الأخلاق في القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-25-3
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٢٤

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه ، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» (١).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ولكن الظاهر أنّ مثل هؤلاء الأفراد خارجون بالتخصص من موضوع الغيبة لا أنّ حكم الغيبة يشملهم أولاً ثم يدخلون في مستثنيات الغيبة ، لأنّ للغيبة شرطين :

الأول : أن يكون العيب مستوراً وهذا الشرط لا يتوفر في هؤلاء الأشخاص.

الثاني : كراهية الطرف الآخر لأن يذكر بسوء ، وهذا الشرط أيضاً غير متوّفر فيما نحن فيه لأنّ المتجاهر بالفسق لو كان يتأثر ويتألم من ذكره بسوء لم يكن يرتكب ذلك العمل علانية وجهراً ، وبتعبير علماء الاصول أنّ خروج مثل هؤلاء الأشخاص يكون بالتخصص لا بالتخصيص.

وهنا تثار عدّة أسئلة في هذا الصدد ، الأول هو أنّه هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق يختص بالذنوب التي تجاهر بها أو يستوعب جميع الذنوب فتكون غيبته جائزة مطلقاً؟

والآخر هو أنّه إذا كان يتجاهر بالفسق عند جماعة معينة أو في مكان خاص ولكنه لا يرتكب ذلك المنكر أمام جماعة اخرى أو في مكان آخر فهل يجوز غيبة هذا الشخص أيضاً؟

والثالث هو هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق مشروط بوجود شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي أن تكون الغيبة مؤثرة في عملية الردع وإلّا فلا تجوز؟

ونظراً لما تقدّم من بيان حالة هؤلاء الأفراد من الناحية الشرعية يتّضح الجواب عن هذه الأسئلة جميعاً ، وهو أنّ غيبة هؤلاء الأشخاص إنّما تجوز في موارد التجاهر بالفسق ، ولكن بالنسبة إلى الأعمال الاخرى أو الوسط الآخر والأجواء الاخرى ، فلا تجوز ، لأنّ أدلة حرمة الغيبة لا تشمل المتجاهر بالفسق ومن المعلوم أنّ حالة التجاهر لا يستوجب توّفر شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا ضرورة لها لأنّ عناصر تشكيل الغيبة غير متوّفرة.

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ٥٩٥ ، ح ٨٠٦٩.

١٠١

ويحتمل كذلك أنّ المقصود بالمتجاهر بالفسق هو الشخص الذي قام بتمزيق ستار الحياء وتحرّك في ارتكابه للمعاصي والذنوب من موقع الجرأة على الدين والمجتمع الإسلامي ، فمثل هؤلاء الأفراد لا احترام لهم ، بل يجب التعريض بهم وفضحهم ليكون الناس على حذر منهم وفي أمان من أعمالهم كما ورد في الحديث الشريف المتقدّم : «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ» فحينئذٍ يقول الحديث «فاذكروه يعرفه الناس» فهو ناظر إلى هذا المعنى.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ المتجاهر بالفسق على نحوين :

الأول : أن يكون متجاهراً بعمل معيّن فحينئذٍ تجوز غيبته في ذلك العمل بالخصوص ، والآخر : الأشخاص الذين قاموا بتمزيق لباس العفة والحياء وانطلقوا وراء ارتكاب الذنوب بكل صلافة وجرأة من دون رعاية القيم الاجتماعية والدينية ، فمثل هؤلاء الأشخاص لا احترام لهم أبداً من فضحهم وكشف واقعهم أمام الناس كيما يحذر الآخرون من أخطارهم ومفاسدهم.

ونختم هذا الكلام بذكر ملاحظتين :

الاولى : هي أنّنا نعلم أنّ أحد العلوم الإسلامية المعروفة هو علم الرجال حيث يبحث فيه صدق وكذب الرواة وحالتهم على مستوى كونهم ثقة أو غير ثقة ، وهناك بعض من لا خبرة له بالامور يتجنّب الخوض في علم الرجال ويرفض تعلّم هذا العلم لأنّه بحسب تصوّره أنّه يفضي إلى الخوض في الغيبة في حين أنّ من الواضح أنّ حفظ حريم الشرع والأحكام الإسلامية من المواضيع الكاذبة والأخبار المختلفة أهمّ كثيراً من التعرّض لبعض الرواة وجرحهم ، وهذا الهدف السامي هو الذي يبيح لنا أن نتحرّك على مستوى التحقيق في سوابق الرواة وحالاتهم والبحث عن نقاط ضعفهم وإثباتها في كتب الرجال لكي نأمن على الشريعة المقدّسة من الأخبار المزيفة ولكي تكون الأحكام الإلهية في مأمن من تدخل الأهواء والنوازع الذاتية لبعض الرواة.

والاخرى : هي أنّ المسائل الاجتماعية والسياسية والمناصب الحساسة في المجتمع الإسلامي تقتضي أحياناً إفشاء بعض نقاط الضعف للمسؤولين ، فهذا المعنى وإن كان في حدّ

١٠٢

ذاته مشمولاً لعنوان الغيبة ومصداقاً من مصاديقها إلّا أنّ أهمية حفظ النظام الإسلامي وكشف وإبطال المؤامرات الموجهة إلى المجتمع الإسلامي أهم بكثير ولذلك لا إشكال في ذلك ، بل قد يكون واجباً أحياناً ، والأشخاص الذين يتسترون على عيوب هؤلاء لكي لا يقع في ورطة الغيبة هم في الواقع يضحّون بمصالح المجتمع الإسلامي من أجل الأفراد ، وقد تقدّم في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ذمّ هؤلاء وقال : «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه ، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» ، وأمر بفضحهم ليعرفهم الناس.

ولكن هذا لا يعني أن يقوم بعض الناس بهتك حرمة الأفراد وفضحهم بدون مبرّر أو يتحرّكون في هذا السبيل أكثر من اللازم ويتعرّضون لحيثية الأفراد ويتجاوزون حدودهم الشرعية.

وما تقدّم آنفاً يوضّح وظيفة الأجهزة الخبرية والمخابراتية في الدوله الإسلامية ، فإن كان نشاط هذه الأجهزة والمجاميع التجسسية تصب في غرض الكشف عن الخطر الذي يهدّد سلامة المجتمع الإسلامي وسلامة المناصب الحساسة في غ الدولة الإسلامية ، فلا ينبغي أن يتجاوزوا الحدود المشروعة ، وحينئذٍ فانّ عمل هؤلاء لا يحسب في دائرة التجسس ولا يكون مشمولاً لعنوان الغيبة المحرمة ، بل هو أداء للوظيفة الشرعية والواجب الإنساني.

٥ ـ شمول دائرة الغيبة

لا شك في حرمة غيبة الشخص المؤمن البالغ العاقل ، ولا شك في جواز غيبة الكافر الحربي الذي ينوي هدم الإسلام ويتحرّك من موقع التعرّض للمجتمع الإسلامي ، لأنّه لا حرمة لمثل هذا الشخص.

ولكن هل أنّ غيبة سائر فرق المسلمين وأهل الذمة (وهم الذين لديهم كتاب سماوي من غير المسلمين ويعيشون في داخل إطار المجتمع الإسلامي) جائزة أو أنّ غيبتهم حرام كما هم محترمون في أنفسهم وأموالهم؟

بعض الفقهاء مثل المحقق الأردبيلي والعلّامة السبزواري يرون حرمة الغيبة بشكل عام

١٠٣

ويتمسكون بالروايات الواردة بعنوان (المسلم) أو الناس وذهبوا إلى أنّ حرمة غيبة هؤلاء ليست عجيبة ، لأنّ أموالهم وأنفسهم محترمة فلما ذا لا يكون عرضهم كذلك؟

ولكن المرحوم صاحب الجواهر قدس‌سره خالف ذلك بشدّة وقال : «بأنّ ظاهر الروايات يدلّ بضم بعضها إلى بعض على أنّ حرمة الغيبة مختصة بالمؤمنين وأتباع أهل البيت عليهم‌السلام وحتى أنّه استدل بالسيره المستمرة بين العلماء والعوام أيضاً.

إذا كان مقصود هذا الفقيه الكبير من المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام هم النواصب وأعداء المؤمنين والمسلمين فلا شك في عدم حرمتهم وحرمة غيبتهم ، ولكن إذا كان الكلام عن الفرق الإسلامية التي من المقرر حفظ واحترام أنفسهم وأموالهم وكذلك أهل الكتاب من أهل الذمة فإنّ رأي المحقق الأردبيلي قدس‌سره هو الأقرب إلى الصواب ، لأنّه في كل مورد تكون نفس الإنسان وماله محترماً ، فكذلك عرضه وماء وجهه فلا يجوز التعرّض له بالغيبة ، وتوجيه الخطاب للمؤمنين في الآية ١٢ من سورة الحجرات (آية الغيبة) أو التعبير بالمؤمن في بعض الروايات لا يدلّ على عدم شمول حكم الغيبة بالنسبة إلى الآخرين ، وبعبارة اخرى إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

وعلى هذا الأساس يجب اجتناب غيبة جميع الأشخاص الذين تكون نفوسهم وأموالهم وأعراضهم محترمة وجميع هؤلاء يشملهم حق الناس ، وطبعاً هذا في صورة ما إذا لم يكن متجاهراً بالفسق ولم يكن يتحرّك من موقع المؤامرة والدسيسة على الإسلام والمسلمين ، بل كانت لهم عيوب وذنوب مستورة وخاصة بهم ، فيكون فضحهم والكشف عن هذه العيوب وإراقة ماء وجههم ليس مسوّغ شرعي قطعاً.

وأمّا بالنسبة إلى الطفل المميّز الذي يتألم من الغيبة فأيضاً يجب القول بأنّ غيبته حرام كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قدس‌سره في المكاسب المحرّمة وقال : إنّ عنوان الأخ المؤمن صادق عليه أيضاً كما قال تعالى عن الأيتام : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)(١).

ولكنّ الصواب هو أنّه لا ينبغي تقييد المورد بالمميّز ، لأنّ كشف العيوب المستورة للطفل

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٢٠.

١٠٤

غير المميز يعدّ هتكاً لشخصيته المستقبلية أو هتكاً لحيثية اسرته ، وهو عمل مخالف للقيم الأخلاقية ، ولهذا السبب فإنّ الشهيد الثاني قدس‌سره في كتابه (كشف الريبة) لم يفرّق بين الصغير والكبير ، بعبارة اخرى أنّ أطفال المؤمنين كالمؤمنين أنفسهم من حيث حرمة النفس والمال والعرض.

ومن هنا يتّضح حكم المجانين والسفهاء أيضاً.

٦ ـ الغيبة العامة والخاصة

أحياناً تكون الغيبة عن شخص خاص أو أشخاص معيّنين حيث تبيّن حكمها في الأبحاث السابقة من جهات مختلفة ، ولكن هناك موارد اخرى تكون الغيبة ذات جهة عامة وكلية ، مثلاً يقول : إنّ أهل المدينة الفلانية بخلاء ، أو جهلاء ، أو سفهاء ، أو يقول إنّ أهالي القرية الفلانية لصوص أو مدمنين أو متحلّلين أخلاقياً وأمثال ذلك.

فهل أنّ جميع أحكام الغيبة ترد في مثل هذه الموارد أم لا؟

يمكن القول أنّ الغيبة لها عدّة صور ووجوه :

١ ـ فيما إذا كانت الغيبة متوجّه لشخص أو أشخاص معدودين لا يعرفهم المخاطب ، كأن يقول : إنّ في المدينة أو القرية الفلانية عدّة أشخاص يشربون الخمر أو يرتكبون الأعمال المنافية للعفة ، فلا شك في عدم جريان أحكام الغيبة هنا ، لأنّ المتكلم لم يذكر في كلامه عيباً مستوراً عن شخص معيّن.

٢ ـ أن يكون المورد من قبيل الشبهة المحصورة (وكما يصطلح عليه شبهة القليل بالقليل أو الكثير بالكثير) مثلاً يقول : أنني رأيت أحد هؤلاء الأربعة أشخاص يشرب الخمر (أو يذكر أسماء هؤلاء الأربعة أو يقول أنّ أولاد زيد وأمثال ذلك) أو يقول : أنّ جماعة كثيرة من أهالي القرية الفلانية يرتكبون هذا العمل بحيث أنّ التهمة تتوجه إلى الجميع من موقع الشك فيهم.

والظاهر أنّ أدلة حرمة الغيبة تشمل هذا المورد ، وعلى فرض عدم اطلاق اسم الغيبة

١٠٥

عليها من حيث أنّها تعدّ كشفاً ناقصاً عن العيب المستور ، فهي حرام من جهة هتك احترام المؤمن وجعله في قفص الإتّهام.

٣ ـ أن ينسب إلى جميع أهل البلدة أو القرية أمراً قبيحاً ومخالفاً للشرع والأخلاق ، فلا شك في جريان أحكام الغيبة على هذا المورد أو على الأقل صدق عنوان هتك احترام المؤمنين سواء كان مقصوده جميع أهالي البلدة بدون استثناء أو الأكثرية منهم.

وعلى هذا الأساس لا يجوز نسبة بعض الصفات أو الممارسات القبيحة لأهالي بلدة معيّنة إلّا أن يكون هناك قرينة على أنّ مقصوده بعض الأشخاص القلّة منهم ، وكما يصطلح عليه شبهة القليل في الكثير أو الشبهة غير المحصورة ، أو يكون كلامه عنهم معروفاً لدى الجميع وفي نفس الوقت لم يكن قاصداً لهتكهم وذمّهم.

٧ ـ الدفاع في مقابل الغيبة

هل يجب على الشخص المستمع للغيبة أن يدافع عن أخيه المؤمن الذي تعرّض للغيبه ويرد على المستغيب أم لا؟ مثلاً يقول في دفاعه : أنّ الإنسان غير معصوم وكل شخص يتعرّض لارتكاب الخطأ أو يقول : أنّ من الممكن أن يكون قد صدر هذا الفعل منه سهواً أو نسياناً أو كان في نظره حلالاً وهكذا يحمل فعل أخيه المسلم على الصحة ، وعليه فلو كان الفعل قابلاً للتبرير فإنّه يتحرّك في تبريره وتوجيهه ، وإن لم يكن كذلك قال : من الأفضل أن نستغفر له بدل أن نقع في غيبته لأننا جميعاً معرّضين لمثل هذه الأخطاء.

بعض الفقهاء الكبار يرون وجوب الدفاع ومنهم شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس‌سره في بحث الغيبة في المكاسب المحرّمة.

وهناك روايات كثيرة أيضاً تتحدّث عن لزوم ردّ الغيبة وقد ذكرها المرحوم صاحب كتاب وسائل الشيعة في الباب ١٥٦ من أبواب أحكام العشرة في الحج ومنها :

في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يا عَلي مَنْ اغتِيبَ عِندَه أخوهُ المُسلِمُ

١٠٦

فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللهُ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ» (١).

ونفس هذا المضمون أو ما يشبهه ورد في روايات متعددة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الصادق عليه‌السلام.

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة له أمام الناس : «مَنْ ردّ عَنْ أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ رَدَّ اللهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ لَم يَرُدَّ عَنهُ وأَعجَبَهُ كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» (٢).

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّه قال : «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرضِ أَخِيهِ كانَ لَهُ حِجاباً مِن النّارِ» (٣).

ولكنّ الصحيح أنّه لا يستفاد وجوب الدفاع من هذه الروايات ، بل غاية ما يستفاد منها هو الاستحباب المؤكّد ، لأنّ التعبير لكلمة (خذله الله) الوارد في عدّة روايات من هذا الباب لا يقرّر أكثر من أنّ الله تعالى لا يعين هذا الشخص ويتركه لحاله (لأنّ معنى الخذلان هو ترك النصرة والمساعدة) وكذلك ما ورد في الثواب والجنّة أو النجاة من النار في بعض الروايات فانّه في قوله : «كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» قد تدل على وجوب الدفاع ولكنّ الوارد في هذه الرواية هو أنّ الإثم لا يقتصر على الاستماع وعدم الدفاع فقط بل ينشرح ويفرح من سماعه لهذه الغيبة ، وعلى أية حال فسواء كان الدفاع عن المسلم في مقابل الغيبة واجباً أو مستحباً مؤكّداً فانّه يعدّ وظيفة مهمّة في دائرة المفاهيم الإسلامية ، وإذا كان الدفاع نهياً عن المنكر فهو واجب قطعاً.

٨ ـ غيبة الأموات

أحياناً يتصوّر البعض أنّ مفهوم الغيبة الوارد في الروايات الشريفة ناظر إلى الأحياء من المسلمين ولا يشمل الأموات ، وعليه يجوز غيبة الأموات ، ولكنّه خطأ فاحش ، لأنّ الوارد

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٦٦.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ٦٠٧.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ١٩ ، ص ٤٧ ، باب ٢٤.

١٠٧

في الروايات الإسلامية أنّ «حرمة الميت كحرمته وهو حي» بل يمكن القول بأنّ غيبة الميت أقبح وأشنع من بعض الجهات من غيبته وهو حي لأنّ الأحياء يمكن أن يصل إليهم خبر الغيبة ويتحرّكون من موقع الدفاع عن أنفسهم ويردّون على من إغتابهم ، ولكنّ الميت غير قادر على الدفاع أبداً ، مضافاً إلى أنّ الشخص المرتكب للغيبة قد يرى الطرف الآخر فيما بعد ويطلب منه الصفح وأن يكون في حلّ ولكن هذا المعنى لا يصدق على الأموات.

ومضافاً إلى ذلك الأوامر والإرشادات الدينية الواردة في ضرورة احترام جسد الميت المسلم من قبيل الأمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه والمفاهيم الواردة في الصلاة عليه ودفنه وزيارة أهل القبور وحرمة هتك قبر المؤمن وأمثال ذلك كلّها يدلّ على وجوب حفظ حرمة الميت المسلم.

١٠٨

٥

حسن الخلق وسوء الخلق

تنويه :

حسن الخلق بمعناه الخاص هو أن يعيش الإنسان في تفاعله الاجتماعي وعلاقاته مع الآخرين بصورة حسنة وكلام طيب ووجه بشوش وسلوكيات قابلة للمرونة والتلاؤم مع الآخرين ويتحدّث معهم من موقع المحبّة واللطف وترتسم على شفتيه الابتسامة والانفتاح ، وكل هذه تعتبر من الفضائل الأخلاقية المؤثرة إيجابياً في تعميق الروابط الاجتماعية.

(وعلى العكس من ذلك سوء الخلق ومواجهة الآخرين بوجه خشن والتقطيب في وجوههم والجفاف في معاملتهم والخشونة في التحدّث معهم ، فهو من الرذائل الأخلاقية التي تمتد في جذورها إلى أعماق النفس الإنسانية وتبعث على تنفّر الآخرين وابتعادهم عن هذا الشخص وتؤدّي بالتالي إلى إرباك العلاقات الاجتماعية وضعف الروابط الأخوية بين الأفراد.

وهناك مطالب كثيرة في هذا المجال في القرآن الكريم والروايات الشريفة وسيرة المعصومين عليهم‌السلام تحكي عن الأهمية البالغة لهذه الفضيلة وتلك الرذيلة على مستوى الفرد والمجتمع.

ومن المعلوم أنّ جانباً مهمّاً من نجاح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مهمّته ورسالته ، وكذلك

١٠٩

سائر المعصومين وكبار العلماء والقادة المصلحين مدين لهذه الخلّة الحسنة في تعاملهم مع أفراد المجتمع وهي (حسن الخلق) ، ومن الأسباب المهمّة في عدم موفقيّة بعض القادة والعظماء في التاريخ البشري رهين لسوء خلقهم أيضاً ، إنّ تاريخ الأنبياء والأولياء والمعصومين وسائر القادة المصلحين في العالم مليء بشواهد حيّة على هذا الموضوع.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما يرشدنا في هذا الطريق ويسلّط الضوء على زواياه المعتّمة :

١ ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(١).

٢ ـ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٢).

٣ ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(٣).

٤ ـ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٤).

٥ ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)(٥)

٦ ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٦).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» وردت مسألة (حسن الخلق) بعنوان أنّها أحد الخصوصيات للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد العوامل المهمّة لتقدّم وتكامل الدعوة الإسلامية في المجتمع العربي آنذاك

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٥٩.

٢ ـ سورة قلم ، الآية ٤.

٣ ـ سورة لقمان ، الآية ١٨ و ١٩.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ٨٤.

٥ ـ سورة طه ، الآية ٤٣ و ٤٤.

٦ ـ سورة فصلت ، الآية ٣٤ و ٣٥.

١١٠

فتقول الآية : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...).

وعلى هذا الأساس فانّ حسن خلق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو في الحقيقة رحمة إلهية له ولأُمّته ، وبديهي أنّ هذا الخلق الحسن وقابلية الانعطاف ومداراة الآخرين تعد من البركات والمواهب الإلهية على كل إنسان يتحلّى بهذه الخصال والسلوكيات الحميدة.

ومن التعبير أعلاه في الآية الشريفة نجد النقطة المقابلة لهذا السلوك ، وهو أن يكون الإنسان غليظ القلب وسيئ الخلق وخشناً في التعامل مع الآخرين حيث تشير الآية إلى نتائج مثل هذا السلوك السلبي ، وهي تفرّق الناس وانفضاضهم عن هذا الإنسان الخشن وابتعادهم عنه ، وبعبارة اخرى أنّ (حسن الخلق) يمثّل اللبنة الاساسية في شد أوصال المجتمع وتقوية وشائج المحبّة بينهم ، وسوء الخلق عامل لتفرّق الأفراد وإيجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية ويؤدّي إلى نفور الناس.

إنّ كلمة (فظ) و (غليظ القلب) يأتيان بمعنى واحد ويراد بذلك التأكيد ، ويمكن أن يكون لهما معنى مختلف عن الآخر ، ويقول (الطبرسي) في مجمع البيان في كلمة جامعة : «وقيل إنّما جمع بين الفظاظة والغلظة وإن كانا متقاربين لأنّ الفظاظة في الكلام فنفي الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه» وعليه فكلا الكلمتين تردان بمعنى الخشونة والجفاء ، وأحدهما في الكلام ، والاخرى في السلوك والفعل.

وعلى أي حال فانّ الله تعالى قد وهب نبيّه الكريم حالة اللّيونة والانعطاف والبشاشة وحسن التعامل مع الآخرين بحيث أنّه كان يسلك هذا السلوك مع أعتى الناس وأخشنهم وأقساهم قلباً ، وبهذه الطريقة جذب هؤلاء القساة إلى الإسلام فاعتنقوا الإسلام من موقع الرغبة والشوق والانجذاب لهذا الخلق الرفيع.

وبتبع ذلك توجّه الآية سلسلة إرشادات وأوامر عملية تخرج حالة (حسن الخلق) والبشاشة من صورتها الظاهرة وتلبسها ثياباً عملية على مستوى الممارسة والتطبيق وتقول : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

١١١

وعلى هذا الأساس استقطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبعد الناس عن الله تعالى والدين والأخلاق وجذبهم إليه وأصبح قدوتهم وأسوتهم في حسن الأخلاق.

إنّ سياق هذه الآيات يشير إلى أنّ هذه الآية متعلقة بالآيات النازلة في معركة أحد حيث كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين يعيشون أشدّ الظروف وأقسى الحالات النفسية طيلة هذه الحرب ، وبديهي إنّ عملية العفو والاستغفار والانفتاح على الآخرين من موقع المحبّة واللطف جعلت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في أسمى مراتب حسن الخلق وحسن التعامل الكريم مع الغير ، وقلّما نجد إنساناً يتمكّن في مثل تلك الظروف الصعبة والتحديّات الشرسة أن يحافظ على حسن أخلاقه ولا ينفعل أمام تحديّات الواقع الصعب.

وتأتي «الآية الثانية» لتشير إلى حسن الخلق العجيب للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تعبّر عنه بالخلق العظيم وتقول : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

(خُلُق) على وزن افق ، مفرد وهو مع كلمة خُلْق (على وزن كُفر) بمعنى واحد ، ويستفاد من مفردات الراغب أنّ خَلْق (على وزن حلق) تشترك في جذر واحد معها غاية الأمر أنّ (خَلْق) تطلق على الصفات الظاهرية ، و (خُلْق) تطلق على الصفات الباطنية.

ويرى بعض أرباب اللغة أنّ كلمة (خُلْق) و (خُلُق) تردان بمعنى الدين والطبع والسجية حيث يقصد بها الصورة الباطنية للإنسان (١).

وعلى أيّة حال فانّ وصف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه ذو خلق عظيم يدلّ على أنّ هذه الصفة الأخلاقية من أعظم صفات الأنبياء ، ويرى بعض المفسّرين أن الخلق العظيم للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يتمثّل في صبره وتحمّله في طريق الحق وسعة بذله وكرمه ، وتدبير امور الرسالة والدعوة ، والرفق والمداراة للناس وتحمّل الصعوبات الكبيرة في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب في طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وترك الحرص والحسد والتعامل مع

__________________

١ ـ لسان العرب ، مادة خلق.

١١٢

الأعداء والأصدقاء من موقع العفو واللطف والمحبّة (١) وكل هذه الامور تشير إلى أنّ الخلق العظيم لا ينحصر بالبشاشة والانعطاف في مواجهة الآخر ، بل هو مجموعة من الصفات الإنسانية السامية والقيم الأخلاقية الرفيعة ، وبعبارة اخرى : يمكن القول بأنّ جميع الأخلاق الحسنة الرفيعة جُمعت في عبارة (خلق عظيم).

وممّا يؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدّبَ نَبِيَّهُ فَأَحسَنَ أَدَبَهُ فَلَمّا أَكمَلَ لَهُ الأَدَبَ قَالَ (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)» (٢).

وعند ما نقرأ في بعض الروايات أنّ الخلق العظيم يراد به الإسلام أو الآداب القرآنية إنّما هو لأنّ الإسلام والقرآن يحويان جميع الفضائل الأخلاقية ، في حين أنّ بعض الروايات الواردة في تفسير هذه الآية فسّرت (حسن الخلق) بالبشاشة والمداراة ومن ذلك الحديث الذي أورده (نور الثقلين) في ذيل هذه الآية عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث سئل عن حسن الخلق في هذه الآية فقال : «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلِقى أَخاكَ ببُشرِ حسنٍ» (٣).

ولكن الظاهر عدم التنافي بين هذين المعنيين.

وآخر ما يقال في هذا المورد والجدير بالتأمل في هذه الآية هو أنّ بعض المفسّرين إستفادوا من كلمة (على) في قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والتي تفيد مفهوم التسلّط والقدرة أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله له تسلط كامل على الفضائل الأخلاقية وكأنّ الأخلاق والقيم الإنسانية جزء من كيانه الشريف حيث يتحرّك من هذا الموقع بدون تكلّف وتصنّع.

وتستعرض «الآية الثالثة» وصايا ونصائح (لقمان الحكيم) لولده حيث يذكر له أربعة امور مؤكّداً عليها :

الأول : قول : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ).

ثم أضاف (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)

__________________

١ ـ مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣١ ، ذيل الآية المبحوثة.

٢ ـ نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٩ ؛ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٦ ، ح ٤.

٣ ـ نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٩١.

١١٣

وفي الثالث والرابع من هذه النصائح القيمة يوصي لقمان ابنه بالاعتدال في المشي وعدم رفع الصوت ويقول : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

وهذه الامور الأخلاقية تمثّل جزءاً مهمّاً من (حسن الخلق) في التعامل مع الآخرين وطريقة السلوك الاجتماعي بين الناس والمقترنة بالبشاشة والتواضع والاتّزان في الكلام والسلوك ، ونستوحي من ذلك أنّ الله تعالى قد إهّتم بكلمات لقمان الحكيم هذه بحيث ضمّنها في كتابه الكريم.

(تصعر) من مادة (صَعَرَ) على وزن خطر ، وهي في الأصل نوع من الأمراض التي تصيب الابل فتلوي أعناقها ، ثم اطلقت على أي نوع من ميل العنق ، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ سوء الخلق نوع من المرض الذي يشبه في سلوكه سلوك الحيوان ، والملفت للنظر أنّ هذا النهي عن هذا العمل لا يقتصر على المؤمنين بل يستوعب جميع أفراد البشر ويقول : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ). وعلى أيّة حال فإنّ جعل هذه الصفة الرذيلة إلى جانب التكبّر والافراط في المشي والصوت يبيّن أنّ جميع الصفات الرذيلة تؤدّي بشكل من الأشكال إلى نفور الناس وامتعاضهم.

وفي الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير عبارة (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قال : «أَي لا تَذُل للنَّاسِ طَمعاً فِيما عِندَهُم وَلا تَمشِي فِي الأَرضِ مِرَحاً أي فَرحاً» (١).

«الآية الرابعة» من هذه الآيات محل البحث نقرأ خطاباً إلهياً لبني اسرائيل على أساس من العهد الإلهي للمخاطبين بعد التأكيد على التوحيد الخالص والاحسان للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ، يقول تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

فهذا الخطاب يبيّن التوحيد من جهة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من جهة اخرى يبيّن

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٢٠٧.

١١٤

أهميّة حسن المعاملة ومداراة الناس والتعامل بالأخلاق الحسنة ، وبهذا يكون حسن الخلق في عملية التفاعل الاجتماعي وعلى مستوى الروابط الأخلاقية الحسنة للآخرين في عداد أهم التشريعات الإسلامية والمقرّرات الدينية.

وفي الواقع بما أنّ مال الإنسان محدود ولا يمكن أن يصل باحسانه المادي إلى المحتاجين كافة من الأقرباء والأصدقاء وسائر الفقراء فقد ورد جبران ذلك بالبشاشة وحسن الخلق مع الناس حيث يمثّل كنزاً لا يفنى كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إِنّكُم لا تَسَعُونَ النّاسَ بِأَموالِكُم وَلَكن يَسَعُهُم مِنكُم بَسطَ الَوجهِ وَحُسنِ الخُلقِ» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قُولُوا للنّاسِ أَحسَنِ ما تُحِبُّونَ أَن يُقالُ لَكُم» (٢).

وصحيح أنّ المخاطبين بهذه الآية هم بنو اسرائيل ، ولكنّ خصوصية المورد لا تخصّص الآية بهؤلاء المخاطبين حيث إنّ هدف القرآن الكريم هو بيان أصل كلّي لجميع أفراد البشر.

«الآية الخامسة» تتحرّك من خلال بيان مسألة البشاشة والتعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا أعداءاً ولا سيّما في مقام دعوتهم إلى الحق والطريق القويم ، ومن ذلك نجد أنّ الأمر الإلهي لموسى عليه‌السلام بايصال الرسالة الإلهية إلى فرعون الطاغية الذي إستعبد بني اسرائيل وأنّ الآية تتحدّث عن خطاب الله تعالى لموسى وهارون عليهما‌السلام : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

هذا التعبير يبيّن أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق لا بدّ أن تكون مقرونة باللّيونة واللطف والتعامل من موقع المحبّة والرحمة لا سيما مع الاشخاص

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ح ٦ ، وورد مثلها في المصادر الشيعية.

٢ ـ تفسير البرهان ، ذيل الآية المبحوثة.

١١٥

المنحرفين بأمل أن يؤثر هذا السلوك الأخلاقي والإنساني في قلوبهم.

وهنا يثار هذا السؤال ، وهو ما الفرق بين قوله : (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)؟

ويمكن القول بأنّ المقصود من ذلك أنّكما إذا حدثتماه بكلام ليّن وفي نفس الوقت ذكرتم له بصراحة ووضوح مضمون الدعوة الإلهيّة وبدلائل منطقيّة فلعله يقبل ويؤمن بها من أعماق قلبه ، ولو لم يؤمن فلا أقل فانه سيخاف من العقوبة الإلهية بسبب العناد والاصرار على الكفر والابتعاد عن طريق الحق :

ويقول (الفخر الرازي) : «نحن لا نعلم لماذا أرسل الله تعالى موسى إلى فرعون مع أنّه يعلم أنّه لا يؤمن أبداً؟ ثم يقول : في مثل هذه الموارد ليس لنا سوى التسليم في مقابل الآيات القرآنية ولا سبيل إلى الاعتراض» (١).

ولكن جواب هذا السؤال واضح ولا ينبغي أن يخفى على من مثل الفخر الرازي ، لأنّ الله تعالى يهدف إلى إتمام الحجة ، أي حتّى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يؤمنون قطعاً فإنّ الله تعالى يتمّ الحجّة عليهم كي لا يقفوا في الآخرة موقف الاعتراض على العقاب الاخروي وأنّهم لم يصل إليهم النداء الإلهي ولم يجدوا رسولاً أو نبيّاً يخبرهم بالخبر كما ورد هذا المضمون في الآية ١٦٥ من سورة النساء حيث يقول تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وأمّا قوله لعله (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فهو بمعنى أنّ طبيعة التبليغ لا بدّ وأن تكون مقرونة باللين والمداراة ليصل الإنسان إلى النتيجة المتوخّاة ، رغم أنّه قد يواجه النبي الإلهي موانع صعبة تنبع من ذات الأفراد ، وبعبارة اخرى أنّ التبليغ المقرون باللّين والمحبّة هو مقتضي للقبول لا علّة تامّة.

وبديهي أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو موسى وهارون فحسب ولكن مفهوم الآية شامل لجميع المبلّغين لرسالات الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهكذا يتّضح أنّ الإنسان قد يتحرّك من موقع هداية الناس باللّين والعطف والمداراة ويحقّق

__________________

١ ـ تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية المبحوثة (ج ٢٢ ، ص ٥٩).

١١٦

نجاحاً أكبر بكثير ممّا لو استخدم طرق اخرى مقرونة بالخشونة والجفاء الروحي لتحقيق هذا الهدف ، وهذا المعنى مجرّب على مستوى الممارسة بكثرة.

«الآية السادسة» والأخيرة من الآيات محل البحث تقرّر أنّ المداراة واللّين محبّذة حتى مع الأعداء الشرسين وتؤثر في أعماق نفوسهم تأثيراً بالغاً وتقول الآية : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

وبالطبع فإنّ دفع السيئات بالحسنات له طرق ومصاديق مختلفة ، أحدها أن يتعامل الشخص من موقع المداراة والأدب والبشاشة مع عدوّه المعاند والحقود إلى درجة بحيث يمكن أن ينقلب هذا الإنسان الحقود إلى صديق محبّ ويتحوّل بصورة تامّة من حالة العداوة والبغضاء إلى حالة الصداقة والمحبّة.

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تؤكد على أنّ هذه المرتبة هي من شأن الصابرين والذين يتمتّعون بحظ وافر من الإيمان والتقوى والتوفيق وتقول : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وطبعاً فالوصول إلى هذه المرتبة من حسن الخلق بحيث يواجه الإنسان السيئات بعكسها من الحسنات ليست من شأن كلّ إنسان لأنها تحتاج إلى تسلط كامل على قوى النفس ولا يستطيع ذلك إلّا من اوتي حظاً عظيماً من سعة الصدر وتخلّص من عقدة الانتقام.

ومن مجموع الآيات محل البحث نستوحي هذا المفهوم القرآني في دائرة الأخلاق الإسلامية وهو أنّ القرآن الكريم دعى الناس إلى حسن الخلق والتعامل فيما بينهم من موقع المحبّة والمداراة ، وفي ذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسوة ونموذجاً كاملاً في هذا السلوك الإنساني بحيث يمكن القول بأنّ أحد معجزات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي سلوكه الأخلاقي العظيم.

١١٧

أهميّة حسن الخلق في الروايات الإسلامية :

هناك روايات كثيرة مذكورة في المصادر الإسلامية حول حسن الخلق مع الناس وكيفية التعامل معهم في حركة التفاعل الاجتماعي ، والتعبيرات الواردة في هذه الروايات عن هذه الفضيلة الأخلاقية إلى درجة من الكثرة والتأكيد أننا قلّما نجد نظيراً لها في النصوص الإسلامية ، وهذا يبيّن مدى إهتمام الإسلام في هذه الخصلة الحميدة ، ونختار من بين الروايات الكثيرة ما يلي :

١ ـ ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الإِسلامُ حُسنُ الخُلُقِ» (١).

٢ ـ ونقرأ عن الإمام علي عليه‌السلام في حديث لطيف يقول : «عِنوانُ صَحِيفَةُ المُؤمنُ حُسنُ خُلُقِهُ» (٢).

ونعلم أنّ ما يذكر في عنوان الصحيفة وكتاب عنوان أعمال الإنسان هو أفضل ما يمكن ذكره في هذه الصحيفة ، وبعبارة اخرى يكتب في العنوان القدر الجامع والمشترك لجميع مفردات الأعمال والسلوك الأخلاقي في واقع الإنسان ونفسه.

٣ ـ وفي حديث عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «أَكثَرُ ما تَلِجُ امَّتِي الجَنَّةَ التّقوى وَحُسنُ الخُلُق» (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «أَكْمَلُكُم إِيماناً أَحسَنَكُم خُلقاً» (٤).

وما ذكر آنفاً من الأحاديث الشريفة هو بعض الروايات في أهميّة حسن الخلق.

والآن نستعرض قسماً آخر من الروايات التي تتحدّث عن النتائج والآثار الماديّة والمعنوية على هذا السلوك الأخلاقي :

١ ـ نقرأ في حديث عن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الخُلْقُ الحَسَنُ يُذِيبُ السَّيِّئَةَ» (٥).

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ١٧ ، ح ٥٢٢٥.

٢ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٩٢ ، ح ٥٩.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٠ ، ح ٦.

٤ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٨٧ ، ٣٤.

٥ ـ بحار الانوار ، ج ٧٢ ، ص ٣٢١.

١١٨

٢ ـ وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إِنَّ صاحِبَ الخُلقِ الحَسَنِ لَهُ مِثلُ أَجرِ الصَّائِمِ» (١).

٣ ـ ورد في حديث ثالث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «إِنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَيُعطي العَبدَ مِنَ الثَّوابِ عَلى حُسنِ الخُلقِ كَما يُعطي المُجاهِدُ فِي سَبيلِ اللهِ» (٢).

وبهذا يتبيّن أنّ صاحب الخلق الحسن يتميّز على من يقوم الليل في العبادة والمجاهد في سبيل الله ويضاهيهما في الثواب حيث يطهّر حسن الخلق النفس الإنسانية من أدران الذنوب وتلوّثات الأهواء والنوازع الدنيوية ، هذا بالنسبة إلى النتائج المعنوية لحسن الخلق ، أمّا بالنسبة إلى الآثار والنتائج المادية والدنيوية فقد وردت تعبيرات مهمّة في النصوص الدينية منها :

٤ ـ نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «حسُنُ الخُلقِ يُثبِتُ المَوَدّةَ» (٣).

٥ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «لا عَيشَ أَهنَأَ مِنْ حُسنِ الخُلقِ» (٤).

٦ ـ ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «البِرُّ وَحُسنُ الخُلقِ يَعمُران الدِّيارَ وَيَزِيدانِ فِي الأَعمارِ» (٥).

٧ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «حُسنُ الخُلقِ يُدِرُّ الأرزاقَ» (٦).

٨ ـ وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : «فِي سَعَةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزَاقِ» (٧).

ومن مجموع هذه الروايات الإسلامية المذكورة أعلاه ندرك جيداً الأهميّة البالغة لحسن الخلق في حركة الحياة المادية والمعنوية للإنسان ، ويتّضح من خلال ذلك تأكيد الإسلام على هذا الأمر المهم ، وفي الواقع أنّ جميع النتائج الإيجابية والبركات المادية والمعنوية مترتبة على حسن الخلق مع الناس بحيث يمكن القول بأنّ حسن الخلق أحد الاسس في

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٠ ، ح ٥.

٢ ـ المصدر السابق ، ص ١٠١.

٣ ـ بحار الانوار ، ج ٧٤ ، ص ١٤٨ ، ٧١.

٤ ـ غرر الحكم ، ج ٦ ، ص ٣٩٩.

٥ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠٠ ، ح ٨.

٦ ـ غرر الحكم.

٧ ـ بحار الانوار ، ج ٧٥ ، ص ٥٣ ، ح ٨٦.

١١٩

دائرة المفاهيم الإسلامية والتعليمات الدينية.

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض النقاط :

تعريف حسن الخلق :

لعل من الامور الواضحة هو مفهوم حسن الخلق فلا حاجة إلى تعريفه لوضوح معناه ومداه لدى الناس ، ولكن لغرض إستجلاء هذا المفهوم أكثر نقول : إنّ حسن الخلق عبارة عن مجموعة من الصفات والسلوكيات التي تتمثّل بمداراة الناس ، البشاشة ، الكلام الطيب وإظهار المحبّة ، ورعاية الأدب ، التبسّم ، والتحمّل والحلم مقابل أذى الآخرين وأمثال ذلك ، فلو إمتزجت هذه الصفات مع العمل وترجمها الإنسان في حركة الواقع الخارجي سمّي ذلك حسن الخلق.

وفي حديث جامع جميل عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تعريف حسن الخلق ورد أنّ أحد أصحاب الإمام سأله : ما حَدُّ حُسنِ الخُلقِ؟

قال الإمام عليه‌السلام : «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلقى أَخاكَ ببُشرٍ حسنٍ» (١).

وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير حسن الخلق قال : «إِنَّما تَفسِيرُ حَسنُ الخُلقِ ما أَصابَ الدُّنيا يَرضى وَإِن لَم يُصِبهُ لَم يَسخَطْ» (٢).

النتائج المترتبة على حسن الخلق :

قرأنا في الروايات المذكورة آنفاً نقاط مهمّة تتحدّث عن النتائج والآثار المادية والمعنوية لحسن الخلق في حركة الإنسان والواقع الاجتماعي وتحتاج إلى شيء من التفصيل والتحليل.

ومن الآثار الاجتماعية والدنيوية لهذه السمة الأخلاقية هو أنّ حسن الخلق يتسبب في

__________________

١ ـ بحار الانوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٨٩ ، ح ٤٢.

٢ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ١٧ ، ح ٥٢٢٩.

١٢٠