التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم نبيهم نوحا ، ليدلهم على طريق الحق والرشاد.

والمعنى : ولقد أرسلنا نبينا نوحا ـ عليه‌السلام ـ إلى قومه ، لكي يأمرهم بإخلاص العبادة لنا ، وينهاهم عن عبادة غيرنا (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم إلى الدين الحق ، ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية.

قالوا : بعث الله نوحا وهو في سن الأربعين من عمره ، ولبث يدعو قومه إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة ، فيكون عمره كله ألف سنة وخمسين سنة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فلم جاء المميز أولا بالسنة ، وثانيا بالعام؟ قلت : لأن تكرير اللفظ الواحد ، حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض يبتغيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك» (١).

والمقصود بذكر هذه المدة الطويلة التي قضاها نوح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول له : يا محمد لقد لبث أخوك نوح تلك المدة الطويلة ، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل ، فعليك أن تقتدى به في صبره ، وفي مطاولته لقومه.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) بيان لسوء عاقبة المكذبين لنوح ـ عليه‌السلام ـ بعد أن مكث فيهم تلك المدة الطويلة.

والطوفان : قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام ، وقد غلب إطلاقه على طوفان الماء ، وهو المراد هنا.

أى مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ولكنهم كذبوه ، فأخذهم الطوفان ، والحال أنهم كانوا مستمرين على الظلم والكفر ، دون أن تؤثر فيهم مواعظ نبيهم ونذره.

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة نوح ومن آمن معه فقال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) : أى : فأنجينا نوحا ومن آمن معه ، وهم الذين ركبوا معه في السفينة. قيل : كان عدد هؤلاء الذين آمنوا به ثمانين ما بين ذكر وأنثى ، وقيل كانوا أقل من ذلك.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٤٦.

٢١

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) للسفينة ، أو للحادثة والقصة.

أى : فأنجينا نوحا ومن ركب معه في السفينة ، وجعلناها أى هذه الحادثة عبرة وعظة للعالمين ، حيث شاهدوا سوء عاقبة الكفر والظلم على ممر الأيام والأعوام.

قالوا : ومن مظاهر وجوه العبرة في قصة نجاة نوح ومن معه : أن السفينة التي حملتهم وأقلتهم بقيت مدة طويلة ، وهي مستقرة على جبل الجودي ، الذي يرى كثير من المؤرخين ان مكانه بشمال العراق ، بالقرب من مدينة الموصل.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن جانب من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ.) ...

ولفظ (إِبْراهِيمَ) منصوب بفعل مضمر. أى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقت أن قال لقومه : اعبدوا الله ـ تعالى ـ وحده ، وصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه (ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به من العبادة والتقوى (خَيْرٌ لَكُمْ) من الشرك ، ومن كل شيء في هذه الحياة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى : إن كنتم من ذوى العلم والفهم بما هو خير وبما هو شر.

فأنت ترى أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد بدأ دعوته لقومه يأمرهم بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، وبالخوف من عقابه ، ثم ثنى بتحبيب هذه الحقيقة إلى قلوبهم ، ببيان أن إيمانهم خير لهم ، ثم ثلث بتهييج عواطفهم نحو العلم النافع ، الذي يتنافى مع الجهل ..

ثم بعد ذلك نفرهم من فساد ما هم عليه من باطل ، فقال كما حكى القرآن عنه : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً.) ...

والأوثان : جمع وثن. وتطلق الأوثان على التماثيل والأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم من الحجارة أو ما يشبهها ، ثم يعبدونها من دون الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أى : وتكذبون كذبا واضحا ، حيث سميتم هذه الأوثان آلهة ، مع أنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تغنى عنكم ولا عن نفسها شيئا.

أو يكون قوله (وَتَخْلُقُونَ) بمعنى وتصنعون وتنحتون. أى : وتصنعون بأيديكم هذه الأوثان صنعا ، من أجل الإفك والكذب والانصراف عن كل ما هو حق إلى كل ما هو باطل.

ثم بين لهم تفاهة هذه الأوثان فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من أوثان وأصنام (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) أى : لا يملكون لكم شيئا من الرزق حتى ولو كان غاية في القلة.

وما دام الأمر كذلك : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ) ـ تعالى ـ وحده (الرِّزْقَ) الذي يكفيكم

٢٢

ويغنيكم (وَاعْبُدُوهُ) وحده ـ سبحانه ـ (وَاشْكُرُوا لَهُ) نعماءه ومننه وعطاياه.

فأنتم وجميع الخلق (إِلَيْهِ) وحده (تُرْجَعُونَ) لا إلى غيره ، فيجازيكم على أعمالكم وهكذا نرى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد سلك في دعوته قومه إلى الحق أبلغ الأساليب وأحكمها ، حيث أمرهم بعبادة الله وتقواه ، وبين لهم منافع ذلك ، وحرضهم على سلوك طريق العلم لا طريق الجهل ، ونفرهم من عبادة الأوثان ، حيث بين لهم تفاهتها وحقارتها وعجزها ، وحضهم على طلب الرزق ممن يملكه وهو الله ـ عزوجل ـ الذي إليه المرجع والمآب.

ثم أخذ سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يحذر قومه من الاستمرار في تكذيبه ويلفت أنظارهم إلى أن هناك حسابا وثوابا وعقابا وبعثا ، وأن عليهم أن يتعظوا بمن قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٣)

قال صاحب الكشاف : وهذه الآية ـ وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) والآيات التي بعدها إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) .. محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم

٢٣

ـ صلوات الله عليه ـ لقومه ، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشأن قريش ، بين أول قصة إبراهيم وآخرها.

فإن قلت : إذا كانت من قول إبراهيم ، فما المراد بالأمم من قبله؟ قلت : المراد بهم قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمة في معنى أمم جمة مكذبة ...» (١).

وقال الإمام ابن كثير : والظاهر من السياق أن كل هذه الآيات ، من كلام إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ ، يحتج عليهم لإثبات المعاد ، لقوله بعد هذا كله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا.) .. معطوف على محذوف ، والتقدير : إن تطيعوني ـ أيها الناس ـ فقد فزتم ونجوتم ، وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به ، فلستم بدعا في ذلك ، فقد كذب أمم من قبلكم رسلهم ، فكانت عاقبة المكذبين خسرا.

ثم بين لهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وظيفته فقال : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أى : لقد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، وتلك هي وظيفتي التي كلفنى بها ربي ، وليس على سواها ، أما الحساب والجزاء فمرده إلى الله تعالى وحده.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على أن البعث حق ، وأنه ـ تعالى ـ لا يعجزه شيء ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).

والاستفهام لتوبيخهم على إنكارهم هذه الحقيقة ، وعدم تعقلهم لما يدل عليها دلالة واضحة ، والواو للعطف على مقدر.

والمعنى : ألم ينظر هؤلاء المشركون المنكرون للبعث ، ويعلموا كيف خلق الله ـ تعالى ـ الخلق ابتداء ، ليستدلوا بذلك على قدرته على الإعادة ، وهي أهون عليه.

إنهم ليرون كيف يبدئ الله الخلق في النبتة النامية ، وفي الشجرة الباسقة ، وفي كل ما لم يكن ، ثم بعد ذلك يكون ، فكيف أنكروا إعادة هذا المخلوق إلى الحياة مرة أخرى ، مع أنه من المسلم عند كل ذي عقل ، أن الإعادة أيسر من الخلق ابتداء؟

فالآية الكريمة تقرعهم على إنكارهم البعث ، وتسوق لهم الأدلة الواضحة على إمكانيته.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعود إلى ما ذكر من الأمرين وهما : بدء الخلق ، وإعادته إلى الحياة مرة أخرى.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٤٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٨٠.

٢٤

أى : إن ذلك الذي ذكرناه لكم من خلقكم ابتداء ، ثم إعادتكم إلى الحياة بعد موتكم ، يسير وهين على الله ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

ثم أمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر في أحوال هذا الكون ، لعل هذا التأمل يهديهم إلى الحق فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ، ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ.) ...

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنكرين للبعث : سيحوا في الأرض ، وتتبعوا أحوال الخلق ، وتأملوا كيف خلقهم الله ـ تعالى ـ ابتداء على أطوار مختلفة ، وطبائع متمايزة. وأحوال شتى ... ثم قل لهم بعد كل ذلك ، الله الذي خلق الخلق ابتداء على تلك الصور المتنوعة والمتكاثرة ، هو وحده الذي (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) أى : هو وحده الذي ينشئهم ويخلقهم ويعيدهم إلى الحياة مرة أخرى ، بعد أن أوجدهم في المرة الأولى.

فجملة (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) معطوفة على قوله : (سِيرُوا.) .. وداخلة معها في حيز القول ..

والكيفية في هذه الآية باعتبار بدء الخلق على أطوار شتى ، وصور متعددة ...

وفي الآية السابقة وهي قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) باعتبار بدء الخلق من مادة وغيرها.

والمقصود بالأمر بالسير : التدبر والتأمل والاعتبار ، لأن من شأن التنقل في جنبات الأرض ، أنه يوقظ الحس ، ويبعث على التفكير ، ويفتح العين والقلب على المشاهد الجديدة التي لم تألفها العين ، ولم يتأملها القلب قبل ذلك.

وجاء الأمر بالسير عاما ، لأن كل إنسان ـ في كل زمان ومكان ـ يأخذ من وجوه العبرة والعظة ـ عن طريق هذا السير ما يتناسب مع عقله ، وثقافته ، وبيئته ، وفكره ، ومستواه المادي ، والاجتماعى ، والحضارى ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لما قبله. أى : هو ـ سبحانه ـ قادر على النشأة الأولى ، وعلى النشأة الآخرة ، لأن قدرته لا يعجزها شيء ولا يحول دون نفاذها حائل.

وهو ـ سبحانه ـ (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ويرحم من يشاء برحمته ، (وَإِلَيْهِ) وحده لا إلى غيره (تُقْلَبُونَ) أى : ترجعون جميعا فيحاسبكم على أعمالكم.

٢٥

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أى : وما أنتم ـ أيها الناس ـ بقادرين على أن تفلتوا أو تهربوا من لقاء الله ـ تعالى ـ ومن حسابه ، سواء كنتم في الأرض ، أم كنتم في السماء ، إذ ليست هناك قوة في هذا الوجود تحول بينكم وبين الانقلاب إليه ـ سبحانه ـ والوقوف بين يديه للحساب والجزاء.

قال الشوكانى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) قال الفراء : ولا من في السماء بمعجزين الله فيها ... والمعنى : أنه لا يعجزه ـ سبحانه ـ أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء لو كنتم فيها ، كما تقول : لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة. يعنى : ولا بالبصرة لو صار إليها ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) مؤكد لما قبله. أى : لستم بقادرين على الهرب من لقاء الله ـ تعالى ـ. في الآخرة. وليس سواه من ناصر ينصركم ، أو من قريب يدفع عنكم حكمه وقضاءه ـ سبحانه ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ مصير الكافرين فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الدالة على وحدانيته وقدرته ، وعلى ذاته وصفاته .. وكفروا ـ أيضا ـ بالأدلة الدالة على (لِقائِهِ) بأن أنكروا البعث والحساب والجزاء (أُولئِكَ) الذين كفروا بكل ذلك (يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أى : انقطع أملهم في رحمتي إياهم انقطاعا تاما وعبر ـ سبحانه ـ بالماضي لدلالة علمه التام على تحقق وقوع هذا اليأس ، وفقدان الأمل عند هؤلاء الكافرين وقت أن يقفوا بين يديه للحساب ، بسبب كفرهم وسوء أعمالهم.

وأضاف ـ عزوجل ـ الرحمة إليه ، للإشارة إلى سبقها لغضبه ، وأنها تشمل عبادة المؤمنين.

(وَأُولئِكَ) أى : الذين كفروا بآيات الله وبلقائه (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يعلم مقدار شدته وفظاعته إلا هو ـ سبحانه ـ.

ثم قص ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله قوم إبراهيم له ، وما رد به عليهم. فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٤ ص ١٩٨.

٢٦

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢٧)

فقوله ـ تعالى ـ : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ.) .. بيان لما رد به الظالمون على نبيهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بعد أن وعظهم ونصحهم وأقام لهم أوضح الأدلة على صدقه فيما يبلغه عن ربه.

ولفظ «جواب» بالنصب ، خبر كان ، واسمها قوله : إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه ..

والمراد بقتله : إزهاق روحه بسيف ونحوه ، لتظهر المقابلة بين الإحراق والقتل.

وجاء هنا الترديد بين الأمرين ، للاشعار بأن من قومه من أشار بقتله ، ومنهم من أشار بإحراقه ، ثم اتفقوا جميعا على الإحراق ، كما جاء في قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

والمعنى : فما كان جواب قوم إبراهيم له ، بعد أن نصحهم وظهرت حجته عليهم ، إلا أن قالوا فيما بينهم ، اقتلوه بالسيف ، أو أحرقوه بالنار ، لتستريحوا منه ، وتريحوا آلهتكم من عدوانه عليها ، وتحطيمه لها ...

٢٧

وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم ، يدل على إسرافهم في الظلم والطغيان والجهالة ...

والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) فصيحة. أى : فاتفقوا على إحراقه بالنار ، وألقوه فيها بعد اشتعالها ، فأنجاه الله ـ تعالى ـ منها ، بأن جعلها بردا وسلاما عليه ...

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .. أى : إن في ذلك الذي فعلناه بقدرتنا مع إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث أخرجناه سليما من النار (لَآياتٍ) بينات على وحدانيتنا وقدرتنا ، لقوم يؤمنون ، بأن الله ـ تعالى ـ هو رب العالمين ، وأنه له الخلق والأمر.

وجمع ـ سبحانه ـ الآيات لأن في نجاة إبراهيم ، دلالات متعددة على قدرة الله ـ تعالى ـ لا دلالة واحدة ، فنجاته من النار وتحويلها عليه إلى برد وسلام آية ، وعجز المشركين جميعا عن أن يلحقوا به ضررا آية ثانية ، وإصرارهم على كفرهم مع ما شاهدوه ، آية ثالثة على أن القلوب الجاحدة تبقى على جحودها حتى مع وجود المعجزات الدالة على صدق من جاء بها من عند الله ـ تعالى ـ.

ولذا خص ـ سبحانه ـ هذه الآيات ، لأنهم هم وحدهم المنتفعون بها.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لقومه بعد أن نجاه الله من شرورهم فقال : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ، مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

ولفظ «مودة» وردت فيه قراءات : فقد قرأه بعض القراء السبعة بالنصب ، على أنه مفعول به لقوله : (اتَّخَذْتُمْ) أو على أنه مفعول لأجله ، فيكون المعنى :

وقال إبراهيم لقومه : يا قوم إنكم لم تتخذوا هذه الأوثان معبودات لكم عن عقيدة واقتناع بأحقية عبادتها. وإنما اتخذتموها معبودات من أجل المودة فيما بينكم ، ومن أجل أن يجامل بعضكم بعضا في عبادتها ، على حساب الحق والهدى.

وهذا شأنكم في الدنيا ، أما في يوم القيامة ، فهذه المودة ستزول لأنها مودة باطلة ، وسيكفر بعضكم ببعض ، ويلعن بعضكم بعضا ، حيث يتبرأ القادة من الأتباع ، والأتباع من القادة. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ) أى : ومنزلكم الذي تأوون إليه أنتم وأصنامكم يوم القيامة النار (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلصونكم من هذه النار ، أو يخففون سعيرها عنكم.

وبعض القراء السبعة قرأ لفظ (مَوَدَّةَ) بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أى : أن ما اتخذتموه من عبادة الأوثان ، هو مودة بينكم في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فسيكفر بعضكم

٢٨

ببعض ، ويلعن بعضكم بعضا.

والمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن هؤلاء المشركين لم يتخذوا الأصنام آلهة ، وهم يعتقدون صحة ذلك اعتقادا جازما ، وإنما اتخذوها في الدنيا آلهة تارة على سبيل التواد فيما بينهم ، وتارة على سبيل التقليد والمسايرة لغيرهم .. أما في الآخرة فستتحول تلك المودات والمسايرات والتقاليد إلى عداوات ومقاطعات وملاعنات ...

وقوله ـ تعالى ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ.) .. بيان للثمرة الطيبة التي ترتبت على دعوة إبراهيم لقومه ، إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، بعد أن مكث فيهم مدة لا يعلمها إلا الله ، وبعد أن أقام لهم ألوانا من الأدلة على أن ما جاءهم به هو الحق ، وما هم عليه هو الباطل.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يشعر بأن لوطا ـ عليه‌السلام ـ وحده ، هو الذي لبى دعوة إبراهيم ، وصدقه في كل ما أخبر به.

ولوط ـ عليه‌السلام ـ يرى كثير من العلماء أنه ابن أخى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فهو لوط بن هاران بن آزر.

والضمير في قوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي.) .. يرى بعضهم أنه يعود إلى لوط ، لأنه أقرب مذكور. أى : فآمن لوط لإبراهيم وصدقه في كل ما جاء به ، وقال : إنى مهاجر إلى الجهة التي أمرنى ربي بالهجرة إليها ، لأبلغ دعوته ، فهو لم يهاجر من أجل منفعة دنيوية ، وإنما هاجر من أجل تبليغ أمر ربه ، وإعلاء كلمته.

ويرى آخرون أن الضمير يعود إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، لأن الحديث عنه.

قال الآلوسى ما ملخصه : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) أى : وقال إبراهيم : إنى مهاجر ، أى : من قومي ، إلى ربي .. أى إلى الجهة التي أمرنى بأن أهاجر إليها (إِنَّهُ) ـ عزوجل ـ (هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره ... (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة ..

وقيل : الضمير في (وَقالَ) للوط ـ عليه‌السلام ـ ، وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض النعم التي أنعم بها على نبيه إبراهيم ، بعد أن هاجر من العراق إلى بلاد الشام لتبليغ رسالة ربه إلى الناس فقال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ.) ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٥٢.

٢٩

أى : ووهبنا لإبراهيم ـ بعد أن هاجر ومعه زوجه «سارة» وابن أخيه «لوط» ـ وهبنا له ابنه إسحاق ، ووهبنا لإسحاق يعقوب ، وجعلنا بفضلنا ورحمتنا ، في ذرية إبراهيم النبوة ، إذ من نسله جميع الأنبياء من بعده ، كما جعلنا في ذريته ـ أيضا ـ الكتب التي أنزلناها على الأنبياء من بعده ، كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن.

فالمراد بالكتاب هنا : الكتب السماوية التي أنزلها ـ سبحانه ـ على موسى وعيسى وداود ومحمد ـ صلوات الله عليه ـ ، وهم جميعا من نسل إبراهيم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما بال إسماعيل لم يذكر ، وذكر إسحاق ويعقوب؟

قلت : قد دل عليه في قوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وكفى الدليل لشهرة أمره ، وعلو قدره.

فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : قصد به جنس الكتاب ، حتى دخل تحته ما نزل على ذريته من الكتب الأربعة ، التي هي : التوراة ، والزبور ، والإنجيل ، والقرآن» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) بيان لنعمة أخرى أنعم بها ـ سبحانه ـ على نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

أى : وهبنا له الذرية الصالحة ، وجعلنا في ذريته النبوة والكتب السماوية ، وآتيناه أجره على أعماله الصالحة في الدنيا ، بأن رزقناه الزوجة الصالحة ، والذكر الحسن بعد وفاته.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين نعطيهم فيها أجزل العطاء وأوفاه.

وهكذا جمع الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه ، لنبيه إبراهيم ، خيرى الدنيا والآخرة ، جزاء إيمانه العميق ، وعمله الصالح ، ووفائه في تبليغ رسالة ربه.

وبمناسبة الحديث عن قصة إبراهيم مع قومه ، جاء بعد ذلك الحديث عن جانب من قصة لوط مع قومه. لوط ـ عليه‌السلام ـ الذي آمن بإبراهيم وهاجر معه إلى بلاد الشام ..

قال ـ تعالى ـ :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٥١.

٣٠

أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٣٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) .. منصوب بالعطف على إبراهيم في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) .. أو بفعل مضمر.

أى : واذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ نبينا لوطا ـ عليه‌السلام ـ وقت أن قال لقومه على سبيل الزجر والتوبيخ والإنكار لما هم عليه من فعل قبيح :

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) أى : إنكم لتفعلون الفعلة

٣١

البالغة أقصى دركات القبح والفحش ، والتي ما فعلها أحد قبلكم ، بل أنتم أول من ابتدعها ، وهي إتيان الذكور دون الإناث.

قال عمر بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.

وقال الوليد بن عبد الملك : لو لا أن الله ـ تعالى ـ قد قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.

وجاء قوله ـ عليه‌السلام ـ مؤكدا بجملة من المؤكدات ، لتسجيل هذه الفاحشة عليهم بأقوى أسلوب ، وبأنهم لم يسبقهم أحد إلى ارتكابها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ، وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ.) .. بيان لتلك الفاحشة التي كانوا يقترفونها ، والاستفهام للتأنيب والتقريع.

والسبيل : الطريق. والنادي : اسم جنس للمكان الذي يجتمع فيه الناس لأمر من الأمور ، أى : أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وتقطعون الطريق على المارة ، بأن تنتهبوا أموالهم ، أو بأن تكرهوهم إكراها على ارتكاب الفاحشة معهم ، أو بأن تعتدوا عليهم بأى صورة من الصور ، وفضلا عن كل ذلك فإنكم ترتكبون المنكرات في مجالسكم الخاصة ، وفي نواديكم التي تتلاقون فيها.

فأنت ترى أن نبيهم ـ عليه‌السلام ـ قد وصفهم بأوصاف ، كل صفة أقبح من سابقتها ، والباعث لهم على ارتكاب تلك المنكرات ، هو انتكاس فطرتهم ، وفساد نفوسهم ، وشذوذ شهواتهم.

فماذا كان جوابهم على نبيهم ـ عليه‌السلام ـ؟ لقد كان جوابهم في غاية التبجح والسفاهة ، وقد حكاه القرآن في قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

أى : فما كان جواب قوم لوط عليه ، إلا أن قالوا له على سبيل الاستخفاف بوعظه وزجره : ائتنا يا لوط بعذاب الله الذي تتوعدنا به ، إن كنت صادقا في دعواك أنك رسول ، وفي دعواك أن عذابا سينزل علينا ، بسبب أفعالنا هذه التي ألفناها وأحببناها.

وهكذا نرى أن هؤلاء المجرمين ، قد قابلوا نصح نبيهم تارة بالاستخفاف والاستهزاء كما هنا ، وتارة بالتهديد والوعيد ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (١).

__________________

(١) سورة النمل. الآية ٥٦.

٣٢

ولذا لجأ لوط ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه ، يلتمس منه النصرة والعون فقال : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ، أى : انصرني بأن تنزل عذابك على هؤلاء القوم المفسدين ، الذين مردوا على ارتكاب فواحش ، لم يسبقهم بها من أحد من العالمين.

وأجاب الله ـ تعالى ـ دعاء نبيه لوط ـ عليه‌السلام ـ ، وأرسل ـ سبحانه ـ ملائكته لنبيه إبراهيم ليبشروه بابنه إسحاق. قبل أن ينفذوا عذاب الله في قوم لوط ، قال ـ تعالى ـ :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أى : وحين جاء الملائكة إلى إبراهيم ليبشروه بابنه إسحاق : قالوا له : يا إبراهيم ، إنا مرسلون من ربك لإهلاك أهل هذه القرية وهي قرية سدوم التي يسكنها قوم لوط ، والسبب في ذلك (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) ، حيث أتوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد ، وقطعوا الطريق على الناس ، واقترفوا في مجالسهم المنكرات.

وهنا قال لهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بخشيته وشفقته : (إِنَّ فِيها لُوطاً) أى : إن في هذه القرية التي جئتم لإهلاكها لوطا ، وهو نبي من أنبياء الله الصالحين فكيف تهلكونها وهو معهم فيها؟ وهنا رد عليه الملائكة بما يزيل خشيته فقالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) من الأخيار ومن الأشرار ، ومن المؤمنين ومن الكافرين.

(لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أى : اطمئن يا إبراهيم فإن الله ـ تعالى ـ قد أمرنا أن ننجي لوطا وأن ننجي معه من الهلاك أهله المؤمنين ، إلا امرأته فستبقى مع المهلكين ، لأنها منهم ، بسبب خيانتها للوط ـ عليه‌السلام ـ حيث كانت تقر جرائم قومها ، ولا تعمل على إزالتها وإنكارها ، كما هو شأن الزوجات الصالحات.

والغابر : الباقي. يقال : غبر الشيء يغبر غبورا ، أى : بقي ، وقد يستعمل فيما مضى ـ أيضا ـ فيكون من الأضداد. ومنه قولهم : هذا الشيء حدث في الزمن الغابر. أى : الماضي.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال لوط ـ عليه‌السلام ـ بعد أن وصل إليه الملائكة لينفذوا قضاء الله ـ تعالى ـ في قومه ، فقال ـ عزوجل ـ : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً).

و «أن» هنا مزيدة لتأكيد المجيء. و «سىء بهم» أى : اعترته المساءة والأحزان بسبب مجيئهم ، لخوفه من اعتداء قومه عليهم.

٣٣

قال القرطبي : والذرع مصدر ذرع. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا ، على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق عن ذلك ، وضعف ومد عنقه. فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع ... وإنما ضاق ذرعه بهم ، لما رأى من جمالهم ، وما يعلمه من فسوق قومه ..» (١). أى : وحين جاءت الملائكة إلى لوط ـ عليه‌السلام ـ ورآهم ، ساءه وأحزنه مجيئهم ، لأنه كان لا يعرفهم ، ويعرف أن قومه قوم سوء ، فخشي أن يعتدى قومه عليهم. وهو لا يستطيع الدفاع عن هؤلاء الضيوف.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) : تعبير بليغ ، وتصوير بديع لنفاد حيلته ، واغتمام نفسه ، وعجزه عن وجود مخرج للمكروه الذي حل به. و «ذرعا» تمييز محول عن الفاعل ، أى : ضاق بأمرهم ذرعه.

ولاحظ الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ على لوط قلقه وخوفه ، فقالوا له على سبيل التبشير وإدخال الطمأنينة على نفسه ، يا لوط : (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) أى : لا تخف علينا من قومك ، ولا تحزن لمجيئنا إليك بتلك الصورة المفاجئة.

ثم أفصحوا له عن مهمتهم فقالوا : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ).

أى : إنا منجوك وأهلك المؤمنين من العذاب الذي ننزله بقومك ، إلا امرأتك فسيدركها العذاب مع قومك ، وستهلك مع الهالكين بسبب تواطئها معهم ، ورضاها بأفعالهم القبيحة.

ثم أخبروه بالكيفية التي ينزل بها العذاب على قومه فقالوا : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

والرجز : العذاب الذي يزعج المعذب به ويجعله في حالة اضطراب وهلع. يقال : ارتجز فلان ، إذا اضطرب وانزعج.

أى : إنا منزلون بأمر الله ـ تعالى ـ وإرادته ، على أهل هذه القرية ـ وهي قرية سدوم التي كان يسكنها قوم لوط ـ (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أى : عذابا شديدا كائنا من السماء ، بحيث لا يملكون دفعه أو النجاة منه ، بسبب فسوقهم عن أمر ربهم ، وخروجهم عن طاعته.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن حكمته قد اقتضت. أن يجعل آثار هؤلاء الظالمين باقية بعدهم ، لتكون عبرة وعظة لغيرهم فقال : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٧٤.

٣٤

أى : ولقد تركنا من هذه القرية بعد تدميرها ، علامة بينة ، وآية واضحة. تدل على هلاك أهلها ، حتى تكون عبرة لقوم يستعملون عقولهم في التدبر والتفكر.

قال ابن كثير : وذلك أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ اقتلع قراهم من قرار الأرض ، ثم رفعها إلى عنان السماء ، ثم قلبها عليهم ، وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود ، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ، وجعل مكانها. بحيرة خبيثة منتنة ، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد ، وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كما قال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

* * *

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة شعيب وهود وصالح ـ عليهم‌السلام ـ مع أقوامهم ، وكيف أن هؤلاء الأقوام قد كانت عاقبتهم خسرا ، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٨٧.

٣٥

وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٤٠)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) .. معطوف على مقدر محذوف ، لدلالة ما قبله عليه. ومدين : اسم للقبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ. وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى معان بين حدود الحجاز والشام.

وقد أرسل الله ـ تعالى ـ إليهم شعيبا ـ عليه‌السلام ـ ليأمرهم بعبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، ولينهاهم عن الرذائل التي كانت منتشرة فيهم ، والتي من أبرزها التطفيف في المكيال والميزان.

والمعنى : وكما أرسلنا نوحا إلى قومه ، وإبراهيم إلى قومه ، أرسلنا إلى أهل مدين ، رسولنا شعيبا ـ عليه‌السلام ـ.

(فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أى : فقال لهم ناصحا ومرشدا ، الكلمة التي قالها كل نبي لأمته : يا قوم اعبدوا الله ـ تعالى ـ وحده ، واتركوا ما أنتم عليه من شرك.

وقال لهم ـ أيضا : وارجوا النجاة من أهوال يوم القيامة ، بأن تستعدوا له بالإيمان والعمل الصالح ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، فإن الإفساد في الأرض ليس من شأن العقلاء ، وإنما هو من شأن الجهلاء الجاحدين لنعم الله ـ تعالى ـ. يقال : عثى فلان في الأرض يعثو ويعثى ـ كقال وتعب ـ ، إذا ارتكب أشد أنواع الفساد فيها.

فأنت ترى أن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ وهو خطيب الأنبياء ـ كما جاء في الحديث الشريف ، قد أمر قومه بإخلاص العبادة لله ، وبالعمل الصالح الذي ينفعهم في أخراهم ، ونهاهم عن الإفساد في الأرض ، فماذا كان موقفهم منه؟

كان موقفهم منه : التكذيب والإعراض ، كما قال ـ سبحانه ـ : (فَكَذَّبُوهُ) أى : فيما أمرهم به ، وفيما نهاهم عنه.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أى : فأهلكهم الله ـ تعالى ـ بسبب تكذيبهم لنبيهم بالرجفة ، وهي الزلزلة الشديدة. يقال : رجفت الأرض ، إذا اضطربت اضطرابا شديدا.

٣٦

ولا تعارض هنا بين قوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وبين قوله ـ سبحانه ـ في سورة هود : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) لأنه يجوز أن الله ـ تعالى ـ جعل لإهلاكهم سببين : الأول : أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ صاح بهم صيحة شديدة أذهلتهم ، ثم رجفت بهم الأرض فأهلكتهم. وبعضهم قال : إن الرجفة والصيحة بمعنى واحد.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) بيان لما آل إليه أمرهم بعد هلاكهم.

والمراد بدارهم : مساكنهم التي يسكنونها ، أو قريتهم التي يعيشون بها وقوله : (جاثِمِينَ) من الجثوم ، وهو للناس والطيور بمنزلة البروك للإبل. يقال : جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم ـ من باب ضرب ـ ، إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه.

أى : فأصبحوا في مساكنهم هامدين ميتين لا تحس لهم حركة ، ولا تسمع لهم ركزا.

ثم أشار ـ سبحانه ـ بعد ذلك إلى مصارع عاد وثمود فقال : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).

وعاد : هم قوم هود ـ عليه‌السلام ـ وكانوا يسكنون بالأحقاف في جنوب الجزيرة العربية ، بالقرب من حضرموت.

وثمود : هم قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ وكانت مساكنهم بشمال الجزيرة العربية ، وما زالت مساكنهم تعرف حتى الآن بقرى صالح.

أى : وأهلكنا عادا وثمود بسبب كفرهم وعنادهم ، كما أهلكنا غيرهم ، والحال أنه قد تبين لكم ـ يا أهل مكة ـ وظهر لكم بعض مساكنهم ، وأنتم تمرون عليهم في رحلتي الشتاء والصيف.

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) المقصود منه غرس العبرة والعظة في نفوس مشركي مكة ، عن طريق المشاهدة لآثار المهلكين ، فإن مما يحمل العقلاء على الاعتبار ، مشاهدة آثار التمزيق والتدمير ، بعد القوة والتمكين.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) السيئة. بسبب وسوسته وتسويله ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الحق ، وعن الطريق المستقيم.

(وَكانُوا) أى : عادا وثمود (مُسْتَبْصِرِينَ) أى : وكانت لهم عقول يستطيعون التمييز بها بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، وإنما استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغي على الرشد ، فأخذهم الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر.

٣٧

وقوله ـ تعالى ـ : (مُسْتَبْصِرِينَ) من الاستبصار ، بمعنى التمكن من تعقل الأمور ، وإدراك خيرها من شرها ، وحقها من باطلها.

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى ما حل بقارون وفرعون وهامان فقال : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أى : وأهلكنا ـ أيضا ـ قارون ، وهو الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم ، كما أهلكنا فرعون الذي قال لقومه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وهامان الذي كان وزيرا لفرعون وعونا له في الكفر والظلم والطغيان.

قال الآلوسى : وتقديم قارون ، لأن المقصود تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لقى من قومه لحسدهم له ، وقارون كان من قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ وقد لقى منه ما لقى. أو لأن حال قارون أوفق بحال عاد وثمود ، فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ، ولكنه لم يفده الاستبصار شيئا ، كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما جاءهم به موسى ـ عليه‌السلام ـ وموقفهم منه فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أى : جاءهم جميعا بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه.

(فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) أى : فاستكبر قارون وفرعون وهامان في الأرض. وأبوا أن يؤمنوا بموسى ، بل وصفوه بالسحر وبما هو برىء منه.

(وَما كانُوا سابِقِينَ) أى : وما كانوا بسبب استكبارهم وغرورهم هذا ، هاربين أو ناجين من قضائنا فيهم ، ومن إهلاكنا لهم.

فقوله : (سابِقِينَ) من السبق ، بمعنى التقدم على الغير. يقال فلان سبق طالبه ، إذا تقدم عليه دون أن يستطيع هذا الطالب إدراكه.

والمراد أن قارون وفرعون وهامان ، لم يستطيعوا ـ رغم قوتهم وغنائهم ـ أن يفلتوا من عقابنا ، بل أدركهم عذابنا إدراكا تاما فأبادهم وقضى عليهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن هؤلاء المكذبين ، ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ، فقال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ).

أى : فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط وشعيب وهود وصالح ، وكقارون وفرعون وهامان وأمثالهم : كلا من هؤلاء الظالمين أخذناه وأهلكناه بسبب ذنوبه التي أصر عليها دون أن يرجع عنها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٥٨.

٣٨

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أى : فمن هؤلاء الكافرين من أهلكناه ، بأن أرسلنا عليه ريحا شديدة رمته بالحصباء فأهلكته.

قال القرطبي : قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) يعنى قوم لوط. والحاصب ريح يأتى بالحصباء ، وهي الحصى الصغار. وتستعمل في كل عذاب (١).

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كما حدث لقوم صالح وقوم شعيب ـ عليهما‌السلام ـ.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) وهو قارون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه.

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أى : وما كان الله ـ تعالى ـ مريدا لظلمهم ، لأنه ـ سبحانه ـ اقتضت رحمته وحكمته ، أن لا يعذب أحدا بدون ذنب ارتكبه.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أى : ما ظلم الله ـ تعالى ـ هؤلاء المهلكين ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، وعرضوها للدمار ، بسبب إصرارهم على كفرهم ، واتباعهم للهوى والشيطان.

وبذلك نرى الآيات قد قصت على الناس مصارع الغابرين ، الذين كذبوا الرسل ، وحاربوا دعوة الحق ، ليكون في هذا القصص عبرة للمعتبرين ، وذكرى للمتذكرين.

ثم ضرب الله مثلا ، لمن يتخذ آلهة من دونه : وتوعد من يفعل ذلك بأشد أنواع العذاب ، فقال ـ تعالى ـ :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٤٤.

٣٩

والمثل والمثل : النظير والشبيه ، ثم أطلق المثل على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه ـ وهو الذي يضرب فيه ـ لمورده ـ وهو الذي ورد فيه أولا ـ ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ـ ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة ، إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة. وعلى هذا المعنى يحمل المثل هنا.

وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى ، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الحاضر ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل ، أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس.

والعنكبوت : حشرة معروفة ، تنسج لنفسها في الهواء بيتا رقيقا ضعيفا ، لا يغنى عنها شيئا ، وتطلق هذه الكلمة على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والغالب في استعمالها التأنيث. والواو والتاء زائدتان ، كما في لفظ طاغوت.

والمعنى : حال هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله ـ تعالى ـ أصناما يعبدونها ، ويرجون نفعها وشفاعتها ... كحال العنكبوت في اتخاذها بيتا ضعيفا مهلهلا ، لا ينفعها لا في الحر ولا في القر ، ولا يدفع عنها شيئا من الأذى.

فالمقصود من المثل تجهيل المشركين وتقريعهم ، حيث عبدوا من دون الله ـ تعالى ـ آلهة ، هي في ضعفها ووهنها تشبه بيت العنكبوت ، وأنهم لو كانوا من ذوى العلم لما عبدوا تلك الآلهة.

قال صاحب الكشاف : الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم ، وتولوه من دون الله ، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة. وهو نسج العنكبوت. ألا ترى إلى مقطع التشبيه ، وهو قوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ).

فإن قلت : ما معنى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟

قلت : معناه ، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ...» (١).

وقال الآلوسى : قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أى : لو كانوا يعلمون شيئا من الأشياء ، لعلموا أن هذا مثلهم ، أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن. و «لو» شرطية ، وجوابها محذوف ، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها ، وهو غير ظاهر» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٥٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٦٢.

٤٠