيّت ثلاثمائة ألف درهم (١).

ونحن أيضاً رأينا في حياتنا أشخاصاً مثل هؤلاء الأشخاص فقد كان هناك تاجر متدّين في النجف الأشرف يعرفه الكثير من المعاصرين أيضاً وبسبب إشتهاره بالأمانة فإنّ الناس كانوا يودعون عنده أموالهم وودائعهم مطمئنون إلى حد أنّ الكثير من العلماء والفضلاء وطلّاب العلوم الدينية كانوا يسجّلون سندات بيوتهم بإسمه لأنّه كان يمتلك الجنسية العراقية ولعلّه كان عند وفاته قد بلغ عدد البيوت المسجّلة باسمه ما يربو على الخمسمائة بيت لهؤلاء العلماء والطلّاب ولم يواجه أي واحد منهم مشكلة في هذا المورد.

ومن جهة اخرى عند ما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكرية والروحية ، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة فإنّ ذلك يسبب القلق والخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الإرتباك في علاقاتهم مع الآخرين ومن الخطر

__________________

١ ـ فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ١٣٤ (مع التلخيص).

١٦٠