التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

و (مِنْ) في قوله ـ سبحانه ـ : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ابتدائية ، والجار والمجرور في محل نصب ، صفة لقوله : (مَثَلاً).

أى : ضرب لكم ـ أيها الناس ـ مثلا ، يظهر منه بطلان الشرك ظهورا واضحا ، وهذا المثل كائن من أحوال أنفسكم ، التي هي أقرب شيء لديكم.

قال القرطبي : والآية نزلت في كفار قريش ، كانوا يقولون في التلبية : «لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) تصوير وتفصيل للمثل ، والاستفهام للإنكار والنفي. و (مِنْ) الأولى للتبعيض ، والثانية لتأكيد النفي ، وقوله (شُرَكاءَ) مبتدأ ، وخبره (لَكُمْ) وقوله : (مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) متعلق بمحذوف حال من شركاء.

وقوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) جواب للاستفهام الذي هو بمعنى النفي. والجملة مبتدأ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٣.

٨١

وخبر. وقوله : (تَخافُونَهُمْ) خبر ثان لأنتم ، وقوله : (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) صفة لمصدر محذوف ، أى : تخافونهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم.

والمعنى : ضرب الله ـ تعالى ـ لكم ـ أيها الناس ـ مثلا منتزعا من أنفسكم التي هي أقرب شيء إليكم ، وبيان هذا المثل : أنكم لا ترضون أن يشارككم في أموالكم التي رزقناكم إياها ، عبيدكم وإماؤكم ، مع أنهم مثلكم في البشرية ، ونحن الذين خلقناهم كما خلقناكم ، بل إنكم لتخافون على أموالكم منهم ، أن يشاركوكم فيها ، كما تخافون عليها من الأحرار المشابهين لكم في الحرية وفي جواز التصرف في تلك الأموال. فإذا كان هذا شأنكم مع عبيدكم ـ الذين هم مثلكم في البشرية ، والذين لم تخلقوهم بل نحن الذين خلقناكم وخلقناهم ـ فكيف أجزتم لأنفسكم أن تشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، مع أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكم ولهم ، والرازق لكم ولهم؟!!.

إن تصرفكم هذا ظاهر التناقض والبطلان ، لأنكم لم ترضوا أن يشارككم غيركم في أموالكم ، ورضيتم أن تشركوا مع الله ـ تعالى ـ : غيره في العبادة ، مع أنه ـ سبحانه ـ هو الخالق والرازق لكل شيء.

فالمقصود من الآية الكريمة ، إبطال الشرك بأبلغ أسلوب ، وأوضح بيان ، وأصدق حجة ، وأقوى دليل.

ولذا ختمها ـ سبحانه ـ بقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أى : مثل ذلك التفصيل الجلى الواضح ، نفصل الآيات الدالة على وحدانيتنا ، لقوم يعقلون هذه الأمثال ، وينتفعون بها في إخلاص العبادة لله الواحد القهار.

قال الإمام القرطبي : قال بعض العلماء : هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين ، لافتقار بعضهم إلى بعض ، ونفيها عن الله ـ سبحانه ـ وذلك أنه قال ـ سبحانه ـ : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فيجب أن يقولوا : ليس عبيدنا شركاءنا فيما رزقتنا ، فيقال لهم : فكيف يتصور أن تنزهوا أنفسكم عن مشاركة عبيدكم ، وتجعلوا عبيدي شركائى في خلقي ، فهذا حكم فاسد ، وقلة نظر وعمى قلب!!

فإذا أبطلت الشركة بين العبيد وساداتهم فيما يملكه السادة ، والخلق كلهم عبيد الله ـ تعالى ـ فيبطل أن يكون شيء من العالم شريكا لله ـ تعالى ـ في شيء من أفعاله.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : وهذه المسألة أفضل للطالب ، من حفظ ديوان كامل في الفقه ،

٨٢

لأن جميع العبادات البدنية ، لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب فافهم ذلك (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن هؤلاء المشركين لم ينتفعوا بهذه الأمثال لاستيلاء الجهل والعناد عليهم فقال : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ...

أى : لم ينتفع هؤلاء الظالمون بهذا المثل الجلى في إبطال الشرك ، بل لجوا في كفرهم ، واتبعوا أهواءهم الزائفة ، وأفكارهم الفاسدة ، وجهالاتهم المطبقة دون أن يصرفهم عن ذلك علم نافع (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أى : إذا كان هذا هو حالهم ، فمن الذي يستطيع أن يهدى إلى الحق ، من أضله الله ـ تعالى ـ : عنه بسبب زيفه واستحبابه العمى على الهدى.

إنه لا أحد يستطيع ذلك (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من عقابه ـ سبحانه ـ لهم.

ثم أمر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يثبت على الحق الذي هداه ـ عزوجل ـ إليه فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) .. والفاء هي الفصيحة ، وقوله : (فَأَقِمْ) من الإقامة على الشيء والثبات عليه ، وعدم التحول عنه.

قوله : (حَنِيفاً) من الحنف ، وهو الميل من الباطل إلى الحق ، وضده الجنف ، و (حَنِيفاً) حال من فاعل (فَأَقِمْ).

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بطلان الشرك فاثبت على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، وأقبل على هذا الدين الذي أوحاه الله إليك ، بدون التفات عنه ، أو ميل إلى سواه.

قال صاحب الكشاف : قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أى : فقوم وجهك له وعدّله ، غير ملتفت عنه يمينا أو شمالا ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه ، وسدد إليه نظره ، وقوم له وجهه ، مقبلا به عليه.

والمراد بالفطرة في قوله ـ تعالى ـ : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ) الملة. أى : ملة الإسلام والتوحيد.

أو المراد بها : قابلية الدين الحق ، والتهيؤ النفسي لإدراكه. والأصل فيها أنها بمعنى الخلقة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٣.

٨٣

أى : اثبت ـ أيها الرسول الكريم ـ على هذا الدين الحق ، والزموا ـ أيها الناس ـ فطرة الله ، وهي ملة الحق ، التي فطر الناس عليها ، وخلقهم قابلين لها.

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يقول ـ تعالى ـ : فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه ـ تعالى ـ : فطر خلقه على معرفته وتوحيده.

وفي الحديث : «إنى خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم ـ أى حولتهم ـ الشياطين عن دينهم».

وروى البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول : فطرة الله التي فطر الناس عليها ..» (١).

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم وحّد الخطاب أولا ، ثم جمع؟ قلت : خوطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا ، وخطاب الرسول خطاب لأمته ، مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص (٢).

وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة التي فطر ـ سبحانه ـ الناس عليها.

أى : الزموا فطرة الله التي هي دين الإسلام ، وقبول تعاليمه والعمل بها ، لأن هذا الدين قد ارتضاه الله ـ تعالى ـ لكم ، ولا تبديل ولا تغيير لما فطركم عليه وارتضاه لكم.

و (ذلِكَ) الدين الذي اختاره ـ سبحانه ـ لكم ، هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أى : القويم المستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف.

فاسم الإشارة يعود إلى الدين الذي أمرنا ـ سبحانه ـ بالثبات عليه ، في قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك لبيان موقف الناس من هذا الدين القيم.

أى : ذلك الدين الذي ارتضيته لكم هو الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٤٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٩.

٨٤

الحقيقة ، بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، واتباعهم للأهواء الزائفة ، والتقاليد الفاسدة.

ثم حرضهم ـ سبحانه ـ على الاستمرار في اتباع توجيهات هذا الدين القيم فقال : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

قال القرطبي : وفي أصل الإنابة قولان : أحدهما : أنه القطع. ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع ، فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله ـ عزوجل ـ بالطاعة. والثاني : أن أصله الرجوع ، مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى ، ومنه النوبة لأنها الرجوع إلى عادة ، ولفظ (مُنِيبِينَ) منصوب على الحال (١).

والمعنى : أقيموا وجوهكم ـ أيها الناس ـ لخالقكم وحده ، حالة كونكم راجعين إليه بالتوبة والطاعة ، ومقبلين إليه بالاستغفار والعبادة ، ومتقين له في كل أحوالكم ، ومداومين على إقامة الصلاة في أوقاتها بخشوع واطمئنان.

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المبدلين لفطرة الله ـ تعالى ـ المتبعين لأهوائهم وشهواتهم.

وقوله (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) بدل مما قبله.

أى : ولا تكونوا من المشركين ، الذين اختلفوا في شأن دينهم اختلافات شتى على حسب أهوائهم ، وصاروا شيعا وفرقا وأحزابا متنازعة.

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أى : كل حزب منهم صار مسرورا بما لديه من دين باطل ، وملة فاسدة ، وعقيدة زائفة ، وهذا الفرح بالباطل سببه جهلهم ، وانطماس بصائرهم عن الانقياد للحق.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الناس في السراء والضراء وعند ما يوسع الله ـ تعالى ـ في أرزاقهم ، وعند ما يضيق عليهم هذه الأرزاق ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١.

٨٥

سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٣٧)

أى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) من قحط أو مصيبة في المال أو الولد ، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أى : إذا نزل بهم الضر ، أسرعوا بالدعاء إلى الله ـ تعالى ـ متضرعين إليه أن يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء.

هذا حالهم عند الشدائد والكروب ، أما حالهم عند العافية والغنى وتفريج الهموم ، فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

و (إِذا) الأولى شرطية ، والثانية فجائية.

أى : هم بمجرد نزول الضر بهم يلجئون إلى الله ـ تعالى ـ لإزالته ، ثم إذا ما كشفه عنهم ، وأحاطهم برحمته ، أسرع فريق منهم بعبادة غيره ـ سبحانه ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) : إنصاف وتشريف لفريق آخر من الناس ، من صفاتهم أنهم يذكرون الله ـ تعالى ـ في كل الأحوال ، ويصبرون عند البلاء ، ويشكرون عند الرخاء.

والتنكير في قوله ـ سبحانه ـ «ضر ، ورحمة» للإشارة إلى أن هذا النوع من الناس ، يجزعون عند أقل ضر ، ويبطرون ويطغون لأدنى رحمة ونعمة.

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هي العاقبة. أى : فعلوا ما فعلوا من الجزع عند الضر ، ومن البطر عند النعم ، ليكون مآل حالهم إلى الكفر والجحود لنعم الله ، وإلى سوء العاقبة والمصير.

ثم التفت إليهم ـ سبحانه ـ بالخطاب مهددا ومتوعدا فقال : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أى : فتمتعوا ـ أيها الجاحدون لنعم الله ـ بهذا المتاع الزائل من متع الحياة الدنيا ، فسوف تعلمون ما يترتب على ذلك من عذاب مهين.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) التفات

٨٦

من الخطاب إلى الغيبة ، على سبيل التحقير لهم ، والتهوين من شانهم. والاستفهام للنفي والتوبيخ.

والسلطان : الحجة والبرهان.

أى : هؤلاء الذين أشركوا معنا غيرنا في العبادة ، هل نحن أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد لهم بأن شركهم لا يخالف الحق ، وتنطق بأن كفرهم لا غبار عليه؟

كلا ، إننا ما أنزلنا عليهم شيئا من ذلك ، وإنما هم الذين وقعوا في الشرك ، بغير علم ، ولا هدى ولا كتاب منير.

فالآية الكريمة تتهكم بهم لسفههم وجهلهم ، وتنفى أن يكون شركهم مبنيا على دليل أو ما يشبه الدليل ، أو أن يكون هناك من أمرهم به سوى تقاليدهم الباطلة ، وأهوائهم الفاسدة وأفكارهم الزائفة.

ثم عادت الصورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال بعض النفوس البشرية في حالتي العسر واليسر ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) من صحة أو غنى أو أمان (فَرِحُوا بِها) أى : فرحوا بها فرح البطر الأشر ، الذي لا يقابل نعم الله ـ تعالى ـ بالشكر ، ولا يستعملها فيما خلقت له.

فالمراد بالفرح هنا : الجحود والكفران للنعم ، وليس مجرد السرور بالحصول على النعم.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة أو مصيبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أى : بسبب شؤم معاصيهم ، وإهمالهم لشكر الله ـ تعالى ـ على نعمه (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أى : أسرعوا باليأس من رحمة الله ، وقنطوا من فرجه ، واسودت الدنيا في وجوههم ، شأن الذين لا يعرفون سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، والذين يعبدون الله على حرف ، فهم عند السراء جاحدون مغرورون .. وعند الضراء قانطون يائسون.

وعبر ـ سبحانه ـ في جانب الرحمة بإذا ، وفي جانب المصيبة بإن ، للإشعار بأن رحمته ـ تعالى ـ بعباده متحققة في كل الأحوال. وأن ما ينزل بالناس من مصائب ، هو بسبب ما اجترحوه من ذنوب.

ونسب ـ سبحانه ـ الرحمة إلى ذاته فقال : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) دون السيئة فقد قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) لتعليم العباد الأدب مع خالقهم ـ عزوجل ـ ، وإن كان الكل بيده ـ سبحانه ـ وبمشيئته ، وشبيه بهذا قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً).

٨٧

والتعبير بإذا الفجائية في قوله (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ، للإشارة إلى سرعة يأسهم من رحمة الله ـ تعالى ـ حتى ولو كانت المصيبة هينة بسيرة ، وذلك لضعف يقينهم وإيمانهم. إذ القنوط من رحمة الله ، يتنافى مع الإيمان الحق.

ثم عقب ـ سبحانه ـ على أحوالهم هذه ، بالتعجيب من شأنهم ، وبالتقريع لهم على جهلهم ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

أى : أجهل هؤلاء الناس الذين لم يخالط الإيمان قلوبهم ، ولم يشاهدوا بأعينهم أن الله ـ تعالى ـ بمقتضى حكمته ، يوسع الرزق لمن يشاء من عباده. ويضيقه على من يشاء منهم ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل.

إن واقع الناس يشهد ويعلن : أن الله ـ تعالى ـ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، فما لهؤلاء القوم ينكرون هذا الواقع بأفعالهم القبيحة ، حيث إنهم يبطرون عند السراء ، ويقنطون عند الضراء؟ فالمقصود بالآية الكريمة توبيخهم على عدم فهمهم لسنن الله في خلقه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أحوال الناس ، ومن قدرتنا على كل شيء (لَآياتٍ) واضحات ، وعبر بينات ، لقوم يؤمنون بما أرشدناهم إليه ، ويعملون بما يقتضيه إيمانهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يجب على المسلم بالنسبة للمال الذي وهبه الله إياه ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

٨٨

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٠)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) .. للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل من يصلح له من أمته. والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ، من أن بسط الأرزاق وقبضها بيدي وحدي ، فأعط ـ أيها الرسول الكريم ـ ذا القربى حقه من المودة والصلة والإحسان ، وليقتد بك في ذلك أصحابك وأتباعك.

وأعط ـ أيضا ـ (الْمِسْكِينَ) الذي لا يملك شيئا ذا قيمة ، حقه من الصدقة والبر ، وكذلك (ابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع عن ماله في سفره ، ولو كان غنيا في بلده.

وقدم ـ سبحانه ـ الأقارب ، لأن دفع حاجتهم واجب من الواجبات التي جعلها ـ سبحانه ـ للقريب على قريبه.

قال القرطبي : واختلف في هذه الآية ، فقيل : إنها منسوخة بآية المواريث. وقيل : لا نسخ ، بل للقريب حق لازم في البر على كل حال ، وهو الصحيح ، قال مجاهد وقتادة : صلة الرحم فرض من الله ـ عزوجل ـ ، حتى قال مجاهد : لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجة (١).

وقال الجمل في حاشيته : وعدم ذكر بقية الأصناف المستحقين للزكاة ، يدل على أن ذلك في صدقة التطوع ، وقد احتج أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ بهذه الآية على وجوب نفقة المحارم ، والشافعى ـ رحمه‌الله ـ قاس سائر الأقارب ـ ما عدا الفروع والأصول ـ على ابن العم ، لأنه لا ولادة بينهم.

ثم قال : وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للإنسان مال زائد ، لأن المقصود هنا : الشفقة العامة ، والفقير داخل في المسكين ..» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ الآثار الطيبة المترتبة على هذا البر والعطاء فقال : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٤ ص ٣٥.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٩٤.

٨٩

أى : ذلك الإيتاء لهؤلاء الثلاثة ، خير وأبقى عند الله ـ تعالى ـ للذين يريدون بصدقتهم وإحسانهم وجه الله ، وأولئك المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، هم الكاملون في الفلاح ، والظفر بالخير في الدنيا والآخرة.

وبعد أن حضهم على صلة الأقارب والمساكين وابن السبيل ، نفرهم من تعاطى الربا فقال : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).

والربا : الزيادة مطلقا. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). أى : زادت.

قال الآلوسى ما ملخصه : والظاهر أن المراد بالربا هنا ، الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع. ويشهد لذلك ما روى عن السدى ، من أن الآية نزلت في ربا ثقيف ، كانوا يرابون ، وكذلك كانت قريش تتعاطى الربا.

وعن ابن عباس وغيره : أن المراد به هنا العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة ، وعليه فتسميتها ربا مجاز ، لأنها سبب للزيادة (١).

ويبدو لنا أن المراد بالربا هنا ، الربا الذي حرمه الله ـ تعالى ـ بعد ذلك تحريما قاطعا ، وأن المقصود من الآية التنفير منه على سبيل التدرج ، حتى إذا جاء التحريم النهائى له ، تقبلته نفوس الناس بدون مفاجأة لهذا التحريم.

قال صاحب الكشاف : هذه الآية في معنى قوله ـ تعالى ـ (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). سواء بسواء. يريد : وما أعطيتم أكلة الربا (مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي) أموالهم ، أى : ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه (٢).

ثم حض ـ سبحانه ـ على التصدق في سبيله فقال : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أى من صدقة تتقربون بها إلى الله ، و (تُرِيدُونَ) بأدائها (وَجْهَ اللهِ) أى : رضاه وثوابه.

(فَأُولئِكَ) الذين يفعلون ذلك (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أى : ذوو الأضعاف المضاعفة من الثواب والعطاء الكريم ، فالمضعفون جمع مضعف ـ بكسر العين ـ على أنه اسم فاعل من أضعف ، إذا صار ذا ضعف ـ بكسر فسكون ـ كأقوى وأيسر ، إذا صار ذا قوة ويسار.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ولم يقل : فأنتم المضعفون ، لأنه رجع

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٤٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٨١.

٩٠

من المخاطبة إلى الغيبة ، كأنه قال لملائكته : فأولئك الذين يريدون وجهى بصدقاتهم ، هم المضعفون ، فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مظاهر فضله على الناس فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) على غير مثال سابق (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) من فضله بأنواع من الرزق الذي لا غنى لكم عنه في معاشكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد انقضاء أعماركم في هذه الحياة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة للحساب والجزاء.

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) للإنكار والنفي. أى : ليس من شركائكم الذين عبدتموهم من يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك ، فكيف اتخذتموهم آلهة وأشركتموهم معى في العبادة؟ إن الله ـ تعالى ـ وحده هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه وتقدس عن شرك هؤلاء المشركين وعن جهل أولئك الجاهلين.

وبعد هذا التوجيه الحكيم ، يسوق ـ سبحانه ـ الآثار السيئة التي تترتب على الكفر والمعاصي ، ويأمر بالاعتبار بالسابقين ، ويبين عاقبة الأشرار وعاقبة الأخيار فيقول :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٤٥)

٩١

قال ابن كثير ما ملخصه : قال ابن عباس وغيره : المراد بالبر هاهنا ، الفيافي. وبالبحر : الأمصار والقرى ، ما كان منها على جانب نهر.

وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف. وبالبحر : البحر المعروف.

والقول الأول أظهر ، وعليه الأكثر ، ويؤيده ما ذكره ابن إسحاق في السيرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح ملك أيلة ، وكتب له ببحره ـ يعنى ببلده ـ (١).

والمعنى : ظهر الفساد في البر والبحر ، ومن مظاهر ذلك انتشار الشرك والظلم ، والقتل وسفك الدماء ، والأحقاد والعدوان ، ونقص البركة في الزروع والثمار والمطاعم والمشارب ، وغير ذلك مما هو مفسدة وليس بمنفعة ..

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : وقال أبو العالية : من عصى الله في الأرض فقد أفسد فيها ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : «الحد يقام في الأرض ، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا».

والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت ، انكف الناس ، أو أكثرهم ، أو كثير منهم ، عن تعاطى المحرمات. وإذا ارتكبت المعاصي كان سببا في محق البركات .. وكلما أقيم العدل كثرت البركات والخيرات. وقد ثبت في الحديث الصحيح : «إن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) .. بيان لسبب ظهور الفساد. أى : عم الفساد وطم في البر والبحر ، بسبب اقتراف الناس للمعاصي. وانهماكهم في الشهوات ، وتفلتهم من كل ما أمرهم الله ـ تعالى ـ به ، أو نهاهم عنه. كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

فظهور الفساد وانتشاره ، لا يتم عبثا أو اعتباطا ، وإنما يتم بسبب إعراض الناس عن طاعة الله ـ تعالى ـ ، وارتكابهم للمعاصي ...

ثم بين ـ سبحانه ـ ما ترتب على الوقوع في المعاصي من بلاء واختبار ، فقال : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

واللام في «ليذيقهم» للتعليل وهي متعلقة بظهر. أى : ظهر الفساد ... ليذيق ـ سبحانه ـ الناس نتائج بعض أعمالهم السيئة ، كي يرجعوا عن غيهم وفسقهم ، ويعودوا إلى الطاعة والتوبة.

__________________

(١ و ٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٢٦.

٩٢

ويجوز ان تكون متعلقة بمحذوف ، اى : عاقبهم بانتشار الفساد بينهم ، ليجعلهم يحسون بسوء عاقبة الولوغ في المعاصي ، ولعلهم يرجعون عنها ، إلى الطاعة والعمل الصالح.

ثم يلفت ـ سبحانه ـ أنظار الناس إلى سوء عاقبة من ارتكس في الشرك والظلم ، فيقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ، كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ). أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس : سيروا في الأرض سير المتأملين المعتبرين ، لتروا بأعينكم ، كيف كانت عاقبة الظالمين من قبلكم ...

لقد كانت عاقبتهم الدمار والهلاك ، بسبب إصرار أكثرهم على الشرك والكفر ، وانغماس فريق منهم في المعاصي والفواحش.

فالمراد بالسير ، ما يترتب عليه من عظات وعبر ، حتى لا تكون عاقبة اللاحقين ، كعاقبة السابقين ، في الهلاك والنكال.

ثم أكد ـ سبحانه ـ ما سبق أن أمر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثبات على الحق فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) .. أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لك ـ أيها الرسول الكريم ـ من سوء عاقبة الأشرار ، وحسن عاقبة الأخيار. فاثبت على هذا الدين القويم ، الذي أوحيناه إليك ، ولا تتحول عنه إلى جهة ما.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أى : اثبت على هذا الدين القيم ، من قبل أن يأتى يوم القيامة ، الذي لا يقدر أحد على ردّه أو دفع عذابه إلا الله ـ تعالى ـ وحده.

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الناس في هذا اليوم فقال : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ).

أى : يتفرقون. وأصله يتصدعون ، فقلبت تاؤه صادا وأدغمت. والتصدع التفرق : يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه قول الشاعر :

وكنا كندمانى جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

أى : لن يتفرقا.

والمعنى : اثبت على هذا الدين ، من قبل أن يأتي يوم القيامة ، الذي يتفرق فيه الناس إلى فريقين ثم بين ـ سبحانه ـ الفريق الأول فقال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أى : من كفر من الناس ، فعاقبة كفره واقعة عليه لا على غيره ، وسيتحمل وحده ما يترتب على ذلك من عذاب مهين.

قال صاحب الكشاف : قوله (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضار ،

٩٣

لأن من كان ضاره كفره ، فقد أحاطت به كل مضرة» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الفريق الثاني فقال : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى : ومن عمل في دنياه عملا صالحا ، فإنه بسبب هذا العمل يكون قد مهد وسوى لنفسه مكانا مريحا يستقر فيه في الآخرة.

والمهاد : الفراش. ومنه مهاد الصبى أى فراشه. ويقال مهدت الفراش مهدا ، أى : بسطته ووطأته. ومهدت الأمور. أى : سويتها وأصلحتها.

فالجملة الكريمة تصوير بديع للثمار الطيبة التي تترتب على العمل الصالح في الدنيا ، حتى لكأن من يعمل هذا العمل ، يعد لنفسه في الآخرة مكانا معبدا ، ومضجعا هنيئا ، ينزل فيه وهو في أعلى درجات الراحة والنعيم :

قال ابن جرير : قوله ـ تعالى ـ (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أى : فلأنفسهم يستعدون ، ويسوون المضجع ، ليسلموا من عقاب ربهم ، وينجوا من عذابه ، كما قال الشاعر :

أمهد لنفسك ، حان السقم والتلف

ولا تضيعن نفسا مالها خلف (٢)

ثم بين ـ سبحانه ـ ما اقتضته حكمته وعدالته فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

أى : فعل ما فعل ـ سبحانه ـ من تقسيم الناس إلى فريقين ، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات ، الجزاء الحسن الذي يستحقونه ، وليعطيهم العطاء الجزيل من فضله ، لأنه بحبهم ، أما الكافرون ، فإنه ـ سبحانه ـ لا يحبهم ولا يرضى عنهم.

ثم تعود السورة الكريمة إلى الحديث عن آيات الله ـ تعالى ـ الدالة على قدرته ، وعن مظاهر فضله على الناس ورحمته بهم ، وعن الموقف الجحودى الذي وقفه بعضهم من هذه النعم .. قال ـ تعالى ـ :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٨٣.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٢١ ص ٣٣.

٩٤

بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٥٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ.) .. بيان لأنواع أخرى من الظواهر الكونية الدالة على قدرته ـ عزوجل ـ.

أى : ومن الآيات والبراهين الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ونفاذ قدرته ، أنه ـ سبحانه ـ يرسل بمشيئته وإرادته الرياح ، لتكون بشارة بأن من ورائها أمطارا ، فيها الخير الكثير للناس.

قال الآلوسى : قوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) أى : الجنوب ، ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا ، والصبا : ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. والشمال : ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر ، فإنها رياح الرحمة. أما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل ، فريح العذاب ...» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٥١.

٩٥

وقوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) .. بيان للفوائد التي تعود على الناس من إرسال الرياح التي تعقبها الأمطار ، وهو متعلق بقوله (يُرْسِلَ).

أى : يرسل الرياح مبشرات بالأمطار ويرسلها ليمنحكم من رحمته الخصب والنماء لزرعكم ، ولتجرى الفلك عند هبوبها في البحر بإذنه ـ تعالى ـ ولتبتغوا أرزاقكم من فضله ـ سبحانه ـ عن طريق الأسفار ، والانتقال من مكان إلى آخر ، ولكي تشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعم : فإنكم إذا شكرتموه ـ سبحانه ـ على نعمه زادكم منها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.) .. كلام معترض بين الحديث عن نعمة الرياح ، لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لحقه من قومه من أذى.

أى ولقد أرسلنا من قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ رسلا كثيرين ، إلى قومهم ليهدوهم إلى الرشد ، وجاء كل رسول إلى قومه بالحجج الواضحات التي تدل على صدقه.

وقوله (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) معطوف على كلام محذوف. أى : أرسلناهم بالحجج الواضحات ، فمن أقوامهم من آمن بهم ، ومنهم من كذبهم ، فانتقمنا من المكذبين لرسلهم.

(وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) أى : وكان نصر المؤمنين حقا أوجبناه على ذاتنا ، فضلا منا وكرما ، وتكريما وإنصافا لمن آمن بوحدانيتنا ، وأخلص العبادة لنا.

«وحقا» خبر كان ، و «نصر المؤمنين» اسمها و «علينا متعلق بقوله حقا.

قال ابن كثير : قوله (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) هو حق أوجبه على نفسه الكريمة ، تكرما وتفضلا ، كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

وعن أبى الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه ، إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة : ثم تلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية» (١).

ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن الرياح وما يترتب عليها من منافع فتقول : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) بقدرته ومشيئته.

(فَتُثِيرُ سَحاباً) أى : هذه الرياح التي يرسلها الله ـ تعالى ـ تتحرك في الجو وفق

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٢٨.

٩٦

إرادته ـ سبحانه ـ وتحرك السحاب وتنشره من مكان إلى آخر.

(فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) : أى فيبسط الله ـ تعالى ـ هذا السحاب في طبقات الجو ، بالكيفية التي يختارها ـ سبحانه ـ ويريدها ، بأن يجعله تارة متكاثفا ، وتارة متناثرا ، وتارة من جهة الشمال ، وتارة من جهات غيرها.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أى : ويجعله قطعا بعضها فوق بعض تارة أخرى. والكسف : جمع كسفه ، وهي القطعة من السحاب.

(فَتَرَى الْوَدْقَ) أى : المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أى يخرج ويتساقط من خلال هذا السحاب ، ومن بين ذراته. (فَإِذا أَصابَ بِهِ) ، أى : بهذا المطر (مَنْ يَشاءُ) إصابته به (مِنْ عِبادِهِ) بأن ينزله على أراضيهم وعلى بلادهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أى : يفرحون بذلك ، لأنه يكون سببا في حياتهم وحياة دوابهم وزروعهم ..

وأعرف الناس بنعمة المطر ، أولئك الذين يعيشون في الأماكن البعيدة عن الأنهار. كأهل مكة ومن يشبهونهم ممن تقوم حياتهم على مياه الأمطار.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم قبل نزول تلك الأمطار عليهم فقال : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ).

وإن مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، والضمير في (يُنَزَّلَ) يعود للمطر ، وفي قوله (مِنْ قَبْلِهِ) يعود لنزول المطر ـ أيضا ـ على سبيل التأكيد. وقوله : (لَمُبْلِسِينَ) خبر كان. والإبلاس : اليأس من الخير ، والسكوت ، والانكسار غما وحزنا. يقال : أبلس الرجل ، إذا سكت على سبيل اليأس والذل والانكسار.

أى : هم عند نزول الأمطار يستبشرون ويفرحون ، ولو رأيت حالهم قبل نزول الأمطار لرأيتهم في غاية الحيرة والقنوط والإبلاس ، لشدة حاجتهم إلى الغيث الذي طال انتظارهم له وتطلعهم إليه دون أن ينزل.

قال صاحب الكشاف : وقوله (مِنْ قَبْلِهِ) من باب التكرير والتوكيد ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) (١) «ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم ، وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك» (٢).

__________________

(١) سورة الحشر الآية ١٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٨٥.

٩٧

ثم لفت ـ سبحانه ـ أنظار الناس إلى ما يترتب على نعمة المطر من آثار عظيمة فقال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) .. والفاء للدلالة على سرعة الانتقال من حالة اليأس إلى الاستبشار. أى : فانظر ـ أيها العاقل ـ نظرة تعقل واتعاظ واستبصار ، إلى الآثار المترتبة على نزول المطر ، وكيف أن نزوله حول النفوس من حالة الحزن إلى حالة الفرح ، وجعل الوجوه مستبشرة بعد أن كانت عابسة يائسة.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) في محل نصب على تقدير الخافض. أى : فانظر إلى آثار رحمة الله بعد نزول المطر ، وانظر وتأمل كيف يحيى الله ـ تعالى ـ بقدرته ، الأرض بعد موتها بأن يجعلها خضراء ويانعة ، بعد أن كانت جدباء قاحلة.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) يعود على الله ـ تعالى ـ. أى : إن ذلك الإله العظيم الذي أحيا الأرض بعد موتها ، لقادر على إحياء الموتى ، إذ لا فرق بينهما بالنسبة لقدرة الله التي لا يعجزها شيء. (وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن جملة الأشياء المقدور عليها ، إحياء الموتى.

وهكذا يسوق القرآن الكريم الأدلة على البعث ، بأسلوب منطقي ، منتزع من واقع الناس ، ومن المشاهد التي يرونها في حياتهم.

وبعد أن صور ـ سبحانه ـ أحوال الناس عند رؤيتهم للرياح التي تثير السحب المحملة بالأمطار ، وأنهم عند رؤيتها يفرحون ويستبشرون. بعد أن صور ذلك بأسلوب بديع ، أتبع ذلك بتصوير حالهم عند ما يرون ريحا تحمل لهم الرمال والأتربة ، وتضر بمزروعاتهم فقال ـ تعالى ـ (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).

والضمير في «رأوه» يعود إلى النبات المفهوم من السياق. أى : هذا حال الناس عند ما يرون الرياح التي تحمل لهم الأمطار ، أما إذا أرسلنا عليهم ريحا معها الأتربة والرمال ، فرأوا نباتهم وزروعهم قد اصفرت واضمحلت وأصابها ما يضرها أو يتلفها .. فإنهم يظلون من بعد إرسال تلك الريح عليهم ، يكفرون بنعم الله ، ويجحدون آلاءه السابقة ، ويقابلون ما أرسلناه عليهم بالسخط والضيق ، لا بالاستسلام لقضائنا ، وملازمة طاعتنا.

قال الآلوسى ما ملخصه : واللام في قوله : (وَلَئِنْ) موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط ، والفاء في «فرأوه» فصيحة ، واللام في قوله «لظلوا» لام جواب القسم الساد مسد الجوابين ، والماضي بمعنى المستقبل .. وفيما ذكر ـ سبحانه ـ من ذمهم على عدم تثبتهم ما لا يخفى ، حيث كان من الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله ـ تعالى ـ في كل حال ، ويلجئوا إليه بالاستغفار ، إذا احتبس منهم المطر ، ولا ييأسوا من روح الله ـ تعالى ـ

٩٨

ويبادروا إلى الشكر بالطاعة ، إذا أصابهم برحمته ، وأن يصبروا على بلائه إذا اعترى زرعهم آفة ، فعكسوا الأمر ، وأبوا ما يجديهم ، وأتوا بما يؤذيهم ...» (١).

ثم سلى ـ سبحانه ـ نبيه عما لحقه منهم من أذى ، بعد أن ذكر له جانبا من تقلب أحوالهم ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ). أى : فاصبر ـ أيها الرسول ـ لحكم ربك ، واثبت على ما أنت عليه من حق (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) إذا ناديتهم (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) إذا ما دعوتهم أو وعظتهم.

وقوله (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) بيان لإعراضهم عن الحق ، بعد بيان كونهم كالأموات وكالصم.

ثم وصفهم بالعمى فقال : (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) بسبب فقدهم الانتفاع بأبصارهم ، كما فقدوا الانتفاع ببصائرهم.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أى : ما تستطيع أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أى : منقادون للحق ومتبعون له.

فالآيتان الكريمتان تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من هؤلاء المشركين ، وعن إخفاق جهوده مع كثير منهم ، لانطماس بصائرهم ، حيث شبههم ـ سبحانه ـ بالموتى وبالصم وبالعمى ، في عدم انتفاعهم بالوعظ والإرشاد ..

وبعد هذا التطواف في أعماق الأنفس والآفاق. أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، تذكر الناس بمراحل حياتهم ، وبأحوالهم يوم القيامة ، وبفضائل القرآن الكريم ، وبأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر والثبات .. قال ـ تعالى ـ :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٥٤.

٩٩

كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) .. استدلال آخر على قدرته ـ تعالى ـ ومعنى (مِنْ ضَعْفٍ) من نطفة ضعيفة ، أو في حال ضعف ، وهو ما كانوا عليه في الابتداء من الطفولة والصغر .. وقرأ الجمهور بضم الضاد ، وقرأ عاصم وحمزة بفتحها ، والضعف ـ بالضم والفتح ـ خلاف القوة ، وقيل بالفتح في الرأى ، وبالضم في الجسد ...» (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ولم يقل خلقكم ضعافا .. للإشعار بأن الضعف هو مادتهم الأولى التي تركب منها كيانهم ، فهو شامل لتكوينهم الجسدى ، والعقلي ، والعاطفى ، والنفسي ... إلخ. أى : الله ـ تعالى ـ بقدرته ، هو الذي خلقكم من ضعف ترون جانبا من مظاهره في حالة طفولتكم وحداثة سنكم ...

(ثُمَّ جَعَلَ) ـ سبحانه ـ (مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أى : ثم جعل لكم من بعد مرحلة الضعف مرحلة أخرى تتمثل فيها القوة بكل صورها الجسدية والعقلية والنفسية ..

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أى : ثم جعل من بعد مرحلة القوة ، مرحلة ضعف

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٤٦.

١٠٠