التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

ثم قال القرطبي : قلت : وهذه نعمة من الله ـ تعالى ـ على هذه الأمة من أكبر النعم ، ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

والصلاة من الله على العبد هي رحمته له ، وبركته لديه. وصلاة الملائكة : دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (١).

وقوله : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) متعلق بقوله : (يُصَلِّي) أى : يرحمكم ـ سبحانه ـ برحمته الواسعة ، ويسخر ملائكته للدعاء لكم ، لكي يخرجكم بفضله ومنته ، من ظلمات الضلال والكفر إلى النور والهداية والإيمان.

(وَكانَ) ـ سبحانه ـ وما زال (بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) رحمة عظيمة واسعة ، تشمل الدنيا والآخرة.

أما رحمته لهم في الدنيا فمن مظاهرها : هدايته إياهم إلى الصراط المستقيم.

وأما رحمته ـ سبحانه ـ لهم في الآخرة فمن مظاهرها : أنهم يأمنون من الفزع الأكبر.

وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته فقال : «أترون هذه تلقى ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا : لا. قال : فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها».

ثم بين ـ عزوجل ـ ما أعده للمؤمنين في الآخرة فقال : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ).

والتحية : أن يقول قائل للشخص : حياك الله ، أى : جعل لك حياة طيبة.

وهذه التحية للمؤمنين في الآخرة ، تشمل تحية الله ـ تعالى ـ لهم ، كما في قوله ـ سبحانه ـ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٢).

وتشمل تحية الملائكة لهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٣).

كما تشمل تحية بعضهم لبعض كما في قوله ـ عزوجل ـ : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٩٨.

(٢) سورة يس. الآية ٨٥.

(٣) سورة الرعد. الآية ٢٢ ، ٢٣.

(٤) سورة يونس. الآية ١٠.

٢٢١

أى : تحية المؤمنين يوم يلقون الله ـ تعالى في الآخرة ، أو عند قبض أرواحهم ، سلام وأمان لهم من كل ما يفزعهم أو يخيفهم أو يزعجهم ..

(وَأَعَدَّ لَهُمْ) ـ سبحانه ـ يوم القيامة (أَجْراً كَرِيماً) هو الجنة التي فيها مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدد له فيه وظيفته ، وأمره بتبشير المؤمنين بما يسرهم ، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٤٨)

وقوله : (وَمُبَشِّراً) من التبشير ، وهو الإخبار بالأمر السار لمن لا علم له بهذا الأمر.

وقوله : (وَنَذِيراً) من الإنذار ، وهو الإخبار بالأمر المخيف لكي يجتنب ويحذر.

والمعنى : يا أيها النبي الكريم (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) إلى الناس (شاهِداً) أى : شاهدا لمن آمن منهم بالإيمان ، ولمن كفر منهم بالكفر ، بعد أن بلغتهم رسالة ربك تبليغا تاما كاملا.

(وَمُبَشِّراً) أى : ومبشرا المؤمنين منهم برضا الله ـ تعالى ـ.

(وَنَذِيراً) أى : ومنذرا للكافرين بسوء العاقبة ، بسبب إعراضهم عن الحق الذي جئتهم به من عند الخالق ـ عزوجل ـ.

وقدم ـ سبحانه ـ التبشير على الإنذار ، تكريما للمؤمنين المبشرين ، وإشعارا بأن الأصل في رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التبشير ، فقد أرسله الله ـ تعالى ـ رحمة للعالمين.

وقوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ) أى : وأرسلناك ـ أيضا ـ داعيا للناس إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وهذه الدعوة لهم منك كائنة بإذنه ـ سبحانه ـ وبأمره وبتيسيره.

٢٢٢

فالتقييد بقوله (بِإِذْنِهِ) لبيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدع الناس إلى ما دعاهم إليه من وجوب إخلاص العبادة له ـ سبحانه ـ ، من تلقاء نفسه ، وإنما دعاهم إلى ذلك بأمر الله ـ تعالى ـ وإذنه ومشيئته ، وللإشارة إلى أن هذه الدعوة لا تؤتى ثمارها المرجوة منها إلا إذا صاحبها إذن الله ـ تعالى ـ للنفوس بقبولها.

وقوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) معطوف على ما قبله. والسراج : المصباح الذي يستضاء به في الظلمات.

أى : وأرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ بالدين الحق ، لتكون كالسراج المنير الذي يهتدى به الضالون ، ويخرجون بسببه من الظلمات إلى النور.

ووصف السراج بالإنارة ، لأن من المصابيح ما لا يضيء إذا لم يوجد به ما يضيئه من زيت أو ما يشبهه.

قال صاحب الكشاف : جلى الله ـ تعالى ـ بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلمات الشرك ، فاهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمد الله بنور نبوته نور البصائر ، كما يمد بنور السراج نور الأبصار. ووصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ـ أى : زيته ـ ودقت فتيلته .. (١).

وبعد أن وصف الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الصفات الكريمة ، اتبع ذلك بأمره بتبشير المؤمنين برضا الله عنهم ، وبنهيه عن طاعة الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.) .. أى : انظر ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى أحوال الناس وإلى موقفهم من دعوتك. وبشر المؤمنين منهم (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ) ـ تعالى ـ (فَضْلاً كَبِيراً) أى : عطاء كبيرا ، وأجرا عظيما ، ومنزلة سامية بين الأمم.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيا يشيرون به عليك من ترك الناس وما يعبدون ، أو من عدم بيان ما هم عليه من باطل وجهل ، بل اثبت على ما أنت عليه من حق ، وامض في تبليغ دعوتك دون أن تخشى أحدا إلا الله ـ تعالى ـ.

(وَدَعْ أَذاهُمْ) أى : ولا تبال بما ينزلونه بك من أذى ، بسبب دعوتك إياهم إلى ترك عبادة الأصنام والأوثان ، واصبر على ما يصيبك منهم حتى يحكم الله ـ تعالى ـ بحكمه العادل بينك وبينهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٤٧.

٢٢٣

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في كل أمورك (وَكَفى بِاللهِ) ـ تعالى ـ (وَكِيلاً) توكل إليه الأمور ، وترد إليه الشئون ..

هذا ، ومن الأحاديث النبوية التي اشتملت على بعض المعاني التي اشتملت عليها هذه الآيات ، ما رواه الإمام البخاري والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له : أخبرنى عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة؟ قال : والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) وحرزا للمؤمنين ، أنت عبدى ورسولي ، سميتك المتوكل ، لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله ـ تعالى ـ حتى يقيم به الملة العوجاء ، ويفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا (١).

ثم عادت السورة الكريمة ـ بعد هذا الحديث الجامع عن وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن فضله ـ إلى الحديث عن جانب من أحكام الزواج والطلاق ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٤٩)

والمراد بالنكاح هنا في قوله (إِذا نَكَحْتُمُ) العقد ، لأن الحديث في حكم المرأة التي تم طلاقها قبل الدخول بها.

وهذا الحكم شامل للمؤمنات ولغيرهن كالكتابيات ، إلا أن الآية الكريمة خصت المؤمنات بالذكر ، للتنبيه على أن من شأن المؤمن أن لا ينكح إلا مؤمنة تخيرا للنطفة.

والعدة : هي الشيء المعدود. وعدة المرأة معناها : المدة التي بانقضائها يحل لها الزواج من شخص آخر ، غير الذي كان زوجا لها.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) أى : إذا عقدتم عليهن عقد النكاح ، ولم يبق بينكم وبينهن سوى الدخول بهن.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٤٧.

٢٢٤

(ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أى : ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن.

قال الآلوسى : وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة ، إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق ، له دخل في إيجاب العدة ، لاحتمال الملاقاة والجماع سرا .. (١).

أى : أن الحكم الذي اشتملت عليه الآية الكريمة ، ثابت سواء تم الطلاق بعد عقد الزواج مباشرة ، أم بعده بمدة طويلة.

وفي التعبير عن الجماع بالمس كناية لطيفة. من شأنها أن تربى في الإنسان حسن الأدب ، وسلامة التعبير ، وتجنب النطق بالألفاظ التي تخدش الحياء.

وقوله : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) جواب إذا ، وبيان للحكم المترتب على طلاق المرأة قبل الدخول بها.

أى : إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن ، فلا عدة عليهن ، بل من حقهن أن يتزوجن بغيركم ، بعد طلاقكم لهن بدون التقيد بأية مدة من الزمان.

قال الجمل : وقوله : (تَعْتَدُّونَها) صفة لعدة. وتعتدونها تفتعلونها ، إما عن العد ، وإما عن الاعتداد ، أى ، تحسبونها أو تستوفون عددها ، من قولك : عد فلان الدراهم فاعتدها ، أى : فاستوفى عددها .. (٢).

فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن المطلقة قبل الدخول بها لا عدة عليها إطلاقا بنص الكتاب وإجماع الأمة ، أما المطلقة بعد الدخول بها فعليها العدة إجماعا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه ، بالنسبة لمن طلقت قبل الدخول بها.

وأصل المتعة والمتاع ، ما ينتفع به الإنسان من مال أو كسوة أو غير ذلك. ثم أطلقت المتعة على ما يعطيه الرجل للمرأة من مال أو غيره عند طلاقها منه ، لتنتفع به ، جبرا لخاطرها ، وتعويضا لها عما نالها بسبب هذا الفراق.

وأصل التسريح : أن ترعى الإبل السرح ، وهو شجر له ثمرة ، ثم أطلق على كل إرسال في الرعي ، ثم على كل إرسال وإخراج.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٤٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٤٣.

٢٢٥

والتسريح الجميل : هو الذي لا ضرر معه. وإنما معه الكلام الطيب ، والفعل الحسن.

والمعنى : إذا طلقتموهن قبل الدخول بهن ، فأعطوهن من المال ما يجبر خاطرهن ، وما يكون عوضا عن فراقهن .. وأطلقوا سراحهن ليستأنفن حياة جديدة مع غيركم ، وساعدوهن على ذلك إن استطعتم ، فإن من شأن العقلاء أن يعاشروا أزواجهن بالمعروف ، وأن يفارقوهن ـ أيضا ـ بالمعروف.

ومن العلماء من يرى أن المتعة واجبة للمرأة على الرجل في حال مفارقتها قبل الدخول بها ، لأن الآية الكريمة قد أمرت بذلك ، والأمر يقتضى الوجوب.

وقد بينا ذلك بالتفصيل عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وَمَتِّعُوهُنَّ ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١).

والملاحظ أن الآية الكريمة التي معنا ، قد أضافت حكما جديدا ، وهو أنه لا عدة على المطلقة قبل الدخول بها.

ومن مجموع هذه الآيات ، نرى أحكم التشريعات ، وأسمى التوجيهات.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من مظاهر فضله عليه. وتكريمه له حيث خصه بأمور تتعلق بالنكاح لم يخص بها أحدا غيره. فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة البقرة ص ٥٤٠ وما بعدها.

٢٢٦

خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

والمراد بالأجور في قوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ.) .. المهور التي دفعها صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأزواجه.

قال ابن كثير : يقول ـ تعالى ـ مخاطبا نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأن قد أحل له من النساء أزواجه اللائي أعطاهن مهورهن ، وهي الأجور هاهنا ، كما قاله مجاهد وغير واحد.

وقد كان مهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنسائه : اثنتي عشرة أوقية ونصف أوقية. فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبى سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشيّ ـ رحمه‌الله ـ بأربعمائة دينار ، وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبى خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية ، أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس وتزوجها.

وفي قوله : (آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) إشارة إلى أن إعطاء المهر كاملا للمرأة دون إبقاء شيء منه ، هو الأكمل والأفضل ، وأن تأخير شيء منه إنما هو أمر مستحدث ، لم يكن معروفا عند السلف الصالح.

٢٢٧

وأطلق على المهر أجر لمقابلته الاستمتاع الدائم بما يحل الاستمتاع به من الزوجة ، كما يقابل الأجر بالمنفعة.

وقوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) بيان لنوع آخر مما أحله الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : يا أيها النبي إنا أحللنا لك ـ بفضلنا ـ على سبيل التكريم والتشريف لك ، الاستمتاع بأزواجك الكائنات عندك ، واللاتي أعطيتهن مهورهن ـ كعائشة وحفصة وغيرهما ـ ، لأنهن قد اخترنك على الحياة الدنيا وزينتها.

كما أحللنا لك التمتع بما ملكت يمينك من النساء اللائي دخلن في ملكك عن طريق الغنيمة في الحرب ، كصفية بنت حيي بن أخطب ، وجويرية بنت الحارث.

ثم بين ـ سبحانه ـ نوعا ثالثا أحله ـ سبحانه ـ له فقال : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ).

أى : وأحللنا لك ـ أيضا ـ الزواج بالنساء اللائي تربطك بهن قرابة من جهة الأب ، أو قرابة من جهة الأم.

وقوله (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) إشارة إلى ما هو أفضل ، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر.

والمراد بالمعية هنا. الاشتراك في الهجرة. لا المصاحبة فيها ، لما في قوله ـ تعالى ـ حكاية عن ملكة سبأ : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قال بعض العلماء : وقد جاء في الآية الكريمة عدة قيود ، ما أريد بواحد منها إلا التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة.

منها : وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللاتى آتى أجورهن ، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة ، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شيء.

ومنها : أن تخصيص المملوكات بأن يكن من الفيء ، فإن المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحل وأطيب مما يشترى من الجلب ، لأن المملوكة عن طريق الغنيمة تكون معروفة الحال والنشأة.

ومنها : قيد الهجرة في قوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) ، ولا شك أن من هاجرت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بشرف زوجية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن عداها (١).

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ٢٢ للمرحوم الشيخ محمد على السائس.

٢٢٨

ثم بين ـ سبحانه ـ نوعا رابعا من النساء ، أحله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

والجملة الكريمة معطوفة على مفعول (أَحْلَلْنا).

وقد اشتملت هذه الجملة على شرطين ، الثاني منهما قيد للأول ، لأن هبتها نفسها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا توجب حلها له إلا بقبوله الزواج منها.

وقوله (يَسْتَنْكِحَها) بمعنى ينكحها. يقال : نكح واستنكح ، بمعنى عجل واستعجل : ويجوز أن يكون بمعنى طلب النكاح.

وقوله : (خالِصَةً) منصوب على الحال من فاعل (وَهَبَتْ) أى : حال كونها خالصة لك دون غيرك. أو نعت لمصدر مقدر. أى : هبة خالصة ..

والمعنى وأحللنا لك كذلك امرأة مؤمنة ، إن ملكتك نفسها بدون مهر وإن أنت قبلت ذلك عن طيب خاطر منك ، وهذا الإحلال إنما هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين ، لأن غيرك من المؤمنين لا تحل لهم من وهبت نفسها لواحد منهم إلا بولي ومهر.

وقد ذكروا ممن وهبن أنفسهن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم خولة بنت حكيم ، وأم شريك بنت جابر ، وليلى بنت الحطيم ..

وقد اختلف العلماء في كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تزوج بواحدة من هؤلاء الواهبات أنفسهن له أم لا.

والأرجح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتزوج بواحدة منهن ، وإنما زوجهن لغيره. ويشهد لذلك ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله ، إنى قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال : ما عندي إلا إزارى هذا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا. فقال : لا أجد شيئا. فقال : التمس ولو خاتما من حديد ، فقام الرجل فلم يجد شيئا. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل معك من القرآن شيء؟ قال نعم. سورة كذا وسورة كذا ـ لسور يسميها ـ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زوجتكها بما معك من القرآن (١).

__________________

(١) صحيح البخاري «كتاب النكاح» ج ٧ ص ١٧.

٢٢٩

وإلى هنا يتضح لنا أن المقصود بالإحلال في الآية الكريمة : الإذن العام والتوسعة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزواج من هذه الأصناف ، والإباحة له في أن يختار منهن من تقتضي الحكمة الزواج منها ، واختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمور تتعلق بالنكاح ، لا تحل لأحد سواه.

ولهذا قال ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) .. فإن هذه الجملة الكريمة معترضة ومقررة لمضمون ما قبلها ، من اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمور في النكاح لا تحل لغيره ، كحل زواجه ممن تهبه نفسها بدون مهر ، إن قبل ذلك العرض منها.

أى : هذا الذي أحللناه لك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو خاص بك ، أما بالنسبة لغيرك من المؤمنين فقد علمنا ما فرضناه عليهم في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه ، فلا يجوز لهم الإخلال بها ، كما لا يجوز لهم الاقتداء بك فيما خصك الله ـ تعالى ـ به ، على سبيل التوسعة عليك ، والتكريم لك ، فهم لا يجوز لهم التزوج إلا بعقد وشهود ومهر ، كما لا يجوز لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة.

وعلمنا ـ أيضا ـ ما فرضناه عليهم بالنسبة لما ملكت أيمانهم ، من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه ، لا ممن لا يجوز سبيه ، أو كان له عهد مع المسلمين.

وقوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متعلق بقوله : (أَحْلَلْنا) وهو راجع إلى جميع ما ذكر ، فيكون المعنى :

أحللنا من آتيت أجورهن من النساء ، والمملوكات ، والأقارب ، والواهبة نفسها لك ، لندفع عنك الضيق والحرج ، ولتتفرغ لتبليغ ما أمرناك بتبليغه.

وقيل : إنه متعلق بخالصة ، أو بعاملها ، فيكون المعنى : خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك بدون مهر ، لكي لا يكون عليك حرج في البحث عنه.

ويرى بعضهم أنه متعلق بمحذوف ، أى : بينا لك ما بينا من أحكام خاصة بك ، حتى تخرج من الحرج ، وحتى يكون منا تفعله هو بوحي منا وليس من عند نفسك.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أى : وكان الله ـ تعالى ـ وما زال واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين.

وقوله ـ عزوجل ـ (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) شروع في بيان جانب آخر من التوسعة التي وسعها ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معاشرته لنسائه ، بعد بيان ما أحله له من النساء.

٢٣٠

وقوله : (تُرْجِي) من الإرجاء بمعنى التأخير والتنحية ، وقرئ مهموزا وغير مهموز. تقول : أرجيت الأمر وأرجأته ، إذا أخرته ، ونحيته جانبا حتى يحين موعده المناسب.

وقوله : (وَتُؤْوِي) من الإيواء بمعنى الضم والتقريب ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) .. أى : ضمه إليه وقربه منه.

والضمير في قوله (مِنْهُنَ) يعود إلى زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللائي كن في عصمته.

قال القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، وأصح ما قيل فيها : التوسعة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترك القسم ، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته.

وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى ، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح ، عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقول : أو تهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله ـ تعالى ـ : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ.) ...

قالت : قلت : والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.

قال ابن العربي : هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعول عليه. والمعنى المراد : هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مخيرا في أزواجه ، إن شاء أن يقسم قسم ، وإن شاء أن يترك القسم ترك. لكنه كان يقسم من جهة نفسه ، تطييبا لنفوس أزواجه.

وقيل كان القسم واجبا عليه ثم نسخ الوجوب بهذه الآية.

وقيل : الآية في الطلاق. أى : تطلق من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء.

وقيل : المراد بالآية : الواهبات أنفسهن له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال القرطبي : وعلى كل معنى ، فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإباحة ، وما اخترناه أصح والله أعلم (١).

أى : لقد وسعنا عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ في معاشرة نسائك ، فأبحنا لك أن تؤخر المبيت عند من شئت منهن ، وأن تضم إليك من شئت منهن ، بدون التقيد بوجوب القسم بينهن ، كما هو الشأن بالنسبة لأتباعك حيث أوجبنا عليهم العدل بين الأزواج في البيتوتة وما يشبهها.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢١٤.

٢٣١

ومع هذا التكريم من الله ـ تعالى ـ لنبيه ، إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقسم بينهن إلى أن لحق بربه؟ عدا السيدة سودة ، فإنها قد وهبت ليلتها لعائشة ..

أخرج البخاري عن عائشة رضى الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية ترجى من تشاء منهن ..

فقيل لها : ما كنت تقولين؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذاك إلىّ فإنى لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ). زيادة في التوسعة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ترك الأمر لإرادته واختياره.

أى : أبحنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تقسم بين نسائك ، وأن تترك القسمة بينهن ، وأبحنا لك ـ أيضا ـ أن تعود إلى طلب من اجتنبت مضاجعتها إذ لا حرج عليك في كل ذلك. بعد أن فوضنا الأمر إلى مشيئتك واختيارك.

فالابتغاء بمعنى الطلب ، وعزلت بمعنى اجتنبت واعتزلت وابتعدت ، ومن شرطية ، وجوابها : (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) أى : فلا حرج ولا إثم عليك في عدم القسمة بين أزواجك ، وفي طلب إيواء من سبق لك أن اجتنبتها.

قال الشوكانى : والحاصل أن الله ـ سبحانه ـ فوض الأمر إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كي يصنع مع زوجاته ما شاء ، من تقديم وتأخير ، وعزل وإمساك ، وضم من أرجأ ، وإرجاء من ضم إليه ، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه ، ونفيا للحرج عنه (٢).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ، وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ) .. يعود إلى ما تضمنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأدنى بمعنى أقرب. و (تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) كناية عن تقبل ما يفعله معهن برضا وارتياح نفس. يقال قرت عين فلان ، إذا رأت ما ترتاح لرؤيته ، مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار والسكون ..

وقوله : (وَلا يَحْزَنَ) معطوف على (أَنْ تَقَرَّ) وقوله (وَيَرْضَيْنَ) معطوف عليه ـ أيضا ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٣٧.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٦ ص ٢٩٣.

٢٣٢

والمعنى ، ذلك الذي شرعناه لك من تفويض الأمر إليك في شأن أزواجك ، أقرب إلى رضا نفوسهن لما تصنعه معهن ، وأقرب إلى عدم حزنهن وإلى قبولهن لما تفعله معهن ، لأنهن يعلمن أن ما تفعله معهن إنما هو بوحي من الله ـ تعالى ـ وليس باجتهاد منك ، ومتى علمن ذلك طابت نفوسهن سواء سويت بينهن في القسم والبيتوتة والمجامعة ... أم لم تسو.

قال القرطبي : قال قتادة وغيره : أى : ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن ، إذ كان من عندنا ـ لا من عندك ـ ، لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرت أعينهن بذلك ورضين ..

وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن ، تطييبا لقلوبهن ويقول : «اللهم هذه قدرتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأزواجه ، ويندرج فيه جميع المؤمنين والمؤمنات وجمع بجمع الذكور للتغليب.

أى : والله ـ تعالى ـ يعلم ما في قلوبكم من حب وبغض ، ومن ميل إلى شيء ، ومن عدم الميل إلى شيء آخر.

قال صاحب الكشاف : وفي هذه الجملة وعيد لمن لم ترض منهن بما دبر الله ـ تعالى ـ من ذلك ، وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فيه طيب نفسه (٢).

(وَكانَ اللهُ) ـ تعالى ـ (عَلِيماً) بكل ما تظهره القلوب وما تسره (حَلِيماً) حيث لم يعاجل عباده بالعقوبة قبل الإرشاد والتعليم.

ثم كرم ـ سبحانه ـ أمهات المؤمنين بعد تكريمه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.) ...

أى : لا يحل لك ، ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تتزوج بنساء أخريات من بعد التسع اللائي في عصمتك اليوم ، لأنهن قد اخترنك وآثرنك على زينة الحياة الدنيا ، ورضين عن طيب نفس أن يعشن معك وتحت رعايتك ، مهما كان في حياتك معهن من شظف العيش ، والزهد في متع الدنيا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢١٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٥٢.

٢٣٣

وقوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) معطوف على ما قبله.

أى : لا يحل لك الزواج بعد اليوم بغير من هن في عصمتك ، كما لا يحل لك ـ أيضا ـ أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى سواها ، حتى ولو أعجبك جمال من تريد زواجها من غير نسائك اللائي في عصمتك عند نزول هذه الآية.

فالآية الكريمة قد اشتملت على حكمين : أحدهما : حرمة الزواج بغير التسع اللائي كن في عصمته عند نزولها. والثاني : حرمة تطليق واحدة منهن ، للزواج بأخرى بدلها.

وقوله : (بَعْدُ) ظرف مبنى على الضم لحذف المضاف اليه. أى : من بعد اليوم. و (أَزْواجٍ) مفعول به ، و (مِنْ) مزيدة لاستغراق الجنس. أى : ولا أن تبدل بهن أزواجا أخريات مهما كان شأن هؤلاء الأخريات.

وجملة : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في (تَبَدَّلَ). أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا أن تتبدل بهن أزواجا غيرهن في أية حالة من الأحوال ، حتى ولو في حال إعجابك بغيرهن ويصح أن تكون هذه الجملة شرطية ، وقد حذف جوابها لفهمه من الكلام ، ويكون المعنى : ولو أعجبك حسنهن لا يحل لك نكاحهن.

وقوله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من هذا الحكم. أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا استبدال غيرهن بهن ، ولكن يحل لك أن تضيف إليهن ما شئت من النساء اللائي تملكهن عن طريق السبي.

وهذا الذي سرنا عليه من أن الآية الكريمة في شأن أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي سار عليه جمهور المفسرين.

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم ـ أن هذه الآية الكريمة نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضا الله عنهن على حسن صنيعهن ، في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم ، فلما اخترن رسول الله ، كان جزاؤهن أن قصره عليهن ، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن ، إلا الإماء والسرائر ، فلا حجر عليه فيهن.

ثم إنه ـ سبحانه ـ رفع عنه الحجر في ذلك ، ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، ولكنه لم يقع منه بعد ذلك زواج لغيرهن ، لتكون المنة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهن. روى الإمام

٢٣٤

أحمد عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل الله له النساء (١).

ومن العلماء من يرى أن قوله ـ تعالى ـ (مِنْ بَعْدُ) المراد به : من بعد من أحللنا لك الزواج بهن ، وهن الأصناف الأربعة اللائي سبق الحديث عنهن في قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ، وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ) ...

وهذا الرأى الثاني وإن كان أشمل من سابقه ، إلا أننا نرجح أن الآية الكريمة مسوقة لتكريم أمهات المؤمنين اللائي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها.

هذا ، والنساء التسع اللائي حرم الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزيادة عليهن ، والاستبدال بهن ، هن : عائشة بنت أبى بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبى أمية ، وصفية بنت حيي بن أخطب ، وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً).

أى : وكان الله ـ تعالى ـ وما زال ، مطلعا على كل شيء من أحوالكم ـ أيها الناس ـ فاحذروا أن تتجاوزوا ما حده الله ـ تعالى ـ لكم ، لأن هذا التجاوز يؤدى إلى عدم رضا الله ـ سبحانه ـ عنكم.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد ذكرت ألوانا متعددة من مظاهر تكريم الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن توسعته عليه في شأن أزواجه ، وفي شأن ما أحله له من عدم التقيد في القسم بينهن ، وفي تقديم أو تأخير من شاء منهن ..

كما أنها قد كرمت أمهات المؤمنين تكريما عظيما. لاختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها.

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من التشريعات الحكيمة ، والآداب القويمة. التي تتعلق بدخول بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبحقوق أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وبعد مماته ، وبوجوب احترامه وتوقيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١ ، ٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٣٨.

٢٣٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٥٤)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ.) .. روايات متعددة منها ، ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال : وافقت ربي في ثلاث. فقلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت : يا رسول الله ، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو حجبتهن ، فأنزل الله آية الحجاب. وقلت لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فنزل كذلك.

وروى البخاري عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام ، فلما قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام معه من قام ، وقعد ثلاثة نفر. فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ ؛ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ.) .. الآية.

قال ابن كثير : وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت

٢٣٦

جحش : التي تولى الله ـ تعالى ـ تزويجها بنفسه ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ، في قول قتادة والواقديّ وغيرهما (١).

والمراد ببيوت النبي : المساكن التي أعدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسكنى أزواجه.

والاستثناء في قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) استثناء مفرغ من أعم الأحوال.

وقوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ). حال من ضمير (تَدْخُلُوا) و (إِناهُ) أى : نضجه وبلوغه الحد الذي يؤكل معه. يقال : أنى الطعام يأنى أنيا وإنى ـ كقلى يقلى ـ إذا نضج وكان معدا للأكل.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، لا تدخلوا بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال من الأحوال ، إلا في حال الإذن لكم بدخولها من أجل حضور طعام تدعون إلى تناوله ، وليكن حضوركم في الوقت المناسب لتناوله ، لا قبل ذلك بأن تدخلوا قبل إعداده بفترة طويلة ، منتظرين نضجه وتقديمه إليكم للأكل منه.

قالوا : وكان من عادة بعضهم في الجاهلية أنهم يلجون البيوت بدون استئذان ، فإذا وجدوا طعاما يعد ، انتظروا حتى ينضج ليأكلوا منه.

فالنهي في الآية الكريمة مخصوص بمن دخل من غير دعوة ، وبمن دخل بدعوة ولكنه مكث منتظرا للطعام حتى ينضج ، دون أن تكون هناك حاجة لهذا الانتظار. أما إذا كان الدخول بدعوة أو لحضور طعام بدون انتظار مقصود لوقت نضجه ، فلا يتناوله النهى.

قال الآلوسى : والآية على ما ذهب إليه جمع من المفسرين ، خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، فهي مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل. فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة ، وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهى عن الدخول بإذن لغير طعام ، ولا من الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا) استدراك على ما فهم من النهى عن الدخول بغير إذن ، وفيه إشعار بأن الإذن متضمن معنى الدعوة.

أى : لا تدخلوا بدون إذن ، فإذا أذن لكم ودعيتم إلى الطعام فادخلوا لتناوله وقوله

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٤٠ ـ طبعة دار الشعب.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٧٠.

٢٣٧

ـ تعالى ـ (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) بيان للون آخر من ألوان الآداب الحكيمة التي شرعها الإسلام في تناول الطعام عند الغير.

أى : إذا دعيتم لحضور طعام في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فادخلوا ، فإذا ما انتهيتم من طعامكم عنده ، فتفرقوا ولا تمكثوا في البيت مستأنسين لحديث بعضكم مع بعض ، أو لحديثكم مع أهل البيت.

فقوله (مُسْتَأْنِسِينَ) مأخوذ من الأنس بمعنى السرور والارتياح للشيء. تقول : أنست ، لحديث فلان ، إذا سررت له ، وفرحت به.

وأطلق ـ سبحانه ـ نفى الاستئناس للحديث ، من غير بيان صاحب الحديث ، للإشعار بأن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ، مادام ليس هناك من حاجة إلى هذا المكث. وهذا أدب عام لجميع المسلمين.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) يعود إلى الانتظار والاستئناس للحديث ، والدخول بغير إذن. والجملة بمثابة التعليل لما قبلها.

أى : إن ذلكم المذكور كان يؤذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل الحزن على قلبه ، لأنه يتنافى مع الأدب الإسلامى الحكيم ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستحيى أن يصرح لكم بذلك ، لسمو خلقه ، وكمال أدبه ، كما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستحيى أن يقول لكم كلاما تدركون منه أنه يريد انصرافكم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) أى : والله ـ تعالى ـ لا يستحيى من إظهار الحق ومن بيانه ، بل من شأنه ـ سبحانه ـ أن يقول الحق ، ولا يسكت عن ذلك.

وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد منعه حياؤه من أن يقول قولا تفهمون منه ضجره من بقائكم في بيته بعد تناول طعامكم عنده .. فإن الله ـ تعالى ـ وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق في هذه الأمور وفي غيرها ، حتى تتأدبوا بأدب دينه القويم. ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض الآداب التي يجب عليهم أن يلتزموها مع نساء نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ..

أى : وإذا طلبتم ـ أيها المؤمنون ـ من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا يتمتع به سواء أكان هذا الشيء حسيا كالطعام أم معنويا كمعرفة بعض الأحكام الشرعية .. إذا سألتموهن شيئا من ذلك فليكن سؤالكم لهن من وراء حجاب ساتر بينكم وبينهن ..

لأن سؤالكم إياهن بهذه الطريقة ، أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، وأبعد عن الوقوع في

٢٣٨

الهواجس الشيطانية التي قد تتولد عن مشاهدتكم لهن ، ومشاهدتهن لكم ..

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

أى : وما صح وما استقام لكم ـ أيها المؤمنون ـ أن تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأى لون من ألوان الأذى ، سواء أكان بدخول بيوته بغير إذنه ، أم بحضوركم إليها انتظارا لنضج الطعام أم بجلوسكم بعد الأكل بدون مقتض لذلك ، أم بغير ذلك مما يتأذى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

كما أنه لا يصح لكم بحال من الأحوال أن تنكحوا أزواجه من بعده ، أى : من بعد وفاته.

(إِنَّ ذلِكُمْ) أى : إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده (كانَ عِنْدَ اللهِ) ـ تعالى ـ ذنبا (عَظِيماً) وإثما جسيما ، لا يقادر قدره.

ثم حذرهم ـ سبحانه ـ من مخالفة أمره ، بأن بين لهم بأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء ، من أمرهم ، فقال : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) بأن تظهروه على ألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) بأن تضمروه في قلوبكم ، فإنه في الحالين لا يعزب عن علمنا ، وسنحاسبكم عليه ، (فَإِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) بحيث لا يخفى عليه شيء ، في الأرض ولا في السماء.

هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة التي تسمى بآية الحجاب ، جملة من الأحكام والآداب منها :

١ ـ وجوب الاستئذان عند دخول البيوت لتناول طعام ، ووجوب الخروج بعد تناوله إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو للبقاء ، كما أن من الواجب الحضور إلى الطعام في الوقت المناسب له ، وليس قبله انتظارا لنضجه وتقديمه.

٢ ـ حرمة الاختلاط بين الرجال والنساء سواء أكان ذلك في الطعام أم في غيره ، فقد أمر ـ سبحانه ـ المؤمنين ، إذا سألوا أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب ، وعلل ذلك بأن سؤالهن بهذه الطريقة ، يؤدى إلى طهارة القلوب ، وعفة النفوس ، والبعد عن الريبة وخواطر السوء ..

وحكم نساء المؤمنين في ذلك كحكم أمهات المؤمنين ، لأن قوله ـ سبحانه ـ (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) علة عامة تدل على تعميم الحكم ، إذ جميع الرجال والنساء في كل زمان ومكان في حاجة إلى ما هو أطهر للقلوب ، وأعف للنفوس ..

قال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من العقلاء ، إن غير ازواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حاجة

٢٣٩

بهن إلى أطهرية قلوبهن ، وقلوب الرجال من الريبة منهن ..

فالجملة الكريمة فيها الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأمهات المؤمنين ، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن ، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه .. (١).

٣ ـ كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل الأجنبى أن يصافح امرأة أجنبية عنه. ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها.

والدليل على ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبت عنه أن قال : «إنى لا أصافح النساء» والله ـ تعالى ـ يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) .. فيلزمنا أن لا نصافح النساء الأجنبيات اقتداء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

٤ ـ تكريم الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفاعه عنه ، وإلزام المؤمنين بالعمل على كل ما يرضيه ولا يؤذيه ، وبعدم نكاح أزواجه من بعده أبدا ...

ثم استثنت السورة الكريمة بعض الأصناف الذين يجوز للمرأة أن تظهر أمامهم بدون حجاب ، وبينت سمو منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكدت التحذير من إيذائه ، ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرشد أزواجه وبناته ونساء المؤمنين إلى وجوب الاحتشام في ملابسهن .. فقال ـ تعالى ـ :

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ

__________________

(١) راجع «أضواء البيان» ج ٦ ص ٥٨٤ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٢) راجع تفسير أضواء البيان ج ٦ ص ٦٠٢.

٢٤٠