التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

ثم ختمت السورة الكريمة بتهديدهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأنهم سيندمون ـ إذا ما استمروا على كفرهم ـ ولن ينفعهم الندم.

قال ـ تعالى ـ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ).

١٠ ـ وهكذا نرى سورة سبأ قد ساقت أنواعا من الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى أن يوم القيامة حق ، وعلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه .. كما أنها حكت شبهات المشركين ، وردت عليهم بما يبطلها ، والحمد لله حمدا كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٢٦١

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)(٥)

افتتحت سورة سبأ بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين ، وهي أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل ، هو الله رب لعالمين.

والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.

وأل في الحمد للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ، ولكافة ألوان الثناء ، هو الله ـ تعالى ـ.

٢٦٢

وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة عليه وحده ـ سبحانه ـ ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء ، فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شيء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، هو في الحقيقة حمد له ـ تعالى ـ ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه.

وقد اختار ـ سبحانه ـ افتتاح هذه السورة بصفة الحمد ، دون المدح أو الشكر ، لأنه وسط بينهما ، إذ المدح أعم من الحمد ، لأن المدح يكون للعاقل وغيره ، فقد يمدح الإنسان لعقله ، وتمدح اللؤلؤة لجمالها ، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان.

والحمد أخص من الشكر ، لأن الشكر يكون من أجل نعمة وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك (١).

وفي القرآن الكريم خمس سور اشتركت في الافتتاح بقوله ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) وهي سورة الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر.

ولكن لكل سورة من هذه السور ، منهج خاص في بيان أسباب أن الحمد لله ـ تعالى ـ وحده.

وقد أحسن القرطبي ـ رحمه‌الله ـ عند ما قال : فإن قيل : قد افتتح غيرها أى : سورة الأنعام ـ بالحمد لله ، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره؟ فالجواب أن لكل واحدة منه معنى في موضعه ، لا يؤدى عن غيره ، من أجل عقده بالنعم المختلفة ، و ـ أيضا ـ فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون (٢).

والمعنى : الحمد الكامل الشامل لله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه هو ، الذي له ما في السموات وما في الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، بحيث لا يخرج شيء فيهما عن إرادته ومشيئته.

قوله : وله الحمد في الآخرة ، تنبيه إلى أن حمده ـ عزوجل ـ ليس مقصورا على الدنيا ، بل يشمل الدنيا والآخرة.

فالمؤمنون يحمدونه في الدنيا على ما وهبهم من نعم الإيمان والإحسان ، ويحمدونه في الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السموات والأرض ، ويقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٣).

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص ٢٧.

(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٨٤.

(٣) سورة الزمر. الآية ٧٤.

٢٦٣

قال صاحب الكشاف : ولما قال ـ سبحانه ـ : الحمد لله ، ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، تقول : احمد أخاك الذي كساك وحملك ، تريد : احمده على كسوته وحملانه.

ولما قال : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب (١).

وقال الآلوسى : والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل ، أن الأول على نهج العبادة ، والثاني على وجه التلذذ والاغتباط وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس (٢).

وقال الجمل : فإن قلت : الحمد مدح للنفس ، ومدحها مستقبح فيما بين الخلق ، فما وجه ذلك؟

فالجواب : ان هذا المدح دليل على أن حاله ـ تعالى ـ بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ مقدس عن أن تقاس أفعاله ، على أفعال العباد (٣).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) أى : وهو ـ تعالى ـ الذي أحكم أمور الدارين ، ودبرها بحكمته ، وهو العليم بظواهر عباده وبواطنهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.

ثم فصل ـ سبحانه ـ بعض مظاهر علمه فقال : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) ، والولوج الدخول ، يقال : ولج فلان منزله ، فهو يلجه ولجا وولوجا ، إذا دخله.

أى : أنه ـ سبحانه ـ يعلم ما يلج في الأرض وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء ، ومن جواهر دفنت في طياتها ، ومن بذور ومعادن في جوفها.

ويعلم ـ أيضا ـ (ما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وحبوب وكنوز ، وغير ذلك من أنواع الخيرات.

ويعلم كذلك (ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من أمطار ، وثلوج ، وبرد ، وصواعق ، وبركات ، من عنده ـ تعالى ـ لأهل الأرض.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٦٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٠٣.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٥٩.

٢٦٤

(وَما يَعْرُجُ فِيها) أى : ويعلم ما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

وعدى العروج بفي لتضمنه معنى الاستقرار ، وهو في الأصل يعدى بإلى قال ـ تعالى ـ : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

وقوله : (يَعْرُجُ) من العروج ، وهو الذهاب في صعود. والسماء جهة العلو مطلقا.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أى : وهو ـ سبحانه ـ صاحب الرحمة الواسعة ، والمغفرة العظيمة ، لمن يشاء من عباده.

وهذه الآية الكريمة ـ مع وجازة ألفاظها ـ تصور تصويرا بديعا معجزا ، مظاهر علم الله ـ تعالى ـ ، ولو أن أهل الأرض جميعا حاولوا إحصاء (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها ، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) لما استطاعوا أن يصلوا إلى إحصاء بعض تلك الحشود الهائلة من خلق الله ـ تعالى ـ في أرضه أو سمائه.

ولكن هذه الحشود العجيبة في حركاتها ، وأحجامها ، وأنواعها ، وأجناسها ، وصورها ، وأحوالها .. قد أحصاها علم الله ـ تعالى ـ الذي لا يخفى عليه شيء.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله الكافرون في شأن يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ).

أى : وقال الذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، لا تأتينا الساعة بحال من الأحوال ، وإنما نحن نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وإذا متنا فإن الأرض تأكل أجسادنا ، ولا نعود إلى الحياة مرة أخرى.

وعبروا عن إنكارهم لها بقولهم : (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) مبالغة في نفيها نفيا كليا ، فكأنهم يقولون : لا تأتينا الساعة في حال من الأحوال ، لأننا ننكر وجودها أصلا ، فضلا عن إتيانها.

وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يؤكد وجودها وإتيانها تأكيدا قاطعا فقال : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

و «بلى» حرف جواب لرد النفي ، فتفيد إثبات المنفي قبلها ، ثم أكد ـ سبحانه ـ ذلك بجملة القسم.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين لإتيان الساعة : ليس الأمر كما زعمتم ، بل هي ستأتيكم بغتة ، وحق ربي الذي أوجدنى وأوجدكم.

٢٦٥

فالجملة الكريمة قد اشتملت على جملة من المؤكدات التي تثبت أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ومن ذلك التعبير ب (بَلى) وبالجملة القسمية.

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ؛ هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن ، مما أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد : فإحداهن في سورة يونس ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

والثانية : هذه الآية التي معنا. والثالثة : في سورة التغابن وهي قوله ـ تعالى ـ : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) تقوية لتأكيد إتيان الساعة.

قالوا : لأن تأكيد القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه ، وقوة إثباته ، وصحته ، لما أن ذلك في حكم الاستشهاد على الأمر (٢).

وقوله (يَعْزُبُ) بمعنى يغيب ويخفى ، وفعله من باب «قتل وضرب». يقال : عزب الشيء يعزب ـ بضم الزاى وكسرها ـ إذا غاب وبعد.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين لإتيان الساعة : كذبتم في إنكاركم وحق الله ـ تعالى ـ لتأتينكم ، والذي أخبرنى بذلك هو الله ـ تعالى ـ (عالِمِ الْغَيْبِ) أى : عالم ما غاب وخفى عن حسكم ، وهو ـ سبحانه ـ لا يغيب عن علمه مقدار أو وزن مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك المثقال ، ولا أكبر منه ، إلا وهو مثبت وكائن في علمه ـ تعالى ـ الذي لا يغيب عنه شيء ، أو في اللوح المحفوظ الذي فيه تسجل أحوال الخلائق وأقوالهم وأفعالهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأه بعضهم بكسر الميم على أنه نعت لقوله (رَبِّي).

أى : قل بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم الساعة.

وقرأه آخرون بضم الميم على أنه مبتدأ ، وخبره جملة : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف. أى : هو عالم الغيب.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٨٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٥٩.

٢٦٦

وقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) تمثيل لقلة الشيء ، ودقته ، والمراد انه لا يغيب عن علمه شيء ما ، مهما دق أو صغر ، إذ المثقال : مفعال من الثقل ، ويطلق على الشيء البالغ النهاية في الصغر ، والذرة تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذي يتطاير من التراب عند النفخ.

وفي قوله ـ سبحانه ـ : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) إعجاز علمي بليغ للقرآن الكريم ، إذ كان من المعروف إلى عهد قريب ، أن الذرة أصغر الأجسام ، فأشار القرآن إلى أن هناك ما هو أصغر منها ، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث بعد تحطيم الذرة ، وتقسيمها إلى جزئيات.

قال الجمل : وقوله : (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) العامة على رفع أصغر وأكبر ، وفيه وجهان :

أحدهما : الابتداء ، والخبر إلا في كتاب ، والثاني : العطف على (مِثْقالُ) ، وعلى هذا فيكون قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) تأكيد للنفي في (لا يَعْزُبُ) كأنه قال : لكنه في كتاب مبين.

فإن قيل : فأى حاجة إلى ذكر الأكبر ، فإن من علم ما هو أصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب : لما كان الله ـ تعالى ـ أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فقال : الإثبات في الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر مكتوب أيضا (١).

واللام في قوله ـ تعالى ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. متعلقة بقوله (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وهي للتعليل ولبيان الحكمة في إتيانها.

أى : لتأتينكم الساعة أيها الكافرون ، والحكمة في ذلك ليجزي ـ سبحانه ـ الذي آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن الذي يستحقونه.

(أُولئِكَ) الموصوفون بصفتى الإيمان والعمل الصالح (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) عظيمة من ربهم لذنوبهم (وَ) لهم كذلك (رِزْقٌ كَرِيمٌ) تنشرح له صدورهم ، وتقرّ به عيونهم.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أى : والذين سعوا في إبطال آياتنا ، وفي تكذيب رسلنا (مُعاجِزِينَ) أى مسابقين لنا ، لتوهمهم أننا لا نقدر عليهم ، وأنهم يستطيعون الإفلات من عقابنا. يقال : عاجز فلان فلانا وأعجزه إذا غالبه وسبقه.

(أُولئِكَ) الذين يفعلون ذلك (لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أى : لهم عذاب من أسوأ أنواع العذاب وأشده ألما وإهانة.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٦٠.

٢٦٧

وهكذا نرى الآيات الكريمة بعد ثنائها على الله ـ تعالى ـ بما هو أهله ، وبعد إثباتها لعلمه الذي لا يعزب عنه شيء ، وبعد حكايتها لأقوال المشركين وردها عليهم.

بعد كل ذلك تصرح بأن الحكمة من إتيان الساعة ، مجازاة الذين آمنوا وعملوا الصالحات بما يستحقون من ثواب ، ومجازاة الذين كفروا وسعوا في آيات الله بالقدح فيها وصد الناس عنها. بما يستحقون من عقاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف أهل العلم النافع مما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، وموقف الكافرين من ذلك ، ورد ـ سبحانه ـ على هؤلاء الكافرين بما يثبت ضلالهم وجهلهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

والمراد بالرؤية في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) المعرفة والعلم واليقين. والمراد بالذين أوتوا العلم : المؤمنون الصادقون الذين اتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما جاءهم به من عند ربه ، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم ، كمؤمنى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

٢٦٨

والجملة الكريمة مستأنفة لمدح هؤلاء العلماء العقلاء على إيمانهم بالحق ، أو معطوفة على يجزى في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

والمراد ب (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) القرآن الكريم.

والمعنى : لا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لما يقوله الكافرون بشأنك ولما يفعلونه لإبطال دعوتك ، فإن الذين أوتوا العلم وهم أتباعك الصادقون ، يعلمون ويعتقدون أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وهو الصدق الذي لا يشوبه كذب ، وهو الكتاب الذي يهدى من اتبعه وأطاع توجيهاته إلى دين الله ـ تعالى ـ ، العزيز ، الذي يقهر ولا يقهر (الْحَمِيدِ) أى المحمود في جميع شئونه.

والمفعول الأول ليرى قوله : (الَّذِي أُنْزِلَ) .. والمفعول الثاني «الحق» و «هو» ضمير فصل متوسط بين المفعولين و «يهدى» معطوف على المفعول الثاني من باب عطف الفعل على الاسم لتأويله به ، أى : يرونه حقا وهاديا.

وعبر ـ سبحانه ـ عن إيمان أهل العلم بما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَيَرَى) ، للإشعار بأنهم قد آمنوا هذا الإيمان الجازم عن إدراك ومشاهدة ويقين ، وأنهم قد صاروا لا يشكون في كون هذا المنزّل عليه من ربه ، هو الحق الهادي إلى الصراط المستقيم.

وفي وصفهم بقوله : (أُوتُوا الْعِلْمَ) ثناء عظيم عليهم ، لأنهم انتفعوا بعلمهم وسخروه لخدمة الحق ، وللشهادة له بأنه حق ، ويهدى إلى السعادة الدينية والدنيوية والأخروية.

وهكذا العلماء العاملون بمقتضى علمهم النافع. يكونون أنصارا للحق والهدى في كل زمان ومكان.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله أولئك الكافرون فيما بينهم ، على سبيل الاستهزاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ...).

وتمزيق الشيء : تخريقه وجعله قطعا قطعا. يقال : ثوب ممزق ومزيق. إذا كان مقطعا مخرقا. والمراد بالرجل : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : وقال الذين كفروا بعضهم لبعض ، ألا تريدون أن ندلكم ونرشدكم إلى رجل ، هذا الرجل يخبركم ويحدثكم ، بأنكم إذا متم ، وفرقت أجسامكم في الأرض كل تفريق ، وصرتم رفاتا وعظاما ، وأصبحتم طعاما في بطون الطيور والوحوش.

٢٦٩

(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أى : إنكم بعد هذا التمزيق والتفريق ، تخلقون خلقا جديدا ، وتعودون إلى الحياة مرة أخرى ، للحساب على أعمالكم التي عملتموها في حياتكم.

وقالوا : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشهر من نار على علم بينهم ، لقصد تجاهل أمره ، والاستخفاف بشأنه ، والاستهزاء بدعوته.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : فإن قلت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشهورا علما في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا بينهم ، فما معنى قولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) فنكروه لهم ، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدل على مجهول في أمر مجهول؟

قلت : كانوا يقصدون بذلك الطّنز ـ أى : الاستخفاف والسخرية ـ فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجى التي يتحاجى بها للضحك والتلهي ، متجاهلين به وبأمره (١).

وقال الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ : وقوله : (يُنَبِّئُكُمْ) أى يحدثكم بأمر مستغرب عجيب ... وإذا في قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ) شرطية ، وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه.

أى : تبعثون أو تحشرون ، وهو العامل في «إذا» على قول الجمهور. والجملة الشرطية بتمامها معمولة لقوله : (يُنَبِّئُكُمْ) لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون ، ثم أكد ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) حكاية لقول آخر من أقوالهم الباطلة ، التي قالوها بشأن ما جاءهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والاستفهام لتعجبهم مما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن قوله لهم : إنكم ستبعثون وتحاسبون يوم القيامة ، جعلهم لجهلهم وانطماس عقولهم ـ يستنكرون ذلك ، ويرجعون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمرين : إما افتراء الكذب واختلاقه على الله ـ تعالى ـ وإما إصابته بالجنون الذي جعله يقول قولا لا يدرى معناه.

وقد رد الله ـ تعالى ـ بما ينفى عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما اتهموه به ، وبما يثبت جهلهم وغباءهم فقال. (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ).

أى : ليس الأمر كما زعم هؤلاء الكافرون ، من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أخبرهم بأن هناك بعثا وحسابا ، به جنة أو افترى على الله كذبا ، بل الحق أن هؤلاء الكافرين الذين

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٠٩.

٢٧٠

لا يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، غارقون في العذاب الذي لا نهاية له. وفي الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.

ثم هددهم ـ سبحانه ـ بسوء العاقبة ، إذا ما استمروا في ضلالهم وجهالاتهم وذكرهم بما يشاهدونه من عجائب قدرته فقال : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

والاستفهام للتعجب من حالهم ، ومن ذهولهم عن التفكر والتدبر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام.

والمعنى : أعمى هؤلاء الكافرون فلم يعتبروا ولم يتعظوا بما يشاهدونه من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ المحيطة بهم من كل جانب والمنتشرة في آفاق السموات وفي جوانب الأرض؟

إن تأملهم في مظاهر قدرتنا الواضحة أمام أعينهم ، من شأنه أن يهديهم إلى الحق الذي جاءهم به رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شأنه أن يجعلهم يوقنون بأننا (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) كما فعلنا بقارون.

(أَوْ) إن نشأ (نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) والكسف جمع كسفة بمعنى قطعة أى : لا يعجزنا أن نخسف بهم الأرض. كما لا يعجزنا ـ أيضا ـ أن ننزل عليهم قطعا من العذاب الكائن من السماء فنهلكهم ، كما أنزلناها على أصحاب الأيكة فأهلكناهم بسبب تكذيبهم وجحودهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه من مظاهر قدرتنا الواضحة بين أيديهم ، لآية بينة ، وعبرة ظاهرة ، لكل عبد (مُنِيبٍ) أى : راجع إلى الله ـ تعالى ـ بالتوبة الصادقة ، وبالطاعة الخالصة لما جاءه به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ نموذجين من الناس ، أولهما : أعطاه الله ـ تعالى ـ الكثير من نعمه وفضله وإحسانه ، فوقف من كل ذلك موقف المعترف بنعم الله الشاكر لفضله.

وثانيهما : أعطاه الله ـ تعالى ـ النعم فوقف منها موقف الجاحد البطر الكنود.

أما النموذج الأول فنراه في شخص النبيين الكريمين داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ فقد قال ـ سبحانه ـ في شأنهما :

٢٧١

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) بيان لما منّ الله ـ تعالى ـ به على عبده داود ـ عليه‌السلام ـ من خير وبركة.

أى : ولقد آتينا عبدنا داود فضلا عظيما ، وخيرا وفيرا ، وملكا كبيرا ، بسبب إنابته إلينا ، وطاعته لنا.

ثم فصل ـ سبحانه ـ مظاهر هذا الفضل فقال : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) والتأويب الترديد والترجيع. يقال : أوّب فلان تأويبا إذا رجّع مع غيره ما يقوله.

والجملة مقول لقول محذوف : أى : وقلنا يا جبال رددى ورجعي مع عبدنا داود تسبيحه لنا ، وتقديسه لذاتنا ، وثناءه علينا ، كما قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ).

٢٧٢

وقوله : (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطفا على قوله (فَضْلاً) أى : وسخرنا له الطير لتسبح معه بحمدنا. أو معطوف على محل (يا جِبالُ) أى : ودعونا الجبال والطير إلى التسبيح معه.

قال الإمام ابن كثير ـ رحمه‌الله : يخبر ـ تعالى ـ عما أنعم به على عبده ورسوله داود ـ عليه‌السلام ـ مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوى العدد والعدد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذي كان إذا سبح به ، تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات. والغاديات الرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات.

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع صوت أبى موسى الأشعرى يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال : «لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود» (١).

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : «وآتينا داود منا فضلا» تأويب الجبال معه والطير؟

قلت : كم بينهما من الفرق؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال منزلة منزلة العقلاء ، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ، بيان لنعمة أخرى من النعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ عليه.

أى : وصيرنا الحديد لينا في يده ، بحيث يصبح ـ مع صلابته وقوته ـ كالعجين في يده ، يشكله كيف يشاء ، من غير أن يدخله في نار ، أو أن يطرقه بمطرقة.

فالجملة الكريمة معطوفة على قوله (آتَيْنا) ، وهي من جملة الفضل الذي منحه ـ سبحانه ـ لنبيه داود ـ عليه‌السلام ـ.

و (أَنِ) في قوله : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) مصدرية على حذف حرف الجر. وسابغات صفة لموصوف محذوف.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٨٥.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٧١.

٢٧٣

أى : ألنا له الحديد ، لكي يعمل منه دروعا سابغات. والدرع السابغ ، هي الدرع الواسعة التامة. يقال : سبغ الشيء سبوغا ، إذا كان واسعا تاما كاملا. ومنه قولهم : نعمة سابغة ، إذا كانت تامة كاملة.

قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (١).

وقوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) والتقدير هنا بمعنى الإحكام والإجادة وحسن التفكير في عمل الشيء. والسرد : نسج الدروع وتهيئتها لوظيفتها.

أى : آتينا داود كل هذا الفضل الذي من جملته إلانة الحديد في يده ، وقلنا له يا داود : اصنع دروعا سابغات تامات ، وأحكم نسج هذه الدروع ، بحيث تكون في أكمل صورة ، وأقوى هيئة.

روى أن الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم ، ولا تؤدى وظيفتها في الدفاع عن صاحبها ، فألهم الله ـ تعالى ـ داود ـ عليه‌السلام ـ أن يعملها بطريقة لا تثقل الجسم ولا تتعبه ، وفي الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح ، ولا تقطعها السيوف ، وكان الأمر كله من باب الإلهام والتعليم من الله ـ تعالى ـ لعبده داود ـ عليه‌السلام ـ.

ثم أمر ـ سبحانه ـ داود وأهله بالعمل الصالح فقال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

أى : واعملوا عملا صالحا يرضيني ، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل ، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذي تستحقونه.

قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم. بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ، إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم ، والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالي عن الامتنان. وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (٢).

هذا ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لنبيه داود من فضل ، أما نبيه سليمان بن داود ، فقد

__________________

(١) سورة لقمان. الآية ٢٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٦٧.

٢٧٤

أعطاه ـ سبحانه ـ أفضالا أخرى ، عبر عنها في قوله ـ تعالى ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ).

والغدوة والغداة : أول النهار إلى الزوال. والرواح : من الزوال إلى الغروب.

والمعنى : وسخرنا لنبينا سليمان بن داود ـ عليهما‌السلام ـ الريح ، تجرى بأمره في الغدوة الواحدة مسيرة شهر ، وتعود بأمره في الروحة الواحدة مسيرة شهر. أى : أنها لسرعتها تقطع في مقدار الغدوة الواحدة ما يقطعه الناس في شهر من الزمان ، وكذلك الحال بالنسبة للروحة الواحدة ، وهي في كل مرة تسير بأمر سليمان ، ووفق إرادته التي منحه الله ـ تعالى ـ إياها.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٢).

ثم بين ـ تعالى ـ نعمة ثانية من النعم التي أنعم بها على سليمان فقال : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ).

والقطر : هو النحاس المذاب. مأخوذ من قطر الشيء يقطر قطرا وقطرانا ، إذا سال.

أى : كما ألنا لداود الحديد ، أسلنا لابنه سليمان النحاس وجعلناه مذابا ، فكان يستعمله في قضاء مصالحه ، كما يستعمل الماء ، وهذا كله بفضلنا وقدرتنا.

ثم بين ـ سبحانه ـ نعمة ثالثة أنعم بها على سليمان ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ).

أى : وسخرنا له من الجن من يكونون في خدمته ، ومن يعملون بين يديه ما يريده منهم ، وهذا كله بأمرنا ومشيئتنا وقدرتنا.

(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) أى : من ينحرف من هؤلاء الجن عما أمرناه به من طاعة سليمان ، (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أى : ننزل به عذابنا الأليم ، الذي يذله ويخزيه في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٨١.

(٢) سورة «ص» الآية ٣٦.

٢٧٥

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض الأشياء التي كان الجن يعملونها لسليمان ـ عليه‌السلام ـ فقال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ، وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ).

والمحاريب : جمع محراب. وهو كل مكان مرتفع ، ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام في المسجد ، كما يطلق على الغرفة التي يصعد إليها ، وعلى أشرف أماكن البيوت.

قالوا والمراد بها : أماكن العبادة ، والقصور المرتفعة.

والتماثيل : جمع تمثال وقد يكون من حجر أو خشب أو نحاس أو غير ذلك.

قال القرطبي ما ملخصه : والتماثيل جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة حيوان أو غير حيوان. وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام ، تماثيل أشياء ليست بحيوان.

وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس. فيزدادوا عبادة واجتهادا.

وهذا يدل على أن ذلك كان مباحا في زمانهم ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

والجفان : جمع جفنة. وهي الآنية الكبيرة. والجواب : جمع جابية ، وهي الحوض الكبير الذي يجبى فيه الماء ويجمع لتشرب منه الدواب.

والقدور : جمع قدر. وهو الآنية التي يطبخ فيها الطعام من نحاس أو فخار أو غيرهما.

وراسيات : جمع راسية بمعنى ثابتة لا تتحرك.

أى : أن الجن يعملون لسليمان ـ عليه‌السلام ـ ما يشاء من مساجد وقصور ، ومن صور متنوعة ، ومن قصاع كبار تشبه الأحواض الضخمة ، ومن قدور ثابتات على قواعدها ، بحيث لا تحرك لضخامتها وعظمها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) مقول لقول محذوف.

أى : أعطينا سليمان كل هذه النعم ، وقلنا له ولأهله : اعملوا يا آل داود عملا صالحا ، شكرا لله ـ تعالى ـ على فضله وعطائه ، وقليل من عبادي هو الذي يشكرني شكرا خالصا على نعمى وفضلي وإحسانى.

وقوله (شُكْراً) يجوز أن يكون مفعولا لأجله. أى : اعملوا من أجل الشكر ، أو مصدرا واقعا موقع الحال. أى : اعملوا شاكرين.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٧٢.

٢٧٦

و (قَلِيلٌ) خبر مقدم. و (مِنْ عِبادِيَ) صفة له. و ، (الشَّكُورُ) مبتدأ مؤخر. وهكذا يختم القرآن هذه النعم بهذا التعقيب الذي يكشف عن طبيعة الناس في كل زمان ومكان ، حتى يحملهم على أن يخالفوا أهواءهم ونفوسهم ، ويكثروا من ذكر الله ـ تعالى ـ وشكره.

وحقيقة الشكر : الاعتراف بالنعمة للمنعم ، والثناء عليه لإنعامه ، واستعمال نعمه ـ سبحانه ـ فيما خلقت له.

والإنسان الشكور : هو المتوفر على أداء الشكر ، الباذل قصارى جهده في ذلك ، عن طريق قلبه ولسانه وجوارحه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ النعم التي أنعم بها على داود وسليمان ، ببيان مشهد وفاة سليمان ، فقال : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ).

والمراد بدابة الأرض : قيل هي الأرضة التي تأكل الخشب وتتغذى به ، يقال : أرضت الدابة الخشب أرضا ـ من باب ضرب ـ ، إذا أكلته. فإضافة الدابة إلى الأرض ـ بمعنى الأكل والقطع ـ من إضافة الشيء إلى فعله.

و (مِنْسَأَتَهُ) أى : عصاه التي كان مستندا عليها. وسميت العصا بذلك لأنها تزجر بها الأغنام إذا جاوزت مرعاها. من نسأ البعير ـ كمنع ـ إذا زجره وساقه ، أو إذا أخره ودفعه.

والمعنى : فلما حكمنا على سليمان ـ عليه‌السلام ـ بالموت ، وأنفذناه فيه ، وأوقعناه عليه ، (ما دَلَّهُمْ) أى : الجن الذين كانوا في خدمته (عَلى مَوْتِهِ) بعد أن مات وظل واقفا متكئا على عصاه (إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ).

أى : انهم لم يدركوا أنه مات ، واستمروا في أعمالهم الشاقة التي كلفهم بها ، حتى جاءت الدابة التي تفعل الأرض ـ أى الأكل والقطع ـ فأكلت شيئا من عصاه التي كان متكئا عليها ، فسقط واقعا بعد أن كان واقفا.

(فَلَمَّا خَرَّ) أى : فلما سقط سليمان على الأرض (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) أى : ظهر لهم ظهورا جليا (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) كما يزعم بعضهم.

(ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أى : ما بقوا في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان.

وذلك أن الجن استمروا فيما كلفهم به سليمان من أعمال شاقة ، ولم يدركوا أنه قد مات ،

٢٧٧

حتى جاءت الأرضة فأكلت شيئا من عصاه ، فسقط على الأرض وهنا فقط علموا أنه قد مات.

قال ابن كثير : يذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية كيفية موت سليمان ـ عليه‌السلام ـ وكيف عمّى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه ، ـ وهي منسأته ـ مدة طويلة نحوا من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض ، ـ وهي الأرضة ـ ضعف وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة ـ تبينت الجن والإنس أيضا ـ أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويواهمون الناس ذلك» (١).

هذا هو النموذج الأول الذي ساقه الله ـ تعالى ـ للشاكرين ، متمثلا في موقف داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ مما أعطاهما ـ سبحانه ـ من نعم جزيله ..

أما النموذج الثاني ـ الذي جاء في أعقاب سابقه ـ فقد ساقه ـ سبحانه ـ لسوء عاقبة الجاحدين ، متمثلا في قصة قبيلة سبأ ، وكيف أنهم قابلوا نعم الله بالبطر ، فمحقها ـ سبحانه ـ من بين أيديهم وفي شأنهم يقول ـ عزوجل ـ :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٨٩.

٢٧٨

أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)

و (لِسَبَإٍ) في الأصل اسم لرجل ، وهو : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود ، وهو أول ملك من ملوك اليمن ..

والمراد به هنا : الحي أو القبيلة المسماة باسمه ، فيصرف على الأول ويترك صرفه على الثاني.

وكانوا يسكنون بمأرب باليمن ، على مسيرة ثلاثة أيام من صنعاء وكانت أرضهم مخصبة ذات بساتين وأشجار متنوعة ، وزاد خيرهم ونعيمهم بعد أن أقاموا سدا ، ليأخذوا من مياه الأمطار على قدر حاجتهم ، وكان هذا السد يعرف بسد مأرب ، ولكنهم لم يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعم ، فسلبها ـ سبحانه ـ منهم.

قال ابن كثير : كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة ، وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله ، ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد.

أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال : إن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ : ما هو؟ رجل أم امرأة أم أرض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هو رجل. كان له عشرة أولاد ، سكن اليمن منهم ستة ، وهم : مذحج ، وكنده ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير. وسكن الشام منهم أربعة وهم : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسّان ..

وإنما سمى «سبأ» لأنه أول من سبأ في العرب ـ أى : جمع السبايا ـ ، وكان يقال له الرائش ، لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمى الرائش ، والعرب تسمى المال ـ ريشا ورياشا ، وذكروا أنه بشر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في زمانه المتقدم» (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٩١.

٢٧٩

والمعنى : والله لقد كان لقبيلة سبأ في مساكنهم التي يعيشون فيها (آيَةٌ) بينة واضحة ، وعلامة ظاهرة تدل على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى فضله على خلقه وعلى وجوب شكره على نعمه ، وعلى سوء عاقبة الجاحدين لهذه النعم.

فالمراد بالآية : العلامة الواضحة الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته وبديع صنعه ، ووجوب شكره ، والتحذير من معصيته.

ثم وضح ـ سبحانه ـ هذه الآية فقال : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أى : كانت لأهل سبأ طائفتان من البساتين والجنان : طائفة من يمين بلدهم ، وطائفة أخرى عن شماله.

وهذه البساتين المحيطة بهم كانت زاخرة بما لذ وطاب من الثمار.

قالوا : كانت المرأة تمشى تحت أشجار تلك البساتين وعلى رأسها المكتل ، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط في مكتلها دون جهد منها.

ولفظ (جَنَّتانِ) مرفوع على البدل من (آيَةٌ) أو على أنه مبتدأ ، وخبره قوله : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ).

وقوله ـ تعالى ـ : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ.) .. مقول لقول محذوف.

أى : وقلنا لهم على ألسنة رسلنا ، وعلى ألسنة الصالحين منهم ، كلوا من الأرزاق الكريمة ، والثمار الطيبة ، التي أنعم بها ربكم عليكم ، واشكروا له ـ سبحانه ـ هذا العطاء ، فإنكم إذا شكرتموه زادكم من فضله وإحسانه.

وقوله : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) كلام مستأنف لبيان موجبات الشكر.

أى : هذه البلدة التي تسكنونها بلدة طيبة لاشتمالها على كل ما تحتاجونه من خيرات ، وربكم الذي أعطاكم هذه النعم ، رب واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه وأناب ، ويعفو عن كثير من ذنوب عباده بفضله وإحسانه.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أصابهم بسبب جحودهم وبطرهم فقال : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ، وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).

والعرم : اسم للوادي الذي كان يأتى منه السيل. وقيل : هو المطر الشديد الذي لا يطاق.

فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة. أى : أرسلنا عليهم السيل الشديد المدمر.

ويرى بعضهم أن المراد بالعرم : السدود التي كانت مبنية لحجز الماء من خلفها ، ويأخذون منها لزروعهم على قدر حاجتهم ، فلما أصيبوا بالترف والجحود تركوا العناية بإصلاح هذه

٢٨٠