التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

والمراد بالفتح هنا : الإطلاق والإرسال على سبيل المجاز. بعلاقة السببية لأن فتح الشيء المغلق ، سبب لإطلاق ما فيه وإرساله.

أى : ما يرسل الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه للناس من رحمة متمثلة في الأمطار ، وفي الأرزاق ، وفي الصحة .. وفي غير ذلك ، فلا أحد يقدر على منعها عنهم.

(وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أى : وما يمسك من شيء لا يريد إعطاءه لهم ، فلا أحد من الخلق يستطيع إرساله لهم. بعد أن منعه الله ـ تعالى ـ عنهم.

(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه غالب (الْحَكِيمُ) في كل أقواله وأفعاله.

وعبر ـ سبحانه ـ في جانب الرحمة بالفتح ، للإشعار بأن رحمته ـ سبحانه ـ من أعظم النعم وأعلاها ، حتى لكأنها بمنزلة الخزائن المليئة بالخيرات ، والتي متى فتحت أصاب الناس منها ما أصابوا من نفع وبر.

و (مِنْ) في قوله (مِنْ رَحْمَةٍ) للبيان. وجاء الضمير في قوله : (فَلا مُمْسِكَ لَها) مؤنثا ، لأنه يعود إليها وحدها.

وجاء مذكرا في قوله (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) لأنه يشملها ويشمل غيرها. أى : وما يمسك من رحمة أو غيرها عن عباده فلا يستطيع أحد أن يرسل ما أمسكه ـ سبحانه ـ.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

قال ابن كثير : وثبت في صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدري. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : سمع الله لمن حمده. اللهم ربنا لك الحمد. ملء السموات والأرض. وملء ما شئت من شيء بعد .. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطى لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد (٣) ـ أى : ولا ينفع صاحب الغنى غناه وإنما الذي ينفعه عمله الصالح ..

__________________

(١) سورة يونس الآية ١٠٧.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٧.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٢٠.

٣٢١

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء الى الناس. أمرهم فيه بذكره وشكره فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ...

والمراد من ذكر النعمة : ذكرها باللسان وبالقلب ، وشكر الله تعالى عليها ، واستعمالها فيما خلقت له.

والمراد بالنعمة هنا : النعم الكثيرة التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على الناس. كنعمة خلقهم ، ورزقهم ، وتسخير كثير من الكائنات لهم.

والاستفهام في قوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) للنفي والإنكار ، أى : يا أيها الناس اذكروا بألسنتكم وقلوبكم ، نعم الله ـ تعالى ـ عليكم ، واشكروه عليها. واستعملوها في الوجوه التي أمركم باستعمالها فيها ، واعلموا أنه لا خالق غير الله ـ تعالى يرزقكم من السماء بالمطر وغيره ، ويرزقكم من الأرض بالنبات والزروع والثمار وما يشبه ذلك من الأرزاق التي فيها حياتكم وبقاؤكم.

وقوله ـ تعالى ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة مستأنفة لتقرير النفي المستفاد مما قبله أى : لا إله مستحق للعبادة والطاعة إلا الله ـ تعالى ـ ، إذ هو الخالق لكم ، وهو الذي أعطاكم النعم التي لا تعد ولا تحصى.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أى : ومادام الأمر كذلك : فكيف تصرفون عن إخلاص العبادة لخالقكم ورازقكم ، إلى الشرك في عبادته.

فقوله (تُؤْفَكُونَ) من الأفك ـ بالفتح ـ بمعنى الصرف والقلب يقال : أفكه عن الشيء ، إذا صرفه عنه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) .. أى : لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا.

وبعد هذا البيان المعجز لمظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده ، وهيمنته على شئون خلقه .. أخذت السورة الكريمة في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي دعوة الناس إلى اتباع ما جاءهم به هذا النبي الكريم ، وفي بيان مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

٣٢٢

وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨)

قال الآلوسى : قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعموم البلية ، والوعد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوعيد لأعدائه.

والمعنى : وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين .. فتأس بأولئك الرسل في الصبر ، فقد كذبهم قومهم فصبروا على تكذيبهم. فجملة (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) قائمة مقام جواب الشرط ، والجواب في الحقيقة تأس. وأقيمت تلك الجملة مقامه ، اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب .. (١).

وجاء لفظ الرسل بصيغة التنكير ، للإشعار بكثرة عددهم ، وسمو منزلتهم.

أى : وإن يكذبك ـ أيها الرسول الكريم ـ قومك ، فلا تحزن ، ولا تبتئس ، فإن إخوانك من الأنبياء الذين سبقوك ، قد كذبهم أقوامهم ، فأنت لست بدعا في ذلك.

ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) .. (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) .. (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٦٧.

(٢) سورة فصلت الآية ٤٣.

(٣) سورة الأنعام الآية ٣٤.

٣٢٣

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يزيد في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

أى : وإلى الله ـ تعالى ـ وحده ترجع أمور الناس وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم. وسيجازى ـ سبحانه ـ الذين أساءوا بما عملوا ، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء ثانيا إلى الناس. بين لهم فيه أن البعث حق ، وأن من الواجب عليهم أن يستعدوا لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح فقال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ.) ...

أى : إن ما وعدكم الله ـ تعالى ـ به من البعث والحساب والثواب والعقاب ، حق لا ريب فيه ، وما دام الأمر كذلك ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أى : فلا تخدعنكم بمتعها ، وشهواتها ، ولذائذها ، فإنها إلى زوال وفناء ، ولا تشغلنكم هذه الحياة الدنيا من أداء ما كلفكم ـ سبحانه ـ بأدائه من فرائض وتكاليف.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أى : ولا يخدعنكم عن طاعة ربكم ، ومالك أمركم (الْغَرُورُ).

أى : الشيطان المبالغ في خداعكم ، وفي صرفكم عن كل ما هو خير وبر.

فالمراد بالغرور هنا : الشيطان الذي أقسم بالأيمان المغلظة ، بأنه لن يكف عن إغواء بنى آدم ، وعن تزيين الشرور والآثام لهم.

فالمقصود بالآية الكريمة تذكير الناس بيوم القيامة وما فيه من أهوال. وتحذيرهم من اتباع خطوات الشيطان ، فإنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا التحذير بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) يا بنى آدم ، عداوة قديمة وباقية إلى يوم القيامة.

وما دام الأمر كذلك (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أى : فاتخذوه أنتم عدوا لكم في عقائدكم. وفي عباداتكم. وفي كل أحوالكم ، بأن تخالفوا وسوسته وهمزاته وخطواته ..

وقوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) تقرير وتأكيد لهذه العداوة.

أى : اتخذوا ـ يا بنى آدم ـ الشيطان عدوا لكم ، لأنه لا يدعو أتباعه ومن هم من حزبه إلى خير أبدا ، وإنما يدعوهم الى العقائد الباطلة. والأقوال الفاسدة ، والأفعال القبيحة التي تجعلهم يوم القيامة من أهل النار الشديدة الاشتعال ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أقسام الناس يوم القيامة فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا) بكل ما يجب

٣٢٤

الإيمان به (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمر خالقهم ـ عزوجل ـ واتباعهم للشيطان ..

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ لَهُمْ) من ربهم (مَغْفِرَةٌ) عظيمة (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، والمطيع ، والعاصي ، فقال : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) ...

والاستفهام للإنكار. و «من» موصولة في موضع رفع على الابتداء. والجملة بعدها صلتها ، والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه ، و (زُيِّنَ) من التزيين بمعنى التحسين. وقوله (سُوءُ عَمَلِهِ) أى : عمله السيئ ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف.

والمعنى : أفمن زين له الشيطان عمله السيئ ، فرآه حسنا ، كمن ليس كذلك؟ كلا إنهما لا يستويان في عرف أى عاقل ، فإن الشخص الذي ارتكب الأفعال القبيحة التي زينها له الشيطان ، أو نفسه الأمارة بالسوء ، أو هواه .. مصيره إلى الشقاء والتعاسة.

أما الشخص الذي خالف الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء ، والهوى المردى .. فمصيره إلى السعادة والفلاح.

وقد صرح ـ سبحانه ـ بالأمرين في آيات منها قوله ـ تعالى ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ)؟

وجملة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تعليل لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا ..

أى : هؤلاء الذين يعملون الأعمال السيئة ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، لا قدرة لك على هدايتهم ـ أيها الرسول الكريم ـ فإن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي يضل من يشاء إضلاله ، ويهدى من يشاء هدايته.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) للتفريع. والحسرات جمعه حسرة ، وهي أشد ما يعترى الإنسان من ندم على أمر قد مضى وانتهى والجار والمجرور «عليهم» متعلق بقوله «حسرات».

أى : إذا كان الأمر كما أخبرناك ـ أيها الرسول الكريم ـ فامض في طريقك وبلغ رسالة ربك ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ولا تهلك نفسك هما وغما وحزنا من أجل هؤلاء الذين أعرضوا عن الحق ، واعتنقوا الباطل ، وظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعا ..

٣٢٥

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يزيد في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء مما يفعله هؤلاء الجاهلون من أفعال قبيحة ، وسيجازيهم يوم القيامة بما يستحقونه من عقاب.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٢).

وبعد هذه التسلية من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد هذا التحذير من وسوسة الشيطان ومن خداعه ، وبعد هذا البيان لسوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، بعد كل ذلك .. ساقت السورة الكريمة ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ، ومن رحمته بهم ، نرى ذلك في الرياح وفي السحب ، وفي البحار والأنهار ، وفي الليل نهار ، وفي الشمس القمر .. وفي غير ذلك من النعم الظاهرة والباطنة في هذا الكون.

قال ـ تعالى ـ :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ

__________________

(١) سورة الشعراء الآية ٣.

(٢) سورة الكهف الآية ٦.

٣٢٦

وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)

قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ لما ذكر ـ سبحانه ـ أشياء من الأمور السماوية ، وإرسال الملائكة ، أتبع ذلك بذكر أشياء من الأمور الأرضية كالرياح وإرسالها ، وفي هذا احتجاج على منكري البعث ، دلهم على المثال الذي يعاينونه ، وهو وإحياء الموتى سيان. وفي الحديث أنه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : «هل مررت بوادي أهلا محلا ـ أى مجدبا لا نبات فيه ـ ثم مررت به يهتز خضرا؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيى الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه» (١).

فقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ ومن سعة رحمته بعباده.

__________________

(١) تفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٣٠٢ لأبى حيان.

٣٢٧

وقوله : (فَتُثِيرُ) من الإثارة بمعنى التهييج والتحريك من حال إلى حال.

أى : والله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي أرسل الرياح ، فجعلها بقدرته النافذة تحرك السحب من مكان إلى مكان ، فتذهب بها تارة إلى جهة الشمال ، وتارة إلى جهة الجنوب ، وتارة إلى غير ذلك.

وقوله : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) بيان للحكمة من هذه الإثارة. والمراد بالبلد الميت : الأرض الجدباء التي لا نبات فيها. والضمير في (فَسُقْناهُ) يعود إلى السحاب.

وقوله : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أى : فأحيينا بالمطر النازل من السحاب الأرض الجدباء ، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.

فالضمير في قوله (بِهِ) يعود إلى المطر ، لأن السحاب يدل عليه لما بينهما من تلازم ، ويصح أن يعود إلى السحاب لأنه سبب نزول الأمطار.

وقال ـ سبحانه ـ (فَتُثِيرُ) بصيغة المضارع. استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على قدرة الله ـ تعالى ـ ، والتي من شأنها أن تغرس العظات والعبر في النفوس.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَسُقْناهُ فَأَحْيَيْنا) بنون العظمة ، وبالفعل الماضي ، للدلالة على تحقق قدرته ورحمته بعباده.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : لم جاء (فَتُثِيرُ) على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟.

قلت : ليحكى الحال التي تقع فيها إثارة الرياح للسحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية ..

ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ، من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة ، إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه .. (١).

والكاف في قوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ النُّشُورُ) بمعنى مثل ، وهي في محل رفع على الخبرية. أى : مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه للأرض بعد نزول المطر عليها ، يكون إحياء الأموات منكم.

قال الإمام الرازي : فإن قيل ما وجه التشبيه بقوله : (كَذلِكَ النُّشُورُ)؟ فالجواب من وجوه :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٠١.

٣٢٨

أحدها : أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة.

ثانيها : كما أن الريح يجمع القطع السحابية ، كذلك يجمع ـ سبحانه ـ بين أجزاء الأعضاء ..

ثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت ، كذلك نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت (١).

والنشور : الإحياء والبعث بعد الموت. يقال : أنشر الله ـ تعالى ـ الموتى ونشرهم ، إذا أحياهم بعد موتهم. ونشر الراعي غنمه ، إذا بثها بعد أن آواها.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن العزة الكاملة إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده فقال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.) ...

والمراد بالعزة : الشرف والمنعة والاستعلاء ، من قولهم : أرض عزاز ، أى : صلبة قوية. و (مَنْ) شرطية ، وجواب الشرط محذوف. وقوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) تعليل للجواب المحذوف.

والمعنى من كان من الناس يريد العزة التي لا ذلة معها. فليطع الله وليعتمد عليه وحده فلله ـ تعالى ـ العزة كلها في الدنيا والآخرة ، وليس لغيره منها شيء.

وفي هذا رد على المشركين وغيرهم ممن يطلبون العزة من الأصنام أو من غيرها من المخلوقات قال ـ تعالى ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٣).

قال القرطبي ما ملخصه : يريد ـ سبحانه ـ في هذه الآية ، أن ينبه ذوى الأقدار والهمم ، من أين تنال العزة ومن أين تستحق ، فمن طلب العزة من الله ـ تعالى ـ وجدها عنده ، ـ إن شاء الله ـ ، غير ممنوعة ولا محجوبة عنه .. ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفسرا لهذه الآية : «من أراد عز الدارين فليطع العزيز» ، ولقد أحسن القائل.

وإذا تذللت الرقاب تواضعا

منا إليك فعزها في ذلها

__________________

(١) تفسير البخر الرازي ج ٧ ص ٣٢.

(٢) سورة مريم الآيتان ٨١ ، ٨٢.

(٣) سورة النساء الآية ١٣٩.

٣٢٩

فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، فليعتز بالله ـ تعالى ـ ، فإن من اعتز بغير الله ، أذله الله ، ومن اعتز به ـ سبحانه أعزه (١).

ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) لأن العزة الكاملة لله ـ تعالى ـ وحده ، أما عزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمستمدة من قربه من الله ـ تعالى ـ ، كما أن عزة المؤمنين مستمدة من إيمانهم بالله ـ تعالى ـ وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والخلاصة أن هذه الآية الكريمة ترشد المؤمنين إلى الطريق الذي يوصلهم إلى السعادة الدنيوية والأخروية. ألا وهو طاعة الله ـ تعالى ـ ، والاعتماد عليه والاعتزاز به.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) حض للمؤمنين على النطق بالكلام الحسن ، وعلى الإكثار من العمل الصالح.

و (يَصْعَدُ) من الصعود بمعنى الارتفاع إلى أعلى والعروج من مكان منخفض إلى مكان مرتفع. يقال صعد في السلم ويصعد صعودا إذا ارتقاه وارتفع فيه.

و (الْكَلِمُ) اسم جنس جمعى واحده كلمة.

والمراد بالكلم الطيب : كل كلام يرضى الله ـ تعالى ـ من تسبيح وتحميد وتكبير. وأمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر ، وغير ذلك من الأقوال الحسنة.

والمراد بصعوده : قبوله عند الله ـ تعالى ـ ورضاه عن صاحبه ، أو صعود صحائف هذه الأقوال الطيبة.

والمعنى : إليه ـ تعالى ـ وحده ، لا إلى غيره يصعد الكلم الطيب ، أى : يقبل عنده ، ويكون مرضيا لديه ، أو إليه ـ وحده ـ ترفع صحائف أعمال عباده ، الصادقين فيجازيهم بما يستحقون من ثواب ، والعمل الصالح الصادر عن عباده المؤمنين يرفعه الله ـ تعالى ـ إليه ، ويقبله منهم ، ويكافئهم عليه.

فالفاعل لقوله (يَرْفَعُهُ) ضمير يعود على الله ـ تعالى ـ ، والضمير المنصوب يعود إلى العمل الصالح أى : يرفع الله ـ تعالى ـ العمل الصالح إليه ، ويقبله من أصحابه.

ومنهم من يرى أن الفاعل لقوله (يَرْفَعُهُ) هو العمل الصالح. والضمير المنصوب يعود إلى الكلم الطيب. أى : أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب. بأنه يجعله مقبولا عند الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٢٨.

٣٣٠

ومنهم من يرى العكس. أى : أن الكلم الطيب هو الذي يرفع العمل الصالح.

قال الشوكانى ما ملخصه : ومعنى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. كما قال الحسن وغيره. ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا من العمل الصالح وقيل : إن فاعل (يَرْفَعُهُ) هو الكلم الطيب ، ومفعوله العمل الصالح. ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان وقيل : إن فاعل (يَرْفَعُهُ) ضمير يعود إلى الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب ، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل : والعمل الصالح هو الذي يرفع صاحبه. (١).

ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال ، أن يكون الفاعل لقوله (يَرْفَعُهُ) هو الله ـ تعالى ـ ، وأن الضمير المنصوب عائد إلى العمل الصالح لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي يقبل الأقوال الطيبة ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يرفع الأعمال الصالحة ويقبلها عنده من عباده المؤمنين.

ثم بين ـ تعالى ـ بعد ذلك سوء عاقبة الذين يمكرون السوء فقال : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ).

والمكر : التدبير المحكم. أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به صاحبه الشر والسوء ـ كما في الآية الكريمة ، ومحمود إن تحرى به صاحبه الخير والنفع و (السَّيِّئاتِ) جمع سيئة وهي صفة لموصوف محذوف.

وقوله (يَبُورُ) أى : يبطل ويفسد ، من البوار : يقال : بار المتاع بوارا إذا كسد وصار في حكم الهالك.

أى : والذين يمكرون المكرات السيئات من المشركين والمنافقين وأشباههم ، لهم عذاب شديد من الله ـ تعالى ـ ، ومكر أولئك الماكرين المفسدين ، مصيره إلى الفساد والخسران ، لأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.

ويدخل في هذا المكر السيئ ما فعله المشركون مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة ، حيث بيتوا قتله ، ولكن الله ـ تعالى ـ نجاه من شرورهم ، كما دخل فيه غير ذلك من أقوالهم القبيحة ، وأفعالهم الذميمة ، ونياتهم الخبيثة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك دليلا آخر على صحة البعث والنشور ، وعلى كمال قدرته ـ تعالى ـ فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أى : خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٣٤٠.

٣٣١

من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وأصلها الماء الصافي أو الماء القليل الذي يبقى في الدلو أو القربة ، وجمعها : نطف ونطاف. يقال : نطفت القربة إذا قطرت.

والمراد بها هنا : المنى الذي هو مادة التلقيح من الرجل للمرأة.

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أى : أصنافا ذكرانا وإناثا ، كما قال ـ تعالى ـ : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً). أو المراد : ثم جعلكم تتزاوجون ، فالرجل يتزوج المرأة ، والمرأة تتزوج الرجل. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أى : لا يحصل من الأنثى حمل ، كما لا يحصل منها وضع لما في بطنها ، إلا والله ـ تعالى ـ عالم به علما تاما لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) والمراد بالعمر الشخص الذي يطيل الله ـ تعالى ـ عمره.

والضمير في قوله (مِنْ عُمُرِهِ) يعود إلى شخص آخر ، فيكون المعنى : ما يمد ـ سبحانه ـ في عمر أحد من الناس ، ولا ينقص من عمر أحد آخر ، إلا وكل ذلك كائن وثابت في كتاب عنده ـ تعالى ـ وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ ، أو صحائف أعمال العباد أو علم الله الأزلى.

ومنهم من يرى أن الضمير في قوله (مِنْ عُمُرِهِ) يعود إلى الشخص ذاته وهو المعمر فيكون المعنى : وما يمد الله ـ تعالى ـ في عمر إنسان ، ولا ينقص من عمره بمضى أيام حياته ، إلا وكل ذلك ثابت في علمه ـ سبحانه ـ.

قال بعض العلماء : وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك ومحصله : أنه اختلف في معنى (مُعَمَّرٍ) فقيل : هو المزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله ولا ينقص ، وقيل : المراد بقوله (مُعَمَّرٍ) من يجعل له عمر. وهل هو شخص واحد أو شخصان؟

فعلى رأى من قال بأن المعمر ، هو من يجعل له عمر يكون شخصا واحدا بمعنى انه يكتب عمره مائة سنة ـ مثلا ـ ، ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا فكتابة الأصل هي التعمير .. والكتابة بعد ذلك هو النقص كما قيل :

حياتك أنفاس تعدّ فكلما

مضى نفس منها انتقصت به جزءا

والضمير حينئذ راجع إلى المذكور. والمعمر على هذا هو الذي جعل الله ـ تعالى ـ له عمرا طال هذا العمر أو قصر.

وعلى رأى من قال بأن المعمر هو من يزاد في عمره ، يكون من ينقص في عمره غير الذي

٣٣٢

يزاد في عمره فهما شخصان. والضمير في «عمره» على هذا الرأى يعود إلى شخص آخر ، إذ لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره ..» (١).

وقد رجح ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ الرأى الأول وهو أن الضمير في قوله (مِنْ عُمُرِهِ) يعود إلى شخص آخر ـ فقال : وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب ، التأويل الأول ، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه ، وأشبههما بظاهر التنزيل (٢).

واسم الإشارة في قوله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعود إلى الخلق من تراب وما بعده.

أى : إن ذلك الذي ذكرناه لكم من خلقكم من تراب ، ثم من نطفة .. يسيروهين على الله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء على الإطلاق.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ نوعا آخر من أنواع بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ...

والماء العذب الفرات : هو الماء السائغ للشرب ، الذي يشعر الإنسان عند شربه باللذة وهو ماء الأنهار. وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى : يقطعه ويزيله ويكسره.

والماء الملح الأجاج : هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار ، لأن شربه يزيد العطشان عطشا وتعبا.

قالوا : والآية الكريمة مثل للمؤمن والكافر. فالبحر العذب : مثل للمؤمن ، والبحر الملح : مثل للكافر.

فكما أن البحرين اللذين أحدهما عذب فرات سائغ شرابه. والآخر ملح أجاج. لا يتساويان في طعمهما ومذاقهما. وإن اشتركا في بعض الفوائد ـ فكذلك المؤمن والكافر ، لا يتساويان في الخاصية العظمى التي خلقا من أجلها ، وهي إخلاص العبادة لله الواحد القهار ، وإن اشتركا في بعض الصفات الأخرى كالسخاء والشجاعة ـ لأن المؤمن استجاب لفطرته فآمن بالحق ، أما الكافر فقد عاند فطرته ، فأصر على الكفر.

وقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) بيان لبعض النعم التي وهبها ـ سبحانه ـ لعباده من وجود البحرين.

أى : ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا ، أى : غضا شهيا مفيدا لأجسادكم ، عن طريق ما تصطادونه منهما من أسماك وما يشبهها.

__________________

(١) تفسير القاسمى ج ١٤ ص ٤٩٧٦.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٢٢ ص ٨١.

٣٣٣

قال بعض العلماء. وفي وصفه بالطراوة ، تنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله ، لأنه يسرع إليه الفساد والتغيير. وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر المأكولات فسبحان الخبير بشئون خلقه ..

وفيه ـ أيضا ـ إيماء إلى كمال قدرته ـ تعالى ـ حيث أوجد هذا اللحم الطري النافع في الماء الملح الأجاج الذي لا يشرب.

وقد كره العلماء أكل الطافي منه على وجه الماء ، وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجهه ، لحديث جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما نضب عنه الماء فكلوه. وما لفظه الماء فكلوه ، وما طفا ـ على وجه الماء ـ فلا تأكلوه».

فالمراد من ميتة البحر في حديث : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه البحر لا ما مات فيه من غير آفة» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) بيان لنعمة ثانية من النعم التي تصل إلى الناس عن طريق البحرين.

والحلية ـ بكسر الحاء ـ : اسم لما يتحلى به الناس ، ويتزينون بلبسه ، وجمع حلية : حلى وحلى ـ بكسر الحاء وضمها ـ يقال : تحلت المرأة إذا لبست الحلي.

أى : ومن النعم التي تصل إليكم عن طريق البحرين ، استخراجكم منهما ما ينفعكم ، وما تتحلى به نساؤكم ، كاللؤلؤ والمرجان وغيرهما.

والتعبير بقوله : (وَتَسْتَخْرِجُونَ) يشير إلى كثرة الإخراج. فالسين والتاء للتأكيد. كما يشير بأن من الواجب على المسلمين ، أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما في البحرين من كنوز نافعة ، وأن لا يتركوا ذلك لأعدائهم.

وأسند ـ سبحانه ـ لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور ، فقال (تَلْبَسُونَها) على سبيل التغليب ، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء في الأعم الأغلب من الأحوال.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (تَلْبَسُونَها) أى : تلبسها نساؤكم وأسند الفعل إلى ضمير الرجال ، لاختلاطهم بهن ، وكونهم متبوعين ، أو لأنهم سبب لتزينهن فإن النساء يتزين ـ في الغالب ـ ليحسن في أعين الرجال ..» (٢).

__________________

(١) تفسير المراغي ج ١٤ ص ٦١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ١١٣.

٣٣٤

وقال بعض العلماء : وفي الآية دليل قرآنى واضح على بطلان دعوى بعض العلماء من أن اللؤلؤ والمرجان ، لا يستخرجان إلا من البحر الملح خاصة» (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) بيان لنعمة ثالثة من نعمه ـ تعالى ـ عن طريق وجود البحار في الأرض.

وأصل المخر : الشق. يقال مخرت السفينة البحر إذا شقته وسارت بين أمواجه ، ومخر الماء الأرض إذا شقها.

أى : وترى ـ أيها العاقل ـ ببصرك السفن في كل من البحرين (مَواخِرَ) أى تشق الماء بمقدماتها ، وتسرع السير فيه من جهة إلى جهة ..

والضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى البحر الملح ، لأن أمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ، وإن كانت السفن تجرى في البحرين.

ويجوز أن يكون الضمير في قوله (فِيهِ) يعود إلى جنس البحر. أى : وترى السفن تشق كل بحر ، لتسير فيه من مكان إلى مكان ..

واللام في قوله ـ تعالى ـ : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام السابق.

أى : أوجدنا البحرين ، وسخرناهما لمنفعتكم ، لتطلبوا أرزاقكم فيهما ، وهذه الأرزاق هي من فضل الله ـ تعالى ـ عليكم ، ومن رحمته بكم ، ولعلكم بعد ذلك تشكروننا على آلائنا ونعمنا ، فإن من شكرنا زدناه من خيرنا وعطائنا.

ثم بين ـ سبحانه ـ نعما أخرى تتجلى في الليل وفي النهار ، وفي الشمس والقمر ، فقال : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ..

أى : ومن مظاهر فضله عليكم ، ورحمته بكم ، أنه أوجد لكم الليل والنهار بهذا النظام البديع ، بأن أدخل أحدهما في الآخر ، وجعلهما متعاقبين ، مع زيادة أحدهما عن الآخر في الزمان ، على حسب اختلاف المطالع ، والمغارب ، وأوجد ـ أيضا ـ بفضله ورحمته الشمس والقمر لمنفعتكم ، وكل واحد منهما يسير بنظام بديع محكم ، إلى الأجل والوقت الذي حدده الله ـ تعالى ـ لانتهاء عمر هذه الدنيا ..

__________________

(١) اضواء البيان ج ٦ ص ٦٤٠ للشيخ الشنقيطى ـ رحمه‌الله ـ.

٣٣٥

والإشارة في قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ.) .. تعود إلى الخالق والموجد لتلك الكائنات العجيبة البديعة ، وهو الله ـ عزوجل ـ.

أى : ذلكم الذي أوجد كل هذه المخلوقات لمنفعتكم ، هو الله ـ تعالى ـ ربكم وهو وحده الذي له ملك هذا الكون ، لا يشاركه فيه مشارك ، ولا ينازعه في ملكيته منازع (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أى : والذين تعبدونهم من دون الله ـ تعالى ـ ، وتصفونهم بأنهم آلهة.

(ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) والقطمير : القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة.

أو هو النقطة في ظهر النواة ، ويضرب مثلا لأقل شيء وأحقره.

أى : والذين تعبدونهم من دون الله ـ تعالى ـ لا يملكون معه ـ سبحانه ـ شيئا ، ولو كان هذا الشيء في نهاية القلة والحقارة والصغر ، كالنكتة التي تكون في ظهر النواة.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا المعنى وقرره فقال : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ.) ...

أى : إن هذه المعبودات الباطلة لا تملك من شيء مع الله ـ تعالى ـ ، بدليل أنكم إن تدعوهم لنفعكم ، لن يسمعوا دعاءكم ، وإن تستغيثوا بهم عند المصائب والنوائب ، لن يلبوا استغاثتكم ..

(وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض والتقدير (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا قدرة لهم على هذه الاستجابة لعجزهم عن ذلك.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي تتجلى فيه الحقائق ، وتنكشف الأمور (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ).

أى : يتبرءون من عبادتكم لهم ، ومن إشراككم إياهم العبادة مع الله ـ تعالى ـ ، فضلا عن عدم استجابتهم لكم إذا دعوتموهم لنصرتكم.

(وَلا يُنَبِّئُكَ) أى : ولا يخبرك بهذه الحقائق التي لا تقبل الشك أو الريب.

(مِثْلُ خَبِيرٍ) أى : مثل من هو خبير بأحوال النفوس وبظواهرها وببواطنها. وهو الله ـ عزوجل ـ ، فإنه ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم السر وأخفى.

وبهذا نرى الآيات الكريمة ، قد طوفت بنا في أرجاء هذا الكون ، وساقت لنا ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على الناس ، كالرياح ، والسحاب ، والأمطار والبحار ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ... وهي نعم تدل على وحدانية المنعم بها ، وعلى قدرته ـ عزوجل ـ وفي كل ذلك هداية إلى الحق لكل عبد منيب.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء ثالثا إلى الناس ، نبههم فيه إلى فقرهم إليه ـ سبحانه ـ ، وإلى غناه عنهم ، وإلى مسئولية كل إنسان عن نفسه ، وإلى وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي

٣٣٦

أرسله إليهم ، وإلى الفرق الشاسع بين الإيمان والكفر ، وإلى سوء مصير المكذبين ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)

وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ.) .. نداء منه ـ سبحانه ـ للناس ، يعرفهم فيه حقيقة أمرهم ، ولأنهم لا غنى لهم عن خالقهم ـ عزوجل ـ.

أى : يا أيها الناس أنتم المحتاجون إلى الله ـ تعالى ـ في كل شئونكم الدنيوية والأخروية (وَاللهُ) ـ تعالى ـ وحده هو الغنى ، عن كل مخلوق سواه ، وهو (الْحَمِيدُ) أى :

٣٣٧

المحمود من جميع الموجودات ، لأنه هو الخالق لكل شيء ، وهو المنعم عليكم وعلى غيركم بالنعم التي لا تحصى.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عرف الفقراء؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنه لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله ـ سبحانه ـ على الإنسان بالضعف في قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء» (١).

وجمع ـ سبحانه ـ في وصف ذاته بين الغنى والحميد ، للإشعار بأنه ـ تعالى ـ بجانب غناه عن خلقه ، هو الذي يفيض عليهم من نعمه ، وهو الذي يعطيهم من خيره وفضله ، ما يجعلهم يحمدونه بألسنتهم وقلوبهم.

قال الآلوسى : قوله (الْحَمِيدُ) أى : المنعم على جميع الموجودات ، المستحق بإنعامه للحمد ، وأصله المحمود ، وأريد به ذلك عن طريق الكناية ، ليناسب ذكره بعد فقرهم ، إذ الغنى لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ، ومثله مستحق للحمد ، وهذا كالتكميل لما قبله ..» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) بيان لمظهر من مظاهر غناه عن الناس.

أى : إن يشأ ـ سبحانه ـ يهلككم ويزيلكم من هذا الوجود ، ويأت بأقوام آخرين سواكم ، فوجودكم في هذه الحياة متوقف على مشيئته وإرادته.

واسم الإشارة في قوله (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) يعود على الإذهاب بهم ، والإتيان بغيرهم.

وما ذلك الذي ذكرناه لكم من إفنائكم والإتيان بغيركم ، بعزيز ، أى : بصعب أو عسير أو ممتنع على الله ـ تعالى ـ ، لأن قدرته ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل نفس تتحمل نتائج أعمالها وحدها فقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وقوله : (تَزِرُ) من الوزر بمعنى الحمل. يقال : فلان وزر هذا الشيء إذا حمله. وفعله

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٠٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٨٣.

٣٣٨

من باب «وعد» ، وأكثر ما يكون استعمالا في حمل الآثام.

وقوله (وازِرَةٌ) : صفة لموصوف محذوف. أى : ولا تحمل نفس آثمة ، إثم نفس أخرى ، وإنما كل نفس مسئولة وحدها عن أفعالها وأقوالها التي باشرتها ، أو تسببت فيها.

وقوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) مؤكد لمضمون ما قبله ، من مسئولية كل نفس عن أفعالها.

وقوله : (مُثْقَلَةٌ) صفة لموصوف محذوف ، والمفعول محذوف ـ أيضا ـ للعلم به.

وقوله (حِمْلِها) أى : ما تحمله من الذنوب والآثام ، إذ الحمل ـ بكسر الحاء ـ ما يحمله الإنسان من أمتعة على ظهره أو رأسه أو كتفه.

والمعنى : لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى ، وإن تطلب نفس مثقلة بالذنوب من نفس أخرى ، أن تحمل عنها شيئا من ذنوبها التي أثقلتها ، لا تجد استجابة منها ، ولو كانت تلك النفس الأخرى من أقربائها وذوى رحمها.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ...

وقال ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها ، لا وزر غيرها.

فإن قلت : كيف توفق بين هذا ، وبين قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)؟

قلت : تلك الآية في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلالهم لغيرهم ، مع أثقالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شيء من وزر غيرهم.

فإن قلت : فما الفرق بين معنى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وبين معنى : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) ..؟

قلت : الأول في الدلالة على عدل الله ـ تعالى ـ في حكمه ، وأنه ـ تعالى ـ لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها.

والثاني : في أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث .. وإن كان المستغاث به بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ ...

٣٣٩

فإن قلت : إلام أسند كان في قوله (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ).

فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت : «ليعم ويشمل كل مدعو ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ).

كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق.

أى : أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ إنما ينفع وعظك وإنذارك. أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم ـ عزوجل ـ دون أن يروه ، أو يروا عذابه ، والذين يؤدون الصلاة في مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان.

ثم حض ـ سبحانه ـ على تزكية النفوس وتطهيرها فقال : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أى : ومن تطهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان. وحصن نفسه بالإيمان ، والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها ، وإليها يرجع الأجر والثواب ، والله ـ تعالى ـ إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره.

فالجملة الكريمة دعوة من الله ـ تعالى ـ للناس ، إلى تزكية النفوس وتطهيرها من كل سوء ، بعد بيان أن كل نفس مسئولة وحدها عن نتائج أفعالها ، وأن أحدا لن يلبى طلب غيره في أن يحمل شيئا عنه من أوزاره.

ثم ساق ـ سبحانه ـ أمثلة ، لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، وبين الحق والباطل ، وبين العلم والجهل .. فقال ـ تعالى ـ : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ...

والحرور : هو الريح الحارة التي تلفح الوجوه من شدة حرها ، فهو فعول من الحر.

أى : وكما أنه لا يستوي في عرف أى عاقل الأعمى والبصير ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن ، وكما لا تصلح المساواة بين الظلمات والنور ، كذلك لا تصلح المساواة بين الكفر والإيمان ، وكما لا يتساوى المكان الظليل مع المكان الشديد الحرارة ، كذلك لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار.

فأنت ترى أن الآيات الكريمة قد مثلت الكافر في عدم اهتدائه بالأعمى ، والمؤمن بالبصير ، كما مثلت الكفر بالظلمات والإيمان بالنور ، والجنة بالظل الظليل ، والنار بالريح الحارة التي تشبه السموم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٠٧.

٣٤٠