التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

وفعل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما فعلت عائشة (١).

وقال الإمام ابن كثير ـ بعد أن ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة وحفصة ، وأم حبيبة وسودة ، وأم سلمة.

وأربع من غير قريش ـ وهن : صفية بنت حيي النضرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة ـ رضى الله عنهن.

وقال الإمام الآلوسى : فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، مدحهن الله ـ تعالى ـ على ذلك ، إذ قال ـ سبحانه ـ : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) .. فقصره الله ـ تعالى ـ عليهن ، وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة» (٢).

والمعنى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) اللائي في عصمتك (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها).

أى : إن كنتن تردن سعة الحياة الدنيا وبهجتها وزخارفها ومتعها من مأكل ومشرب وملبس ، فوق ما أنتن فيه عندي من معيشة مقصورة على ضروريات الحياة ، وقائمة على الزهد في زينتها.

إن كنتن تردن ذلك : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).

قال الجمل : وقوله : (فَتَعالَيْنَ) فعل أمر مبنى على السكون ، ونون النسوة فاعل. وأصل هذا الأمر أن يكون الآمر أعلى مكانا من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ، ثم كثر استعماله حتى صار معناه أقبل. وهو هنا كناية عن الاختيار والإرادة. والعلاقة هي أن المخبر يدنو إلى من يخبره (٣).

وقوله : (أُمَتِّعْكُنَ) مجزوم في جواب الأمر. والمتعة : ما يعطيه الرجل للمرأة التي طلقها ، زيادة على الحقوق المقررة لها شرعا ، وقد جعلها ـ سبحانه ـ حقا على المحسنين الذين يبغون رضا الله ـ تعالى ـ وحسن ثوابه.

وقوله (وَأُسَرِّحْكُنَ) معطوف على ما قبله ، والتسريح : إرسال الشيء ، ومنه تسريح الشعر ليخلص بعضه من بعض. ويقال : سرح فلان الماشية ، إذا أرسلها لترعى.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٦٣.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٨١.

(٣) حاشية الجمل ج ٣ ص ٤٣٣.

٢٠١

والمراد به هنا : طلاق الرجل للمرأة ، وتركها لعصمته.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ، ولا تستطعن الصبر على المعيشة معى ، فلكن أن تخترن مفارقتي ، وإنى على استعداد أن أعطيكن المتعة التي ترضينها ، وأن أطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ، ولا ظلم معه ، لأنى سأعطيكن ما هو فوق حقكن.

(وَإِنْ كُنْتُنَ) لا تردن ذلك ، وإنما (تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ).

أى : وإنما تردن ثواب الله ـ تعالى ـ والبقاء مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيثار شظف الحياة على زينتها ، وإيثار ثواب الدار الآخرة على متع الحياة الدنيا.

إن كنتن تردن ذلك فاعلمن أن (اللهَ) ـ تعالى ـ (أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) ، بسبب إيمانهن وإحسانهن (أَجْراً عَظِيماً) لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ.

وبهذا التأديب الحكيم ، والإرشاد القويم ، أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤدب نساءه ، وأن يرشدهن إلى ما فيه سعادتهن ، وأن يترك لهن حرية الاختيار.

ثم وجه ـ سبحانه ـ الخطاب إلى أمهات المؤمنين ، فأدبهن أكمل تأديب وأمرهن بالتزام الفضائل ، وباجتناب الرذائل ، لأنهن القدوة لغيرهن من النساء ، ولأنهن في بيوتهن ينزل الوحى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ

٢٠٢

الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)(٣٤)

فقوله ـ سبحانه ـ (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) .. نداء من الله تعالى ـ لهن ، على سبيل الوعظ والإرشاد والتأديب ، والعناية بشأنهن لأنهن القدوة لغيرهن ، والفاحشة : ما قبح من الأقوال والأفعال.

والمعنى : يا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يأت منكن بمعصية ظاهرة القبح ، يضاعف الله ـ تعالى ـ لها العقاب ضعفين ، لأن المعصية من رفيع الشأن تكون أشد قبحا ، وأعظم جرما.

قال صاحب الكشاف : وإنما ضوعف عذابهن ، لأن ما قبح من سائر النساء ، كان أقبح منهن وأقبح ، لأن زيادة قبح المعصية ، تتبع زيادة الفضل والمرتبة .. وليس لأحد من النساء ، مثل فضل نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا على أحد منهن مثل ما لله عليهن من النعمة .. ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم : أشد منه للعاصي الجاهل ، لأن المعصية من العالم أقبح (١).

وقد روى عن زين العابدين بن على بن الحسين ـ رضى الله عنهم ـ أنه قال له رجل : إنكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب ، وقال : نحن أحرى أن يجرى فينا ، ما أجرى الله ـ تعالى ـ على نساء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن لمسيئنا ضعفين من العذاب ، ولمحسننا ضعفين من الأجر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) .. جملة شرطية. والجملة الشرطية لا تقتضي وقوع الشرط ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) .. وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان أن منزلتهن ـ رضى الله عنهن ـ لا تمنع من وقوع العذاب بهن في حالة ارتكابهن لما نهى الله ـ تعالى ـ عنه ، فقال : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٣٦.

٢٠٣

اللهِ يَسِيراً) أى : وكان ذلك التضعيف للعذاب لهن ، يسيرا وهينا على الله ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يصعب عليه شيء.

هذا هو الجزاء في حالة ارتكابهن ـ على سبيل الفرض ـ لما نهى الله ـ تعالى ـ عنه ، أما في حالة طاعتهن ، فقد بين ـ سبحانه ـ جزاءهن بقوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ ، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً).

والقنوت : ملازمة الطاعة لله ـ تعالى ـ ، والخضوع والخشوع لذاته.

أى : ومن يقنت منكن ـ يا نساء النبي ـ لله ـ تعالى ـ ، ويلازم طاعته ، ويحرص على مرضاة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعمل عملا صالحا.

من يفعل ذلك منكن ، نؤتها أجرها الذي تستحقه مضاعفا ، فضلا منا وكرما ، (وَأَعْتَدْنا لَها) أى : وهيأنا لها زيادة على ذلك (رِزْقاً كَرِيماً) لا يعلم مقداره إلا الله ـ تعالى ـ.

وهكذا نرى أن الله ـ تعالى ـ قد ميز أمهات المؤمنين ، فجعل حسنتهن كحسنتين لغيرهن ، كما جعل سيئتهن بمقدار سيئتين لغيرهن ـ أيضا ـ وذلك لعظم مكانتهن ، ومشاهدتهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يشاهده غيرهن ، من سلوك كريم ، وتوجيه حكيم.

ثم وجه ـ سبحانه ـ إليهن نداء ثانيا فقال : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ).

أى : يا نساء النبي ، لقد أعطاكن الله ـ تعالى ـ من الفضل ومن سمو المنزلة ما لم يعط غيركن ، فأنتن في مكان القدوة لسائر النساء ، وهذا الفضل كائن لكن إن اتقيتن الله ـ تعالى ـ وصنتن أنفسكن عن كل ما نهاكن ـ سبحانه ـ عنه.

قال صاحب الكشاف : أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه. ومعنى قوله (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) : لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء. أى : إذا استقصيت أمة النساء جماعة جماعة ، لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة (١).

وجواب الشرط في قوله (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) محذوف لدلالة ما قبله عليه. أى : إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء.

قال الآلوسى : قوله (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) شرط لنفى المثلية وفضلهن على النساء ، وجوابه

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٣٦.

٢٠٤

محذوف دل عليه المذكور .. والمفعول محذوف. أى : إن اتقيتن مخالفة حكم الله ـ تعالى ـ ورضا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك. والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن ، بمنزلة الخروج من التقوى (١).

فالمقصود بالجملة الكريمة بيان أن ما وصلن إليه من منزلة كريمة ، هو بفضل تقواهن وخشيتهن لله ـ تعالى ـ وليس بفضل شيء آخر.

ثم نهاهن ـ سبحانه ـ عن النطق بالكلام الذي يطمع فيهن من في قلبه نفاق وفجور فقال : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).

أى : فلا ترققن الكلام ، ولا تنطقن به بطريقة لينة متكسرة تثير شهوة الرجال ، وتجعل مريض القلب يطمع في النطق بالسوء معكن فإن من محاسن خصال المرأة أن تنزه خطابها عن ذلك ، لغير زوجها من الرجال.

وهكذا يحذر الله ـ تعالى ـ أمهات المؤمنين ـ وهن الطاهرات المطهرات ـ عن الخضوع بالقول ، حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيرهن في كل زمان ومكان فإن مخاطبة المرأة ـ لغير زوجها من الرجال ـ بطريقة لينة مثيرة للشهوات والغرائز ، تؤدى إلى فساد كبير ، وتطمع من لا خلاق لهم فيها.

ثم أرشدهن ـ سبحانه ـ إلى القول الذي يرضيه فقال : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

أى : اتركن الكلام بطريقة تطمع الذي في قلبه مرض فيكن ، وقلن قولا حسنا محمودا ، وانطقن به بطريقة طبيعية ، بعيدة عن كل ريبة أو انحراف عن الحق والخلق الكريم.

ثم أمرهن ـ سبحانه ـ بعد ذلك بالاستقرار في بيوتهن ، وعدم الخروج منها إلا لحاجة شرعية فقال (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ).

قال القرطبي ما ملخصه : قوله (وَقَرْنَ) قرأه الجمهور ـ بكسر القاف ـ من القرار تقول : قررت بالمكان ـ بفتح الراء ـ أقر ـ بكسر القاف ـ إذا نزلت فيه ـ والأصل : اقررن ـ بكسر الراء ـ فحذفت الراء الأولى تخفيفا .. ونقلوا حركاتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف .. فصارت الكلمة (قَرْنَ) ـ بكسر القاف ـ.

وقرأ عاصم ونافع وقرن ـ بفتح القاف ـ من قررت في المكان ـ بكسر الراء ـ إذا أقمت فيه .. والأصل اقررن ـ بفتح الراء ـ فحذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٥.

٢٠٥

وألقيت حركتها على القاف .. فتقول : (قَرْنَ) ـ بالفتح للقاف ـ (١).

والمعنى : الزمن يا نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيوتكن ، ولا تخرجن منها إلا لحاجة مشروعة ، ومثلهن في ذلك جميع النساء المسلمات ، لأن الخطاب لهن في مثل هذه الأمور ، هو خطاب لغيرهن من النساء المؤمنات من باب اولى ، وإنما خاطب ـ سبحانه ـ أمهات المؤمنين على سبيل التشريف ، واقتداء غيرهن بهن.

قال بعض العلماء : والحكمة في هذا الأمر : أن ينصرفن إلى رعاية شئون بيوتهن ، وتوفير وسائل الحياة المنزلية التي هي من خصائصهن ، ولا يحسنها الرجال ، وإلى تربية الأولاد في عهد الطفولة وهي من شأنهن. وقد جرت السنة الإلهية بأن أمر الزوجين قسمة بينهما ، فللرجال أعمال من خصائصهم لا يحسنها النساء ، وللنساء أعمال من خصائصهن لا يحسنها الرجال ، فإذا تعدى أحد الفريقين عمله ، اختل النظام في البيت والمعيشة (٢).

وقال صاحب الظلال ما ملخصه : والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله ـ تعالى ـ ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه السليم ، ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها ، أوجب على الرجل النفقة ، وجعلها فريضة ، كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ، ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب ، وما تهيء به للمثابة نظامها وعطرها وبشاشتها.

فالأم المكدودة بالعمل وبمقتضياته وبمواعيده .. لا يمكن أن تهيء للبيت جوه وعطره ، ولا يمكن أن تهيء للطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها.

إن خروج المرأة للعمل كارثة على البيت قد تبيحها الضرورة ، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها ، فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول ، في عصور الانتكاس والشرور والضلال (٣).

وهذه الجملة الكريمة ليس المقصود بها ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقا وإنما المقصود بها أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن ، ولا يخرجن إلا لحاجة مشروعة ، كأداء الصلاة في المسجد ، وكأداء فريضة الحج وكزيارة الوالدين والأقارب ، وكقضاء مصالحهن التي لا تقضى إلا بهن .. بشرط أن يكون خروجهن مصحوبا بالتستر والاحتشام وعدم التبذل.

ولذا قال ـ سبحانه ـ بعد هذا الأمر ، (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٧٨.

(٢) صفوة البيان في تفسير القرآن ج ٢ ص ١٨٣. لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

(٣) في ظلال القرآن ج ٢٢ ص ٨٣.

٢٠٦

وقوله : (تَبَرَّجْنَ) مأخوذ من البرج ـ بفتح الباء والراء ـ وهو سعة العين وحسنها ، ومنه قولهم : سفينة برجاء ، أى : متسعة ولا غطاء عليها.

والمراد به هنا : إظهار ما ينبغي ستره من جسد المرأة ، مع التكلف والتصنع في ذلك.

والجاهلية الأولى ، بمعنى المتقدمة ، إذ يقال لكل متقدم ومتقدمة : أول وأولى.

أو المراد بها : الجاهلية الجهلاء التي كانت ترتكب فيها الفواحش بدون تحرج.

وقد فسروها بتفسيرات متعددة ، منها : قول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتمشى بين يدي الرجال ، فذلك تبرج الجاهلية.

ومنها قول قتادة : كانت المرأة في الجاهلية تمشى مشية فيها تكسر.

ومنها قول مقاتل : والتبرج : أنها تلقى الخمار على رأسها ، ولا تشده فيواري قلائدها وعنقها.

ويبدو لنا أن التبرج المنهي عنه في الآية الكريمة ، يشمل كل ذلك ، كما يشمل كل فعل تفعله المرأة ، ويكون هذا الفعل متنافيا مع آداب الإسلام وتشريعاته.

والمعنى : الزمن يا نساء النبي بيوتكن ، فلا تخرجن إلا لحاجة مشروعة ، وإذا خرجتن فاخرجن في لباس الحشمة والوقار ، ولا تبدى إحداكن شيئا أمرها الله ـ تعالى ـ بستره وإخفائه ، واحذرن التشبيه بنساء أهل الجاهلية الأولى ، حيث كن يفعلن ما يثير شهوة الرجال ، ويلفت أنظارهم إليهن.

ثم أتبع ـ سبحانه ـ هذا النهى بما يجعلهن على صلة طيبة بخالقهن ـ عزوجل ـ فقال : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أى : داومن على إقامتها في أوقاتها بخشوع وإخلاص. (وَآتِينَ الزَّكاةَ) التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليكن. وخص ـ سبحانه ـ هاتين الفريضتين بالذكر من بين سائر الفرائض ، لأنهما أساس العبادات البدنية والمالية.

(وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى ؛ في كل ما تأتين وتتركن ، لا سيما فيما أمرتن به ، ونهيتن عنه.

وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) تعليل لما أمرن به من طاعات ، ولما نهين عنه من سيئات.

والرجس في الأصل : يطلق على كل شيء مستقذر. وأريد به هنا : الذنوب والآثام وما يشبه ذلك من النقائص والأدناس.

وقوله (أَهْلَ الْبَيْتِ) منصوب على النداء ، أو على المدح. ويدخل في أهل البيت هنا

٢٠٧

دخولا أوليا : نساؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة سياق الآيات.

أى : إنما يريد الله ـ تعالى ـ بتلك الأوامر التي أمركن بها ، وبتلك النواهي التي نهاكن عنها ، أن يذهب عنكن الآثام والذنوب والنقائص ، وأن يطهركن من كل ذلك تطهيرا تاما كاملا.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ..). هذا نص في دخول أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل البيت ها هنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ..

وقد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ، فقد روى الإمام أحمد بسنده ـ عن أنس بن مالك قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول : الصلاة يا أهل البيت : ثم يتلو هذه الآية ..» (١).

وقال بعض العلماء : والتحقيق ـ إن شاء الله ـ أنهن داخلات في الآية ، بدليل السياق ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت ..

ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت ، قوله ـ تعالى ـ في زوجة إبراهيم : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ).

وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية ، فهو أحاديث جاءت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في على وفاطمة والحسن والحسين ـ رضى الله عنهم ـ : «إنهم أهل البيت» ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.

وبما ذكرنا تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعلى وفاطمة والحسن والحسين.

فإن قيل : الضمير في قوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) وفي قوله : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ضمير الذكور ، فلو كان المراد أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقيل ليذهب عنكن ويطهركن؟.

فالجواب : ما ذكرناه من أن الآية تشملهن وتشمل فاطمة وعلى والحسن والحسين ، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها ..

ومن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، أن زوجة الرجل يطلق عليها أهل ،

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٠٦ فقد ساق بضعة أحاديث في هذا المعنى.

٢٠٨

وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله ـ تعالى ـ في موسى (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) وقوله (سَآتِيكُمْ) والمخاطب امرأته كما قاله غير واحد ..

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه التوجيهات الحكيمة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) ...

أى : واذكرن في أنفسكن ذكرا متصلا ، وذكّرن غيركن على سبيل الإرشاد ، بما يتلى في بيوتكن من آيات الله البينات الجامعة بين كونها معجزات دالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبين كونها مشتملة على فنون الحكم والآداب والمواعظ ..

ويصح أن يكون المراد بالآيات : القرآن الكريم ، وبالحكمة : أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفعاله وتقريراته ..

وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنهن ـ وقد خصهن الله ـ تعالى ـ بجعل بيوتهن موطنا لنزول القرآن ، ولنزول الحكمة ـ أحق بهذا التذكير ، وبالعمل الصالح من غيرهن.

(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أى : لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ، وقد أنزل عليكم ما فيه صلاح أموركم في الدنيا والآخرة.

وبعد هذه التوجيهات الحكيمة لأمهات المؤمنين ، ساق ـ سبحانه ـ توجيها جامعا لأمهات الفضائل ، وبشر المتصفين بهذه الفضائل بالمغفرة والأجر العظيم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

__________________

(١) أضواء البيان ج ٦ ص ٥٧٧ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى ـ رحمه‌الله ـ.

٢٠٩

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ، عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت : فلم يرعني منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم إلا نداؤه على المنبر ، وهو يتلو هذه الآية : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.) ...

وأخرج الترمذي وغيره عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ما أرى كل شيء إلا للرجال ، وما أرى النساء يذكرن بشيء ، فنزلت هذه الآية.

وأخرجه ابن جرير عن قتادة قال : دخل نساء على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلن : قد ذكركن الله ـ تعالى ـ في القرآن ، وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١).

والمعنى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) والإسلام : الانقياد لأمر الله ـ تعالى ـ وإسلام الوجه له ـ سبحانه ـ وتفويض الأمر إليه وحده.

(وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) والإيمان : هو التصديق القلبي ، والإذعان الباطني ، لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) والقنوت : هو المواظبة على فعل الطاعات عن رضا واختيار.

(وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) والصدق : هو النطق بما يطابق الواقع ، والبعد عن الكذب والقول الباطل ..

(وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) والصبر : هو توطين النفس على احتمال المكاره والمشاق في سبيل الحق ، وحبس النفس عن الشهوات.

(وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) والخشوع : صفة تجعل القلب والجوارح في حالة انقياد تام لله ـ تعالى ـ ومراقبة له ، واستشعار لجلاله وهيبته.

(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) والتصدق : تقديم الخير إلى الغير بإخلاص ، دفعا لحاجته ، وعملا على عونه ومساعدته.

(وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) والصوم : هو تقرب إلى الله ـ تعالى ـ ، واستعلاء على مطالب الحياة ولذائذها ، من أجل التقرب إليه ـ سبحانه ـ بما يرضيه.

(وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) وحفظ الفرج : كناية عن التعفف والتطهر والتصون عن أن يضع الإنسان شهوته في غير الموضع الذي أحله الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢١.

٢١٠

(وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) وذكر الله ـ تعالى ـ يتمثل في النطق بما يرضيه كقراءة القرآن الكريم ، والإكثار من تسبيحه ـ عزوجل ـ وتحميده وتكبيره ..

وفي شعور النفس في كل لحظة بمراقبته ـ سبحانه ـ.

هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات من الرجال والنساء (أَعَدَّ اللهُ) ـ تعالى ـ (لَهُمْ مَغْفِرَةً) واسعة لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) لا يعلم مقداره إلا هو ـ عزوجل ـ.

وهكذا نجد القرآن الكريم يسوق الصفات الكريمة ، التي من شأن الرجل والمرأة إذا ما اتصفا بها ، أن يسعدا في دنياهما وفي أخراهما ، وأن يسعد بهما المجتمع الذي يعيشان فيه ...

إنها صفات نظمت علاقة الإنسان بربه ، وبنفسه ، وبغيره ، تنظيما حكيما ، يهدى الى الرشد ، ويوصل إلى الظفر والنجاح.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الحقوق الواجبة على المسلم نحو خالقه ـ عزوجل ـ ونحو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن تأكيد إبطال عادة التبني التي كانت منتشرة قبل نزول هذه السورة ، وعن بيان الحكمة لهذا الإبطال ، وعن علاقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيره من أتباعه .. فقال ـ تعالى ـ :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي

٢١١

الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) روايات منها : أنها نزلت في زينب بنت جحش ـ رضى الله عنها ـ خطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد ابن حارثة فاستنكفت ، وقالت : أنا خير منه حسبا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية.

وفي رواية أنها قالت : يا رسول الله ، لست بناكحته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل فانكحيه» فقالت : يا رسول الله ، أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان ، أنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية. فقالت : يا رسول الله ، قد رضيته لي زوجا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا أعصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوجته نفسي.

وذكر بعضهم أنها نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، وكانت أول من هاجر من النساء .. يعنى بعد صلح الحديبية ، فوهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزوجها من مولاه زيد بن حارثة ، بعد فراقه لزينب فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجنا عبده ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، فأجابا إلى تزويج زيد (١).

قال ابن كثير : هذه الآية عامة في جميع الأمور. وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ، فليس لأحد مخالفته ، ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأى ولا قول ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

وفي الحديث الشريف : «والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».

والمعنى : لا يصح ولا يحل لأى مؤمن ولا لأية مؤمنة (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) أى : إذا أراد الله ورسوله أمرا ، من الأمور.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٨٦. وتفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤١٧.

٢١٢

وقال ـ سبحانه ـ : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) للإشعار ، بأن ما يفعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يفعله بأمر الله ـ تعالى ـ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق عن الهوى.

وقوله : (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أى : لا يصح لمؤمن أو مؤمنة إذا أراد الله ورسوله أمرا ، أن يختاروا ما يخالف ذلك ، بل يجب عليهم أن يذعنوا لأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يجعلوا رأيهم تابعا لرأيه في كل شيء.

وكلمة الخيرة : مصدر من تخيّر ، كالطّيرة مصدر من تطيّر. وقوله : (مِنْ أَمْرِهِمْ) متعلق بها ، أو بمحذوف وقع حالا منها.

وجاء الضمير في قوله (لَهُمُ) وفي قوله (مِنْ أَمْرِهِمْ) بصيغة الجمع : رعاية للمعنى إذ أن لفظي مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي ، فيعمان كل مؤمن وكل مؤمنة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) بيان لسوء عاقبة من يخالف أمر الله ورسوله.

أى : ومن يعص الله ورسوله في أمر من الأمور ، فقد ضل عن الحق والصواب ضلالا واضحا بينا.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ قصة زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السيدة زينب بنت جحش ، وما ترتب على هذا الزواج من هدم لعادات كانت متأصلة في الجاهلية فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) .. أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وقت أن قلت للذي أنعم الله ـ تعالى ـ عليه بنعمة الإيمان ، وهو زيد بن حارثة ـ رضى الله عنه ـ.

وأنعمت عليه ، بنعمة العتق ، والحرية ، وحسن التربية ، والمحبة ، والإكرام ..

(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) أى : اذكر وقت قولك له : أمسك عليك زوجك زينب بنت جحش ، فلا تطلقها ، واتق الله في أمرها ، واصبر على ما بدر منها في حقك ..

وكان زيد ـ رضى الله عنه ـ قد اشتكى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تطاولها عليه ، وافتخارها بحسبها ونسبها ، وتخشينها له القول ، وقال : يا رسول الله ، إنى أريد أن أطلقها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) معطوف على (تَقُولُ). أى : تقول له ذلك وتخفى في نفسك الشيء الذي أظهره الله ـ تعالى ـ لك ، وهو إلهامك بأن زيدا سيطلق زينب ، وأنت ستتزوجها بأمر الله ـ عزوجل ـ.

قال الآلوسى : والمراد بالموصول (مَا) على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن على

٢١٣

ابن الحسين ما أوحى الله ـ تعالى ـ به إليه من أن زينب سيطلقها زيد. ويتزوجها هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين ، كالزهرى ، وبكر بن العلاء ، والقشيري ، والقاضي أبى بكر بن العربي ، وغيرهم (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) جملة : الله مبديه صلة الموصول الذي هو (مَا). وما أبداه ـ سبحانه ـ هو زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب ، وذلك في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) وهذا هو التحقيق في معنى الآية ، الذي دل عليه القرآن ، وهو اللائق بجنابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبه تعلم أن ما قاله بعض المفسرين ، من أن ما أخفاه في نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبداه الله ـ تعالى ـ ، هو وقوع زينب في قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحبته لها ، وهي زوجة لزيد ، وأنها سمعته يقول عند ما رآها : سبحان مقلب القلوب .. إلى آخر ما قالوا ... كله لا صحة له .. (٢).

وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : ذكر ابن جرير وابن أبى حاتم ـ وغيرهما ـ هاهنا آثارا عن بعض السلف ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا ، لعدم صحتها. فلا نوردها .. (٣).

هذا ، ولفضيلة شيخنا الجليل الدكتور أحمد السيد الكومى رأى في معنى هذه الجملة الكريمة ، وهو أن ما أخفاه الرسول في نفسه : هو علمه بإصرار زيد على طلاقه لزينب ، لكثرة تفاخرها عليه ، وسماعه منها ما يكرهه. وما لا يستطيع معه الصبر على معاشرتها.

وما أبداه الله ـ تعالى ـ : هو علم الناس بحال زيد معها ، ومعرفتهم بأن زينب تخشن له القول ، وتسمعه ما يكره ، وتفخر عليه بنسبها ..

فيكون المعنى : تقول للذي أنعم الله عليه ، وأنعمت عليه ، أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى في نفسك أن زيدا لن يستطيع الصبر على معاشرة زوجه زينب لوجود التنافر بينهما .. مع أن الله ـ تعالى ـ قد أظهر ذلك ، عن طريق كثرة شكوى زيد منها ، وإعلانه أنه حريص على طلاقها ، ومعرفة كثير من الناس بهذه الحقيقة ..

ومما يؤيد هذا الرأى أنه لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ما يدل دلالة صريحة على أن الله

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ٢٤.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٦ ص ٥٨٠ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٢٠.

٢١٤

قد أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن زيدا سيطلق زينب ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيتزوجها ، وكل ما ورد في ذلك هي تلك الرواية التي سبق أن ذكرناها عن على بن الحسين ـ رضى الله عنهما ـ.

قال صاحب الظلال : وهذا الذي أخفاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله. ولم يكن أمرا صريحا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ومواجهة الناس به حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب فيما سيكون بعد .. (١).

وهذه الأقوال جميعها تهدم هدما تاما كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ، والتي تشبث بها أعداء الإسلام في كل زمان ومكان ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه.

أى : تقول له ما قلت ، وتخفى في نفسك ما أظهره الله ، وتخشى أن تواجه الناس بما ألهمك الله ـ تعالى ـ به من أمر زيد وزينب ، مع أن الله ـ تعالى ـ أحق بالخشية من كل ما سواه.

فالجملة الكريمة عتاب رقيق من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاد له إلى أفضل الطرق ، وأحكم السبل ، لمجابهة أمثال هذه الأمور ، وحلها حلا سليما.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب فقال : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ، وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).

والوطر : الحاجة. وقضاء الوطر : بلوغ منتهى ما تريده النفس من الشيء ، يقال : قضى فلان وطره من هذا الشيء : إذا أخذ أقصى حاجته منه.

والمراد هنا : أن زيدا قضى حاجته من زينب ، ولم يبق عنده أدنى رغبة فيها ، بل صارت رغبته العظمى في مفارقتها.

أى : فلما قضى زيد حاجته من زينب ، وطلقها ، وانقضت عدتها ، زوجناكها ، أى : جعلناها زوجة لك ، (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أو ضيق أو مشقة (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أى : في الزواج من أزواج أدعيائهم ، الذين تبنوهم (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً)

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ٢٢ ص ٥٩٥.

٢١٥

أى : إذا طلق هؤلاء الأدعياء أزواجهم ، وانقضت عدة هؤلاء الأزواج ، فلا حرج على الذين سبق لهم تبنى هؤلاء الأدعياء أن يتزوجوا بنسائهم ، ولهم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أى : وكان ما يريده الله ـ تعالى ـ حاصلا لا محالة.

قال الإمام ابن كثير : قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) .. أى : لما فرغ منها وفارقها زوجناكها ، وكان الذي ولى تزويجها منه هو الله ـ عزوجل ـ. بمعنى : أنه أوحى إليه أن يدخل بها بلا ولىّ ولا مهر ولا عقد ولا شهود من البشر ..

روى الإمام أحمد عن أنس قال : لما انقضت عدة زينب ـ رضى الله عنها ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد بن حارثة : «اذهب فاذكرها على» فانطلق حتى آتاها وهي تخمر عجينها. قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها. وجعلت أقول ـ وقد وليتها ظهري ، ونكصت على عقبى ـ يا زينب. أبشرى. أرسلنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ـ أى : أستشيره في أمرى ـ ، فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليها بغير إذن ...

وروى البخاري عن أنس بن مالك ، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات .. (١).

وقال الإمام الشوكانى : وقوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ..).

أى : في التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا ، كما كانت تفعله العرب ، فإنهم كانوا يتبنون من يريدون .. وكانوا يعتقدون أنه يحرم عليهم نساء من تبنوه ، كما تحرم نساء أبنائهم على الحقيقة. والأدعياء : جمع دعى ، وهو الذي يدعى ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة. فأخبرهم الله ـ تعالى ـ أن نساء الأدعياء حلال لهم ـ بعد انقضاء العدة ـ بخلاف الأبناء من الصلب ، فإن نساءهم تحرم على الآباء بنفس العقد عليها .. (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ الحكمة من زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيدة زينب بنت جحش ، التي كانت قبل ذلك زوجة لزيد بن حارثة ـ الذي كان الرسول قد تبناه وأعتقه ـ بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة في تقرير هذه الحكمة وتأكيدها ، وإزالة كل ما علق بالأذهان بشأنها ، فقال ـ تعالى ـ : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ.) ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٢٠.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٦ ص ٢٨٥.

٢١٦

أى : ما كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حرج أو لوم أو مؤاخذة ، في فعل ما أحله الله له ، وقدره عليه ، وأمره به من زواجه بزينب بعد أن طلقها ابنه بالتبني زيد بن حارثة فقوله : (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أى : فيما قسمه له ، وقدره عليه ، مأخوذ من قولهم : فرض فلان لفلان كذا ، أى : قدر له هذا الشيء ، وجعله حلالا له.

وقوله ـ تعالى ـ : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) زيادة في تأكيد هذه الحكمة ، وفي تقرير صحة ما فرضه الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أى : ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زواجه بزينب بعد طلاقها من زيد ، قد جعله الله ـ تعالى ـ سنة من سننه في الأمم الماضية ، وكان أمر الله ـ تعالى ـ قدرا مقدورا. أى : واقعا لا محالة.

والقدر : إيجاد الله ـ تعالى ـ للأشياء على قدر مخصوص حسبما تقتضي حكمته.

ويقابله القضاء : وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه. وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر. والأظهر أن قدر الله ـ تعالى ـ هنا بمعنى قضائه.

ولفظ (مَقْدُوراً) وصف جيء به للتأكيد ، كما في قولهم : ظل ظليل ، وليل أليل ، ثم مدح ـ سبحانه ـ هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يبلغون دعوته دون أن يخشوا أحدا سواه فقال : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) للذين يكلفهم ـ سبحانه ـ بتبليغها لهم. والموصول في محل جر صفة للذين خلوا. أو منصوب على المدح.

(وَيَخْشَوْنَهُ) أى : ويخافونه وحده (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ـ عزوجل ـ في كل ما يأتون وما يذرون ، وما يقولون وما يفعلون.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أى : وكفى بالله ـ تعالى ـ محاسبا لعباده على نيات قلوبهم وأفعال جوارحهم ، وأقوال ألسنتهم.

ثم حدد ـ سبحانه ـ وظيفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثنى عليه بما هو أهله ، فقال ـ تعالى ـ : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أى : لم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا لأحد من رجالكم أبوة حقيقية ، تترتب عليها آثارها وأحكامها من الإرث ، والنفقة والزواج ... وزيد كذلك ليس ابنا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب التي طلقها زيد لا حرج فيه ، ولا شبهة في صحته ، وقوله : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) استدراك لبيان وظيفته وفضله.

أى : لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا لأحدكم على سبيل الحقيقة ، ولكنه كان رسولا من عند الله ـ تعالى ـ ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وكان ـ أيضا ـ خاتم النبيين ، بمعنى

٢١٧

أنهم ختموا به ، فلا نبي بعده ، فهو كالخاتم والطابع لهم. ختم الله ـ تعالى ـ به الرسل والأنبياء ، فلا رسول ولا نبي بعده إلى قيام الساعة.

قال القرطبي : قرأ الجمهور (وَخاتَمَ) ـ بكسر التاء ـ بمعنى أنه ختمهم ، أى : جاء آخرهم.

وقرأ عاصم (وَخاتَمَ) ـ بفتح التاء ـ بمعنى أنهم ختموا به ، فهو كالخاتم والطابع لهم.

وقيل : الخاتم والخاتم ـ بالفتح والكسر ـ لغتان ، مثل طابع وطابع ..

وقد روى الإمام مسلم عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها ، إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون : ما أجمل هذه الدار ، هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» (١).

وقد ذكر الإمام ابن كثير عددا من الأحاديث في هذا المعنى منها ما رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون».

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره : والأحاديث في هذا كثيرة ، فمن رحمة الله ـ تعالى ـ بالعباد إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الدين الحنيف له ، وقد أخبر ـ تعالى ـ في كتابه ، وأخبر رسوله في السنة المتواترة عنه ، أنه لا نبي بعده ، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ، ولو تخرق وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم .. (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

أى : وكان ـ عزوجل ـ وما زال ، هو العليم علما تاما بأحوال خلقه ، وبما ينفعهم ويصلحهم ، ولذا فقد شرع لكم ما أنتم في حاجة إليه من تشريعات ، واختار رسالة نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون خاتمة الرسالات ، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالشكر والطاعة ، ليزيدكم ـ سبحانه ـ من فضله وإحسانه.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٩٦.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٢٤.

٢١٨

ثم جاءت الآيات الكريمة بعد ذلك لتؤكد هذا المعنى وتقرره ، فأمرت المؤمنين بالإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ ومن تسبيحه وتحميده وتكبيره ، فقال ـ سبحانه ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(٤٤)

والمقصود بذكر الله ـ تعالى ـ في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) ما يشمل التهليل والتحميد والتكبير وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي ترضيه ـ عزوجل ـ.

أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، أكثروا من التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بما يرضيه ، في كل أوقاتكم وأحوالكم ، فإن ذكر الله ـ تعالى ـ هو طب النفوس ودواؤها ، وهو عافية الأبدان وشفاؤها ، به تطمئن القلوب ، وتنشرح الصدور ..

والتعبير بقوله : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) يشعر بأن من شأن المؤمن الصادق في إيمانه ، أن يواظب على هذه الطاعة مواظبة تامة.

ومن الأحاديث التي وردت في الحض على الإكثار من ذكر الله ، ما رواه الإمام أحمد عن أبى الدرداء .. رضى الله عنه .. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ـ أى : الفضة ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ، قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال : ذكر الله ـ عزوجل ـ».

وعن عمرو بن قيس قال : سمعت عبد الله بن بسر يقول : جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله ، أى الناس خير؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله».

وقال الآخر : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فمرني بأمر أتشبث به. قال : «لا يزال لسانك رطبا بذكر الله».

٢١٩

وقال ابن عباس : لم يفرض الله ـ تعالى ـ فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر ، غير الذكر ، فإن الله ـ تعالى ـ لم يجعل له حدا ينتهى إليه ، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله ، وأمرهم به في الأحوال كلها. فقال ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) .. وقال ـ سبحانه ـ : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) .. أى : بالليل وبالنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال .. (١).

وقوله : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) معطوف على (اذْكُرُوا.) .. والتسبيح : التنزيه. مأخوذ من السبح ، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء. فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء. والبكرة : أول النهار. والأصيل : آخره.

أى : أكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من ذكر الله ـ تعالى ـ في كل أحوالكم ، ونزهوه ـ سبحانه ـ عن كل ما لا يليق به ، في أول النهار وفي آخره.

وتخصيص الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين ، لبيان فضلهما ، ولمزيد الثواب فيهما ، وهذا لا يمنع أن التسبيح في غير هذين الوقتين له ثوابه العظيم عند الله ـ تعالى ـ.

ـ وأيضا ـ خص ـ سبحانه ـ التسبيح بالذكر مع دخوله في عموم الذكر ، للتنبيه على مزيد فضله وشرفه ..

قال صاحب الكشاف : والتسبيح من جملة الذكر. وإنما اختصه ـ تعالى ـ من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله على سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) .. استئناف جار مجرى التعليل لما قبله ، من الأمر بالإكثار من الذكر ومن التسبيح.

والصلاة من الله ـ تعالى ـ على عباده معناها : الرحمة بهم ، والثناء عليهم ، كما أن الصلاة من الملائكة على الناس معناها : الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) .. قال ابن عباس : لما نزل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.) .. قال المهاجرون والأنصار : هذا لك يا رسول الله خاصة ، وليس لنا فيه شيء ، فأنزل الله هذه الآية.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٢٦.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٤٥.

٢٢٠