التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة الروم هي السورة الثلاثون في ترتيب المصحف أما ترتيبها في النزول فهي السورة الثانية والثمانون ، وقد كان نزولها بعد سورة الانشقاق.

٢ ـ وقد افتتحت بالحديث عن قصة معينة ، وهي قصة الحروب التي دارت بين الفرس والروم ، والتي انتهت في أول الأمر بانتصار الفرس ، ثم كان النصر بعد ذلك للروم.

قال ـ تعالى ـ : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

٣ ـ ثم وبخت السورة الكريمة الكافرين ، لعدم تفكرهم في أحوال أنفسهم ، وفي أحوال السابقين الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا ، وتوعدتهم بسوء المصير بسبب انطماس بصائرهم ، وإعراضهم عن دعوة الحق ، ووعدت المؤمنين بحسن الجزاء.

قال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ، فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

٤ ـ ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك اثنى عشر دليلا على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وقد بدئت هذه الأدلة بقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

٥ ـ وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ هذه الأدلة المتعددة على وحدانيته وقدرته ، أتبع ذلك بأن أمر الناس باتباع الدين الحق ، وبالإنابة إليه ـ تعالى ـ فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

٦١

فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

٦ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ أحوال الناس في السراء والضراء ، ودعاهم إلى التعاطف والتراحم ، ونفرهم من تعاطى الربا ، فقال ـ تعالى ـ : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

٧ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وبين الآثار السيئة التي تترتب على جحود هذه النعم ، ودعا الناس للمرة الثانية إلى اتباع الدين القيم ، الذي لا يقبل الله ـ تعالى ـ دينا سواه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ، وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).

٨ ـ ثم عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة الله في الرياح وفي إرسال الرسل ، وأمر كل عاقل أن يتأمل في آثار هذه النعم ، ليزداد إيمانا على إيمانه ، فقال ـ تعالى ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٩ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان أهوال الساعة ، وحكى أقوال أهل العلم والإيمان ، في ردهم على المجرمين عند ما يقسمون أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا سوى ساعة واحدة ، وأمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصبر على أذى أعدائه ، فقال ـ تعالى ـ : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

١٠ ـ وهكذا نجد أن سورة «الروم» قد أفاضت في الحديث عن الأدلة المتعددة ، التي تشهد بوحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، كما تشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، وبأن يوم القيامة حق وصدق ، كما ساقت آيات متعددة في المقارنة بين مصير الأخيار ، ومصير الأشرار ، ودعت الناس إلى الثبات على الدين الحق ، وهو دين الإسلام ، كما حضت على التعاطف والتراحم بين المسلمين ، ونهت عن تعاطى الربا ، لأنه لا يربو عند الله ـ تعالى ـ ، وإنما الذي يعطى من صدقات هو الذي يربو عند الله ـ عزوجل ـ كما ذكرت أنواعا من النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على عباده ، وأمرتهم بشكره ـ سبحانه ـ عليها ، لكي يزيدهم من فضله.

٦٢

هذه أهم المقاصد التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، وهناك مقاصد أخرى يراها من يتدبر هذه السورة الكريمة ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

٦٣
٦٤

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ)(٧)

سورة الروم من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد ذكرنا في أكثر من سورة آراء العلماء في هذه الحروف ، ورجحنا أن هذه الحروف قد ذكرها ـ سبحانه ـ في افتتاح بعض السور القرآنية ، للتنبيه إلى أن هذا القرآن من عند الله ، لأن الله ـ تعالى ـ قد أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل الحروف التي ينطق بها المشركون ، ومع ذلك فهم أعجز من أن يأتوا بسورة من مثله.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) .. روايات منها ، ما رواه ابن جرير ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : كانت فارس ظاهرة على الروم. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) .. قالوا : يا أبا بكر.

٦٥

إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين : قال : صدق. قالوا : هل لك أن نقامرك؟ ـ أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان ـ فبايعوه على أربع قلائص ـ جمع قلوص ، وهي من الإبل : الشابة ـ إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شيء. ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم؟ قالوا : دون العشر.

قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين في الأجل. قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك. (١).

وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : في سنة ٦١٣ ، وفي سنة ٦١٤ ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة. ففرح المشركون ، وشمتوا في المسلمين .. فنزلت هذه الآيات.

فلم يمض من البضع ـ وهو ما بين الثلاث إلى التسع ـ سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة ٦٢١ م. أى : قبل الهجرة بسنة (٢).

وأدنى بمعنى أقرب. والمراد بالأرض : أرض الروم.

أى : غلبت الروم في أقرب أرضها من بلاد الفرس.

قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، ـ على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ـ ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي الحجاز.

وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس (٣).

وقال الآلوسى : والمراد بالأرض : أرض الروم ، على أن «أل» نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم. أو المراد بها أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ) بشارة من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، بأن الله ـ تعالى ـ سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٠٥. وتفسير ابن جرير ج ٢١ ص ١٣.

(٢) تفسير القاسمى ج ١٢ ص ٤٧٦٥.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣١٠.

(٤) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٧.

٦٦

أى وهم ـ أى الروم ـ من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ حيث أخبر عن أمور ستقع في المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) جملة معترضة لبيان قدرة الله ـ تعالى ـ التامة النافذة ، في كل وقت وآن. أى : لله ـ تعالى ـ وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس لأحد من الخلق أن يخرج عما قدره ـ سبحانه ـ وأراده.

(وَيَوْمَئِذٍ) أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل ـ سبحانه ـ بهذا النصر شماتة المشركين في المسلمين ، وازداد المؤمنون ثباتا على ثباتهم.

قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، في قول طائفة كبيرة من العلماء ... فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب في الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مؤكد لما قبله. أى : ينصر ـ سبحانه ـ من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذي لا يغلبه غالب ، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.

ثم زاد ـ سبحانه ـ هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ).

ولفظ «وعد» منصوب بفعل محذوف.

أى : وعد الله المؤمنين بالنصر وبالفرح وعدا مؤكدا ، وقد اقتضت سنته ـ سبحانه ـ أنه لا يخلف وعده.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، لانطماس بصائرهم ، ولاستيلاء الجهل على عقولهم ، ولاستحواذ الشيطان عليهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣١٠.

٦٧

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعود للأكثر من الناس. أى : هؤلاء الأكثرون من الناس ، من أسباب جهلهم بسنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، أنهم لا يهتمون إلا بملاذ الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها ، ووسائل المعيشة فيها.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) وما فيها من حساب وثواب وعقاب (هُمْ غافِلُونَ) لأنهم آثروا الدار العاجلة ، على الدار الباقية ، فهم ـ كما قال ـ تعالى ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) بدل من قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده. ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا .. وفي تنكير قوله : (ظاهِراً) إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من جملة ظواهر الحياة الدنيا (١).

فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء الكافرين وأشباههم ، انهماكهم في شئون الدنيا انهماكا تاما ، جعلهم غافلين عما ينتظرهم في أخراهم من حساب وعقاب. ورحم الله القائل :

ومن البلية أن ترى لك صاحبا

في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله

وإذا يصاب بدينه لم يشعر

ثم حضهم ـ سبحانه ـ على التفكر في خلق أنفسهم ، وعلى التفكير في ملكوت السموات والأرض ، لعل هذا التفكر والتدبر يهديهم إلى الصراط المستقيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٦٨.

٦٨

وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) .. لتوبيخ أولئك الكافرين الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. و (ما) في قوله (ما خَلَقَ) للنفي ، والباء في قوله (إِلَّا بِالْحَقِ) للملابسة. وقوله : (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) معطوف على الحق.

والمعنى : أبلغ الجهل بهؤلاء الكافرين ، أنهم اكتفوا بالانهماك في متع الحياة الدنيا ، ولم يتفكروا في أحوال أنفسهم وفي أطوار خلقها ، لأنهم لو تفكروا لعلموا وأيقنوا ، أن الله ـ تعالى ـ : ما خلق السموات والأرض وما بينهما ، إلا ملتبسة بالحق الذي لا يشوبه باطل ، وبالحكمة التي لا يحوم حولها عبث ، وقد قدر ـ سبحانه ـ لهذه المخلوقات جميعها أجلا معينا تنتهي عنده ، وهو وقت قيام الساعة ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.

فالآية الكريمة تنعى على هؤلاء الأشقياء ، غفلتهم عن الدار الآخرة وما فيها من حساب ، وتحضهم على التفكر في تكوين أنفسهم ، وفي ملكوت السموات والأرض ، لأن هذا التفكر من شأنه أن يهدى إلى الحق ، كما تلفت أنظارهم إلى أن لهذا الكون كله نهاية ينتهى عندها ، وقت أن يأذن الله ـ تعالى ـ بذلك ، وبقيام الساعة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان موقف الأكثرية من الناس من قضية البعث والجزاء فقال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ).

أى : وإن كثيرا من الناس لفي انشغال تام بدنياهم عن آخرتهم ، ولا يؤمنون بما في الآخرة من حساب وثواب وعقاب ، بل يقولون : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ، وعلى رأس هذا الصنف من الناس مشركو مكة الذين أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، لإخراجهم من الظلمات إلى النور.

٦٩

وقال ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) .. للإشعار بان هناك عددا قليلا من الناس ـ بالنسبة لهؤلاء الكثيرين ـ قد آمنوا بلقاء ربهم ، واستعدوا لهذا اللقاء عن طريق العمل الصالح الذي يرضى خالقهم ـ عزوجل ـ.

ثم قرعهم ـ سبحانه ـ للمرة الثانية على عدم اتعاظهم بأحوال السابقين من الأمم قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ...

أى : أقعد مشركو مكة في ديارهم ، ولم يسيروا في الأرض سير المتأملين المتفكرين المعتبرين فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، من الأمم الماضية ، كقوم عاد وثمود ، وقوم لوط.

وقوله ـ سبحانه ـ : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بيان لحال هؤلاء الأقوام السابقين (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أى : كان أولئك السابقون أقوى من أهل مكة في كل مجال من مجالات القوة ، وكانوا أقدر منهم على حراثة الأرض ، وتهيئتها للزراعة ، واستخراج خيراتها من باطنها.

(وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أى : حرثوا الأرض وشقوا عن باطنها ، وعمروها عمارة أكثر من عمارة أهل مكة لها ، لأن أولئك الأقوام السابقين كانوا أقوى من كفار مكة ، وكانوا أكثر دراية بعمارة الأرض.

وهؤلاء الأقوام السابقون : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : بالمعجزات الواضحات ، وبالحجج الساطعات ، ولكن هؤلاء الأقوام كذبوا رسلهم ، فأهلكهم الله ـ تعالى ـ (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أى : فما كان الله ـ تعالى ـ من شأنه أن يعذبهم بدون ذنب.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث ارتكبوا من الكفر والمعاصي ما كان سببا في هلاكهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ المصير السيئ ، الذي حل بهؤلاء الكافرين فقال : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى).

ولفظ «عاقبة» قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ـ بفتح التاء ـ على أنه خبر «كان» قدم على اسمها ، وهو لفظ «السوأى» الذي هو تأنيث الأسوأ ، كالحسنى تأنيث الأحسن. وجرد الفعل «كان» من التاء مع أن السوأى مؤنث ، لأن التأنيث غير حقيقى.

فيكون المعنى : ثم كانت العقوبة السيئة وهي العذاب في جهنم ، عاقبة الذين عملوا في دنياهم الأعمال السيئات.

٧٠

وقرأ الباقون برفع لفظ «عاقبة» على أنه اسم كان ، وخبرها لفظ «السوأى» أى : ثم كانت عاقبة هؤلاء الكافرين الذين أساءوا في دنياهم ، أسوأ العقوبات وأقبحها ، أو كانت عاقبتهم العاقبة السوأى وهي الإلقاء بهم في النار وبئس القرار.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) تعليل لما آل إليه أمرهم من عاقبة سيئة ، أى : لأن كذبوا ، أو بأن كذبوا بحذف حرف الجر.

أى ؛ كانت عاقبتهم في الآخرة أسوأ العقوبات وأقبحها وهي العذاب في جهنم ، لأنهم في الدنيا كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وعلى صدق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا بها يستهزئون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على قدرته ، وبين أحوال الناس وأقسامهم يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ)(١٦)

أى : (اللهُ) ـ تعالى ـ وحده هو (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أى : ينشئه ويوجده على غير مثال سابق ، (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أى : إلى الحياة مرة أخرى يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للحساب والجزاء ، فيجازى ـ سبحانه ـ كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

وأفرد ـ سبحانه ـ : الضمير في (يُعِيدُهُ) باعتبار لفظ الخلق. وجمعه في قوله : (تُرْجَعُونَ) باعتبار معناه.

٧١

ثم ذكر ـ سبحانه ـ حال المجرمين يوم القيامة فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) و (يُبْلِسُ) من الإبلاس بمعنى السكوت والذهول وانقطاع الحجة ، يقال : أبلس الرجل ، إذا وقف ساكتا حائرا مبهوتا لا يجد كلاما ينقذه مما هو فيه من بلاء.

أى : ويوم تقوم الساعة ، ويشاهد المجرمون أهوالها ، يصابون بالذهول والحيرة والسكوت المطبق ، لانقطاع حجتهم ، وشدة حزنهم وهمهم ، ويأسهم من النجاة يأسا تاما.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ) في هذا اليوم (مِنْ شُرَكائِهِمْ) الذين عبدوهم في الدنيا (شُفَعاءُ) يشفعون لهم ، ويجيرونهم من عذاب الله.

(وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) أى : أنهم في هذا اليوم العسير لم يكن لهم من شفعاء يشفعون لهم. بل إنهم صاروا في هذا اليوم الشديد ، كافرين بشركائهم الذين توهموا منهم الشفاعة ، لأنهم يوم القيامة تتجلى لهم الحقائق ، ويعرفون أن هؤلاء الشركاء لا يرجى منهم نفع ، ولا يخشى منهم ضر.

ثم كرر ـ سبحانه ـ هذا المعنى على سبيل التأكيد والتهويل من شأنه فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ).

والضمير في قوله : (يَتَفَرَّقُونَ) للناس جميعا. والمراد بتفرقهم أن كل طائفة منهم تتجه إلى الجهة التي أمرهم ـ سبحانه ـ بالتوجه إليها ، لينال كلّ جزاءه.

ثم بين ـ سبحانه ـ كيفية هذا التفرق فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ).

والروضة : تطلق على كل مكان مرتفع زاخر بالنبات الحسن. والمراد بها هنا : الجنة.

ويحبرون : من الحبور بمعنى الفرح والسرور والابتهاج.

أى : ويوم تقوم الساعة ، في هذا اليوم يتفرق الناس إلى فريقين ، فأما فريق الذين آمنوا وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحات ، فسيكونون في الآخرة في جنة عظيمة ، يسرون بدخولها سرورا عظيما ، وينعمون فيها نعيما لا يحيط به الوصف.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وبرسله وباليوم الآخر (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وصدق أنبيائنا (فَأُولئِكَ) الكافرون (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أى : مقيمون فيه ، ومجموعون إليه ، بحيث لا يستطيعون الهروب منه ـ والعياذ بالله.

وبعد هذا البيان المؤثر لأهوال يوم القيامة ، ولأحوال الناس فيه .. ساق ـ سبحانه ـ

٧٢

أنواعا متعددة من الأدلة والبراهين على وحدانيته ـ عزوجل ـ وقدرته ، ورحمته بخلقه ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ

٧٣

وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

قالوا الإمام الرازي : لما بين ـ سبحانه ـ عظمته في الابتداء بقوله (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ، وعظمته في الانتهاء ، بقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) وأن الناس يتفرقون فريقين ، ويحكم ـ عزوجل ـ على البعض بأن هؤلاء للجنة ولا أبالى ، وهؤلاء للنار ولا أبالى ، بعد كل ذلك أمر بتنزيهه عن كل سوء ، وبحمده على كل حال ، فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) (١).

والفاء في قوله : (فَسُبْحانَ) .. لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولفظ «سبحان» اسم مصدر ، منصوب بفعل محذوف. والتسبيح : تنزيه الله ـ ـ تعالى ـ : عن كل ما لا يليق بجلاله. والمعنى : إذا علمتم ما أخبرتكم به قبل ذلك ، فسبحوا الله ـ تعالى ـ ونزهوه عن كل نقص (حِينَ تُمْسُونَ) أى : حين تدخلون في وقت المساء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) أى : تدخلون في وقت الصباح.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جملة معترضة لبيان أن جميع الكائنات تحمده على نعمه ، وأن فوائد هذا الثناء تعود عليهم لا عليه ـ سبحانه ـ.

وقوله (وَعَشِيًّا) معطوف على (حِينَ تُمْسُونَ) أى : سبحوا الله ـ تعالى ـ : حين تمسون ، وحين تصبحون ، وحين يستركم الليل بظلامه. وحين تكونون في وقت الظهيرة ، فإنه ـ سبحانه ـ هو المستحق للحمد والثناء من أهل السموات ومن أهل الأرض ، ومن جميع المخلوقات.

قال ابن كثير : وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفي؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى ، سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.

وفي حديث آخر : «من قال حين يصبح : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون .. أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي ، أدرك ما فاته في ليلته (٢)».

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٥١٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣١٤.

٧٤

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر قدرته فقال : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كإخراجه الإنسان من النطفة ، والنبات من الحب ، والمؤمن من الكافر (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كما في عكس هذه الأمور ، كإخراجه النطفة من الإنسان ، والحب من النبات ، والكافر من المؤمن.

(وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) : أى : بعد قحطها وجدبها ، كما قال ـ سبحانه ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) تذييل قصد به تقريب إمكانية البعث من العقول والأفهام. أى : ومثل هذا الإخراج البديع للنبات من الأرض ، وللحي من الميت ، نخرجكم ـ أيها الناس ـ من قبوركم يوم القيامة ، للحساب والجزاء.

ثم أورد ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنواعا من الأدلة على قدرته التي لا يعجزها شيء ، فقال ـ تعالى ـ (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ).

والآيات : جمع آية ، وتطلق على الآية القرآنية ، وعلى الشيء العجيب ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) .. والمراد بها هنا : الأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة ، الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته.

والمعنى : ومن آياته ـ سبحانه ـ الدالة على عظمته ، وعلى كمال قدرته ، أنه خلقكم من تراب ، أى : خلق أباكم آدم من تراب ، وأنتم فروع عنه.

و «إذا» في قوله : (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) هي الفجائية.

أى : خلقكم بتلك الصورة البديعة من مادة التراب التي لا يرى فيها رائحة للحياة ، ثم صرتم بعد خلقنا إياكم في أطوار متعددة ، بشرا تنشرون في الأرض ، وتمشون في مناكبها ، وتتقلبون فيها تارة عن طريق الزراعة ، وتارة عن طريق التجارة ، وتارة عن طريق الأسفار .. كل ذلك طلبا للرزق ، ولجمع الأموال.

وعبر ـ سبحانه ـ بثم المفيدة للتراخي ، لأن انتشارهم في الأرض لا يتأتى إلا بعد مرورهم بأطوار متعددة ، منها أطوار خلقهم في بطون أمهاتهم ، وأطوار طفولتهم وصباهم ، إلى أن يبلغوا سن الرشد.

قال الشوكانى : وإذا الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء ، لكنها وقعت هنا بعد ثم ، بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة الخاصة ، وهي أطوار الإنسان ، كما حكاها الله ـ تعالى ـ في

٧٥

مواضع ، من كونه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظما مكسوا لحما. (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان آية ثانية ، دالة على كمال قدرته ورأفته بعباده ، فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أى : ومن آياته الدالة على رحمته بكم ، أنه ـ سبحانه ـ خلق لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أى : من جنسكم في البشرية والإنسانية أزواجا.

قال الآلوسى : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم ـ عليه‌السلام ـ متضمن لخلقهن من أنفسكم «فمن» للتبعيض والأنفس بمعناها الحقيقي ، ويجوز أن تكون «من» ابتدائية ، والأنفس مجاز عن الجنس ، أى : خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر ، قيل : وهو الأوفق لما بعد (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) بيان لعلة خلقهم على هذه الطريقة. أى : خلق لكم من جنسكم أزواجا ، لتسكنوا إليها ، ويميل بعضكم إلى بعض ، فإن الجنس إلى الجنس أميل ، والنوع إلى النوع أكثر ائتلافا وانسجاما (وَجَعَلَ) ـ سبحانه ـ (بَيْنَكُمْ) يا معشر الأزواج والزوجات (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) أى : محبة ورأفة ، لم تكن بينكم قبل ذلك ، وإنما حدثت عن طريق الزواج الذي شرعه ـ سبحانه ـ بين الرجال والنساء ، والذي وصفه ـ تعالى ـ بهذا الوصف الدقيق ، في قوله ـ عزوجل ـ : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه لكم قبل ذلك (لَآياتٍ) عظيمة تهدى إلى الرشد وإلى الاعتبار (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بخلقه.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ آية ثالثة فقال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : ومن آياته الدالة على قدرته التامة على كل شيء ، خلقه للسموات والأرض بتلك الصورة البديعة (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أى : واختلاف لغاتكم فهذا يتكلم بالعربية ، وآخر بالفارسية وثالث بالرومية .. إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات ، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التي يتكلم بها أفرادها ، ومئات اللهجات (وَأَلْوانِكُمْ) أى : ومن آياته كذلك ، اختلاف ألوانكم ، فهذا أبيض ، وهذا أسود ، وهذا أصفر ، وهذا أشقر .. مع أن الجميع من أب واحد وأم واحدة وهما آدم وحواء. بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقا تاما في خلقتهما وشكلهما.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٢١٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٣٠.

٧٦

قال صاحب الكشاف : الألسنة : اللغات. او أجناس النطق واشكاله. خالف ـ عزوجل ـ بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة .. ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، ولو اتفقت وتشاكلت ، وكانت ضربا واحدا ، لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ... وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون (١).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي وضحناه لكم (لَآياتٍ) بينات (لِلْعالِمِينَ) ـ بفتح اللام ـ وهي قراءة الجمهور ، أى : إن في ذلك لآيات لجميع أصناف العالم من بار وفاجر ، ومؤمن وكافر.

وقرأ حفص ـ بكسر اللام ـ أى : إن في ذلك لآيات لأولى العلم والفهم من الناس.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ آية رابعة فقال : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ) أى : نومكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لراحة أبدانكم وأذهانكم ، (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أى : وطلبكم أرزاقكم فيهما من فضل الله وعطائه الواسع.

قال الجمل : قيل في الآية تقديم وتأخير ، ليكون كل واحد مع ما يلائمه ، والتقدير : ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، فحذف حرف الجر لاتصاله بالليل ، وعطف عليه ، لأن حرف العطف قد يقوم مقام الجار ، والأحسن أن يجعل على حاله ، والنوم بالنهار مما كانت العرب تعده نعمة من الله ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة» (٢).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) كله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) هذه التوجيهات سماع تدبر وتفكر واعتبار فيعملون بما يسمعون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ آية خامسة فقال : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا.

أى : ومن آياته ـ سبحانه ـ الدالة على قدرته ، أنه يريكم البرق ، فتارة تخافون مما يحدث بعده من صواعق متلفة ، وأمطار مزعجة ، وتارة ترجون من ورائه المطر النافع ، والغيث المدرار.

وانتصاب «خوفا وطمعا» على أنهما مفعول لأجله ، أى : يريكم ذلك من أجل الخوف والطمع ، إذ بهما يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يبطر ولا ييأس من رحمة الله. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً) كثيرا (فَيُحْيِي بِهِ) أى : بسبب هذا الماء (الْأَرْضَ بَعْدَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٣٣.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٨٩.

٧٧

مَوْتِها) أى : بأن يحولها من أرض جدباء هامدة إلى أرض خضراء زاخرة بالنبات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هذه الإرشادات ، ويستعملون عقولهم في الخير لا في الشر ، وفي الحق لا في الباطل ، وفي استنباط المعاني الدالة على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ آية سادسة فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) والمراد بقيامهما : ثباتهما وبقاؤهما بتلك الصورة العجيبة البديعة.

أى : ومن آياته ـ سبحانه ـ الدالة على كمال قدرته ، خلقه للسموات وللأرض ، وإبقاؤه لهما على هذه الصورة البديعة ، وقيامهما وثباتهما واستمساكهما على تلك الهيئة العجيبة ، وذلك كله بإرادته وأمره ومشيئته.

قال ابن كثير : وشبيه بذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ). وقوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا). وكان عمر بن الخطاب. رضى الله عنه ـ إذا اجتهد في اليمين قال : لا ، والله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ، أى : هي قائمة ثابتة بأمره وتسخيره إياها (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) بيان لامتثالهم لأمره بدون تقاعس ، عند ما يدعوهم الداعي للخروج من قبورهم للبعث والحساب. و «ثم» بعدها كلام محذوف ، و «إذا» الأولى شرطية ، والثانية فجائية ، والداعي هو إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ : وقوله : (مِنَ الْأَرْضِ) متعلق بقوله (دَعاكُمْ).

أى : ثم بعد موتكم ووضعكم في قبوركم ، إذا دعاكم الداعي دعوة واحدة من الأرض التي أنتم مستقرون فيها ، إذا أنتم تخرجون من قبوركم مسرعين بدون تلبث أو توقف ، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع.

قال صاحب الكشاف : وإنما عطف هذه الجملة على قيام السموات والأرض بثم ، بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر ، واقتداره ـ سبحانه ـ على مثله وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر ، كما قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢).

وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (٣) وكما في قوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٤).

__________________

(١) سورة النحل. الآية ١٢٥.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٢٠٥.

(٣) سورة النازعات الآيتان ١٣ ، ١٤.

(٤) سورة الإسراء الآية ٥٢.

٧٨

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ، بآية جامعة لكل معاني القدرة والإيجاد والهيمنة على هذا الكون فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى من الملائكة والجن والإنس ، خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، كل ذلك له وحده ـ سبحانه ـ لا لأحد غيره.

وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مؤكد لما قبله ومقرر له ، أى : كل الخلائق له لا لغيره طائعون خاضعون ، خاشعون ، طوعا وكرها ، إذ لا يمتنع عليه ـ سبحانه ـ شيء يريد فعله بهم ، من حياة أو موت ، ومن صحة أو مرض ، ومن غنى أو فقر.

هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يرى أكثر من عشرة أدلة ، على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى انفراده بالخلق ، وعلى إمكانية البعث ، ومن هذه الأدلة خلق الإنسان من تراب ، وصيرورته بعد تقلبه في أطوار التكوين بشرا سويا ، وإيجاده ـ سبحانه ـ للذكور والإناث ، حتى يبقى النوع الإنسانى إلى الوقت المقدر في علمه ـ تعالى ـ : وإيجاده للناس على هذه الصورة التي اختلفت معها ألسنتهم وألوانهم ، مع أن أصلهم واحد ، وجعله ـ تعالى ـ الليل مناما لراحة الناس ، والنهار معاشا لابتغاء الرزق ، وإنزاله المطر من السماء لإحياء الأرض بالنبات ، وبقاء السموات والأرض على هذه الصورة العجيبة بأمره وتدبيره .. إلى غير ذلك من الأدلة المبثوثة في الأنفس والآفاق.

ثم أكد ـ سبحانه ـ ما يدل على إمكانية البعث ، فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ...

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي يبدأ الخلق بدون مثال سابق ، ثم يعيد هذه المخلوقات بعد موتها إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء.

والضمير في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) للإعادة المفهومة من قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) والتذكير للضمير باعتبار المعنى ، أى : والعود أو الرد ، أو الإرجاع أهون عليه.

أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي يخلق المخلوقات من العدم ، ثم يعيدها إلى الحياة مرة أخرى في الوقت الذي يريده ، وهذه الإعادة للأموات أهون عليه ، أى : أسهل عليه من البدء.

وهذه الأسهلية على طريقة التمثيل والتقريب ، بما هو معروف عند الناس من أن إعادة الشيء من مادته الأولى أسهل من ابتدائه.

ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد وضح هذا المعنى فقال : قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أى : فيما يجب عندكم ، وينقاس على أصولكم ، ويقتضيه معقولكم لأن من أعاد منكم صنعة

٧٩

شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم : أول الغزل أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاودا ، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى ، حتى مرن عليها وهانت عليه.

فإن قلت لم أخرت الصلة في قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وقدمت في قوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)؟ قلت. هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليه هين ، وان كان مستصعبا عندكم أن يولد بين همل ـ أى : شيخ فان ـ وعاقر. وأما هنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبنى على ما يعقلون ، من أن الإعادة أسهل من الابتداء ، فلو قدمت الصلة لتغير المعنى ..» (١).

ومنهم من يرى أن أهون هنا بمعنى هين ، أى : إرجاعكم إلى الحياة بعد موتكم هين عليه.

والعرب تجعل أفعل بمعنى فاعل في كثير من كلامهم ، ومنه قول الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

أى : بنى لنا بيتا دعائمه عزيزة طويلة ومنه قولهم : الله أكبر أى : كبير.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. أى : وله ـ سبحانه ـ الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ، لا في السموات ولا في الأرض ، إذ لا يشاركه أحد في ذاته أو صفاته فهو ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي يغلب ولا يغلب (الْحَكِيمُ) في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.

وبعد هذا التطواف المتنوع في آفاق الأنفس ، وفي أعماق هذا الكون ، ضرب ـ سبحانه ـ مثلا لا مجال للجدل فيه ، لوضوحه واعتماده على المنطق السليم ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمضى في طريقه المستقيم ، كما أمر المؤمنين بأن يلتجئوا إليه ـ سبحانه ـ وحده ، وأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضبه ، فقال ـ تعالى ـ :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٥٦.

٨٠