التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

وكرر ـ سبحانه ـ لفظ (لَا) أكثر من مرة ، لتأكيد نفى الاستواء ، بأية صورة من الصور.

وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل آخر للمؤمنين الذين استجابوا للحق ، وللكافرين الذين أصروا على باطلهم. أو هو تمثيل للعلماء والجهلاء قال الإمام ابن كثير : يقول ـ تعالى ـ كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة ، كالأعمى والبصير لا يستويان ، بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ، ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا يستوي الأحياء ولا الأموات. وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله ـ تعالى ـ : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ...

وقال ـ تعالى ـ : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) فالمؤمن سميع بصير في نور يمشى .. والكافر أعمى أصم ، في ظلمات يمشى ، ولا خروج له منها ، حتى يفضى به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بيان لنفاذ قدرة الله ـ تعالى ـ ، ومشيئته.

أى : إن الله ـ تعالى ـ يسمع من يشاء أن يسمعه ، ويجعله مدركا للحق ، ومستجيبا له أما أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ فليس في استطاعتك أن تسمع هؤلاء الكافرين المصرين على كفرهم وباطلهم ، والذين هم أشبه ما يكونون بالموتى في فقدان الحس ، وفي عدم السماع لما تدعوهم إليه.

فالجملة الكريمة تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين.

ثم حدد الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظيفته فقال : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ).

أى : ما أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ إلا منذر للناس من حلول عذاب الله ـ تعالى ـ بهم ، إذا ما استمروا على كفرهم ، أما الهداية والضلال فهما بيد الله ـ تعالى ـ وحده.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ إرسالا ملتبسا (بِالْحَقِ) الذي لا يحوم حوله الباطل (بَشِيراً وَنَذِيراً) أى : أرسلناك بالحق مبشرا المؤمنين بحسن الثواب ، ومنذرا الكافرين بأشد ألوان العقاب.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أى : وما من أمة من الأمم الماضية ، إلا وجاءها

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٢٩.

٣٤١

نذير ينذرها من سوء عاقبة الكفر ، ويدعوها إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

فمن أفراد هذه الأمة من أطاعوا هذا النذير فسعدوا وفازوا ، ومنهم من استحب العمى على الهدى ، والكفر على الإيمان فشقوا وخابوا.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى تسليته لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية أخرى فقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ، فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.) ...

أى : وإن يكذبك قومك يا محمد فلا تحزن ، فإن الأقوام السابقين قد كذبوا إخوانك الذين أرسلناهم إليهم ، كما كذبك قومك.

وإن هؤلاء السابقين قد (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أى : بالمعجزات الواضحات (وَبِالزُّبُرِ) أى : وبالكتب المنزلة من عند الله ـ تعالى ـ جمع زبور وهو المكتوب ، كصحف إبراهيم وموسى.

(وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أى : وبالكتاب الساطع في براهينه وحججه ، كالتوراة التي أنزلناها على موسى ، والإنجيل الذي أنزلناه على عيسى.

قال الشوكانى : قيل : الكتاب المنير داخل تحت الزبر ، وتحت البينات ، والعطف لتغير المفهومات ، وإن كانت متحدة في الصدق. والأولى تخصيص البينات بالمعجزات. والزبر بالكتب التي فيها مواعظ ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام» (١).

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالعذاب الشديد ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، وتكذيبهم لرسلهم.

ووضع الظاهر موضع ضميرهم ، لذمهم وللأشعار بعلة الأخذ.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) للتهويل. أى : فانظر ـ أيها العاقل ـ كيف كان إنكارى عليهم ، لقد كان إنكارا مصحوبا بالعذاب الأليم الذي دمرهم تدميرا ، واستأصلهم عن آخرهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك أدلة أخرى على عظيم قدرته. وبين من هم أولى الناس بخشيته ، ومدح الذين يكثرون من تلاوة كتابه ، ويحافظون على أداء فرائضه ، ووعدهم على ذلك بالأجر الجزيل فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٣٤٦.

٣٤٢

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(٣١)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ..

لتقرير ما قبله ، من أن اختلاف الناس في عقائدهم وأحوالهم أمر مطرد ، وأن هذا الاختلاف موجود حتى في الحيوان والحجارة والنبات ..

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ) .. هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك ، فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب ، بأن شبه من لم ير الشيء ، بحال من رآه. في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه ، ثم أجرى الكلام معه. كما يجرى مع من رأى ، قصدا إلى المبالغة في شهرته ..» (١).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٦٠.

٣٤٣

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يتأتى له الخطاب ، بتقرير دليل من أدلة القدرة الباهرة.

والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ علما لا يخالطه شك ، أن الله ـ تعالى ـ أنزل من السماء ماء كثيرا ، فأخرج بسببه من الأرض ، ثمرات مختلفا ألوانها. فبعضها أحمر ، وبعضها أصفر ، وبعضها أخضر .. وبعضها حلو المذاق ، وبعضها ليس كذلك ، مع أنها جميعا تسقى بماء واحد ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ، وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ ، صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١).

وجاء قوله (فَأَخْرَجْنا) .. على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة ، ولأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء.

وقوله (مُخْتَلِفاً) صفة لثمرات ، وقوله (أَلْوانُها) فاعل به.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) معطوف على ما قبله ، لبيان مظهر آخر من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ.

قال القرطبي ما ملخصه : «الجدد جمع جدّة ـ بضم الجيم ـ وهي الطرائق المختلفة الألوان» .. والجدّة : الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة : الطريقة والجمع جدد .. أى : طرائق تخالف لون الجبل ، ومنه قولهم : ركب فلان جدّة من الأمر ، إذا رأى فيه رأيا» (٢).

وغرابيب : جمع غربيب ، وهو الشيء الشديد السواد ، والعرب تقول للشيء الشديد السواد ، أسود غربيب.

وقوله : (سُودٌ) بدل من (غَرابِيبُ).

أى : أنزلنا من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ، وجعلنا بقدرتنا من الجبال قطعا ذات ألوان مختلفة ، فمنها الأبيض ، ومنها الأحمر ، ومنها ما هو شديد السواد ، ومنها ما ليس كذلك ، مما يدل على عظيم قدرتنا. وبديع صنعنا ..

__________________

(١) سورة الرعد الآية ٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٤٢.

٣٤٤

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذا الاختلاف ليس مقصورا على الجبال فقال : (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) ...

وقوله : (مُخْتَلِفٌ) صفة لموصوف محذوف. وقوله (كَذلِكَ) صفة ـ أيضا ـ لمصدر محذوف ، معمول لمختلف.

أى : ليس اختلاف الألوان مقصورا على قطع الجبال وطرقها وأجزائها ، بل ـ أيضا ـ من الناس والدواب والأنعام ، أصناف وأنواع مختلف ألوانها اختلافا ، كذلك الاختلاف الكائن في قطع الجبال ، وفي أنواع الثمار.

وإنما ذكر ـ سبحانه ـ هنا اختلاف الألوان في هذه الأشياء ، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى بديع صنعه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أولى الناس بخشيته فقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أى : إنما يخاف الله ـ تعالى ـ ويخشاه ، العالمون بما يليق بذاته وصفاته ، من تقديس وطاعة وإخلاص في العبادة ، أما الجاهلون بذاته وصفاته ـ تعالى ـ ، فلا يخشونه ولا يخافون عقابه ، لانطماس بصائرهم ، واستحواذ الشيطان عليهم ، وكفى بهذه الجملة الكريمة مدحا للعلماء ، حيث قصر ـ سبحانه ـ خشيته عليهم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت : لا بد من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله ، وأخرت العلماء ، كان المعنى. إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) وهما معنيان مختلفان.

فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟

قلت : لما قال (أَلَمْ تَرَ) بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله ، وأعلام قدرته ، وآثار صنعته .. أتبع ذلك بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته ، وعلمه كنه علمه.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم به» (١).

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على أنه يعاقب على المعصية ، ويغفر الذنوب لمن تاب من عباده توبة نصوحا.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦١١.

٣٤٥

ثم مدح ـ سبحانه ـ المكثرين من تلاوة كتابه ، المحافظين على أداء فرائضه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ.) ...

أى : إن الذين يداومون على قراءة القرآن الكريم بتدبر لمعانيه ، وعمل بتوجيهاته ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بأن أدوها في مواقيتها بخشوع وإخلاص.

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أى : وبذلوا مما رزقناهم من خيرات ، تارة في السر وتارة في العلانية.

وجملة (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) في محل رفع خبر إن. والمراد بالتجارة : ثواب الله ـ تعالى ـ ومغفرته.

وقوله : (تَبُورَ) بمعنى تكسد وتهلك. يقال : بار الشيء يبور بورا وبوارا ، إذا هلك وكسد.

أى : هؤلاء الذين يكثرون من قراءة القرآن الكريم ، ويؤدون ما أوجبه الله ـ تعالى ـ عليهم ، يرجون من الله ـ تعالى ـ الثواب الجزيل ، والربح الدائم ، لأنهم جمعوا في طاعتهم له ـ تعالى ـ بين الإكثار من ذكره ، وبين العبادات البدنية والمالية.

واللام في قوله : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) .. متعلقة بقوله (لَنْ تَبُورَ) على معنى ، يرجون تجارة لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجورهم التي وعدهم بها ، ويزيدهم في الدنيا والآخرة من فضله ونعمه وعطائه.

أو متعلقة بمحذوف ، والتقدير : فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (غَفُورٌ) أى : واسع المغفرة (شَكُورٌ) أى : كثير العطاء لمن يطيعه ويؤدى ما كلفه به.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ، بتثبيت فؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليته عما أصابه من أعدائه فقال : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أى القرآن الكريم (هُوَ الْحَقُ) الثابت الذي لا يحوم حوله باطل.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أى : أن من صفات هذا القرآن أنه مصدق لما تقدمه من الكتب السماوية. كالتوراة والإنجيل.

(إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أى : إن الله ـ تعالى ـ لمحيط إحاطة تامة بأحوال عباده ، مطلع على ما يسرونه وما يعلنونه من أقوال أو أفعال.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ

٣٤٦

وقدرته ، وأثنت على العلماء ، وعلى التالين للقرآن الكريم ، والمحافظين على أداء ما كلفهم الله ـ تعالى ـ ثناء عظيما.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان أقسام الناس في هذه الحياة. ووعدت المؤمنين الصادقين بجنات النعيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ)(٣٥)

و «ثم» في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) للتراخي الرتبى. و (أَوْرَثْنَا) أى أعطينا ومنحنا ، إذ الميراث عطاء يصل للإنسان عن طريق غيره.

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة .. وهو المفعول الثاني لأورثنا ، وقدم على المفعول الأول ، وهو الموصول للتشريف.

و (اصْطَفَيْنا) بمعنى اخترنا واستخلصنا ، واشتقاقه من الصفو ، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب.

والمراد بقوله : (مِنْ عِبادِنا) الأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس.

والمعنى : ثم جعلنا هذا القرآن الذي أوحيناه إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ ميراثا منك

٣٤٧

لأمتك ، التي اصطفيناها على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا. وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته .. وتسترشد بتوجيهاته ، وتعمل بأوامره ونواهيه.

قال الآلوسى : قوله : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) هم ـ كما قال ابن عباس وغيره ـ أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله ـ تعالى ـ اصطفاهم على سائر الأمم ..» (١).

وفي التعبير بالاصطفاء ، تنويه بفضل هؤلاء العباد ، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم ، كما أن التعبير بالماضي يدل على تحقق هذا الاصطفاء.

ثم قسم ـ سبحانه ـ هؤلاء العباد إلى ثلاثة أقسام فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) ...

وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة ، تعود إلى أفراد هذه الأمة الإسلامية.

وأن المراد بالظالم لنفسه ، من زادت سيئاته على حسناته.

وأن المراد بالمقتصد : من تساوت حسناته مع سيئاته.

وأن المراد بالسابقين بالخيرات : من زادت حسناتهم على سيئاتهم.

وعلى هذا يكون الضمير في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) .. يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة ، لأنهم جميعا من أهل الجنة بفضل الله ورحمته.

ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه : الكافر ، وعليه يكون الضمير في قوله : (يَدْخُلُونَها) يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات ، وأن هذه الآية نظير قوله ـ تعالى ـ في سورة الواقعة : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ...

ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه : يقول ـ تعالى ـ ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ... وهم هذه الأمة على ثلاثة أقسام : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المفرط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات. (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدى للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وهو الفاعل للواجبات والمستحبات.

قال ابن عباس : هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورثهم الله ـ تعالى ـ كل كتاب أنزله. فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٩٤.

٣٤٨

وفي رواية عنه : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ـ تعالى ـ ، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الحديث الشريف : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى» ..

وقال آخرون : الظالم لنفسه : هو الكافر.

والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية ، وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق يشد بعضها بعضا.

ثم أورد الإمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في هذه الآية : «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة».

ومعنى قوله «بمنزلة واحدة» أى : في أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة» (١).

وقال الإمام ابن جرير : فإن قال لنا قائل : إن قوله (يَدْخُلُونَها) إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات؟

قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد ، وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد.

قيل : إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله ـ تعالى ـ أنهم يدخلون جنات عدن : وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ... ثم يدخلون الجنة بعد ذلك ، فيكون ممن عمه خبر الله ـ تعالى ـ بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) (٢).

وقال الشوكانى : والظالم لنفسه : هو الذي عمل الصغائر. وقد روى هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبى الدرداء ، وعائشة. وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور ... ووجه كونه ظالما لنفسه ، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات ، لكان لنفسه فيها من الثواب حظا عظيما .. (٣).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٣٢.

(٢) راجع تفسير ابن جرير ج ٢٢ ص ٩٠.

(٣) تفسير الشوكانى ج ٤ ص ٣٤٩.

٣٤٩

قالوا : وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات. لا يقتضى تشريفا ، كما في قوله ـ تعالى ـ (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) ...

ولعل السر في مجيء هذه الأقسام بهذا الترتيب ، أن الظالمين لأنفسهم أكثر الأقسام عددا ، ويليهم المقتصدون ، ويليهم السابقون بالخيرات ، كما قال ـ تعالى ـ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أى : بتوفيقه وإرادته وفضله.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء.

أى : ذلك الذي أعطيناه ـ أيها الرسول الكريم ـ لأمتك من الاصطفاء ومن توريثهم الكتاب ، هو الفضل الواسع الكبير ، الذي لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه إلا الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر هذا الفضل فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) والضمير للأنواع الثلاثة.

أى : هؤلاء الظالمون لأنفسهم والمقتصدون والسابقون بالخيرات ، ندخلهم بفضلنا ورحمتنا ، الجنات الدائمة التي يخلدون فيها خلودا أبديا.

يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام به إقامة دائمة.

(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أى أنهم يدخلون الجنات دخولا دائما ، وهم في تلك الجنات يتزينون بأجمل الزينات ، وبأفخر الملابس ، حيث يلبسون في أيديهم أساور من ذهب ولؤلؤا ، أما ثيابهم فهي من الحرير الخالص.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقولونه بعد فوزهم بهذا النعيم فقال : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ).

والحزن : غم يعترى الإنسان لخوفه من زوال نعمة هو فيها. والمراد به هنا : جنس الحزن الشامل لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة.

أى : وقالوا عند دخولهم الجنات الدائمة ، وشعورهم بالأمان والسعادة والاطمئنان : الحمد لله الذي أذهب عنا جميع ما يحزننا من أمور الدنيا أو الآخرة.

(إِنَّ رَبَّنا) بفضله وكرمه (لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أى : لواسع المغفرة لعباده ولكثير العطاء للمطيعين ، حيث أعطاهم الخيرات الوفيرة في مقابل الأعمال القليلة. (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ

٣٥٠

الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) أى : الحمد لله الذي أذهب عنا الأحزان بفضله ورحمته ، والذي (أَحَلَّنا) أى : أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) أى : الدار التي لا انتقال لنا منها ، وإنما نحن سنقيم فيها إقامة دائمة وهي الجنة التي منحنا إياها بفضله وكرمه.

وهذه الدار (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أى : لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ولا عناء. يقال : نصب فلان ـ كفرح ـ إذا نزل به التعب والإعياء.

(وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أى : ولا يصيبنا فيها كلال وإعياء بسبب التعب والهموم ، يقال : لغب فلان لغبا ولغوبا. إذا اشتد به الإعياء والهزال.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين النصب واللّغوب؟

قلت : النصب ، التعب والمشقة ، التي تصيب المنتصب للأمر ، المزاول له.

وأما اللغوب ، فما يلحقه من الفتور بسبب النصب. فالنصب : نفس المشقة والكلفة. واللغوب : نتيجة ما يحدث منه من الكلال والفتور» (١).

وبعد هذا البيان البليغ الذي يشرح الصدور لحسن عاقبة المفلحين ، ساقت السورة الكريمة حال الكافرين ، وما هم فيه من عذاب مهين ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦١٤.

٣٥١

اى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) في الدنيا بكل ما يجب الإيمان به (لَهُمْ) في الآخرة (نارُ جَهَنَّمَ) يعذبون فيها تعذيبا أليما.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم في جهنم فقال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أى : لا يحكم عليهم فيها بالموت مرة أخرى كما ماتوا بعد انقضاء آجالهم في الدنيا ، وبذلك يستريحون من العذاب. ولا يخفف عنهم من عذاب جهنم ، بل هي كلما خبت أو هدأ لهيبها ، عادت مرة أخرى إلى شدتها ، وازدادت سعيرا.

والمراد أنهم باقون في العذاب الأليم بدون موت ، أو حياة يستريحون فيها.

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أى : مثل هذا الجزاء الرادع الفظيع ، نجزى في الآخرة ، كل شخص كان في الدنيا شديد الجحود والكفران لآيات ربه ، الدالة على وحدانيته وقدرته ..

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) بيان لما يجأرون به إلى ربهم وهم ملقون في نار جهنم.

ويصطرخون ، بمعنى يستغيثون ويضجون بالدعاء رافعين أصواتهم ، افتعال من الصراخ ، وهو الصياح الشديد المصحوب بالتعب والمشقة ، ويستعمل كثيرا في العويل والاستغاثة. وأصله يصترخون ، فأبدلت التاء طاء.

وجملة (رَبَّنا أَخْرِجْنا.) .. مقول لقول محذوف.

أى : وهم بعد أن ألقى بهم في نار جهنم ، أخذوا يستغيثون ويضجون بالدعاء والعويل ويقولون : يا ربنا أخرجنا من هذه النار ، وأعدنا إلى الحياة الدنيا ، لكي نؤمن بك وبرسولك ، ونعمل أعمالا صالحة أخرى ترضيك ، غير التي كنا نعملها في الدنيا.

وقولهم هذا يدل على شدة حسرتهم ، وعلى اعترافهم بجرمهم ، وبسوء أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا.

وهنا يأتيهم من ربهم الرد الذي يخزيهم فيقول ـ سبحانه ـ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ.) ...

والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والكلام على إضمار القول ، وقوله (نُعَمِّرْكُمْ) من التعمير بمعنى الإبقاء والإمهال في الحياة الدنيا إلى الوقت الذي كان يمكنهم فيه الإقلاع عن الكفر إلى الإيمان.

و (ما) في قوله (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) نكرة موصوفة بمعنى مدة. والضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى عمرهم الذي قضوه في الدنيا.

٣٥٢

والمعنى : أن هؤلاء الكافرين عند ما يقولون بحسرة وضراعة : يا ربنا أخرجنا من النار وأعدنا إلى الدنيا لنعمل عملا صالحا غير الذي كنا نعمله فيها ، يرد عليهم ربهم بقوله لهم على سبيل الزجر والتأنيب : أو لم نمهلكم في الحياة الدنيا ، ونعطيكم العمر والوقت الذي كنتم تتمكنون فيه من التذكر والاعتبار واتباع طريق الحق ، وفضلا عن كل ذلك فقد جاءكم النذير الذي ينذركم بسوء عاقبة إصراركم على كفركم ، ولكنكم كذبتموه وأعرضتم عن دعوته.

والمراد بالنذير : جنسه فيتناول كل رسول أرسله الله ـ تعالى ـ إلى قومه ، فكذبوه ولم يستجيبوا لدعوته ، وعلى رأس هؤلاء المنذرين سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فاخسئوا في جهنم ، واتركوا الصراخ والعويل ، وذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون به في الدنيا ، فليس للمصرين على كفرهم من نصير ينصرهم ، أو يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي يستحقونه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات الكريمة ببيان سعة علمه. فقال : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء سواء أكان هذا الشيء في السموات أم في الأرض ، إنه ـ سبحانه ـ عليم بما تضمره القلوب ، وما تخفيه الصدور ، وما توسوس به النفوس.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله على عباده ، وأقام الأدلة على وحدانيته وقدرته ، فقال ـ تعالى ـ :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ

٣٥٣

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١)

وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) .. بيان لجانب من فضله ـ تعالى ـ على بنى آدم.

و (خَلائِفَ) جمع خليفة ، وهو من يخلف غيره.

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي جعلكم خلفاء في أرضه ، وملككم كنوزها وخيراتها ومنافعها ، لكي تشكروه على نعمه ، وتخلصوا له العبادة والطاعة.

أو جعلكم خلفاء لمن سبقكم من الأمم البائدة ، فاعتبروا بما أصابهم من النقم بسبب إعراضهم عن الهدى ، واتبعوا ما جاءكم به رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أى : فمن كفر بالحق الذي جاءه به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر على ذلك ، فعلى نفسه يكون وبال كفره لا على غيره.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أى : لا يزيدهم إلا بغضا شديدا من ربهم لهم ، واحتقارا لحالهم وغضبا عليهم ...

فالمقت : مصدر بمعنى البغض والكراهية ، وكانوا يقولون لمن يتزوج امرأة أبيه وللولد الذي يأتى عن طريق هذا الزواج ، المقتى ، أى : المبغوض.

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أى : ولا يزيدهم إصرارهم على كفرهم إلا خسارا وبوارا وهلاكا في الدنيا والآخرة.

فالآية الكريمة تنفر أشد التنفير من الكفر ، وتؤكد سوء عاقبته ، تارة عن طريق بيان أنه مبغوض من الله ـ تعالى ـ ، وتارة عن طريق بيان أن المتلبس به ، لن يزداد إلا خسرانا وبوارا.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدى هؤلاء المشركين ، وأن يوبخهم على

٣٥٤

عنادهم وجحودهم فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ.) ...

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل التبكيت والتأنيب لهؤلاء المشركين. أخبرونى وأنبئونى عن حال شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله ، ماذا فعلوا لكم من خير أو شر ، وأرونى أى جزء خلقوه من الأرض حتى استحقوا منكم الألوهية والشركة مع الله ـ تعالى ـ في العبادة؟

إنهم لم يفعلوا ـ ولن يفعلوا ـ شيئا من ذلك ، فكيف أبحتم لأنفسكم عبادتهم؟

وقوله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) تبكيت آخر لهم. أى : وقل لهم : إذا كانوا لم يخلقوا شيئا من الأرض ، فهل لهم معنا شركة في خلق السموات أو في التصرف فيها ، حتى يستحقوا لذلك مشاركتنا في العبادة والطاعة.

وقوله : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) تبكيت ثالث لهم. أى : وقل لهم إذا كانوا لم يخلقوا شيئا من الأرض ، ولم يشاركونا في خلق السموات ، فهل نحن أنزلنا عليهم كتابا أقررنا لهم فيه بمشاركتنا ، فتكون لهم الحجة الظاهرة البينة على صدق ما يدعون؟

والاستفهام في جميع أجزاء الآية الكريمة للإنكار والتوبيخ.

والمقصود بها قطع كل حجة يتذرعون بها في شركهم ، وإزهاق باطلهم بألوان من الأدلة الواضحة التي تثبت جهالاتهم ، حيث أشركوا مع الله ـ تعالى ـ ما لا يضر ولا ينفع ، وما لا يوجد دليل أو ما يشبه الدليل على صحة ما ذهبوا إليه من كفر وشرك.

ولذا ختمت الآية الكريمة بالإضراب عن أوهامهم وبيان الأسباب التي حملتهم على الشرك ، فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً).

أى : أن هؤلاء الشركاء لم يخلقوا شيئا لا من الأرض ولا من السماء ، ولم نؤتهم كتابا بأنهم شركاء لنا في شيء ، بل الحق أن الظالمين يخدع بعضهم بعضا ، ويعد بعضهم بعضا بالوعود الباطلة ، بأن يقول الزعماء لأتباعهم : إن هؤلاء الآلهة هم شفعاؤنا عند الله ، وأننا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فيترتب على قولهم هذا ، أن ينساق الأتباع وراءهم كما تنساق الأنعام وراء راعيها.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما عليه المعبودات الباطلة من عجز وضعف ، أتبع ذلك ببيان جانب من عظيم قدرته ، وعميم فضله فقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) ...

٣٥٥

أى : إن الله ـ تعالى ـ بقدرته وحدها ، يمسك السموات والأرض كراهة أن تزولا ، أو يمنعهما ويحفظهما من الزوال أو الاضمحلال أو الاضطراب ، ولئن زالتا ـ على سبيل الفرض والتقدير ـ فلن يستطيع أحد أن يمسكهما ويمنعهما عن هذا الزوال سوى الله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (انَ) وما زال (حَلِيماً) بعباده (غَفُوراً) لمن تاب إليه وأناب ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

قال الآلوسى : قوله : (وَلَئِنْ زالَتا) أى : إن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير ، (إِنْ أَمْسَكَهُما) أى : ما أمسكهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أى : من بعد إمساكه ـ تعالى ـ أو من بعد الزوال ، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في (لَئِنْ) ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ... و (مِنْ) الأولى مزيدة لتأكيد العموم. والثانية للابتداء (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بما كان عليه المشركون من نقض العهود ، ومن مكر سىء حاق بهم ، ودعاهم ـ سبحانه ـ إلى الاعتبار بمن سبقهم ، وبين لهم جانبا من مظاهر فضله عليهم. ورأفته بهم فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٠٤.

٣٥٦

فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) .. : هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغهم أن أهل الكتاب ، كذبوا رسلهم ، فلعنوا من كذب نبيه منهم ..» (١).

و (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أى : أقوى أيمانهم وأغلظها والجهد : الطاقة والوسع والمشقة.

يقال : جهد نفسه يجهدها في الأمر ، إذا بلغ بها أقصى وسعها وطاقتها فيه.

والمراد : أنهم أكدوا الأيمان ووثقوها ، بكل ألفاظ التوكيد والتوثيق.

أى : أن كفار مكة ، أقسموا بالله ـ تعالى ـ قسما مؤكدا موثقا مغلظا ، (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أى : نبي ينذرهم بأن الكفر باطل وأن الإيمان بالله هو الحق.

(لَيَكُونُنَّ أَهْدى) سبيلا (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أى : ليكونن أهدى من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم في اتباعهم وطاعتهم ، لهذا الرسول الذي يأتيهم من عند ربهم لهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الذي هو أشرف الرسل.

(ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) أى : ما زادهم مجيئه لهم إلا نفورا عن الحق ، وتباعدا عن الهدى. أى : أنهم قبل مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يتمنون أن يكون الرسول منهم ، لا من غيرهم ، وأقسموا بالله بأنهم سيطيعونه فلما جاءهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفروا عنه ولم يؤمنوا به.

وإنما كان القسم بالله ـ تعالى ـ غاية أيمانهم ، لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وبأصنامهم ، فإذا اشتد عليهم الحال ، وأرادوا تحقيق الحق ، حلفوا بالله ـ تعالى ـ.

وقوله (لَيَكُونُنَ) جواب للقسم المقدر. وقوله : (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) جواب لمّا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٥٨.

٣٥٧

وقوله ـ تعالى ـ : (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) بدل من (نُفُوراً) أو مفعول لأجله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) معطوف على استكبارا.

والمراد بمكرهم السيئ : تصميمهم على الشرك ، وتكذيبهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أجل المعاندة للحق ، والاستكبار عنه ، ومن أجل المكر السيئ الذي استولى على نفوسهم ، والحقد الدفين الذي في قلوبهم.

وقوله (السَّيِّئِ) صفة لموصوف محذوف. وأصل التركيب : وأن مكروا المكر السيئ ، فأقيم المصدر مقام أن والفعل ، وأضيف إلى ما كان صفة له.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) بيان لسوء عاقبة مكرهم ، وأن شره ما نزل إلا بهم.

وقوله : (يَحِيقُ) بمعنى يحيط وينزل. يقول : حاق بفلان الشيء ، إذا أحاط ونزل به. أى : ولا ينزل ولا يحيط شر ذلك المكر السيئ إلا بأهله الماكرين.

قال صاحب الكشاف : لقد حاق بهم يوم بدر. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فإن الله ـ تعالى ـ يقول : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا ، فإن الله ـ تعالى ـ يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) (١).

وقال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : والآية عامة على الصحيح ، والأمور بعواقبها ، والله ـ تعالى ـ يمهل ولا يهمل ، ووراء الدنيا الآخرة ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

وبالجملة : من مكر به غيره ، ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) حض لهم على الاستجابة للحق ، وترك المكر والمخادعة والعناد. والسنة : الطريقة ..

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا ، فهل ينتظر هؤلاء الماكرون ، إلا طريقتنا في الماكرين من قبلهم. وهي إهلاكهم ونزول العذاب والخسران بهم؟ إنهم ما ينتظرون إلا ذلك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) تأكيد لثبات سنته ـ تعالى ـ في خلقه ، وتعليل لما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦١٨.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٠٦.

٣٥٨

أى : هذه سنتنا وطريقتنا في الماكرين والمكذبين لرسلهم ، أننا نمهلهم ولا نهملهم ، ونجعل العاقبة السيئة لهم. ولن تجد لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه تبديلا بأن يضع غيرها مكانها ، ولن تجد لها تحويلا عما سارت عليه وجرت به.

قال الجمل ما ملخصه : قوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) مصدر مضاف لمفعوله تارة كما هنا ، ولفاعله أخرى كقوله (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) لأنه ـ تعالى ـ سنها بهم ، فصحت إضافتها للفاعل وللمفعول. والفاء في قوله (فَلَنْ تَجِدَ) لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب. ونفى وجدان التبديل والتحويل ، عبارة عن نفى وجودهما بالطريق البرهاني ، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما.

والمراد : بعدم التبديل. أن العذاب لا يبدل بغيره. وبعدم التحويل : أنه لا يحول عن مستحقه إلى غيره. وجمع بينهما هنا : تعميما لتهديد المسيء لقبح مكره (١).

ثم ساق لهم ـ سبحانه ـ ما يؤكد عدم تغيير سنته في خلقه ، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم ، والذين يرون بأعينهم آثارهم ، فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

أى أعمى هؤلاء الماكرون عن التدبر ، ولم يسيروا في الأرض ، فيروا بأعينهم في رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما ، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم ، لقد دمرناهم تدميرا ، مع أنهم كانوا أشد من مشركي مكة قوة ، وأكثر جمعا (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أى وما كان من شأن الله ـ تعالى ـ أن يعجزه شيء من الأشياء ، سواء أكان في السموات أم في الأرض. بل كل شيء تحت أمره وتصرفه.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (كانَ عَلِيماً) بكل شيء (قَدِيراً) على كل شيء.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان جانب من رحمته بعباده فقال (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) من الذنوب أو الخطايا.

(ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أى : على ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) من الدواب التي تدب عليها. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الذي حدده ـ سبحانه ـ لحسابهم ، جازاهم بما يستحقون (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أى : لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٥٠٠.

٣٥٩

وبعد : فهذا لسورة فاطر. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٣٦٠