الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

كسب محبّة الآخرين وتعاطفهم مع صاحب هذا الخلق ، وهذه المسألة ثابتة بالتجربة للجميع تقريباً وأنّه يمكن اصطياد قلوب الناس من خلال التعامل معهم من موقع المحبّة وحسن الخلق ورعاية الأدب وليس فقط أنّ الأشخاص العاديين ينجذبون إلى حسن الخلق بل أهل النظر والمعرفة والعلم كذلك.

ومن النتائج الاخرى أنّ حسن الخلق والبشاشة تعمّر الديار وتطيل العمر ، لأنّ خراب الديار معلول للتضارب والنزاع وحالات الصراع بين الأفراد ، فإذا أخلى النزاع والصراع الاجتماعي مكانه لحسن الخلق والتعامل باللطف والمحبّة بين الأفراد ، فإنّ ذلك كفيل بتعميق أواصر الاخوة وتعميق عنصر التعاون بين الأفراد والذي يعتبر محور الخير وعامل مهم من عوامل البناء ، مضافاً إلى ذلك فإنّ حسن الخلق يورث الإنسان الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي الذي يعتبر من النتائج المباشرة للتعامل الأخلاقي الحسن مع الناس وعاملاً مهمّاً من عوامل طول العمر ، لأنّ من الثابت علميّاً هو أنّ من العوامل المهمّة لسرعة الموت وكثرته هو عنصر القلق والاضطراب الروحي الذي يعيشه الإنسان في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة وبالتالي تكون منشأ لكثير من الأمراض المختلفة ، ومن المسلّم أنّ حسن الخلق والتعامل باللّطف والمحبّة مع الناس يقللّ من شدّة الضغط العصبي والقلق النفسي وبالتالي يسبب طول العمر ، والشيء الآخر أنّ حسن الخلق يسبّب زيادة الرزق وكثرة العوائد المادية والموفقيّة في الكسب والتجارة ، لأنّ التاجر والكاسب أو الطبيب لا يكون موفّقاً في عمله إلّا بكسب المراجعين والمشترين ، وأحد عوامل كسب الثقة والاطمئنان بالشخص هو حسن خلقه وأدبه مع الطرف الآخر ، فالكثير من الأشخاص يفضّلون شراء البضاعة وما يحتاجونه من السوق من امور المعاش من الكاسب الحسن الاخلاق والمعاملة مع المشتري ويرجّحونه على الشخص العبوس والحاد المزاج ، ولهذا السبب فإنّ المؤسسات والشركات الاقتصادية الكبيرة تسعى إلى تعليم موظفيها على كيفية التعامل مع الزبائن بالصورة المطلوبة ، ومن خلال ذلك يتحرّكون في كسب ثقة الزبائن بمؤسساته التجارية وشركاته الصناعية.

١٢١

وقد رأينا كثيراً في الرحلات الجوية أنّ بعض الشركات تقدّم لزبائنها ومسافريها بعض لعب الأطفال وقطع الحلوى مجّاناً لأطفالهم المسافرين معهم ، ولعلّ قيمة هذه اللّعب ليست بكثيرة ولكنّها ذات أثر عميق في نفسيّة الأفراد وهذه الطريقة من التعامل مع الزبائن تورث في أنفسهم حسن الظن والثقة للطرف الآخر.

وطبعاً فالإسلام يؤيّد حسن الخلق من موقع الصفاء الذاتي والتعامل الإنساني لا كما هو السائد من الرياء والتظاهر في العالم المادي المعاصر ، ولكن في نفس الوقت فانّه يعتبر أنّ حسن الخلق له آثار مادية ودنيوية كثيرة تمثّل في زيادة النعمة والبركة في حركة الحياة والواقع المادي.

وبالنسبة إلى البعد المعنوي فإنّ الثواب المترتّب على حسن الخلق يعادل ثواب المجاهدين في سبيل الله ، ودليل ذلك واضح لأنّ المجاهد يسعى لنشر راية الإسلام ويتحرّك في هذا السبيل لأعلاء كلمة الله ، وصاحب الخلق الحسن أيضاً يتسبب في تعميق الثقة والانفتاح على الإسلاك في قلوب الناس ، وقد ورد في الروايات الشريفة أيضاً أنّ أجر صاحب الخلق الحسن مثل أجر الصائم القائم ، لأنّ الصائم القائم يتحرّك في هذا السلوك العبادي من موقع تهذيب النفس وتصفيتها ، فكذلك الأشخاص الذين يتعاملون في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب من موقع غلبة الأهواء وحفظ النفس في اطار الضوابط الأخلاقية والشرعية في سبيل الله تعالى.

والخلاصة أنّ صاحب الخلق الحسن يكون محبوباً عند الله تعالى وعند الخلق كذلك ، ويكون موفقاً في حياته الشخصية والفرديّة وكذلك موفّقاً في حياته الاجتماعية.

ومن المعلوم أنّ حسن الخلق يعدّ أحد أركان عناصر الإدارة ولو أنّ عشرات من الشروط المتوفّرة في المدير المدبّر من دون عنصر حسن الخلق لما تسنىَ لهذا المدير أن يكون موفّقاً في عمله وتدبيره في حين أنّه لو كان حسن الخلق فانّ هذه الصفة بإمكانها العمل على ستر الكثير من نقاط الضعف أو جبرانها.

١٢٢

منابع حسن الخلق :

إنّ بعض الناس يتمعتون بحسن الخلق بشكل طبيعي ، وهذا يعدّ من المواهب الإلهية للإنسان التي لا تكاد تكون من نصيب كل شخص ، وعلى هذا الإنسان أن يشكر الله تعالى بجميع وجوده على هذه الموهبة العظيمة.

ولكن الكثير من الناس ليسوا كذلك ، فعليهم أن يقوموا بتعميق وتوكيد حسن الخلق في نفوسهم من خلال التمرين والممارسة على أرض الواقع العملي بحيث يكتسبوا طبيعة ثانية لهم ويكون حسن الخلق نافذاً وراسخاً في وجودهم وواقعهم النفسي ، وأفضل طريق إلى نيل هذه الصفة الأخلاقية والمرتبة الكمالية هو أن يتفكّر الإنسان في الآثار المعنوية والمادية لهذه الصفة الأخلاقية ويطالع الروايات الشريفة المذكورة سابقاً في هذا الباب ويتأمل فيها ويقوم بتكرارها بين الحين والآخر لتترسخ مضامينها في أعماق نفسه.

ومن جهة اخرى يجب أن يتحرّك الإنسان على المستوى العملي لتطبيق وترجمة هذه الصفة في سلوكه الخارجي ، لأنّ الفضائل الأخلاقية كالقابليات البدنية تقوى وتشتد بالتمرين والتكرار كما نرى في الرياضين أنّهم بعد مدّة من التمرين يتمتعون بأبدان قوية وجميلة فكذلك الرياضة الأخلاقية بإمكانها أن تقوّي روح الإنسان.

ويقول علماء الأخلاق في صدد تربية الأفراد البخلاء على صفة الكرم أنّ الإنسان البخيل يجب أن يضغط على ميوله النفسي وحرصه على الأموال ، ويتحرّك على مستوى بذل المال للآخرين في البداية ، ورغم أنّ هذا العمل يكون عسيراً في البداية إلّا أنّه تدريجياً يصبح ميسوراً وبالتالي يعتاد الإنسان على حاله البذل والكرم بحيث أنّه لو لم يبذل من أمواله يوماً لوجد في نفسه امتعاضاً.

وكذلك يوصي علماء الأخلاق الشخص الجبان بأن يحضر إلى ميادين القتال والمواجهة مع العدو حتى تزول عنه حالة الخوف والجبن بالتدريج ويحل محلّها صفة الشجاعة والجرأة والإقدام.

وهكذا بالنسبة لأصحاب الخلق السيء ، فإنّهم من خلال التمرين والممارسة المستمرة

١٢٣

لموارد ومصاديق حسن الخلق فإنّهم سيتمكّنون في المستقبل من توفير رأس مال كبير من هذه الصفة الإنسانية وينتفعون من بركاتها ونتائجها الإيجابية في حياتهم النفسية والاجتماعية.

ومضافاً إلى كل ذلك ونظراً إلى أنّ أحد عوامل سوء الخلق هو التكبّر والغرور وكذلك الحدّة والغضب وروح الانتقام وأحياناً يكون بسبب الحرص والبخل والحسد ، فلو أنّ الإنسان أراد أن يكون حسن الخلق في جميع موارد الحياة الفردية والاجتماعية لوجب عليه أن يدفع ويزيل هذه الصفات والحالات السلبية عن واقعه النفسي.

عليه أن يراعي حدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة والشهوية وأن تكون له سعة الافق وشرح الصدر ليتمكّن بذلك من تطهير قلبه وروحه من الأنانية والحسد والبخل وبالتالي يورثه ذلك حسن الأخلاق ويكون في أمان من سوء الخلق مع الناس.

وعليه فإنّ تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة تتطلب وجود وتوّفر مجموعة من الصفات الحسنة في واقع الإنسان النفسي حيث إنّه بدونها لا يكون حسن الخلق في سلوكه الأخلاقي.

ويقول (الغزالي) في هذا الصدد : كما أنّ صاحب الوجه الحسن لا يكون كذلك بجمال العين فقط بل لا بدّ أن يضم إليه جمال الأنف والفم وجميع أعضاء الوجه ، ليكون جميلاً وكاملاً في مجال الجمال البدني والمادي ، فكذلك حال الجمال الباطني والمعنوي فما لم يصل الإنسان إلى حد الاعتدال في قواه الأربعة ... العلم والغضب والشهوة والعدالة ، فإنّه لا يصل إلى مقام الجمال الباطني.

ولا شك أنّ عامل (الوراثة) يوثّر في سلوك الإنسان الأخلاقي حيث يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «حُسنُ الخُلقِ بُرهانُ كَرمِ الأعراقِ» (١).

ويقول عليه‌السلام في مكان آخر : «أطهَرُ النّاسِ أَعراقَاً أَحسَنُهُم أَخلاقاً» (٢).

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٤٨٥٥.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٣٠٣٢.

١٢٤

وهناك ملاحظة ينبغي الالتفات إليها في البحوث الأخلاقية وهي ، أنّ الفضائل الأخلاقية لا يمكن إكتسابها وتحصيلها من دون التوفيق الإلهي والامداد الربّاني ، فيجب الاستمداد من الله تعالى في سبيل تحصيل هذه الملكات الأخلاقية الفاضلة وغرسها وتنميتها في واقع الإنسان وروحه.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الأخلاقُ مَنائِحُ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإذا أَحَبَّ عَبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حَسَناً وَإِذا أَبغَضَ عَبدَاً مَنَحَهُ خُلقاً سَيِّئاً» (١).

سيرة الأولياء :

ومن أفضل الطرق لكسب فضيلة حسن الخلق وملاحظة نتائجها الإيجابية على واقع الإنسان هو التحقيق في سيرة الأولياء العظام.

١ ـ نقرأ في حديث عن الإمام الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله دَائِمُ البُشر ، سَهلُ الخُلق ، لَينُ الجَانبِ ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غلِيظٍ ولا سَخّابٍ ، ولا فَحّاشٍ ، ولا عيّابٍ ، ولا مَدّاحٍ ، ولا يَتَغافَلُ عَمّا لا يَشتَهِي ، ولا يُؤيس مِنهُ ، قَد تَركَ نَفسَهُ مِنْ ثَلاث : كَانَ لا يَذُمُّ أَحداً ، ولا يُعيّرُه ، ولا يَطلُبُ عَورَتَهُ ، ولا يَتَكَلَّمُ إِلّا فَيما يَرجُو ثَوابَهُ ، إِذا تَكَلَّمَ أَرقَ جُلساؤُهُ كَأَنّما عَلى رُؤوسِهِم الطَّيرُ ، وإذا تَكَلَّمَ سَكَتُوا وإذا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لا يُسارِعُون عِندَهُ بِالحَديثِ ، مَن تَكَلَّمَ نَصتُوا لَهُ حَتّى يَفرَغَ حَدِيثُهُم عِندَهُ حَديث إِلَيهم ، يَضحَكُ ممّا يَضحَكُونَ مِنهُ ، وَيَتَعَجَّبُ ممّا يَتَعَجَّبُونَ مِنهُ ، يُصبِّرُ الغريبَ عَلى الجَفوةِ فِي المنطِقِ ، وَيَقُولُ : (إِذا رَأَيتُم صاحِبَ الحَاجَة يَطلُبُها فَأَرفِدُهُ) ، ولا يَقبَلُ الثَّناءَ إلّا مِنْ مُكافيء ، ولا يَقطَعُ عَلَى أَحدٍ حَدِيثَهُ حَتّى يَجُوزَهُ فَيَقطَعُهُ بِانتهاء أَو قِيام» (٢).

٢ ـ ونقرأ في حالات الإمام علي عليه‌السلام في الرواية المعروفة أنّ الإمام كان قاصداً الكوفة فصاحب رجلاً ذميّاً فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد الله ، قال : اريد الكوفة ، فلما عدل الطريق

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٩٤ ، ح ٦٤.

٢ ـ جلالء الأفهام ، لابن قيم الجوزي ، ص ٩٢.

١٢٥

بالذمّي عدل معه علي عليه‌السلام ، فقال له الذمي : أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال : بلى.

فقال له الذمي : فقد تركت الطريق ، فقال عليه‌السلام : قد علمت ، فقال له : فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له علي عليه‌السلام : «هذا مِن تمام الصُّحبةِ أَن يُشيِّعَ الرّجلُ صاحِبهُ هُنيئةً إذا فارَقَهُ وَكَذلِكَ أَمرنا نَبيِّنُا».

فقال له الذمي : هكذا أمركم نبيّكم؟ فقال : نعم ، فقال له الذمّي : لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ، وأنا أشهد على دينك ، فرجع الذمّي مع الإمام علي عليه‌السلام ، فلما عرفه أسلم» (١).

٣ ـ وفي حديث آخر في تفسير الإمام الحسن العسكري أنّه قال : حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء وقد بعثتني إليكِ فأجابتها فاطمة عليها‌السلام عن ذلك فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى عشرة فأجابت ثم خجلت في الكثرة فقالت : لا أشق عليك يا ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالت فاطمة : هاتي وسلي عمّا بدا لك ، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت : لا ، فقالت : اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملأ ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليَّ ، سمعت أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله ..» (٢).

وهذا الصبر العجيب والتعامل المليء بالمحبّة واللطف وهذا التشبيه الجميل الباعث على إزالة الحياء من السائل من كثرة سؤاله كل واحدة منها مثال جميل على حسن خلق الأولياء العظام حيث ينبغي أن يكون درساً بليغاً وعبرة نافعة في طريق إرشاد الناس إلى سلوك مثل هذه الممارسات الأخلاقية.

٤ ـ وممّا ورد عن حلم الإمام الحسن عليه‌السلام أنّ شامياً رآه راكباً (في بعض أزقة المدينة)

__________________

١ ـ سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٩٢ الطبعة الحديثة.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٢ ، ص ٣.

١٢٦

فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه‌السلام فسلّم عليه وضحك فقال :

«أيُّها الشّيخ أَظُنُّك غَريباً ، وَلَعلَّك شُبّهت ، فَلَو استَعتَبتَنا أَعتَبناكَ ، وَلَو سَأَلتَنا أَعطَيناكَ ، وَلَو استَرشَدتَنا أَرشدناك ، وَلَو استَحمَلتَنا أَحملناكَ ، وإن كُنتَ جائِعاً أَشبَعنَاك ، وَإِن كُنتَ عُرياناً كَسوناك ، وإِن كُنتَ مُحتاجاً أَغنَيناكَ ، وإِن كُنتَ طِريداً آويناكَ ، وإن كانَ لَكَ حاجَةً قَضيناها لَكَ ، فَلَو حَركتَ رَحلَكَ إِلينا وَكُنتَ ضَيفَنا إِلى وَقتِ إرتحالِك كانَ أَعود عَلَيكَ ، لأنَّ لَنا مَوضِعاً رَحِباً وَجاهاً عَريضاً وَمالاً كَثَيراً».

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ، ثم قال أَشهدُ أَنّك خَليفة الله في أرضه ، اللهُ أَعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتهُ وكنتَ أَنت وأبوك أبغضُ خلق الله إليَّ ، والآن أَنت وأبُوكَ أحبُّ خلق اللهِ إليَّ ، وَحوّل رحله إليه ، وكان ضيفه إلى أن ارتحل ، وصار معتقداً لمحبتهم (١).

٥ ـ وجاء في كتاب «تحف العقول» : أنّ رجلاً من الأنصار جاء إلى الإمام الحسين عليه‌السلام يريد أن يسأله حاجة ، فقال عليه‌السلام : «يا أخا الأنصار صُن وجَهك عَن بَذلِ المسألةِ وارفع حاجتَك فِي رقعةٍ فإنّي آت فِيها ما ساركَ إن شاء الله» ، فكتب الأنصاري : يا أبا عبد الله إنّ لفلان عليَّ خمسمائة دينار وقد الجّ بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة ، فلما قرأ الإمام الحسين عليه‌السلام الرقعة ، دخل إلى منزله فأخرج صرّة فيها ألف دينار وقال عليه‌السلام له : «أَما خمسمائة فاقض بِها دينك وأمّا خمسمائة فاستعن بِها على دَهرِكَ ولا تَرفع حاجتَكَ إلّا إِلى أحد ثلاث : إِلى ذِي دين ، أَو مروّة ، أو حسب ، فأمّا ذو الدين فَيصُون دِينُهُ ، وأَمّا ذو المُروة فإنّه يستحي لمروّته ، أَمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهكَ أن تَبذلُه فِي حاجتِكَ فَهو يَصون وَجهكَ أن يردَك بِغير قضاءِ حاجتِك» (٢).

٦ ـ ونقرأ في حالات الإمام زين العابدين أنّه وقف على علي بن الحسين عليه‌السلام رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه ، فلما انصرف قال لجلسائه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا احب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردي عليه.

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٤٣ ، ص ٣٤٤.

٢ ـ تحف العقول ، ص ١٧٨.

١٢٧

فقالوا له : نفعل ولقد كنّا نحبّ أن تقوله له ونقول ، قال : فأخذ نعليه ومشى وهو يقول : (... وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١).

فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً قال : فخرج إلينا متوثباً للشر وهو لا يشك أنّه إنّما جاءه مكافياً له على بعض ما كان منه فقال له علي بن الحسين عليه‌السلام : «يا أَخي إنَّكَ كُنتَ قَد وَقفتَ عليَّ آنفاً قُلتَ وَقُلتَ فإن كُنتَ قَد قُلتَ ما فيَّ فأنا استغفرُ اللهَ مِنهُ وإن كُنتَ قُلتَ ما لَيس فيَّ فَغفرَ اللهُ لَكَ».

قال (الراوي) فقبل الرجل بين عينيه وقال : بلى قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به.

قال الراوي الحديث : والرجل هو الحسن بن الحسن عليه‌السلام (٢).

٧ ـ ونقرأ في حالات الإمام الباقر : عن محمد بن سليمان عن أبيه قال : كان رجل من أهل الشام يختلف على أبي جعفر عليه‌السلام (الإمام الباقر) وكان مركزه بالمدينة يختلف إلى مجلس أبي جعفر يقول له : يا محمد ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منك ولا أقول أنّ أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت ، وأعلم أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.

وكان أبو جعفر عليه‌السلام يقول له خيراً ويقول : لن تخفى على الله خافية فلم يلبث الشامي إلّا قليلاً حتى مرض واشتدّ وجعه ، فلمّا ثقل دعا وليّه وقال له : إذا أنت مددت عليَّ الثوب فأت محمد بن علي عليه‌السلام وسله أن يصلّي عليَّ واعلمه إنّي أنا الذي أمرتك بذلك.

قال : فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد وسجّوه ، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليّه إلى المسجد ، فلمّا أن صلّى محمد بن علي عليه‌السلام وتورّك وكان إذا صلّى عقب في مجلسه ، قال له : يا أبا جعفر إنّ فلان الشامي قد هلك وهو يسألك أن تصلي عليه.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : كلّا إنّ بلاد الشام بلاد صرد والحجاز بلاد حر لهبها شديد انطلق فلا

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٣٤.

٢ ـ منتهى الآمال ،

١٢٨

تعجلنّ على صاحبك حتى آتيكم ثم قام عليه‌السلام من مجلسه فأخذ وضوءاً ثم عاد فصلّى ركعتين ثم مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس ثم نهض فانتهى إلى منزل الشامي ، فدخل عليه فدعاه فأجابه ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله : املؤوا جوفه وبرّدوا صدره بالطعام البارد. ثمّ انصرف عليه‌السلام ، فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشامي فأتى أبا جعفر عليه‌السلام فقال : اخلني فأخلاه ، فقال : أشهد أنّك حجّة الله على خلقه وبابه الذي يؤتى منه فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً.

قال له أبو جعفر عليه‌السلام : وما بدا لك؟

قال : أشهد أنّي عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلّا ومناد ينادي اسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنائم ردّوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «أَما عَلِمتَ أَنّ اللهَ يُحبُّ العَبدَ ويُبغِضُ عَمَلهُ ويُبغض العبد ويحبّ علمه؟» ، (أي كما أنّك كنت مبغوضاً لدى الله لكنّ عملك وهو حبّنا مطلوباً عنده تعالى).

قال الراوي : فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام (١).

٨ ـ ورد في الحديث المعروف في حالات الإمام الصادق المذكور في مقدمة (توحيد المفضل) أنّ المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة وبين القبر والمنبر وأنا مفكّر فيما خصّ الله به سيّدنا محمداً من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرّفه به وحباه لا يعرفه الجمهور من الامّة ، وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته وخطر مرتبته ، فإنّي لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه ، فلمّا استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلّم ابن أبي العوجاء؟ فقال : لقد بلغ صاحب هذا القبر العزّ بكماله ، وحاز الشرف بجميع خصاله ، ونال الحظوة في كل أحواله ، فقال له صاحبه : إنّه كان فيلسوفاً إدّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى ، وأتى على ذلك بهجرات بهرت العقول ، وضلّت فيها الأحلام ، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسير ، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء

__________________

١ ـ منتهى الآمال ، ص ٦٣ (بتلخيص).

١٢٩

دخل الناس في دينه أفواجاً فقرن اسمه باسم ناموسه ، فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان ...

فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد ، فقد تحيّر فيه عقلي ، وضلّ في أمره فكري ، وحدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به ، ثمّ ذكر ابتداء الأشياء وزعم أنّ ذلك باهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ، ولا صانع له ولا مدبّر ، بل الأشياء تتكوّن من ذاتها بلا مدبّر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال.

قال المفضّل : فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً ، فقلت : يا عدوّ الله ألحدت في دين الله ، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم ، وصوّرك في أتمّ صورة ، ونقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت.

فقال ابن أبي العوجاء : يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك ، فإن ثبت لك حجّة تبعناك ، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد (الصادق) ، فما هكذا يخاطبنا ، ولا بمثل دليلك يجادلنا ، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت ، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه للحلوم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق ، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستعرف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أن قد قطعناه أدحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة ، ويقطع العذر ، ولا نستطيع لجوابه ردّاً ، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه (١).

٩ ـ ونقرأ في حالات الإمام موسى بن جعفر أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً عليه‌السلام قال : وكان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم أشدّ الزجر وسأل عن العمري فذكر له أنّه يزرع بناحية من نواحى المدينة ، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فوطئه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده وضاحكه وقال له : كم غرمت في زرعك هذا قال له : مائة دينار قال : فكم ترجو أن يصيب ، قال له : أنا لا أعلم الغيب ، قال : إنّما

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ٥٧ و ٥٨ (مع التلخيص).

١٣٠

قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه قال : أرجو أن يجيئني مائتا دينار ، قال : فأعطاه ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك على حاله ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وانصرف.

قال الراوي : فراح المسجد فوجد العمري جالساً فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ، قال : فوثب أصحابه فقالوا له : ما قصتّك؟ قد كنت تقول خلاف هذا ، قال : فخاصمهم وشاتمهم ، قال : وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلّما دخل وخرج ، قال فقال أبو الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري : «أيما كان خير ما أردتم أو ما أردت أصلح أمره بهذا المقدار» (١).

١٠ ـ وهكذا ورد في سيرة الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وكيفية تعامله مع الناس من موقع المحبّة واللطف ، نقل عن اليسع بن حمزة ، قال : كنت في مجلس أبي الحسن الرضا عليه‌السلام احدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طوال آدم فقال : السلام عليك يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من محبيك ومحبّي آبائك وأجدادك مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة ، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليَّ نعمة ، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.

فقال له الإمام عليه‌السلام : اجلس يرحمك الله ، واقبل على الناس يحدثهم حتّى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : أتأذنون لي في الدخول؟

فقال له سليمان : قدم الله أمرك ، فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال اين الخراساني؟ فقال : ها أنا ذا.

فقال عليه‌السلام : خذ هذه المأتي دينار فاستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عنّي واخرج فلا أراك ولا تراني ، ثم خرج ، فقال سليمان الجعفري : جعلت فداك لقد اجزلت ورحمت فلما ذا استرت وجهك عنه؟

فقال عليه‌السلام : مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته ، أما سمعت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «المُستَترُ بِالحسنَةِ تَعدِلُ سَبعِينَ حِجَّةً ، وَالمُذِيعُ بِالسيئَةِ مَخذُولٍ ، وَالمُستَترُ

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ، ج ٢ ، ص ٧.

١٣١

بِها مَغفُورٌ لَهُ» ، أَما سمعت قول الأول :

متى آته يوماً اطالب حاجة

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه (١).

١١ ـ ونقرأ في حالات الإمام الجواد عليه‌السلام ، عن علي بن جرير قال : كنت عند أبي جعفر ابن الرضا عليهما‌السلام جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون : أنتم سرقتم الشاة ، فقال أبو جعفر الإمام الجواد عليه‌السلام : ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم الشاة في دار فلان ، فاذهبوا فأخرجوها من داره ، فخرجوا فوجدوها في داره ، وأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه ، وهو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا إلى أبي جعفر عليه‌السلام فقال : ويحكم ظلمتم الرجل فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها ، فدعاه فوهب شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه (٢).

١٢ ـ وكذلك ورد في سيرة الإمام الهادي عليه‌السلام عن أبي هاشم الجعفري قال : أصابني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (الإمام الهادي عليه‌السلام) فأذن لي فلمّا جلست قال : يا أبا هاشم أي نعم الله عزوجل عَلَيكَ تُريدُ أَن تُؤدّي شُكرَها؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدري ما أقول له.

فأبتدأ عليه‌السلام فقال : «رَزقَك الإيمانَ فَحرَّمَ بَدَنَك عَلى النّارِ ، وَرَزَقَكَ العافِيةَ فَأعانَتكَ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَرَزَقَكَ القنُوعَ فَصانَكَ عَن التَّبَذُّلِ ، يا أبا هاشم إِنَّما ابتدأتُكَ بِهذا لأَنّي ظننتُ تُريدُ أن تَشكُو لِي مَن فَعَلَ بِكَ هذا ، وَقَد أَمرتُ لَكَ بِمائةِ دينار فَخُذها» (٣).

١٣ ـ وأورد (الكليني) في الجزء الأول من اصول الكافي ـ حول الإمام العسكري عليه‌السلام ـ أنّه قال : «حُبِس أبو مَحمّد (الإمام العسكري) عِندَ عَلي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدّهم عَلى آل أبي طالب وَقِيلَ لَهُ : افعل به وافعل ـ يعني مِن السوء وَالاذى ـ فما أقام ـ الإمام ـ عِندَهُ إلّا يَوماً حَتّى وَضَعَ خديَّه لَه ، وَكانَ لا يَرفَع بَصره إليهِ إجلالاً وإعظاماً فَخرجَ

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٤ ، ص ٢٣ ، ح ٣ مع قليل من التلخيص.

(٢) بحار الانوار ، ج ٥٠ ، ص ٤٧.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٢٩.

١٣٢

مِن عِندِهِ وهو أحسنَ النّاسَ بَصيرة وَأحَسنهم فِيهِ قَولاً» (١).

١٤ ـ وجاء في الروايات عن الإمام المهدي أرواحنا فداه وحسن خلقه وعنايته بالأشخاص الذين يتشرفون بلقائه روايات وقصص كثيرة ، منها ما ذكره المرحوم (المحدّث النوري) في كتابه (جنّة المأوى) عن أحد علماء النجف الأشرف أنّه قال : كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمد حسن السريرة ، وكان في سلك أهل العلم ذا نية صادقة ، وكان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم ، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج لا يملك قوت يومه ، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في اطراف النجف الأشرف ليحصل له قوت ولو شعير وما يتيسر ذلك ، وكان يكفيه مع شدّة رجائه وكان مع ذلك قد تعلق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف ، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده ، وكان في هم وغم شديد من جهة ابتلائه بذلك ، فلما اشتدّ به الفقر والمرض وأيس من تزوج البنت عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء ، فلا بدّ أن يرى صاحب الأمر عجّل الله فرجه من حيث لا يعلم ويقضي له مراده ، فواظب على ذلك أربعين ليلة أربعاء ، فلما كان الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة وقد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر وأنا جالس في الدكة التي هي داخل باب المسجد وكانت الدكة الشرقية المقابلة للباب الأول تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد ولا أتمكن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شيء اتقي فيه عن البرد وقد ضاق صدري واشتد عليَّ همّي وغمّي وضاقت الدنيا في عيني وافكر أن الليالي قد انقضت وهذه آخرها وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء وقد تعبت هذا التعب العظيم وتحملت المشاق والخوف في أربعين ليلة أجيىء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة ويكون لي الاياس من ذلك ، فبينما أنا افكر في ذلك وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت النار لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف لا أتمكن في تركها لتعودي عليها وكانت قليلة جدّاً

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٥٠٨ ، ح ٨.

١٣٣

إذا بشخص من جهة الباب الأول متوجهاً إليَّ ، فلما نظرته من بعيد تكدرت وقلت في نفسي هذا اعرابي من أطراف المسجد قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة أبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم ويزيد عليَّ همّي وغمّي ، فبينما أنا افكر إذا به قد وصل إليَّ وسلّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي فتعجبت من معرفته باسمي وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف أسأله من أي العرب يكون؟ قال : من بعض العرب ، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف فيقول : لا لا وكلما ذكرت له طائفة قال : لا لست منها فاغضبني ، وقلت له : أجل أنت من طريطرة مستهزءاً هو لفظ بلا معنى ، فتبسّم عليه‌السلام من قولي ذلك وقال : لا عليك من اين كنت ما الذي جاء بك إلى هنا ، فقلت : وأنت ما عليك السؤال عن هذه الامور؟

فقال : ما ضرّك لو أخبرتني فاعجبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه فمال قلبي إليه وصار كلّما تكلم ازداد حبّي له فعملت له السبيل من التتن وأعطيته فقال : أنت اشرب فأنا لا أشرب وصببت في الفنجان قهوة وأعطيته فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه ثم ناولني الباقي وقال : أنت اشربه فأخذته وشربته ولم التفت إلى عدم شربه تمام الفنجان ، ولكن ازداد حبّي به آناً فآناً.

فقلت له : يا أخي قد ارسلك الله إليَّ في هذه الليلة تأتيني أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم عليه‌السلام ونتحدّث؟ فقال : أروح معك فحدّث حديثك.

فقلت له : أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة مذ شعرت على نفسي ومع ذلك معي سعال أتنخع الدم وأقذفه من صدري منذ سنين ولا أعرف علاجه وما عندي زوجة وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلتنا في النجف ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر أخذها.

وقد غرّني هؤلاء الملائية وقالوا لي : اقصد في حوائجك صاحب الزمان وبت أربعين ليلة أربعاء في مسجد الكوفة فانك تراه ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين وما رأيت فيها شيئاً وقد تحملت هذه المشاق فى هذه الليالي فهذا الذي جاءني هنا وهذه حوائجي.

١٣٤

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت : أمّا صدرك فقد برأ وأمّا الامرأة فتأخذها عن قريب ، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتى تموت وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.

فقلت : ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال : نعم فقمت وتوجّه أمامي فلّما وردنا أرض المسجد فقال : ألا تصلّي تحية المسجد ، فقلت : افعل فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد وأنا خلفه بفاصلة فاحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً مثلها أبداً ، فمن حسن قراءته قلت في نفسي لعله هذا هو صاحب الزمان وذكرت بعض كلمات له تدل على ذلك ثم نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك وهو في الصلاة وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته وقد ارتعدت فرائصي ولا استطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أي وجه كان وقد علا النور من وجه الأرض فصرت اندبه وأبكي واتضجر واعتذر من سوء أدبي معه بباب المسجد وقلت له : أنت صادق الوعد وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.

فبينما أنا اكلم النور وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم فتبعته فدخل النور الحضرة وصار في جو القبة ولم يزل على ذلك ولم ازل أندبه وأبكي حتى إذا طلع الفجر عرج النور.

فلّما كان الصباح التفت إلى قوله ، أمّا صدرك فقد برأ وإذا أنا صحيح الصدر وليس معي سعال أبداً ، وما مضى اسبوع إلّا وسهّل الله علي أخذ البنت من حيث لا أحتسب وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين (١).

وما ذكر أعلاه نماذج ونقاط مضيئة من سيرة الأئمّة والأولياء العظام وبما يكون بمثابة تجلّيات نورانية لسلوكهم الأخلاقي السامي وحسن تعاملهم مع الصديق والعدو ، وهذه النماذج القليلة تدل على مدى تأكيد هؤلاء العظام والقادة على هذه السجية وأهميّتها في حياة الإنسان المعنوية ، وما ورد في القرآن الكريم حكاية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من حسن الخلق العظيم نجده مترجماً في سلوكيات الأئمّة الكرام عليهم‌السلام في دائرة العمل والسلوك

__________________

١ ـ جنّة المأوى ، المطبوع بضميمة ج ٥٣ ، ص ٢٤٠.

١٣٥

الأخلاقي ، نعم فإنّ الدعوة إلى حسن الخلق لا تكون باللسان فقط ومن خلال التوصيات والإرشادات الكلامية ، بل إنّ الممارسة الأخلاقية والتحرّك الأخلاقي العملي يمثّل أسمى نداء أخلاقي وإرشاد تربوي في عملية التكامل المعنوي والحضاري للبشرية.

نتائج سوء الخلق :

النقطة المقابلة لحسن الخلق في واقع الإنسان وسلوكه الأخلاقي هي (سوء الخلق) حيث يمكن أن يفسّر على مستوى الخشونة والحدّة وسوء الكلام.

الأشخاص الذين يعيشون سوء الخلق مع الناس هم بمثابة بلاء عظيم على أنفسهم واسرتهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه.

إنّ سوء الخلق من أهم عوامل إيجاد الكراهية والتنفّر والتفرّق بين أفراد المجتمع ، والأشخاص الذين يعيشون الابتلاء بهذه الحالة السيئة ، فإنّهم غالباً ما يعيشون الانزواء في المجتمع حيث يبتعد الناس عنهم ويتجنّبون معاشرتهم ، وحتى لو اجبروا على معاشرتهم بسبب بعض الواجبات الاجتماعية أو بسبب مقامهم ومكانتهم الاجتماعية فإنّهم يشعرون بالنفور منهم في قلوبهم ويجدون في أنفسهم الرغبة في الابتعاد عنهم مهما أمكنهم ذلك.

وعند ما يتوفّر هذا الخلق السيء والمرض النفسي لدى علماء الدين ورجال المذهب ، فإنّ ذلك يمثّل خطراً كبيراً على الدين والمجتمع ويتسبب في سوء ظن الناس بأساس الدين وفرارهم من التعاليم والإرشادات الدينية وهذا بحدّ ذاته ذنب عظيم جدّاً لا يمكن جبرانه.

ولهذا السبب ورد في الروايات تعبيرات شديدة تتحدّث عن سوء الخلق وأحياناً نقرأ فيها كلمات مذهلة ومخيفة عن النتائج الوخيمة والآثار السلبية لهذا المرض الأخلاقي ، ومن ذلك نقرأ ما ورد في بعض هذه الروايات :

١ ـ جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إيّاكُم وَسُوءَ الخُلقِ فإَنَّ سُوءَ الخُلقِ فِي النَّارِ لا مَحَالَةَ» (١).

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٨٣.

١٣٦

٢ ـ وفي حديث آخر ـ عبرّ عنه بأنّه لا توبة لصاحب الخلق السيء ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أَبى اللهُ لِصاحِبِ الخُلقِ السَّيء بِالتَّوبَةِ»

قيل : وكيف يا رسول الله؟

قال : «لأنّهُ إذا تابَ مِنْ ذَنبٍ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ مِنَ الذَّنبِ الَّذِي تابَ مِنهُ» (١).

ويمكن أن يكون المقصود من هذا الحديث الشريف أنّ الشخص السيء الخلق عند ما يتوب في مورد من الموارد ويقلع عن بعض الممارسات الأخلاقية ، فإنّ ذلك من شأنه أن يوقعه فيما هو أسوأ من ذلك ، لأنّ جذور هذا المرض لا زالت موجودةً في أعماق نفسه ممّا يزيد في عقدته النفسيّة ، ولهذا السبب فإنّه لا يوفّق للتوبة الكاملة إلّا بالاقلاع عن هذه الرذيلة الأخلاقية واجتثاث جذور من واقعه النفسي وباطنه المعنوي.

٣ ـ وجاء عن الإمام علي عليه‌السلام في تقريره لحالة سوء الخلق أنّ : «أشَدُّ المَصائِبِ سُوءُ الخُلقِ» (٢).

وهل هناك مصيبة أعظم من أن يكون الإنسان منزوياً ومعزولاً في مجتمعه وبين أرحامه ومعارفه ويقطع الصلة بينه وبين الخلق والخالق على السواء.

٤ ـ ونقرأ في الرواية الواردة عن هذا الإمام العظيم أنّه قال : «لا وَحشَةَ أَوحَشُ مِنْ سُوء الخُلقِ» (٣).

ودليل ذلك واضح وهو أنّ الإنسان السيء الخلق يغرق في الوحدة الموحشة ويعيش وحيداً منقطعاً عن الآخرين ، ولهذا السبب ورد في حديث آخر أنّه قال : «لا عَيشَ لِسَّيِّىء الخُلقِ» (٤).

لأنّه يعيش دائماً حالة الضجر والتعب في نفسه ويودّي أيضاً إلى تعب المعاشرين له.

٦ ـ وشبيه هذه الرواية مع اختلاف يسير ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٩٩.

٢ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، ج ٢ ، ص ٣٧.

٣ ـ غرر الحكم.

٤ ـ المصدر السابق.

١٣٧

المؤمنين أيضاً أنّه قال : «لا سُؤدَدَ لِسَّيِّىءِ الخُلقِ» (١).

فالإنسان السيء الخلق لا يكون كبيراً في مجتمعه ودليل ذلك واضح أيضاً ، لأنّ من أول شروط تحصيل المكانة الاجتماعية والسيادة والعزّة لدى الأهل والعشيرة هو التعامل الأخلاقي الحسن مع الآخرين ومراعاة الأدب واللّيونة واللطافة ، فمن إفتقد رأس المال هذا فإنّه لا يصل إلى ذلك المقام.

٧ ـ وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً قوله : «المُؤمِنُ لَيِّنُ الأرِيكَةَ ، سَهلُ الخَلِيقَةَ ، والكَافِرُ شَرِسُ الخَلِيقَةَ سَيِّىءُ الطَّرِيقَةَ» (٢).

علاج سوء الخلق :

إنّ ما أوردنا في الروايات أعلاه وروايات اخرى كثيرة لم نذكرها حرصاً على الايجاز وعدم الأطالة هو شاهد على أنّ سوء الخلق يعتبر أحد أسوأ الصفات النفسية والأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي حيث يترتب عليها نتائج وخيمة في حركة الإنسان والمجتمع ويفضي إلى تدمير افق الحياة السعيدة ويبدّل عناصر الخير والسعادة في حياة الإنسان إلى الشر والشقاء.

وعلى هذا فإنّ الأشخاص الذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية يجب عليهم علاج أنفسهم بأسرع ما يمكن ، والاستفادة من كلمات ونصائح علماء الأخلاق في هذا المجال ومنها قولهم :

إنّ من يبتلى بهذه الصفة الرذيلة يجب عليه أن يفكّر ويتدبّر في عواقبها الوخيمة في كل يوم ويقرأ باستمرار الروايات التي تتحدّث عن آثارها السلبية في الدنيا والآخرة كما تقدمت الإشارة إليها ، ويشاهد ما يجري في حياة المبتلين بهذا المرض وكيف أنّ الناس تنفر منهم وتبتعد عنهم وبذلك يعيشون حالة الوحشة والصعوبة في مقابل تحدّيات الواقع فلا

__________________

١ ـ غرر الحكم.

٢ ـ المصدر السابق.

١٣٨

يشاركهم أو يواسيهم أحد من الناس فيما يصيبهم من بأساء وضرّاء في حركة الحياة ، والخلاصة أنّه يتّعظ من حياة هؤلاء الذين يعيشون العزلة على الله والخلق.

وما يجدر ذكره هو أنّه ينبغي لغرض قلع جذور الصفات الأخلاقية القبيحة من واقع الإنسان وروحه أن يتحرّك الإنسان على مستوى التمرّن وممارسة الرياضة المعنوية والاصرار في سلوك هذا الطريق وإن كان بواسطة التصنّع ليكون حسن الخلق له بصورة عادة وملكة ، وفيما إذا وجد في نفسه عناصر وعوامل نفسية تبعث على سوء الخلق فانّه يتحرّك فوراً لازالتها وتطهير نفسه منها وذلك من خلال ممارسة الصلاة والعبادة وزيارة المراقد المقدّسة أو يتحرّك من موقع الترفيه السليم والألعاب المسلّية المشروعة ليدرأ هذا المرض وهذه العوامل السلبية من كيانه وشخصيته.

وكذلك يتحرّك الإنسان في طريق تهديد نفسه من خلال التلقين ، وذلك بالايحاء إلى نفسه بأنّه صاحب خلق حسن ويتّصف بحسن التعامل والطيبة واللطف مع الآخرين ، فمن شأن هذا التلقين أن يؤثّر أثره بالتدريج فيغرس في قلبه نبتة حسن الخلق ويعمل على تقويتها وتعميقها وإزالة عناصر الشر وعوامل سوء الخلق من ذاته.

وأحياناً يتحقّق سوء الخلق في النفس بسبب الجوع والعطش أو بعض الأمراض البدنية حيث ينبغي على هذا الإنسان أن يعالج هذه المسألة من الأساس والجذور ويحاول الابتعاد عن الناس والتعامل معهم في هذه الحالة الاستثنائية مهما أمكن.

وأحياناً تنقل هذه الرذيلة الأخلاقية الإنسان من رفاقه وأصدقائه من الأراذل والأخلاء السيّىء الخلق ، فينبغي عليه أن يقطع أواصر الصداقة مع هؤلاء ويحاول الإرتباط من موقع الصداقة والمودّة مع من هم أهل لذلك ويعيشون الفضيلة وحسن الخلق مع الناس ، وهكذا فإنّ أسوأ الناس أخلاقاً إذا تحرّك في اصلاح نفسه في علاج مرضه الأخلاقي من خلال ممارسة هذه التعليمات المذكورة آنفاً وعزم على تحقيق هذه الملكات الأخلاقية في نفسه بإرادة قويّة وسعى لإصلاح نفسه بتصميم راسخ فإنّه سوف يحصل على النتائج المرجوّة حتماً.

١٣٩

المزاح :

لقد ورد في الروايات الإسلامية وكذلك كلمات علماء الأخلاق بحوث واسعة عن (المزاح) حيث يتوصّل الإنسان من خلال مطالعتها ودراستها إلى هذه النتيجة ، وهي أن المزاح إذا كان في حدّ الاعتدال ولم يكن ملوّثاً بالإثم والمعصية فإنّه ليس فقط غير قبيح ، بل يمكن اعتباره من مصاديق حسن الخلق والأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة مع الناس ، ولا شك أن الافراط في ذلك إمّا أن يوقع الإنسان في المعصية والإثم يتحول إلى أحد الرذائل الأخلاقية ، وأحياناً يكون خطره أكثر من خطره في الكلام إذا كان من موقع الجد ، لأنّ في المزاح نوع من الحرية لا توجد في الكلام الجدّي والذي ينطلق من موقع المسؤولية.

ويستفاد من سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وعلماء الدين أنّهم كانوا يمارسون المزاح بشكل معتدل في معاشرتهم مع الناس.

وبهذه الإشارة نستعرض بعض الروايات التي تقرر حسن المزاح بصورة عامّة ، ثم نستعرض الروايات التي تذم المزاح ، ثم نذكر طريق الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات الشريفة :

١ ـ ما ورد في الحديث عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصحابِهِ إِذا رَآهُ مَغمُوماً بِالمُدَاعَبَةِ» (١).

أجل فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستخدم المزاح لتحقيق الأغراض الإنسانية وادخال السرور على القلوب المهمومة والنفوس الكئيبة.

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال لأحد أصحابه : «كَيفَ مُداعَبَةِ بَعضُكُم بَعضاً».

قلت : قليل.

فقال الإمام عليه‌السلام : «أفَلا تَفعَلُوا فإنّ المُداعَبَةَ مِنْ حُسنُ الخُلقِ وَإنَّك لَتُدخلُ بِها السُّرورَ

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ، ج ٨ ، ص ٤٠٨.

١٤٠