التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

السدود ، فتصدعت ، واجتاحت المياه أراضيهم فأفسدتها ، واكتسحت مساكنهم ، فتفرقوا عنها ، ومزقوا شر ممزق ، وضربت بهم الأمثال التي منها قولهم : تفرقوا أيدى سبأ. وهو مثل يضرب لمن تفرق شملهم تفرقا لا اجتماع لهم معه.

وهذا ما حدث لقبيلة سبأ ، فقد تفرق بعضهم إلى المدينة المنورة كالأوس والخزرج ، وذهب بعضهم إلى عمان كالأزد ، وذهب بعضهم إلى الشام كقبيلة غسان.

وقوله : (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) الأكل : هو الثمر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أى : ثمرها. والخمط : هو ثمر الأراك أو هو النبت المر الذي لا يمكن أكله.

و (الأثل) هو نوع من الشجر يشبه شجر الطرفاء. أو هو نوع من الشجر كثير الشوك و (السدر) هو ما يعرف بالنبق. أو هو نوع من الثمار التي يقل الانتفاع بها.

والمعنى : فأعرض أهل سبأ عن شكرنا وطاعتنا ... فكانت نتيجة ذلك ، أن أرسلنا عليهم السيل الجارف ، الذي اجتاح أراضيهم ، فأفسد مزارعهم ، وأجلاهم عن ديارهم ، ومزقهم شر ممزق .. وبدلناهم بالجنان اليانعة التي كانوا يعيشون فيها ، بساتين أخرى قد ذهبت ثمارها الطيبة اللذيذة ، وحلت محلها ثمار مرة لا تؤكل ، وتناثرت في أماكنهم الأشجار التي لا تسمن ولا تغنى من جوع ، بدلا من تلك الأشجار التي كانت تحمل لهم ما لذ وطاب ، وعظم نفعه.

فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن الجحود والبطر ، يؤديان إلى الخراب والدمار ، وإلى زوال النعم وتحويلها إلى نقم.

ولذا جاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ).

أى : ذلك الذي فعلناه بهم من تبديل جنتيهم ، بجنتين ذواتي أكل خمط .. هو الجزاء العادل لهم بسبب جحودهم وترفهم وفسوقهم عن أمرنا.

وإننا من شأننا ومن سنتنا أننا لا نعاقب ولا نجازي هذا الجزاء الرادع الشديد ، إلا لمن جحد نعمنا ، وكفر بآياتنا ، وآثر الغي على الرشد ، والعصيان على الطاعة.

فاسم الإشارة يعود إلى التبديل الذي تحدثت عنه الآية السابقة. وهو المفعول الثاني لجزيناهم مقدم عليه. أى : جزيناهم ذلك التبديل لا غيره. والمراد بالجزاء هنا : العقاب.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بمعنى : وهل يعاقب.

وهو الوجه الصحيح. وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلا الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للمؤمن والكافر ، لأنه لم يرد الجزاء العام وإنما أريد

٢٨١

الخاص وهو العقاب (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ نقمة أخرى أصابتهم بسبب جهلهم وحمقهم ، وكيف أن هذه النقمة قد حلت محل نعمة كانوا فيها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ، وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ).

أى : وجعلنا ـ بقدرتنا ورحمتنا بين أهل سبأ (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) كمكة في الجزيرة العربية ، وكبيت المقدس في بلاد الشام ، جعلنا بينهم وبين تلك القرى المباركة ، (قُرىً ظاهِرَةً) أى : قرى متقاربة متواصلة ، بحيث يرى من في إحداها غيرها.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أى : وجعلنا زمن السير من قرية إلى أخرى مقدرا محددا ، بحيث لا يتجاوز مدة معينة قد تكون نصف يوم أو أقل.

وقالوا : كان المسافر يخرج من قرية ، فيدخل الأخرى قبل حلول الظلام بها.

وقوله : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) مقول لقول محذوف. أى : وقلنا لهم : سيروا في تلك القرى المتقاربة العامرة بالخيرات ، والتي توصلكم إلى القرى المباركة .. سيروا فيها ليالي وأياما آمنين من كل شر سواء سرتم بالليل أم بالنهار ، فإن الأمن فيها مستتب في كل الأوقات : وفي كل الأحوال.

فالآية الكريمة تحكى نعمة عظمى أخرى أنعم الله ـ تعالى ـ بها على أهل سبأ ، وهي نعمة تيسير سبل السفر لهم إلى القرى المباركة ، وتهيئة الأمان والاطمئنان لهم خلال سفرهم ، وهي نعمة عظمى لا يدرك ضخامتها إلا من مارس الأسفار من مكان إلى آخر.

ولكنهم لم يقدروا هذه النعمة ، بل بلغ بهم الجهل والحمق والبطر ، أنهم دعوا الله ـ تعالى ـ بقولهم ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا).

أى : مع أننا بفضلنا وإحساننا قد أعطيناهم تلك النعمة ، ومكانهم منها ، وهي نعمة تيسير وسائل السفر ، ومنحهم الأمان والاطمئنان خلاله .. إلا أنهم ـ لشؤمهم وضيق تفكيرهم وشقائهم ـ تضرعوا إلينا وقالوا : يا ربنا اجعل بيننا وبين القرى المباركة ، مفاوز وصحارى متباعدة الأقطار ، بدل تلك القرى العامرة المتقاربة ، فهم ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ : بطروا النعمة ، وبشموا. أى : سئموا ـ من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا النكد والتعب ، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم ، مكان المن والسلوى (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧٧.

٢٨٢

وفي هذه الجملة الكريمة قراءات متعددة ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه : فقراءة العامة (رَبَّنا) ـ بالنصب ـ على أنه نداء مضاف .. (باعِدْ) ـ بزنة فاعل ـ سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (رَبَّنا) كذلك على الدعاء بعد ـ بتشديد العين ـ من التبعيد.

وقرأ يعقوب وغيره ربنا ـ بالرفع ـ (باعِدْ) ـ بفتح العين والدال ـ على الخبر. أى : لقد باعد ربنا (بَيْنَ أَسْفارِنا) (١).

وقوله : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أى : قالوا ذلك القول السيئ ، وظلموا أنفسهم بسببه ، حيث أجيب دعاؤهم ، فكان نقمة عليهم ، لأنهم بعد أن كانوا يسافرون بيسر وأمان ، صاروا يسافرون بمشقة وخوف.

وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) بيان لما آل إليه أمرهم.

والأحاديث : جمع أحدوثة ، وهي ما يتحدث به الناس على سبيل التلهي والتعجب أى : قالوا ما قالوا من سوء وفعلوا ما فعلوا من منكر ، فكانت نتيجة ذلك. أن صيرناهم أحاديث يتلهى الناس بأخبارهم ، ويضربون بهم المثل ، فيقولون : تفرقوا أيدى سبأ ، ومزقناهم كل ممزق في البلاد المتعددة ، فمنهم من ذهب إلى الشام ، ومنهم من ذهب إلى العراق ... بعد أن كانوا أمة متحدة ، يظلها الأمان والاطمئنان ، والغنى والجاه ...

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فعلناه بهم بسبب جهلهم وفسوقهم وبطرهم (لَآياتٍ) واضحات بينات (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على طاعة الله ـ تعالى ـ (شَكُورٍ) له ـ سبحانه ـ على نعمه.

وخص ـ سبحانه ـ الصبار والشكور بالذكر. لأنهما هما المنتفعان بآياته وعبره ومواعظه.

ثم بين ـ عزوجل ـ الأسباب التي أدت إلى جحودهم وفسوقهم فقال : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

ولفظ (صَدَّقَ) قرأه بعض القراء السبعة بتشديد الدال المفتوحة ، وقرأه البعض الآخر بفتح الدال بدون تشديد. وقوله : (عَلَيْهِمْ) متعلق بصدق.

وقوله (ظَنَّهُ) مفعول به على قراءة التشديد ، ومنصوب بنزع الخافض على القراءة بالتخفيف ، وضمير الجمع في (عَلَيْهِمْ) وفي (فَاتَّبَعُوهُ) يعود إلى قوم سبأ.

والمعنى على القراءة بالتشديد : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه في قدرته على إغوائهم ، وحقق ما كان يريده منهم من الانصراف عن طاعة الله ـ تعالى ـ وشكره ، فاتبعوا خطوات الشيطان ،

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٩٠.

٢٨٣

بسبب انغماسهم في الفسوق والعصيان ، إلا فريقا من المؤمنين ، لم يستطع إبليس إغواءهم لأنهم أخلصوا عبادتهم لخالقهم ـ عزوجل ـ ، واستمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.

والمعنى على القراءة بالتخفيف : ولقد صدق إبليس في ظنه أنه إذا أغواهم اتبعوه ، لأنه بمجرد أن زين لهم المعاصي أطاعوه ، إلا فريقا من المؤمنين لم يطيعوه.

قال القرطبي ما ملخصه : وقوله : (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نصب على الاستثناء وفيه قولان : أحدهما : أنه يراد به بعض المؤمنين ـ فتكون من للتبعيض ـ ، لأن كثيرا من المؤمنين يذنبون وينقادون لإبليس في بعض المعاصي. أى : ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق ، وهو المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.) ...

والثاني : أن المراد بهم جميع المؤمنين ، فعن ابن عباس أنه قال : هم المؤمنون كلهم.

وعلى هذا تكون (مِنَ) للبيان لا للتبعيض .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن إغواء الشيطان لأهل سبأ ولأشباههم من بنى آدم ، لم يكن عن قسر وإكراه ، وإنما كان عن اختيار منهم ليتميز الخبيث من الطيب فقال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) ...

والمراد بالسلطان هنا : التسلط بالقهر والغلبة والإكراه. والمراد بالعلم في قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا لِنَعْلَمَ) إظهار هذا العلم للناس ليتميز قوى الإيمان من غيره.

أى : وما كان لإبليس عليهم من سلطان قاهر يجعلهم لا يملكون دفعه ، وإنما كان له عليهم الوسوسة التي يملكون صرفها ودفعها متى حسنت صلتهم بنا ، ونحن ما أبحنا لإبليس الوسوسة لبنى آدم ، إلا لنظهر في عالم الواقع حال من يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب وحساب ، ولنميزه عمن هو منها في شك وريب وإنكار ...

قال الشوكانى ـ رحمه‌الله ـ : والاستثناء في قوله (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) منقطع أى : لا سلطان له عليهم ، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم.

وقيل : هو متصل مفرغ من أعم العلل. أى : ما كان له عليهم من تسلط بحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل ، إلا ليتميز من يؤمن ومن لا يؤمن ، لأنه ـ سبحانه ـ قد علم ذلك علما أزليا. وقال الفراء : إلا لنعلم ذلك عندكم. والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٩٣.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٣٢٢.

٢٨٤

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ على كل شيء رقيب وحفيظ ، بحيث لا يخرج شيء عن حفظه وهيمنته وعلمه وقدرته.

وهكذا نجد القرآن قد ساق لنا قصتين متعاقبتين ، إحداهما تدل على أن طاعة الله ـ تعالى ـ وشكره ، وإخلاص العبادة له ، وحسن الصلة به ـ سبحانه ـ ، كل ذلك يؤدى إلى المزيد من نعمه ـ تعالى ـ ، كما حدث لداود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ.

وأما الثانية فتدل على أن الجحود والبطر والانغماس في المعاصي والشهوات. كل ذلك يؤدى إلى زوال النعم ، كما حدث لقبيلة سبأ.

وصدق الله إذ يقول : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).

ثم نجد السورة الكريمة بعد ذلك ، تلقن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجج التي تؤيد ما هو عليه من حق وصدق ، وتزهق ما عليه أعداؤه من باطل وكذب .. فتقول :

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ

__________________

(١) سورة يوسف. الآية ١١١.

٢٨٥

لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

والأمر بالدعاء في قوله ـ سبحانه ـ : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) .. للتوبيخ والتعجيز. ومفعولا (زَعَمْتُمْ) محذوفان.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين على سبيل التقريع والتعجيز : هؤلاء آلهتكم الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ، اطلبوا منهم أن ينفعوكم أو أن يرفعوا عنكم ضرا نزل بكم ، إنهم بالقطع لن يستطيعوا شيئا من ذلك.

ولذا جاء التأكيد على عجز هذه الآلهة المزعومة بعد ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ...

أى : هؤلاء الشركاء لا يملكون شيئا ما قل أو كثر لا في السموات ولا في الأرض ، بل الذي يملك كل شيء ، هو الله ـ تعالى ـ وحده.

فالجملة الكريمة مستأنفة لبيان حال هذه الآلهة ، وللكشف عن حقيقتها.

والتعبير بعدم ملكيتهم لمثقال ذرة ، المقصود به أنهم لا يملكون شيئا على الإطلاق ، لأن مثقال الذرة أقل ما يتصور في الحقارة والقلة.

وذكر ـ سبحانه ـ السموات والأرض لقصد التعميم ، إذ هما محل الموجودات الخارجية.

أى : لا يملكون شيئا ما في هذا الكون العلوي والسفلى.

وبعد أن نفى عن الشركاء الملكية الخالصة لأى شيء في هذا الكون ، أتبع ذلك بنفي ملكيتهم لشيء ولو على سبيل المشاركة ، فقال ـ تعالى ـ : (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ).

أى : أن هؤلاء الذين زعمتموهم شركاء لله ـ تعالى ـ في العبادة ، لا يملكون شيئا ما في هذا الكون ملكية خاصة ، ولا يملكون شيئا ما ـ أيضا ـ على سبيل المشاركة لغيرهم. وليس لله ـ

٢٨٦

تعالى ـ أحد يعينه أو يظاهره فيما يريد من إيجاد أو إعدام ، بل الأمر كله إليه وحده.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد نفت عن تلك الآلهة المزعومة ، ملكية أى شيء في هذا الكون ، سواء أكانت ملكية خالصة ، أم ملكية على سبيل المشاركة ، وأثبتت أن المالك والمتصرف في هذا الكون إنما هو الله ـ تعالى ـ وحده ، دون أن يكون في حاجة إلى عون من تلك الآلهة أو من غيرها.

ثم نفى ـ سبحانه ـ أن تكون هناك شفاعة من أحد لأحد إلا بإذنه ـ تعالى ـ فقال : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).

والشفاعة : من الشفع الذي هو ضد الوتر ـ أى : الفرد ـ ، ومعناها : انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه ما يمكن دفعه من ضر.

أى : ولا تنفع الشفاعة عند الله ـ تعالى ـ من أحد لأحد ، إلا لمن أذن الله ـ تعالى ـ له في ذلك.

قال الآلوسى ما ملخصه : والمراد نفى شفاعة الأصنام لعابديها ، لكنه ـ سبحانه ـ ذكر ذلك على وجه عام ، ليكون طريقا برهانيا. أى : لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال ، أو كائنة لمن كانت ، إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة. ومن البين أنه لا يؤذن في الشفاعة للكفار ، فقد قال ـ تعالى ـ : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب ، وعدم الإذن للأصنام أبين وأبين ، فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية ... (١).

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) .. بيان لما يكون عليه المنتظرون للشفاعة ، من لهفة وقلق.

والتضعيف في قوله (فُزِّعَ) للسلب. كما في قولهم : مرّضت المريض إذا عملت على إزالة مرضه.

فمعنى : (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : كشف الفزع عنها ، وهدأت أحوالها بعد أن أصابها ما أصابها من هول وخوف في هذا اليوم الشديد ، وهو يوم القيامة.

و (حَتَّى) غاية لما فهم من الكلام قبلها ، من أن هناك تلهفا وترقبا من الراجين للشفاعة ومن الشفعاء ، إذ الكل منتظر بقلق لما يؤول إليه أمره من قبول الشفاعة أو عدم قبولها.

والمعنى : ولا تقبل الشفاعة يوم القيامة من أحد إلا لمن أذن الله ـ تعالى ـ له في ذلك ، وفي

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٣٦.

٢٨٧

هذا اليوم الهائل الشديد ، يقف الناس في قلق ولهفة منتظرين قبول الشفاعة فيهم. حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بسبب إذن الله ـ تعالى ـ في قبولها ممن يشاء ولمن يشاء ، واستبشر الناس وقال بعضهم لبعض ، أو قالوا للملائكة : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) أى : ماذا قال ربكم في شأننا ومصيرنا.

وهنا تقول لهم الملائكة ، أو يقول بعضهم لبعض : (قالُوا الْحَقَ) أى : يقولون قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى.

فلفظ (الْحَقَ) منصوب بفعل مضمر. أى : قالوا قال ربنا الحق أو صفة لموصوف محذوف. أى : قالوا : قال ربنا القول الحق.

(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (الْعَلِيُ) أى : المتفرد بالعلو فوق خلقه (الْكَبِيرُ) أى : المتفرد بالكبرياء والعظمة.

قال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ : فإن قلت : بم اتصل قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، ولأى شيء وقعت حتى غاية؟.

قلت : اتصل بما فهم من هذا الكلام ، من أن ثم انتظارا للإذن ، وتوقعا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أولا؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملىّ من الزمان ، وطول التربص ...

كأنه قيل : ينتظرون ويتوقفون كليا فزعين وهلين ، حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم ، بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن : تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ ، قالُوا) قال (الْحَقَ) أى : القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى .. (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسألهم للمرة الثانية على سبيل التنبيه والتوبيخ ، من الذي يملك أن يرزقهم ، فقال ـ سبحانه ـ : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ...

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المشركين : من الذي يرزقكم من السماء بالمطر وغيره ، ويرزقكم من الأرض بالنباتات والمعادن وغير ذلك من المنافع.

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلِ اللهُ) جواب على هذا السؤال ، وهو جواب لا يملكون إلا الاعتراف به.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٨٠.

٢٨٨

أى : قل لهم منبها ولافتا أنظارهم إلى ما هم فيه من جهل : الله وحده هو الذي يرزقكم بما لا يحصى من الأرزاق التي بعضها من السموات ، وبعضها من الأرض.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) داخل في حيز الأمر السابق ، ولكن بأسلوب فيه ما فيه من الحكمة والتلطف ، ومن حمل المخاطب على التفكر والتدبر حتى يعود إلى الرشد والصواب.

أى : وقل لهم ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ لقد علمتم ـ يا معشر المشركين أن المستحق للعبادة هو الله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه هو الذي خلقكم ورزقكم من السموات والأرض ...

وإن أحدنا لا بد أن يكون على الهدى والآخر على الضلال. وسنترك تحديد من هو المهتدى ومن هو الضال لعقولكم وضمائركم.

وستعلمون ـ علم اليقين ـ بعد التفكر والتدبر أننا نحن المسلمين على الحق ، وأنتم يا معشر المشركين على الباطل ..

فالجملة الكريمة لون من ألوان الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بأسلوب مهذب حكيم ، من شأنه أن يحمل القلوب النافرة عن الحق ، إلى الاستسلام له ، والدخول فيه ..

قال القرطبي : وقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا على وجه الإنصاف في الحجة ، كما يقول القائل لغيره : أحدنا كاذب ، وهو يعلم أنه صادق ، وأن صاحبه كاذب ، والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد ، بل على أمرين متضادين ، وأحد الفريقين مهتد وهو نحن ، والآخر ضال وهو أنتم ، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب.

والمعنى : أنتم الضالون حين أشركتم بالله الذي يرزقكم من السموات والأرض ... (١).

وقوله : (أَوْ إِيَّاكُمْ) معطوف على اسم إن ، وخبرها هو المذكور. وحذف خبر الثاني للدلالة عليه.

أى : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا الكرم الحكيم في الدعوة إلى الحق ، بكلام لا يقل عنه حكمة وبلاغة فقال : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أى : وقل لهم للمرة الثالثة ـ أيها الرسول الكريم ـ أنتم ـ أيها المشركون ـ لا تسألون يوم القيامة عن إجرامنا في حق أنفسنا ـ إن كنا قد أجرمنا وأخطأنا في حقها ـ ، ونحن ـ أيضا ـ لا يسألنا الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٩٨.

٢٨٩

عن سبب بقائكم في الكفر وفي الأعمال السيئة ، لأننا قد بلغناكم رسالة ربكم ـ عزوجل ـ ، ونصحناكم بالإقلاع عن الشرك والمعاصي.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ ، (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (١).

ثم أمره ـ سبحانه ـ أن يذكرهم بيوم القيامة وما فيه من حساب دقيق ، فقال : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ).

أى : وقل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ إن الله ـ تعالى ـ بقدرته سيجمعنا وإياكم يوم القيامة ، ثم يحكم بيننا جميعا بحكمه العادل ، وهو ـ سبحانه ـ (الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أى : الحاكم في كل أمر بالحكم الحق ، المطلع على جميع أحوال عباده.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بتوجيه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن يقول لهم قولا يخرس به ألسنتهم ، ويبطل حججهم فقال : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) والرؤية هنا بصرية. ومفعولها الأول الياء ، ومفعولها الثاني الاسم الموصول ، ولفظ شركاء : حال.

أى : وقل لهم ـ أيضا ـ للمرة الخامسة على سبيل إلزامهم الحجة : أرونى وأطلعونى على أصنامكم التي ألحقتموها بالله ـ تعالى ـ في العبادة ، واتخذتموها شركاء له في الطاعة ... إنها ما هي إلا أشياء لا تضر ولا تنفع ، وأنتم تعرفون ذلك عنها ، وها هي أمامكم واقعها وحالها ينبئ بعجزها التام ، فكيف أشركتموها مع الله ـ تعالى ـ في العبادة والطاعة؟

فالمقصود من الرؤية إشهادهم على عجزها ، وتبكيتهم على جهالاتهم ، وحضهم على نبذ الشركاء ، وإخلاص العبادة لله الواحد القهار.

ويحتمل أن تكون الرؤية هنا علمية ، فيكون لفظ (شُرَكاءَ) هو المفعول الثالث.

أى : عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله ـ تعالى ـ في العبادة.

ثم زجرهم ـ سبحانه ـ عن هذا الضلال فقال : (كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى : كلا ليس الأمر كما زعمتم من أن لله ـ تعالى ـ شركاء ، بل هو ـ سبحانه ـ العزيز الذي لا يغلبه غالب ، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.

وهكذا نجد الآيات الكريمة قد لقنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجج التي يرد بها على المشركين ، والتي من شأنها أن تحملهم على اعتناق الحق ، واجتناب الباطل ، لو كانوا يعقلون.

__________________

(١) سورة يونس الآية ٤١.

٢٩٠

ثم بين ـ سبحانه ـ وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورد على شبهات المشركين فقال :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ)(٣٠)

قال الآلوسى : المتبادر أن (كَافَّةً) حال من الناس ، قدم «إلا» عليه للاهتمام ؛ وأصله من الكف بمعنى المنع ، وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج ، واشتهر في ذلك حتى قطع فيه النظر عن معنى المنع بالكلية. فمعنى جاء الناس كافة : جاءوا جميعا ..

قال ابن عباس : أرسل الله ـ تعالى ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب والعجم ، فأكرمهم على الله ـ تعالى ـ أطوعهم له ... (١).

أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلا إلى الناس جميعا ، لتبشر المؤمن منهم بحسن الثواب ، وتنذر من أعرض عن الحق الذي جئت به بسوء العقاب. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هذه الحقيقة ، وهي عموم رسالتك وكونك بشيرا ونذيرا.

(وَيَقُولُونَ) أى : المشركون على سبيل الاستهزاء بما جئتهم به (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي تعدنا به وهو قيام الساعة ، وما فيها من حساب وثواب وعقاب.

أخبرونا عنه ـ أيها المؤمنون ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فيما تحدثوننا عنه ، وفيما تدعوننا إليه من إيمان.

وهنا أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم ردا فيه كل معاني التهديد والوعيد فقال : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) و (مِيعادُ) يجوز أن يكون مصدرا مرادا به الوعد ، وأن يكون اسم زمان ، والإضافة للبيان.

والمراد بالساعة الوقت الذي هو في غاية القلة. وليس ما اصطلح عليه الناس من كونها ستين دقيقة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٤١.

٢٩١

اى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ لا تتعجلوا ـ ايها الكافرون ـ ما أخبرتكم عنه من أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، ومن أن العاقبة الطيبة ستكون لنا لا لكم ؛ فإن لكم ميقاتا محددا ، وموعدا معلوما ، عند ما يأذن الله ـ تعالى ـ بحلوله وبانتهاء حياتكم ويبعثكم ..

(لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً) من الزمان (وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) عنه ساعة كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الأقوال الباطلة التي قالها المشركون في شأن القرآن الكريم ، وصور أحوالهم السيئة يوم العرض والحساب ، وكيف أن كل فريق منهم صار يلقى التبعة على غيره ، قال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

__________________

(١) سورة نوح الآية ٤.

(٢) سورة هود الآيتان ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢٩٢

والمراد بالذي بين يديه في قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) .. : الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل.

قالوا : وذلك لأن المشركين سألوا بعض أهل الكتاب ، عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروهم بأن صفاته في التوراة والإنجيل ، فغضبوا وقالوا ما قالوا .. (١).

أى : وقال الذين كفروا بإصرار وعناد وجحود لكل ما هو حق : قالوا لن نؤمن بهذا القرآن الذي جئت به يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربك ، ولا نؤمن ـ أيضا ـ بالكتب السماوية الأخرى التي تؤيد أنك رسول من عند الله ـ تعالى ـ فالآية الكريمة تحكى ما جبل عليه هؤلاء الكافرون من تصميم على الباطل ، ومن نبذ للحق مهما تعددت مصادره.

قال الإمام الرازي : لما بين ـ سبحانه ـ الأمور الثلاثة ، من التوحيد والرسالة والحشر ، وكانوا بالكل كافرين ، بيّن كفرهم العام بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ ، وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وقوله : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) المشهور أنه التوراة والإنجيل ، وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا ، المشركون المنكرون للنبوات والحشر.

ويحتمل أن يكون المعنى : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بما فيه من الأخبار والآيات والدلائل فيكون المراد بالذي بين يديه ما اشتمل عليه من أخبار وأحكام ـ ويكون المراد بالذين كفروا عموم الكافرين بما فيهم أهل الكتاب لأن الجميع لا يؤمن بالقرآن ولا بما اشتمل عليه (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) بيان لأحوالهم السيئة يوم القيامة ، ولإصرارهم على الكفر.

و (لَوْ) شرطية ، وجوابها محذوف كما أن مفعول (تَرى) محذوف أيضا و (مَوْقُوفُونَ) أى محبوسون للحساب يوم القيامة.

يقال : وقفت الرجل عن فعل هذا الشيء ، إذا منعته وحجزته عن فعله.

أى : ولو ترى ـ أيها المخاطب ـ حال الظالمين وقت احتباسهم عند ربهم يوم القيامة ، وهم يتحاورون ويتجادلون فيما بينهم بالأقوال السيئة وكل فريق ، يلقى التبعة على غيره.

لو ترى ذلك لرأيت أمرا عجيبا ، وحالا فظيعة ، تنفطر لها القلوب ، وترتعد من هولها النفوس.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٤٤.

(٢) تفسير الفخر الرازي ـ بتصرف وتلخيص ج ٧ ص ١٨.

٢٩٣

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (مَوْقُوفُونَ) يشعر بذلتهم وبؤسهم ، فهم محبوسون للحساب على غير إرادة منهم ، كما يحبس المجرم في سجنه انتظارا لمصيره السيئ.

وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) تبكيت وتوبيخ لهم ، على ما كانوا يفعلونه في الدنيا من إنكار لليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب وحساب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ، لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) تفصيل لجانب من محاوراتهم فيما بينهم ، ولما كانوا يراجعون فيه القول بعضهم مع بعض.

والمراد بالذين استضعفوا : الأتباع والعامة من الناس ، والمراد بالذين استكبروا : الزعماء والقادة والرؤساء.

أى : يقول الأتباع من الكافرين لقادتهم ورؤسائهم بغيظ وحسرة : لو لا أنتم منعتمونا عن اتباع الحق لكنا مؤمنين به ، ومتبعين لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إنهم يقولون لهم في موقف الحساب يوم القيامة ، ما كانوا عاجزين عن قوله في الدنيا. عند ما كانوا مستذلين لهم ، وخاضعين لسلطانهم.

وهنا يرد الزعماء باستنكار وضيق ، ويحكى ذلك القرآن فيقول : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) على سبيل التوبيخ والتقريع (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) كلا ، إننا ما فعلنا ذلك ، ولسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين اتباع الحق.

(بَلْ) أنتم الذين (كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) في حق أنفسكم ، حيث اتبعتمونا باختياركم ، ورضيتم عن طواعية منكم أن تتبعوا غيركم بدون تفكر أو تدبر للأمور.

ولم يقتنع الأتباع بما رد به عليهم السادة والكبراء ، بل حكى القرآن للمرة الثانية ردهم عليهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في الرد عليهم بحسرة وألم : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أى قالوا لهم أنتم لستم صادقين في قولكم لنا : إنكم لم تصدونا عن اتباع الهدى بعد إذ جاءنا بل إن مكركم بنا الليل والنهار وإغراءكم لنا بالبقاء على الكفر. وتهديدكم إيانا بالقتل أو التعذيب إذا ما خالفناكم ، وأمركم لنا بأن نكفر بالله ـ تعالى ـ ونجعل له أندادا ، أى شركاء في العبادة والطاعة. كل ذلك هو الذي حال بيننا وبين اتباع الحق الذي جاءنا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمكر : هو الاحتيال والخديعة. يقال مكر فلان بفلان ، إذا خدعه وأراد به شرا.

وهو هنا فاعل لفعل محذوف والتقدير : بل الذي صدنا عن الإيمان مكركم بنا في الليل

٢٩٤

والنهار ، فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا.

وقوله : (إِذْ تَأْمُرُونَنا) .. ظرف للمكر. أى : بل مكركم الدائم بنا وقت أمركم لنا بأن نكفر بالله ونجعل له أشباها ونظراء نعبدها من دونه ـ تعالى ـ هو الذي حال بيننا وبين اتباع الحق والهدى.

قال الجمل : وقوله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يجوز رفع (مَكْرُ) من ثلاثة أوجه : أحدها : على الفاعلية بتقدير : بل صدنا مكركم في هذين الوقتين ، الثاني ان يكون مبتدأ خبره محذوف. أى : مكر الليل صدنا عن اتباع الحق. الثالث : العكس ، أى : سبب كفرنا مكركم. وإضافة المكر إلى الليل والنهار إما على الإسناد المجازى كقولهم : ليل ماكر ، فيكون مصدرا مضافا لمرفوعه وإما على الاتساع في الظرف ، فجعل كالمفعول به فيكون مضافا لمنصوبه (١).

والضمير المرفوع في قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) يعود إلى الأتباع والزعماء. وأسروا من الإسرار بمعنى الكتمان والإخفاء.

أى : وأضمر الذين استضعفوا والمستكبرون الندامة والحسرة حين شاهدوا العذاب المعد لهم جميعا ، وذلك لأنهم بهتوا وشهدوا حين عاينوه ، ودفنت الكلمات في صدورهم فلم يتمكنوا من النطق بها وأصابهم ما أصابهم من الكمد الذي يجعل الشفاه لا تتحرك ، والألسنة لا تنطق.

فالمقصود من إسرار الندامة : بيان عجزهم الشديد عن النطق بما يريدون النطق به لفظاعة ما شهدوه من عذاب غليظ قد أعد لهم.

وقيل إن (أَسَرُّوا النَّدامَةَ) بمعنى أظهروها : لأن لفظ أسر من الأضداد.

قال الآلوسى ما ملخصه : (وَأَسَرُّوا) أى : أضمر الظالمون من الفريقين (النَّدامَةَ) على ما كان منهم في الدنيا .. (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق.

وقيل : أسروا الندامة. بمعنى أظهروها ، فإن لفظ «أسر» من الأضداد ، إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب ، فمعنى أسره : جعله سره ، أو أزال سره .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حل بهم من عذاب بسبب كفرهم فقال : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٧٥.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٤٦.

٢٩٥

والأغلال. جمع غل وهي القيود التي يقيد بها المجرمون.

أى : وجعلنا القيود في أعناق الذين كفروا جميعا ، سواء منهم من كان تابعا أم متبوعا. وما جزيناهم بهذا الجزاء المهين الأليم ، إلا بسبب أعمالهم السيئة. وأقوالهم القبيحة.

وهكذا نرى الآيات الكريمة تصور لنا تصويرا مؤثرا بديعا ، ما يكون عليه الكافرون يوم القيامة من حسرة وندم ، ومن عداوة وبغضاء ، ومن تهم يلقيها كل فريق على الآخر ، بدون احترام من المستضعفين لزعمائهم الذين كانوا يذلونهم في الدنيا ، بعد أن سقطت وزالت الهيبة الزائفة التي كان الزعماء يحيطون بها أنفسهم في الحياة الدنيا ، وأصبح الجميع يوم الحساب في الذلة سواء (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من الأقوال الزائفة ، التي كان المترفون يتذرعون بها للبقاء على كفرهم ، ومن الإجابات التي لقنها ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يخرس بها ألسنتهم ، ويزيل بها شبهاتهم قال ـ تعالى ـ :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

٢٩٦

قال صاحب الكشاف عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.) .. : هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما منى به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والتكبر بذلك على المؤمنين .. وأنه ـ سبحانه ـ لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير ، إلا قالوا له مثل ما قال أهل مكة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

والمعنى : وما أرسلنا في قرية ، من القرى (مِنْ نَذِيرٍ) ينذر أهلها بسوء العاقبة إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم. (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) أى : إلا قال أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها المتسعون في النعم فيها ، لمن جاءوا لإنذارهم وهدايتهم إلى الحق.

(إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) من الدعوة إلى عبادة الله ـ تعالى ـ (كافِرُونَ) بما نحن عليه من شرك وتقليد للآباء مؤمنون.

فالآية الكريمة تحكى موقف المترفين في كل أمة ، من الرسل الذين جاءوا لهدايتهم ، وأن هؤلاء المترفين في كل زمان ومكان ، كانوا أعداء للأنبياء وللمصلحين ، لأن الترف من شأنه أن يفسد الفطرة ، ويبعث على الغرور والتطاول ، ويحول بين الإنسان وبين التمسك بالفضائل والقيم العليا ، ويهدى إلى الانغماس في الرذائل والشهوات الدنيا.

ثم يحكى القرآن الكريم أن هؤلاء المترفين لم يكتفوا بإعلان كفرهم ، وتكذيبهم للأنبياء والمصلحين ، بل أضافوا إلى ذلك التبجح والتعالي على المؤمنين. فقال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا) أى المترفون الذين أبطرتهم النعمة للمؤمنين الفقراء (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) منكم ـ أيها المؤمنون ـ ، إذ أموالنا أكثر من أموالكم ، وأولادنا أكثر من أولادكم ، ولو لا أننا أفضل عند الله منكم ، لما أعطانا. مالا يعطيكم ...

فنحن نعيش حياتنا في أمان واطمئنان (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) بشيء من العذاب الذي تعدوننا به لا في الدنيا ولا في الآخرة.

قال الامام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : افتخر المترفون ـ بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله لهم ، واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ، ثم يعذبهم في الآخرة ، وهيهات لهم ذلك. قال ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٨٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٠٩.

٢٩٧

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصحح لهؤلاء المترفين خطأهم ، وأن يكشف لهم عن جهلهم ، وأن يبين لهم أن مسألة الغنى والفقر بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، وأن الثواب والعقاب لا يخضعان للغنى أو للفقر ، وإنما يتبعان الإيمان أو الكفر ، فقال ـ تعالى ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وبسط الرزق : سعته وكثرته. وتقديره : تقليله وتضييقه.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين (إِنَّ رَبِّي) وحده هو الذي (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه له (وَيَقْدِرُ) أى : ويقتر الرزق ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه. والأمر في كلتا الحالتين مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، على حسب ما تقتضيه حكمته في خلقه.

وربما يوسع رزق العاصي ويضيق رزق المطيع. أو العكس ، وربما يوسع على شخص في وقت ويضيق عليه في وقت آخر ، ولا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب ، لأن مناطهما الطاعة وعدمها.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هذه الحقيقة التي اقتضتها حكمة الله ـ تعالى ـ وإرادته ، فزعموا أن بسط الرزق دليل الشرف والكرامة ، وأن ضيق الرزق دليل الهوان والذل ، ولم يدركوا ـ لجهلهم وانطماس بصائرهم ـ أن بسط الرزق قد يكون للاستدراج ، وأن تضييقه قد يكون للابتلاء والاختبار ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

ثم زاد ـ سبحانه ـ هذه القضية توضيحا وتبيينا فقال : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى).

الزلفى : مصدر كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من معنى العامل. أى ليست كثرة أموالكم ، ولا كثرة أولادكم بالتي من شأنها أن تقربكم إلينا قربى ، لأن هذه الكثرة ليست دليل محبة منا لكم ، ولا تكريم منا لكم ، وإنما الذي يقربكم منا هو الإيمان والعمل الصالح.

كما وضح ـ سبحانه ـ هذه الحقيقة في قوله بعد ذلك : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ).

أى : ليس الأمر كما زعمتم ـ أيها المترفون ـ من أن كثرة الأموال والأولاد ستنجيكم من العذاب ، ولكن الحق والصدق أن الذي ينجيكم من ذلك ويقربكم منا ، هو الإيمان والعمل الصالح. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة لهم عند الله ـ تعالى ـ الجزاء الحسن المضاعف ، وهم في غرفات الجنات آمنون مطمئنون.

٢٩٨

قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) هو استثناء منقطع فيكون محله النصب. أى : لكن من آمن وعمل صالحا .. والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى (مَنْ) والجمع باعتبار المعنى. وهو مبتدأ. وخبره (لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) أى : فأولئك يجازيهم الله الضعف ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. أو فأولئك لهم الجزاء المضاعف فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة المصرين على كفرهم فقال : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

أى : والذين يسعون في إبطال آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، (مُعاجِزِينَ).

أى : زاعمين سبقهم لنا ، وعدم قدرتنا عليهم (أُولئِكَ) الذين يفعلون ذلك (فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أى : في عذاب جهنم مخلدون ، حيث تحضرهم ملائكة العذاب بدون شفقة أو رحمة ، وتلقى بهم فيها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تأكيد وتقرير لتلك الحقيقة التي سبق الحديث عنها ، وهي أن التوسع والتضييق في الرزق بيد الله ـ تعالى ـ وحده.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (لَهُ) يعود إلى الشخص الموسع عليه أو المضيق عليه في رزقه. أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المترفين على سبيل التأكيد وإزالة ما هم عليه من جهل : إن ربي ـ عزوجل ـ يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ، ويضيق هذا الرزق على من يشاء أن يضيقه منهم ، وليس في ذلك ما يدل على السعادة أو الشقاوة ، لأن هذه الأمور خاضعة لحكمته في خلقه ـ سبحانه ـ.

(وَما أَنْفَقْتُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ شَيْءٍ) في سبيل الله ـ تعالى ـ وفي أوجه طاعته (فَهُوَ) ـ سبحانه ـ (يُخْلِفُهُ) أى : يعوضه لكم بما هو خير منه. يقال : فلان أخلف لفلان وأخلف عليه ، إذا أعطاه العوض والبدل.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أى : وهو ـ سبحانه ـ خير رازق لعباده لأن كل رزق يصل إلى الناس إنما هو بتقديره وإرادته ، وقد جرت سنته ـ سبحانه ـ أن يزيد الأسخياء من فضله وكرمه.

وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من يوم يصبح العباد فيه ،

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ٣٣٠.

٢٩٩

إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم اعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم اعط ممسكا تلفا.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت جانبا من شبهات المشركين ، ومن أقوالهم الباطلة ، وردت عليهم بما يزهق باطلهم ، ويمحو شبهاتهم ، لكي يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال أولئك المشركين يوم القيامة ، وكيف أن الملائكة يكذبونهم في مزاعمهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(٤٢)

أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أى : يجمع الله ـ سبحانه ـ الكافرين جميعا. الذين استضعفوا في الدنيا والذين استكبروا.

(ثُمَّ يَقُولُ) ـ عزوجل ـ (لِلْمَلائِكَةِ) على سبيل التبكيت والتقريع للمشركين (أَهؤُلاءِ) الكافرون (إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) أى : أهؤلاء كانوا يعبدونكم في الدنيا. وأنتم رضيتم بذلك.

و (هؤُلاءِ) مبتدأ ، وخبره «كانوا يعبدون» و (إِيَّاكُمْ) مفعول يعبدون.

وتخصيص الملائكة بالخطاب مع أن من الكفار من كان يعبد الأصنام ، ومن كان يعبد غيرها ، لأن المقصود من الخطاب حكاية ما يقوله الملائكة في الرد عليهم.

قال صاحب الكشاف : هذا الكلام خطاب للملائكة. وتقريع للكفار وارد على المثل السائر : إياك أعنى واسمعي يا جارة ، ونحوه قوله ـ تعالى ـ لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وقد علم ـ سبحانه ـ كون الملائكة وعيسى ، منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال ، والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون التقريع

٣٠٠