التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

ثم بين ـ سبحانه ـ أن علمه شامل لكل شيء ، وأنه سيجازى هؤلاء المشركين بما يستحقونه من عقاب فقال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

و «ما» موصولة ، وهي مفعول يعلم ، والعائد محذوف ، و «من شيء» بيان لما.

أى : إن الله ـ تعالى ـ يعلم علما تاما الذي يعبده هؤلاء المشركون من دونه ، سواء أكان ما يعبدونه من الجن أم من الإنس أم من الجمادات أم من غير ذلك ، (وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (الْعَزِيزُ) أى : الغالب على كل شيء (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) التي سقناها في كتابنا العزيز ، والتي من بينها المثال السابق.

(نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) على سبيل الإرشاد والتنبيه والتوضيح.

(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أى : وما يعقل هذه الأمثال ، ويفهم صحتها وحسنها ، إلا الراسخون في العلم ، المتدبرون في خلق الله ـ تعالى ـ ، الفاقهون لما يتلى عليهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يدل على عظيم قدرته ، وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإكثار من تلاوة القرآن الكريم ، ومن الصلاة ، فقال ـ تعالى ـ :

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)(٤٥)

أى : خلق الله ـ تعالى ـ السموات والأرض بالحق الذي لا باطل معه ، وبالحكمة التي لا يشوبها عبث أو لهو ، حتى يكون هذا الخلق متفقا مع مصالح عبادنا ومنافعهم ..

ومن مظاهر ذلك ، أنك لا ترى ـ أيها العاقل ـ في خلق الرحمن من تفاوت أو تصادم ، أو اضطراب.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) يعود إلى خلق السموات والأرض ، وما اشتملتا عليه من بدائع وعجائب.

٤١

أى : إن في ذلك الذي خلقناه بقدرتنا ، من سماوات مرتفعة بغير عمد ، ومن أرض مفروشة بنظام بديع ، ومن عجائب لا يحصيها العد في هذا الكون ، إن في كل ذلك لآية بينة ، وعلامة واضحة ، على قدرة الله ـ عزوجل ـ.

وخص المؤمنين بالذكر ، لأنهم هم المتدبرون في هذه الآيات والدلائل ، وهم المنتفعون بها في التعرف على وحدانية الله وقدرته ، وعلى حسن عبادته وطاعته.

والمقصود بالتلاوة في قوله ـ تعالى ـ : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) : القراءة المصحوبة بضبط الألفاظ ، وبتفهم المعاني. والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويشمل كل من آمن به. أى : اقرأ ـ أيها الرسول الكريم ـ ما أوحينا إليك من آيات هذا القرآن قراءة تدبر واعتبار واتعاظ ، وداوم على ذلك ، ومر أتباعك أن يقتدوا بك في المواظبة على هذه القراءة الصحيحة النافعة.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أى : وواظب على إقامة الصلاة في أوقاتها بخشوع وإخلاص واطمئنان ، وعلى المؤمنين أن يقتدوا بك في ذلك.

وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) تعليل للأمر بالمحافظة على إقامة الصلاة بخشوع وإخلاص. أى : داوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على إقامة الصلاة بالطريقة التي يحبها الله ـ تعالى ـ ، فإن من شأن الصلاة التي يؤديها المسلم في أوقاتها بخشوع وإخلاص ، أن تنهى مؤديها عن ارتكاب الفحشاء ـ وهي كل ما قبح قوله وفعله ـ ، وعن المنكر ـ وهو كل ما تنكره الشرائع والعقول السليمة ـ.

قال الجمل : «ومعنى نهيها عنهما ، أنها سبب الانتهاء عنهما ، لأنها مناجاة لله ـ تعالى ـ ، فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته ، وإعراض كلى عن معاصيه.

قال ابن مسعود : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد من الله إلا بعدا ..

وروى عن أنس ـ رضى الله عنه ـ أن فتى من الأنصار ، كان يصلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يأتى الفواحش ، فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله» (١).

والخلاصة : أن من شأن الصلاة المصحوبة بالإخلاص والخشوع وبإتمام سننها وآدابها ، أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ، فإن وجدت إنسانا يؤدى الصلاة ، ولكنه مع ذلك يرتكب

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٧٧.

٤٢

بعض المعاصي ، فأقول لك : إن الذنب ليس ذنب الصلاة ، وإنما الذنب ذنب هذا المرتكب للمعاصي ، لأنه لم يؤد الصلاة أداء مصحوبا بالخشوع والإخلاص ... وإنما أداها دون أن يتأثر بها قلبه .. ولعلها تنهاه في يوم من الأيام ببركة مداومته عليها ، كما جاء في الحديث الشريف : «إن الصلاة ستنهاه».

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أى : ولذكر الله ـ تعالى ـ بجميع أنواعه من تسبيح وتحميد وتكبير وغير ذلك من ألوان العبادة والذكر ، أفضل وأكبر من كل شيء آخر ، لأن هذا الذكر لله ـ تعالى ـ في كل الأحوال ، دليل على صدق الإيمان ، وحسن الصلة بالله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر .. أى : ولذكر الله ـ تعالى ـ إياكم ، أكبر من ذكركم إياه ـ سبحانه ـ ..

وروى عن جماعة من السلف أن المعنى : ولذكر العبد لله ـ تعالى ـ ، أكبر من سائر الأعمال.

أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال : ما عمل ابن آدم عملا أنجى له من عذاب الله يوم القيامة ، من ذكر الله ـ تعالى ـ ..

وقيل : المراد بذكر الله : الصلاة. كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، أى : إلى الصلاة ، فيكون المعنى : وللصلاة أكبر من سائر الطاعات ، وإنما عبر عنها به ، للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله ـ تعالى ـ هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ، ناهية عن السيئات» (١).

ويبدو لنا أن المراد بذكر الله ـ تعالى ـ هنا : ما يشمل كل قول طيب وكل فعل صالح ، يأتيه المسلم بإخلاص وخشوع ، وعلى رأس هذه الأقوال والأفعال : التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ، والصلاة وما اشتملت عليه من أقوال وأفعال ..

وأن المسلم متى أكثر من ذكر الله ـ تعالى ـ ، كان ثوابه ـ سبحانه ـ له ، وثناؤه عليه ، أكبر وأعظم من كل قول ومن كل فعل.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) تذييل قصد به الترغيب في إخلاص العبادة لله ، والتحذير من الرياء فيها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٦٥.

٤٣

أى : داوموا ـ أيها المؤمنون. على تلاوة القرآن الكريم ، بتدبر واعتبار ، وأقيموا الصلاة في أوقاتها بخشوع وخضوع ، وأكثروا من ذكر الله ـ تعالى ـ في كل أحوالكم ، فإن الله ـ تعالى ـ يعلم ما تفعلونه وما تصنعونه من خير أو شر ، وسيجازى ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى ..

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله والمؤمنين. أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، ما داموا لم يرتكبوا ظلما ، وأقام ـ سبحانه ـ الأدلة على أن هذا القرآن من عنده وحده ، فقال :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)(٤٩)

(١) والمجادلة : المخاصمة. يقال : جادل فلان فلانا ، إذا خاصمه ، وحرص كل واحد منهما على أن يغلب صاحبه بقوة حجته. أى : ولا تجادلوا ـ أيها المؤمنون ـ غيركم من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، إلا بالطريقة التي هي أحسن ، بأن ترشدوهم إلى طريق

__________________

(١) أول الجزء الحادي والعشرين.

٤٤

الحق بأسلوب لين كريم ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .. (١).

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) استثناء من الذين يجادلون بالتي هي أحسن.

أى : ناقشوهم وأرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم. بأن أساءوا إليكم ، ولم يستعملوا الأدب في جدالهم ، فقابلوهم بما يليق بحالهم من الإغلاظ والتأديب.

وعلى هذا التفسير يكون المقصود بالآية الكريمة ، دعوة المؤمنين إلى استعمال الطريقة الحسنى في مجادلتهم لأهل الكتاب عموما ، ما عدا الظالمين منهم فعلى المؤمنين أن يعاملوهم بالأسلوب المناسب لردعهم وزجرهم وتأديبهم.

وقيل : المراد بأهل الكتاب هنا : المؤمنون منهم ، والمراد بالذين ظلموا : من بقي على الكفر منهم.

فيكون المعنى : ولا تجادلوا ـ أيها المؤمنون ـ من آمن من أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين بقوا على كفرهم فعاملوهم بما يليق بحالهم من التأديب والإغلاظ عليهم.

ويبدو لنا أن التفسير الأول هو الأرجح والأظهر ، لأن الآية مسوقة لتعليم المؤمنين كيف يجادلون من بقي على دينه من أهل الكتاب ، ولأن من ترك كفره منهم ودخل في الإسلام أصبح مسلما وليس من أهل الكتاب ، وما دام الأمر كذلك فليس المسلمون في حاجة إلى إرشادهم إلى كيفية مجادلته ، ولأن قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ.) .. يرجح أن المراد بأهل الكتاب هنا من بقي على دينه منهم.

أى : جادلوهم بالطريقة الحسنى ماداموا لم يظلموكم ، وقولوا لهم على سبيل التعليم والإرشاد «آمنا بالذي أنزل إلينا» وهو القرآن ، وآمنا بالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل.

قال الشوكانى : أى : آمنا بأنهما منزلان من عند الله ، وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية ، والبعثة المحمدية ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه ، (٢).

(وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له لا في ذاته ولا في صفاته (وَنَحْنُ) جميعا معاشر المؤمنين (لَهُ مُسْلِمُونَ) أى : مطيعون وعابدون له وحده ، ولا نتخذ أربابا من دونه ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) سورة النحل. الآية ١٢٥.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٢٠٥.

٤٥

قال القرطبي ما ملخصه : اختلف العلماء في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) .. فقال مجاهد : هي محكمة ، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، على معنى الدعاء لهم إلى الله ـ عزوجل ـ ، والتنبيه على حججه وآياته ... وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أى ظلموكم ..

وقيل : هذه الآية منسوخة بآية القتال وهي قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ...

وقول مجاهد : حسن ، لأن أحكام الله ـ عزوجل ـ لا يقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر ، أو حجة من معقول ...» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف الناس من هذا الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ...

والكاف بمعنى مثل : واسم الإشارة يعود إلى المصدر المفهوم من أنزلنا. أى : ومثل ذلك الإنزال المعجز البديع ، أنزلنا إليك الكتاب ـ أيها الرسول الكريم ـ ليكون هداية للناس ، فالذين آتيناهم الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل وعقلوه وفتحوا قلوبهم للحق ، يؤمنون بهذا الكتاب الذي نزل عليك ، وهو القرآن.

فالمراد بالذين أوتوا الكتاب : المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله. والمراد بالكتاب جنسه. والضمير في «به» يعود إلى القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخص هؤلاء المؤمنين منهم بإيتاء الكتاب ، على سبيل المدح لهم. لأنهم انتفعوا بما أوتوه من علم وعملوا بمقتضاه ، أما غيرهم ممن بقي على كفره ، فلكونه لم ينتفع بما في الكتاب من هدايات ، فكأنه لم يره أصلا.

وقوله : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أى : ومن هؤلاء العرب الذين أرسلت إليهم ـ أيها الرسول الكريم ـ من يؤمن بهذا القرآن الذي أنزلناه إليك.

و «من» للتبعيض ، لأنهم لم يؤمنوا جميعا ، وإنما آمن منهم من هداه الله ـ تعالى ـ إلى الصراط المستقيم.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى صدقك فيما تبلغه عنا ، (إِلَّا الْكافِرُونَ) أى : إلا الموغلون في الكفر ، المصرون عليه إصرارا تاما.

والجحود : إنكار الحق مع معرفة أنه حق.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٥٠.

٤٦

وعبر عن الكتاب بالآيات ، للإشعار بأنها في غاية الظهور والدلالة على كونها من عند الله ـ تعالى ـ ، وأنه ما يكذب بها إلا من غطى الحق بالباطل عن تعمد وإصرار.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن من الناس من قابل هذا القرآن بالتصديق والإذعان ، ومنهم من قابله بالجحود والنكران.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أبلغ الأدلة وأوضحها على أن هذا القرآن من عنده ـ تعالى ـ ، فقال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

أى : أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ ما كنت في يوم من الأيام قبل أن ننزل عليك هذا القرآن ـ تاليا لكتاب من الكتب ، ولا عارفا للكتابة ، ولو كنت ممن يعرف القراءة والكتابة ، لارتاب المبطلون في شأنك ، ولقالوا إنك نقلت هذا القرآن بخطك من كتب السابقين.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ كِتابٍ) لتأكيد نفى كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارئا لأى كتاب من الكتب قبل نزول القرآن عليه.

وقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) لتأكيد نفى كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف الكتابة أو الخط.

قال الإمام ابن كثير : وهكذا صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة ، كما قال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) .. وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى يوم القيامة ، لا بحسن الكتابة ، ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده ، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحى والرسائل إلى الأقاليم ...» (١).

والمراد بالمبطلين ، كل من شك في كون هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ ، سواء أكان من مشركي مكة أم من غيرهم.

وسماهم ـ سبحانه ـ مبطلين ، لأن ارتيابهم ظاهر بطلانه ومجانبته للحق ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد لبث فيهم قبل النبوة أربعين سنة ، يعرفون حسبه ونسبه ، ويعلمون حق العلم أنه أمى لا يعرف الكتابة والقراءة.

ثم بين ـ سبحانه ـ حقيقة هذا الكتاب المعجز فقال : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.) ...

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩٥.

٤٧

أى : هذا الكتاب ليس أساطير الأولين اكتتبها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما زعم المبطلون ـ ، بل هو آيات بينات واضحات راسخات ، في صدور المؤمنين به ، الذين حفظوه وتدبروه وعملوا بتوجيهاته وإرشاداته ، وعملوا بما فيه من حكم وأحكام وعقائد وآداب.

ووصف الله ـ تعالى ـ المؤمنين بهذا القرآن بالعلم على سبيل المدح لهم ، والإعلاء من شأنهم ، حيث استطاعوا عن طريق ما وهبهم ـ سبحانه ـ من علم نافع ، أن يوقنوا بأن هذا من عند الله ، ولو كان من عند غير الله ، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) تذييل المقصود به ذم الذين تجاوزوا كل حق وصدق في أحكامهم وتصرفاتهم.

أى : وما يجحد آياتنا مع وضوحها وسطوعها ، وينكر كونها من عند الله ـ تعالى ـ ، إلا الظالمون المتجاوزون لكل ما هو حق ، ولكل ما هو صدق.

ثم قصت علينا السورة الكريمة بعد ذلك طرفا من أقوال المشركين الفاسدة وأمرت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يزهق باطلهم ، كما قصت علينا لونا من ألوان جهالاتهم ، حيث استعجلوا العذاب الذي لا يستعجله عاقل. فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ

٤٨

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٥)

ومرادهم بالآيات في قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) الآيات الكونية ، كعصا موسى ، وناقة صالح. ولو لا حرف تحضيض بمعنى هلا.

أى : وقال المبطلون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعنت والعناد ، هلا جئتنا يا محمد بمعجزات حسية كالتي جاء بها بعض الأنبياء من قبلك ، لكي نؤمن بك ونتبعك؟

وقوله : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إرشاد من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يرد به عليهم.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ في ردك على هؤلاء الجاهلين ، إنما الآيات التي تريدونها عند الله ـ تعالى ـ وحده ، ينزلها حسب إرادته وحكمته ، أما أنا فإن وظيفتي الإنذار الواضح بسوء مصير من أعرض عن دعوتي ، وليس من وظيفتي أن أقترح على الله ـ تعالى ـ شيئا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) .. كلام مستأنف من جهته ـ تعالى ـ لتوبيخهم على جهالاتهم ، والاستفهام للإنكار ، والواو للعطف على مقدر.

والمعنى : أقالوا ما قالوا من باطل وجهل ، ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب الناطق بالحق ، يتلى على مسامعهم صباح مساء ، ويهديهم إلى ما فيه سعادتهم ، لو تدبروه وآمنوا به ، واتبعوا أوامره ونواهيه؟

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، يشير إلى أن هذه التلاوة متجددة عليهم ، وغير منقطعة عنهم ، وكان في إمكانهم أن ينتفعوا بها لو كانوا يعقلون.

ولذا ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

أى : إن في ذلك الكتاب الذي أنزلناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، والذي تتلوه عليهم صباح مساء ، لرحمة عظيمة ، وذكرى نافعة ، لقوم يؤمنون بالحق ، ويفتحون عقولهم للرشد ، لا للتعنت والجحود والعناد.

٤٩

ثم أرشده ـ سبحانه ـ إلى جواب آخر يرد به عليهم فقال : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً). أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين : يكفيني كفاية تامة أن يكون الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الشهيد بيني وبينكم على أنى صادق فيما أبلغه عنه ، وعلى أن هذا القرآن من عنده.

وهو ـ سبحانه ـ (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) علما لا يعزب عنه شيء ، وسيجازينى بما أستحقه من ثواب ، وسيجازيكم بما تستحقونه من عقاب.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وأعرضوا عن الحق (وَكَفَرُوا بِاللهِ) ـ تعالى ـ مع وضوح الأدلة على أنه ـ سبحانه ـ هو المستحق للعبادة والطاعة.

الذين فعلوا ذلك : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسارة ليس بعدها خسارة ، حيث آثروا الغي على الرشد ، واستحبوا العمى على الهدى ، وسيكون أمرهم فرطا في الدنيا والآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ.) .. بيان للون آخر من ألوان انطماس بصيرة هؤلاء الكافرين ، ومن سفاهاتهم وجهالاتهم. أى : أن هؤلاء المشركين لم يكتفوا بتكذيبك ـ أيها الرسول الكريم ـ بل أضافوا إلى ذلك ، التطاول عليك ، لسوء أدبهم ، وعدم فهمهم لوظيفتك. بدليل أنهم يطلبون منك أن تنزل عليهم العذاب بعجلة وبدون إبطاء ، على سبيل التحدي لك. كما قالوا في موطن آخر : (... اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

ثم يبين الله ـ تعالى ـ حكمته في تأخير عذابه عنهم إلى حين فيقول : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ.) ... أى : يستعجلك المشركون يا محمد في نزول العذاب بهم ، والحق أنه لو لا أجل مسمى ، ووقت معين ، حدده الله ـ تعالى ـ في علمه لنزول العذاب بهم ، لجاءهم العذاب في الوقت الذي طلبوه ، بدون إبطاء أو تأخير.

ومع ذلك فقل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ إن هذا العذاب آت لا ريب فيه في الوقت الذي يشاؤه الله ـ تعالى ـ ، وإن هذا العذاب المدمر المهلك : (لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). أى : ليحلن عليهم فجأة وبدون مقدمات ، والحال أنهم لا يشعرون به ، بل يأتيهم بغتة فيبهتهم ، ويستأصل شأفتهم.

ثم كرر ـ سبحانه ـ أقوالهم على سبيل التعجيب من حالهم ، والتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما لقيه منهم. فقال : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ).

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٣٢.

٥٠

أى : يستعجلونك ـ أيها الرسول الكريم ـ بالعذاب ، الذي لا يطلبه أحد في ذهنه مثقال ذرة من عقل ، والحال أن ما استعجلوه سينزل بهم لا محالة ، وستحيط بهم جهنم من كل جانب.

ثم بين ـ سبحانه ـ كيفية إحاطة جهنم بهم فقال : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ).

أى : ستحيط بهم جهنم من كل جانب. يوم يحل بهم العذاب (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أى : من جميع جهاتهم.

(وَيَقُولُ) ـ سبحانه ـ لهم ، على سبيل التقريع والتأنيب (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أى : تذوقوا العذاب المهين الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا والذي أحاط بكم من كل جانب بسبب أعمالكم القبيحة ، وأقوالكم الباطلة.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المكذبين ، الذين استعجلوا العذاب لجهلهم وعنادهم ، أتبع ذلك بتوجيه نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بالثبات على الحق ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٠)

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ.) .. : هذا أمر من الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين ، بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين ، إلى أرض الله الواسعة ، حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم ...

روى الإمام أحمد عن أبى يحيى مولى الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيرا فأقم».

٥١

ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ، ليأمنوا على دينهم هناك .. ثم بعد ذلك ، هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة ...» (١).

وفي ندائهم بقوله : (يا عِبادِيَ) وفي وصفهم بالإيمان ، تكريم وتشريف لهم ، حيث أضافهم ـ سبحانه ـ إلى ذاته ، ونعتهم بالنعت المحبب إلى قلوبهم.

وقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) تحريض لهم على الهجرة من الأرض التي لا يتمكنون فيها من إقامة شعائر دينهم ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : ليس هناك ما يجبركم على الإقامة في تلك الأرض التي لا قدرة لكم فيها على إظهار دينكم ، بل اخرجوا منها فإن أرضى واسعة ، ومن خرج من أجل كلمة الله ، رزقه الله ـ تعالى ـ من حيث لا يحتسب.

ومن المفسرين الذين أجادوا في شرح هذا المعنى ، صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ فقد قال : ومعنى الآية : أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ، ولم يتمش له أمر دينه كما يحب ، فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلبا ، وأصح دينا ، وأكثر عبادة ...

ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير ، ولقد جربنا وجرب أولونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس ، وعصيان الشهوة ، وأجمع للقلب المتلفت ، وأضم للهم المنتشر ، وأحث على القناعة ، وأطرد للشيطان ، وأبعد عن الفتن ... من سكنى حرم الله ، وجوار بيت الله ، فلله الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ...» (٢).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) بمعنى الشرط ، وإياى منصوب بفعل مضمر ، قد استغنى عنه بما يشبهه. أى : فاعبدوا إياى فاعبدون.

والمعنى : إن ضاق بكم مكان ، فإياى فاعبدوا ، لأن أرضى واسعة ، ولن تضيق بكم.

ثم رغبهم بأسلوب آخر في الهجرة من الأرض الظالم أهلها ، بأن بين لهم بأن الموت سيدركهم في كل مكان ، فقال ـ تعالى ـ : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

أى : كل نفس سواء أكانت في وطنها الذي عاشت فيه أم في غيره ، ذائقة لمرارة الموت ، ومتجرعة لكأسه ، ثم إلينا بعد ذلك ترجعون جميعا لنحاسبكم على أعمالكم.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده للمؤمنين الصادقين من جزاء طيب فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً.) ...

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٦١.

٥٢

أى : والذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات ، لننزلنهم من الجنة غرفا عالية فخمة. هذه الغرف من صفاتها أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) زيادة في إكرام أصحابها ، وفضلا عن ذلك فقد جعلناهم (خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا.

والمخصوص بالمدح في قوله : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) محذوف. أى : نعم أجر العاملين ، أجر هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صفة لهؤلاء العاملين.

أى : من مناقبهم الجليلة أنهم يصبرون على طاعة الله ، وعلى كل ما يحسن معه الصبر ، وأنهم يفوضون أمورهم إلى خالقهم لا إلى غيره.

ثم رغبهم ـ سبحانه ـ في الهجرة لإعلاء كلمة الله بأسلوب ثالث ، حيث بين لهم أن هجرتهم لن تضيع شيئا من رزقهم الذي كتبه الله لهم ، فقال ـ سبحانه ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ، اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

روى أن بعض الذين أسلموا بمكة عند ما أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة إلى المدينة قالوا : كيف نهاجر إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة ، فنزلت هذه الآية.

وكلمة «كأين» : مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على التكثير. ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها. وهي مبتدأ. و «من دابة» تمييز لها.

وجملة : «لا تحمل رزقها» صفة لها ، وجملة «الله يرزقها» هي الخبر.

والدابة : اسم لكل نفس تدب على وجه الأرض سواء أكانت من العقلاء أم من غير العقلاء. أى : وكثير من الدواب التي خلقها الله ـ تعالى ـ بقدرته ، لا تستطيع تحصيل رزقها ، ولا تعرف كيف توفره لنفسها ، لضعفها أو عجزها ... ومع هذا فالله ـ تعالى ـ برحمته وفضله يرزقها ولا يتركها تموت جوعا ، ويرزقكم أنتم ـ أيضا ، لأنه لا يوجد مخلوق ـ مهما اجتهد ودأب يستطيع أن يخلق رزقه.

(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (السَّمِيعُ) لكل شيء (الْعَلِيمُ) بما تسرون وما تعلنون.

وقدم ـ سبحانه ـ رزق الدابة التي لا تستطيع تحصيله ، على رزقهم فقال : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) لينفى من قلوب الناس القلق على الرزق ، وليشعرهم بأن الأسباب ليست هي كل شيء ، فإن واهب الأسباب ، لا يترك أحدا بدون رزق ، ولإزالة ما قد يخطر في النفوس من أن الهجرة من أجل إعلاء كلمة الله قد تنقص الرزق ..

٥٣

وهكذا يسوق ـ سبحانه ـ من المرغبات في الهجرة في سبيله ، ما يقنع النفوس ، ويهدى القلوب ، ويجعل المؤمنين يقبلون على تلبية ندائه ، وهم آمنون مطمئنون على أرواحهم ، وعلى أرزاقهم ، وعلى حاضرهم ومستقبلهم ، فسبحان من هذا كلامه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان ما عليه المشركون من تناقض في أفكارهم وفي تصوراتهم ، وببيان حال هذه الحياة الدنيا. وببيان جانب من النعم التي أنعم بها على أهل مكة ، وببيان ما أعده للمجاهدين في سبيله من ثواب ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ

٥٤

لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ) .. بيان لما كان عليه مشركو العرب من اعتراف بأن المستقل بخلق هذا الكون هو الله ـ تعالى ـ.

أى : ولئن سألت ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء المشركين ، من الذي أوجد هذه السموات وهذه الأرض ، ومن الذي ذلل وسخر لمنفعتكم الشمس والقمر ، ليقولن بدون تردد : الله ـ تعالى ـ هو الذي فعل ذلك بقدرته.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعجيب من تناقضهم في أفعالهم ، ومن انحراف في تفكيرهم ، ومن تركهم العمل بموجب ما تقتضيه أقوالهم.

أى : إذا كنتم معترفين بأن الله وحده هو الخالق للسموات والأرض ، والمسخر للشمس والقمر ، فلما ذا أشركتم معه في العبادة آلهة أخرى؟ ولما ذا تنصرفون عن الإقرار بوحدانيته ـ عزوجل ـ؟

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الأرزاق جميعها بيده ، يوسعها لمن يشاء ويضيقها على من يشاء فقال : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ...

والضمير في قوله : (لَهُ) يعود على (مِنْ) على حد قولك : عندي درهم ونصفه. أى : ونصف درهم آخر.

أى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه عليه من عباده ، وهو وحده الذي يضيق الرزق على من يشاء أن يضيقه عليه من عباده. لأنه ـ سبحانه ـ لا يسأل عما يفعل ، وأفعاله كلها خاضعة لمشيئته وحكمته ، وكل شيء عنده بمقدار.

ويجوز أن يكون المعنى : الله ـ تعالى ـ وحده هو الذي بقدرته أن يوسع الرزق لمن يشاء من عباده تارة ، وأن يضيقه عليهم تارة أخرى.

فعلى المعنى الأول : يكون البسط في الرزق لأشخاص ، والتضييق على آخرين ، وعلى المعنى الثاني يكون البسط والتضييق للأشخاص أنفسهم ولكن في أوقات مختلفة.

والله ـ تعالى ـ قادر على كل هذه الأحوال ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

٥٥

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم ما فيه صلاح عباده وما فيه فسادهم ، ويعلم من يستحق أن يبسط له في رزقه ، ومن يستحق التضييق عليه في رزقه.

ثم أكد ـ سبحانه ـ للمرة الثانية اعتراف هؤلاء المشركين بقدرة الله ـ تعالى ـ فقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أى : ماء كثيرا (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) أى : فجعل الأرض بسبب نزول الماء عليها تصبح خضراء بالنبات بعد أن كانت جدباء قاحلة.

لئن سألتهم من فعل ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) هو الذي فعل ذلك.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الثناء على الله ـ تعالى ـ : الحمد لله الذي أظهر حجته ، وجعلهم ينطقون بأنك على الحق المبين ، ويعترفون بأن إشراكهم إنما هو من باب العناد والجحود.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إضراب عما هم عليه من انحراف وتناقض ، إلى بيان حقيقة حالهم ، وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يعتريه بسببهم من حزن.

أى : بل أكثرهم لا يعقلون شيئا مما يجب أن يكون عليه العقلاء من فهم سليم للأمور ، ومن العمل بمقتضى ما تنطق به الألسنة.

وفي التعبير بأكثرهم ، إنصاف لقلة منهم عقلت الحق فاتبعته ، وآمنت به وصدقته ، ثم بين ـ سبحانه ـ هوان هذه الحياة الدنيا ، بالنسبة للدار الآخرة فقال : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

واللهو : اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ولا يهمه. أو هو الاستمتاع بملذات الدنيا.

واللعب : العبث. وهو فعل لا يقصد به مقصد صحيح.

أى : أن هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من حطام ، تشبه في سرعة انقضائها وزوال متعها ، الأشياء التي يلهو بها الأطفال ، يجتمعون عليها وقتا ، ثم ينفضون عنها.

أما الدار الآخرة ، فهي دار الحياة الدائمة الباقية ، التي لا يعقبها موت ، ولا يعتريها فناء ولا انقضاء.

ولفظ «الحيوان» مصدر حي. سمى به ذو الحياة ، والمراد به هنا : نفس الحياة الحقة.

وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى : لو كانوا يعلمون حق العلم ، لما آثروا متع الدنيا الفانية على خيرات الآخرة الباقية.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يحيط بهم البلاء فقال ـ تعالى ـ : (فَإِذا رَكِبُوا فِي

٥٦

الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ... أى : أن من صفات هؤلاء الجاحدين ، أنهم إذا ركبوا السفن ، وجرت بهم بريح طيبة وفرحوا بها ، ثم جاءتهم بعد ذلك ريح عاصف ، وظنوا أن الغرق قد اقترب منهم ، تضرعوا إلى الله ـ تعالى ـ مخلصين له العبادة والدعاء.

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) بفضله وكرمه ، وأنقذهم من الغرق المحقق (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) مع الله ـ تعالى ـ غيره في العبادة والطاعة.

وقد فعلوا ذلك : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعم ، وبما منحناهم من فضل ورحمة.

(وَلِيَتَمَتَّعُوا) بمتع هذه الحياة وزينتها إلى حين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عما قريب عاقبة هذا الكفران لنعم الله ، وهذا التمتع بزينة الحياة الدنيا دون أن يعملوا شيئا ينفعهم في أخراهم.

قال الآلوسى : قوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) : الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي ، أى : يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم ، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام. فالشرك سبب لهذا الكفران. وأدخلت لام كي على مسببه ، لجعله كالغرض لهم منه ، فهي لام العاقبة في الحقيقة.

وقيل : اللام فيهما لام الأمر ، والأمر بالكفران والتمتع ، مجاز في التخلية والخذلان والتهديد ، كما تقول عند الغضب على من يخالفك : «افعل ما شئت» (١).

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بنعمة الحرم الآمن ، الذي يعيشون في جواره مطمئنين ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ).

أى : أجهل هؤلاء قيمة النعمة التي هم فيها ، ولم يدركوا ويشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما آمنا ، يأمنون فيه على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم ، والحال أن الناس من حولهم يقتل بعضهم بعضا ، ويعتدى بعضهم على بعض بسرعة وشدة. والتخطف : الأخذ بسرعة.

قال صاحب الكشاف : كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارون فيها آمنون لا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله بهذه النعمة الخاصة بهم» (٢).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) للتعجب من حالهم ، وللتوبيخ لهم على هذا الجحود والكفر لنعم الله ـ تعالى ـ. أى : أفبعد هذه النعمة

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٣.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٦٤.

٥٧

الجليلة يؤمنون بالأصنام وبنعمة الله التي تستدعى استجابتهم للحق يكفرون.

فالآية الكريمة قد اشتملت على ما لا يقادر قدره ، من تعجب وتوبيخ وتقريع.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ).

أى : لا أحد أشد ظلما ممن افترى على الله كذبا ، بأن زعم بأن لله ـ تعالى ـ شريكا ، أو كذب بالحق الذي جاءه به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أعرض عنه ، وأبى أن يستمع إليه.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) للتقرير ، والمثوى : المكان الذي يثوى فيه الشخص ، ويقيم به ، ويستقر فيه.

أى : أليس في جهنم مأوى ومكانا يستقر فيه هؤلاء الكافرون لنعم الله ـ تعالى ـ؟ بل إن فيها مكانا لاستقرارهم ، وبئس المكان ، فإنها ساءت مستقرا ومقاما.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

أى : هذا الذي ذكرناه سابقا من سوء مصير ، هو للمشركين الذين يؤمنون بالباطل ويتركون الحق ، أما الذين بذلوا جهدهم في سبيل إعلاء ديننا ، وقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل رضائنا وطاعتنا ، وأخلصوا لنا العبادة والطاعة ، فإننا لن نتخلى عنهم ، بل سنهديهم إلى الطريق المستقيم ، ونجعل العاقبة الطيبة لهم ، فقد اقتضت رحمتنا وحكمتنا أن نكون مع المحسنين في أقوالهم وفي أفعالهم ، وتلك سنتنا التي لا تتخلف ولا تتبدل.

وبعد فهذا تفسير لسورة «العنكبوت» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٥٨

تفسير

سورة الرّوم

٥٩
٦٠