التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

وملخصها ـ كما ذكر الإمام ابن كثير ـ أن نفرا من اليهود ـ على رأسهم حيي بن أخطب ـ خرجوا إلى مكة ، واجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب المسلمين ، فأجابوهم إلى ذلك.

ثم خرجوا إلى قبيلة غطفان فدعوهم لحرب المسلمين ، فاستجابوا لهم ـ ايضا ـ.

وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها ، والجميع في جيش قريب من عشرة آلاف رجل.

وعند ما علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقدمهم ، أمر بحفر خندق حول المدينة.

ووصلت جيوش الأحزاب إلى مشارف المدينة ، فوجدوا الخندق قد حفر ، وأنه يحول بينهم وبين اقتحامها. كما أن المسلمين كانوا لهم بالمرصاد.

وخلال هذه الفترة العصيبة ، نقض يهود بنى قريظة عهودهم مع المسلمين ، وانضموا إلى جيوش الأحزاب ، فزاد الخطب على المسلمين.

ومكث الأعداء محاصرين للمدينة قريبا من شهر. ثم جاء نصر الله ـ تعالى ـ ، بأن أرسل على جيوش الأحزاب ريحا شديدة ، وجنودا من عنده ، فتصدعت جبهات الأحزاب ، وانكفأت خيامهم ، وملأ الرعب قلوبهم ، (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (١).

وقد ابتدأ الله ـ تعالى ـ الحديث عن هذه الغزوة ، بنداء وجهه إلى المؤمنين ، ذكرهم فيه بفضله عليهم ، وبرحمته بهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها).

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، (اذْكُرُوا) على سبيل الشكر والاعتبار (نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ورحمته بكم.

(إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) كثيرة ، هي جنود جيوش الأحزاب (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) شديدة زلزلتهم ، وجعلتهم يرحلون عنكم بخوف وفزع.

كما أرسلنا عليهم (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة ، الذين ألقوا الرعب في قلوب أعدائكم.

قالوا : روى أن الله ـ تعالى ـ بعث عليهم ريحا باردة في ليلة باردة ، فألقت التراب في

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٨٥. والسيرة النبوية لابن اسحق ج ٢ ص ٢٢٩.

١٨١

وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت أوتاد خيامهم ، وأطفأت نيرانهم وقذفت في قلوبهم الرعب .. فقال كل سيد قوم لقومه : يا بنى فلان : النجاء النجاء (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) تذييل قصد به بيان مظهر آخر من مظاهر فضله ـ تعالى ـ عليهم.

أى : جاءتكم تلك الجنود الكثيرة. فأرسلنا عليهم ريحا شديدة ، وأرسلنا عليهم من عندنا جنودا لم تروها ، وكنا فوق كل ذلك مطلعين على أعمالكم من حفر الخندق وغيره وسامعين لدعائكم ، وقد أجبناه لكم ، حيث رددنا أعداءكم عنكم دون أن ينالوا خيرا.

ثم فصل ـ سبحانه ـ ما حدث للمؤمنين في هذه الغزوة ، بعد هذا الإجمال ، فقال : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) أى : من أعلى الوادي من جهة المشرق. والجملة بدل من قوله (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ). والمراد بالذين جاءوا من تلك الجهة : قبائل غطفان وهوازن .. وانضم إليهم بنو قريظة بعد أن نقضوا عهودهم.

(وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أى : ومن أسفل الوادي من جهة المغرب ، وهم قريش ومعهم أحابيشهم وحلفاؤهم.

وقوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) معطوف على ما قبله ، داخل معه في حيز التذكير.

أى : واذكروا وقت أن زاغت أبصاركم ، ومالت عن كل شيء حولها ، وصارت لا تنظر إلا إلى أولئك الأعداء. يقال : زاغ البصر يزيغ زيغا وزيغانا إذا مال وانحرف. ويقال ـ أيضا : زاغ البصر ، إذا مل وتعب بسبب استدامة شخوصه من شدة الهول.

وقوله (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) بيان آخر لما أصاب المسلمين من بلاء بسبب إحاطة جيوش الأحزاب بهم.

والحناجر : جمع حنجرة ، وهي جوف الحلقوم ، والمراد أن قلوبكم فزعت فزعا شديدا ، حتى لكأنها قد انتقلت من أماكنها إلى أعلى ، حتى قاربت أن تخرج من أفواهكم.

فالآية تصور ما أصاب المسلمين من فزع وكرب في غزوة الأحزاب ، تصويرا بديعا مؤثرا ، يرسم حركات القلوب ، وملامح الوجوه ، وخلجات النفوس.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) بيان لما دار في عقولهم من أفكار ، حين رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٥٦.

١٨٢

والظنون جمع الظن. وهو مصدر يطلق على القليل والكثير منه. وجاء بصيغة الجمع لتعدد أنواعه ، واختلافه باختلاف قوة الإيمان وضعفه.

أى : وتظنون ـ أيها المؤمنون ـ بالله ـ تعالى ـ الظنون المختلفة ، فمنكم من ازداد يقينا على يقينه ، وازداد ثقة بوعد الله ـ تعالى ـ وبنصره ، ومنكم من كان أقل من ذلك في ثباته ويقينه ، ومنكم من كان يظهر أمامكم الإيمان والإسلام ، ويخفى الكفر والعصيان ، وهم المنافقون وهؤلاء ظنوا الظنون السيئة ، بأن اعتقدوا بأن الدائرة ستدور عليكم :

قال ابن كثير : قوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) قال الحسن : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه ـ سبحانه ـ سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

عن أبى سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم. قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا.

قال : فضرب الله ـ تعالى ـ وجوه أعدائه بالريح فهزمهم (١).

ولفظ (هُنالِكَ) في قوله ـ تعالى ـ : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) : ظرف مكان للبعيد ، وهو منصوب بقوله (ابْتُلِيَ) والابتلاء : الاختبار والامتحان بالشدائد والمصائب.

أى : في ذلك المكان الذي أحاط به الأحزاب من كل جانب ، امتحن الله ـ تعالى ـ المؤمنين واختبرهم ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أى : واضطربوا اضطرابا شديدا ، من شدة الفزع ، لأن الأعداء حاصروهم ، ولأن بنى قريظة نقضوا عهودهم.

ولقد بلغ انشغال المسلمين بعدوهم انشغالا عظيما ، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يؤدوا بعض الصلوات في أوقاتها ، وقال بعض الصحابة : يا رسول الله ، ما صلينا ، فقال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا أنا ، والله ما صليت ثم قال : شغلنا المشركون عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا».

وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا ، فالتقتا ـ دون أن تعرف إحداهما الأخرى ـ فتقاتلا. وحدث بينهم ما حدث من جراح وقتل ، ولم يشعروا أنهم من المسلمين ، حتى تنادوا بشعار الإسلام : «حم. لا ينصرون» ، فكف بعضهم عن بعض.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣٨٩.

١٨٣

فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد».

ومما زاد في بلاء المسلمين وحزنهم. ما ظهر من أقوال قبيحة من المنافقين. حكاها ـ سبحانه ـ في قوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) أى : واذكروا ـ أيضا ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن كشف المنافقون وأشباههم عن نفوسهم الخبيثة وطباعهم الذميمة ، وقلوبهم المريضة ، فقالوا لكم وأنتم في أشد ساعات الحرج والضيق : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) بالنصر والظفر (إِلَّا غُرُوراً) أى : إلا وعدا باطلا ، لا يطابق الواقع الذي نعيش فيه.

وقال أحدهم : إن محمدا كان يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يستطيع أن يذهب إلى الغائط.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) ...

أى : واذكروا ـ كذلك ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن قالت لكم طائفة من هؤلاء المنافقين : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أى : يا أهل المدينة ، لا مقام لكم في هذا المكان الذي تقيمون فيه بجوار الخندق لحماية بيوتكم ومدينتكم ، فارجعوا إلى مساكنكم ، واستسلموا لأعدائكم.

قال الشوكانى : وذلك أن المسلمين خرجوا في غزوة الخندق ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع ، وجعلوا وجوههم إلى العدو ، وجعلوا الخندق بينهم وبين القوم. فقال هؤلاء المنافقون : ليس ها هنا موضع إقامة وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المنافقين لم يكتفوا بهذا القول الذميم ، بل كانوا يهربون من الوقوف إلى جانب المؤمنين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً).

أى : أنهم كانوا يحرضون غيرهم على ترك مكانه في الجهاد ، ولا يكتفون بذلك ، بل كان كل فريق منهم يذهب إلى النبي ـ صلى الله عليهم ـ فيستأذنه في الرجوع إلى بيوتهم ، قائلين له : يا رسول الله : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أى : خالية ممن يحرسها. يقال : دار ذات عورة إذا سهل دخولها لقلة حصانتها.

وهنا يكشف القرآن عن حقيقتهم ويكذبهم في دعواهم فيقول (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) أى :

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٦ ص ٢٦٦.

١٨٤

والحال أن بيوتهم ليست كما يزعمون ، وإنما الحق أنهم يريدون الفرار من ميدان القتال ، لضعف إيمانهم ، وجبن نفوسهم.

روى أن بنى حارثة بعثوا أحدهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقول له : إن بيوتنا عورة ، وليست دار من دور الأنصار مثل دورنا ، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا كي نرجع إلى دورنا ، فمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله ، لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا فعلوا ذلك .. فردهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المنافقين جمعوا لأنفسهم كل نقيض ، فهم يسرعون إلى ما يؤذى المؤمنين ، ويبطئون عما ينفعهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها ، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ (دُخِلَتْ) للبيوت أو للمدينة. وفاعل الدخول من يدخل هذه البيوت أو المدينة من أهل الكفر والفساد. وأسند ـ سبحانه ـ الدخول إلى بيوتهم ، للإشعار بأن الأعداء يدخلونها وهم قابعون فيها.

والأقطار : جمع قطر بمعنى الناحية والجانب والجهة.

والمراد بالفتنة هنا ، الردة عن الإسلام أو قتال المسلمين.

وقوله (لَآتَوْها) قرأه الجمهور بالمد بمعنى لأعطوها. وقرأه نافع وابن كثير لأتوها بالقصر ، بمعنى لجاءوها وفعلوها والتلبث : الإبطاء والتأخر.

والمعنى إن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أن بيوتهم عورة ، هم كاذبون في زعمهم ، وهم أصحاب نيات خبيثة ، ونفوس عارية عن كل خير.

والدليل على ذلك ، أن بيوتهم هذه التي يزعمون أنها عورة ، لو اقتحمها عليهم مقتحم من المشركين وهم قابعون فيها ، ثم طلب منهم أن ينضم إليهم في مقاتلة المسلمين ، لسارعوا إلى تلبية طلبه ، ولكانوا مطيعين له كل الطاعة ، وما تأخروا عن تلبية طلبه إلا لمدة قليلة ، يعدون العدة خلالها لقتالكم ـ أيها المسلمون ـ ، وللانسلاخ عن كل رابطة تربطكم بهم. لأن عقيدتهم واهنة ، ونفوسهم مريضة خائرة.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) أى : المدينة. وقيل : بيوتهم. من قولك : دخلت على فلان داره (مِنْ أَقْطارِها) أى. من جوانبها. يريد : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة ـ التي يفرون منها ـ مدينتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم

١٨٥

وأولادهم ناهبين سابين ، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة ، (الْفِتْنَةَ) أى : الردة والرجعة إلى الكفر ، ومقاتلة المسلمين ، لأتوها ، أى : لجاءوها ولفعلوها. وقرئ. لآتوها ، أى لأعطوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف. أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا ، فإن الله يهلكهم (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، أن من الصفات اللازمة للمنافقين ، نقضهم لعهودهم فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

أى : ولقد كان هؤلاء المنافقون قد حلفوا من قبل غزوة الأحزاب ، أنهم سيكونون معكم في الدفاع عن الحق وعن المدينة المنورة التي يساكنونكم فيها ، ولكنهم لم يفوا بعهودهم.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أى : مسئولا عنه صاحبه الذي عاهد الله ـ تعالى ـ على الوفاء ، وسيجازى ـ سبحانه ـ كل ناقض لعهده ، بما يستحقه من عقاب.

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فوبختهم على سوء فهمهم ، وعلى جبنهم وخورهم ، وعلى سلاطة ألسنتهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٢٨.

١٨٦

بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)(٢٠)

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء المنافقين : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) ، لأن كل إنسان لا بد له من نهاية تنتهي عندها حياته ، سواء أكانت تلك النهاية عن طريق القتل بالسيف ، أم عن طريق الموت على الفراش.

وما دام الأمر كذلك ، فعلى هؤلاء المنافقين أن يعلموا : أن الجبن لا يؤخر الحياة ، وأن الشجاعة لا تقدمها عن موعدها. وصدق الله إذ يقول : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وقوله : (إِنْ فَرَرْتُمْ) .. جوابه محذوف لدلالة ما سبق عليه. أى : إن فررتم لن ينفعكم فراركم.

وقوله : (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) تذييل قصد به زجرهم عن الجبن الذي استولى عليهم.

أى : إن فراركم من الموت أو القتل ، إن نفعكم ـ على سبيل الفرض ـ لفترة من الوقت ، فلن ينفعكم طويلا ، لأنكم لن تتمتعوا بالحياة بعد هذا الفرار إلا وقتا قليلا ، ثم ينزل بكم قضاء الله ـ تعالى ـ الذي لا مرد لكم منه ، فما تفرون منه هو نازل بكم قطعا.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرعهم بحجة أخرى لا يستطيعون الرد عليها ، فقال : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ ، إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً).

أى : قل ـ أيها الرسول ـ لهؤلاء الجاهلين : من هذا الذي يملك أن يدفع ما يريده الله ـ

١٨٧

تعالى ـ بكم من خير أو شر ، ومن نعمة أو نقمة ، ومن موت أو حياة.

إن أحدا لا يستطيع أن يمنع قضاء الله عنكم. فالاستفهام للإنكار والنفي.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلا من السوء؟

قلت : معناه ، أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قول : «متقلدا سيفا ورمحا» ـ أى : «متقلدا سيفا وحاملا رمحا» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) معطوف على ما قبله. أى : لا يجدون من يعصمهم مما يريده الله ـ تعالى ـ بهم ، ولا يجدون من دونه ـ سبحانه ـ وليا ينفعهم ، أو نصيرا ينصرهم ، إذ هو وحده ـ سبحانه ـ الناصر والمغيث والمجير.

قال ـ تعالى ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن علمه محيط بهؤلاء المنافقين ، وأنهم لن يفلتوا من عقابه ، فقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

قال الآلوسى ما ملخصه : قال ابن السائب : الآية في عبد الله بن أبى وأمثاله ممن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة. كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر ، أن ائتونا فإنا ننتظركم.

وكان بعضهم يقول لبعض : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم (٢).

و «قد» للتحقيق ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء. و «المعوقين» من العوق وهو المنع والصرف ، يقال : عاق فلان فلانا ، إذا صرفه عن الجهة التي يريدها.

و «من» في قوله (مِنْكُمْ) للبيان. والمراد بالأخوة : التطابق والتشابه في الصفات الذميمة ، والاتجاهات القبيحة. التي على رأسها كراهيتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه.

و «هلم» اسم فعل أمر بمعنى أقبل.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٢٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٦٣.

١٨٨

والمعنى : إن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه حال أولئك المنافقين. الذين يخذلون ويثبطون ويصرفون إخوانهم في النفاق والشقاق ، عن الاشتراك مع المؤمنين ، في حرب جيوش الأحزاب ، ويقولون لهم : (هَلُمَّ إِلَيْنا) أى : أقبلوا نحونا ، وتعالوا إلى جوارنا ، ولا تنضموا إلى صفوف المسلمين.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) ذم لهم على جبنهم وخورهم.

أى : أن من صفاتهم الأصيلة أنهم جبناء ، ولا يقبلون على الحرب والقتال ، إلا إقبالا قليلا. فهم تارة يخرجون مع المؤمنين ، لإيهامهم أنهم معهم ، أو يخرجون معهم على سبيل الرياء والطمع في غنيمة.

ثم أخذت السورة الكريمة في تصوير ما جبلوا عليه من سوء تصويرا معجزا ، فقال ـ تعالى ـ (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) ، جمع شحيح من الشح وهو البخل في أقبح صوره. ولفظ (أَشِحَّةً) منصوب على الحال من الضمير في قوله : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

أى : أن من صفات هؤلاء المنافقين الجبن والخور ، حالة كونهم بخلاء بكل خير يصل إليكم ـ أيها المؤمنون ـ فهم لا يعاونونكم في حفر الخندق ، ولا في الدفاع عن الحق والعرض والشرف ولا في أى شيء فيه منفعة لكم.

(فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) ، أى فإذا اقترب الوقت الذي يتوقع فيه اللقاء بينكم وبين أعدائكم. (رَأَيْتَهُمْ) أيها الرسول الكريم ـ (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) بجبن وهلع (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في مآقيهم يمينا وشمالا.

وحالهم كحال الذي (يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أى : كحال الذي أحاط به الموت من كل جانب ، فصار في أقصى دركات الوهن والخوف والفزع.

هذه هي حالهم عند ما يتوقعون الشدائد والمخاوف ، أما حالهم عند الأمان وذهاب الخوف ، فهي كما قال ـ تعالى ـ (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ).

وقوله (سَلَقُوكُمْ) من السّلق. وأصله بسط العضو ومده للأذى ، سواء أكان هذا العضو يدا أو لسانا. والمراد به الإيذاء بالكلام السيئ القبيح.

أى : أنهم عند الشدائد جبناء بخلاء ، فإذا ما ذهب الخوف وحل الأمان ، سلطوا عليكم ألسنتهم البذيئة بالأذى والسوء ، ورموكم بألسنة ماضية حادة ، تؤثر تأثير الحديد في الشيء ، وارتفعت أصواتهم بعد أن كانوا إذا ما ذكر القتال أمامهم ، صار حالهم كحال المغشى عليه من الموت.

١٨٩

ثم هم بعد كل ذلك (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أى بخلاء بكل خير ، فهم يحرصون على جمع الغنائم ، وعلى الأموال بكل وسيلة ، ولكنهم لا ينفقون شيئا منها في وجه من وجوه الخير والبر.

قال ابن كثير قوله (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أى : ليس فيهم خير ، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر :

أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أمثال النساء العوارك

أى : هم في حال المسالمة كأنهم الحمير الأعيار. والأعيار جمع عير وهو الحمار. وفي الحرب كأنهم النساء الحيض (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم فقال : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

أى : أولئك المنافقون الموصوفون بما سبق من الصفات السيئة (لَمْ يُؤْمِنُوا) بما يجب الإيمان به إيمانا صادقا ، بل قالوا بألسنتهم قولا تكذبه قلوبهم وأفعالهم (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) بأن أبطلها وجعلها هباء منثورا ، وكان ذلك الإحباط على الله ـ سبحانه ـ هينا يسيرا.

وخص ـ سبحانه ـ يسر إحباط عملهم بالذكر مع أن كل شيء يسير عليه ـ تعالى ـ لبيان أن أعمالهم جديرة بالإحباط والإفساد ، لصدورها عن قلوب مريضة ، ونفوس خبيثة.

قال صاحب الكشاف : وهل يثبت للمنافقين عمل حتى يرد عليه الإحباط؟

قلت : لا ، لكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يوطئه القلب ، وان ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه ، فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل ، وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء من غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذا الحديث الجامع عن صفات المنافقين عند الشدائد والمحن فقال : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا).

أى : أن هؤلاء المنافقين بلغ بهم الجبن والخور ، أنهم حتى بعد رحيل الأحزاب عن المدينة ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٩٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٣٠.

١٩٠

ما زالوا يحسبون ويظنون أنهم لم يذهبوا عنها ، فهم يأبون أن يصدقوا أن الله ـ تعالى ـ قد رد الذين كفروا بغيظهم دون أن ينالوا خيرا.

وفي هذه الجملة ما فيها من التهكم بالمنافقين ، حيث وصفتهم بأنهم حتى بعد ذهاب أسباب الخوف ، ما زالوا في جبنهم يعيشون.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم فيما لو عاد الأحزاب على سبيل الفرض والتقدير فقال : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ).

أى : إلى المدينة مرة ثانية.

(يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أى : وإن تعد جيوش الأحزاب إلى مهاجمة المدينة مرة ثانية ، يتمنى هؤلاء المنافقون ، أن يكونوا غائبين عنها ، نازلين خارجها مع أهل البوادي من الأعراب ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للقتال.

فقوله : (بادُونَ) جمع باد وهو ساكن البادية. يقال : بدا القوم بدا ، إذا نزحوا من المدن إلى البوادي.

والأعراب : جمع أعرابى وهو من يسكن البادية.

ثم بين ـ سبحانه ـ تلهفهم على سماع الأخبار السيئة عن المؤمنين فقال : (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً).

أى : هؤلاء المنافقون يسألون القادمين من المدينة ، والذاهبين إليها عن أخباركم ـ أيها المؤمنون ـ حتى لكأنهم غير ساكنين فيها.

ولو كانوا فيكم عند ما يعود الكافرون إلى المدينة ـ على سبيل الفرض ـ ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا حتى لا ينكشف أمرهم انكشافا تاما. فهم لا يقاتلون عن رغبة ، وإنما يقاتلون رياء ومخادعة.

وهكذا نجد الآيات الكريمة قد أفاضت في شرح الأحوال القبيحة التي كان عليها المنافقون عند ما هاجمت جيوش الأحزاب المدينة ، ووصفتهم بأبشع الصفات وأبغضها إلى كل نفس كريمة ، حتى يحذرهم المؤمنون.

وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين الأخيار والأشرار ، ساقت السورة بعد ذلك صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين ، الذين عند ما رأوا جيوش الأحزاب قالوا : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه دون أن يبدلوا تبديلا.

١٩١

لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يصور لنا موقف المؤمنين في غزوة الأحزاب ، كما يحكى جانبا من فضل الله عليهم ، ومن لطفه بهم فيقول ـ سبحانه ـ :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أى : كان لكم قدوة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله ، في خروجه إلى الخندق.

١٩٢

والأسوة : القدوة. وقرأ عاصم (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة. والباقون بكسرها. والجمع أسى وإسى ـ بضم الهمزة وكسرها (١).

يقال : فلان ائتسى بفلان ، إذا اقتدى به ، وسار على نهجه وطريقته.

وقال الإمام ابن كثير : هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر الناس بالتأسى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب ، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه ـ تعالى ـ .. (٢).

والذي يقرأ السيرة النبوية الشريفة. يرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في هذه الغزوة بصفة خاصة ، وفي غيرها بصفة عامة القدوة الحسنة الطيبة في كل أقواله وأفعاله وأحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

لقد شارك أصحابه في حفر الخندق ، وفي الضرب بالفأس. وفي حمل التراب بل وشاركهم في أراجيزهم وأناشيدهم ، وهم يقومون بهذا العمل الشاق المتعب.

وشاركهم في تحمل آلام الجوع ، وآلام السهر .. بل كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القائد الحازم الرحيم ، الذي يلجأ إليه أصحابه عند ما يعجزون عن إزالة عقبة صادفتهم خلال حفرهم للخندق.

قال ابن إسحاق ما ملخصه : وعمل المسلمون فيه ـ أى في الخندق ـ حتى أحكموه ، وارتجزوا فيه برجل من المسلمين يقال له «جعيل» سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرا ، فقالوا :

سماه من بعد جعيل عمرا

وكان للبائس يوما ظهرا

فإذا مروا بعمرو ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عمرا» وإذا مروا بظهر قال : «ظهرا».

ثم قال ابن إسحاق : وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها تحقيق نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان فيما بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدث ، أنهم اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية ـ أى صخرة عظيمة ـ ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية ، فيقول من

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٥٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٩٢.

١٩٣

حضرها : فو الذي بعثه بالحق نبيا لانهالت ـ أى : لتفتت ـ حتى عادت كالكثيب ـ أى كالرمل المتجمع ـ لا ترد فأسا ولا مسحاة (١).

وهذه الآية الكريمة وإن كان نزولها في غزوة الأحزاب ، إلا أن المقصود بها وجوب الاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع أقواله وأفعاله ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

والجار والمجرور في قوله ـ سبحانه ـ : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) متعلق بمحذوف صفة لقوله (حَسَنَةٌ) ، أو بهذا اللفظ نفسه وهو (حَسَنَةٌ).

والمراد بمن كان يرجو الله واليوم الآخر : المؤمنون الصادقون الذين وفوا بعهودهم.

أى : لقد كان لكم ـ أيها الناس ـ قدوة حسنة في نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه القدوة الحسنة كائنة وثابتة للمؤمنين حق الإيمان. الذين يرجون ثواب الله ـ تعالى ـ ، ويؤملون رحمته يوم القيامة ، إذ هم المنتفعون بالتأسى برسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) معطوف على (كانَ) ، أى : هذه الأسوة الحسنة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر ، ولمن ذكر الله ـ تعالى ـ ذكرا كثيرا ، لأن الملازمة لذكر الله ـ تعالى ـ توصل إلى طاعته والخوف منه ـ سبحانه ـ.

وجمع ـ سبحانه ـ بين الرجاء والإكثار من ذكره ، لأن التأسى التام بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتحقق إلا بهما.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ـ على سبيل التشريف والتكريم ـ ما قاله المؤمنون الصادقون عند ما شاهدوا جيوش الأحزاب ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً).

واسم الإشارة (هذا) يعود إلى ما رأوه من الجيوش التي جاء بها المشركون ، أو إلى ما حدث لهم من ضيق وكرب بسبب ذلك.

أى : وحين رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أقبلت نحو المدينة ، لم يهنوا ولم يجزعوا ، بل ثبتوا على إيمانهم وقالوا (هذا) الذي نراه من خطر داهم ، هو ما وعدنا به الله ورسوله ، وأن هذا الخطر سيعقبه النصر ، وهذا الضيق سيعقبه الفرج ، وهذا العسر سيأتى بعده اليسر.

__________________

(١) راجع السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٢٢٩ وما بعدها.

١٩٤

قال الآلوسى ما ملخصه : وأرادوا بقولهم ذلك ، ما تضمنه قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).

وكان نزول هذه الآية قبل غزوة الخندق بحول ـ كما جاء عن ابن عباس.

وفي رواية عن ابن عباس ـ أيضا ـ أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا ، أى : في آخر تسع ليال أو عشر ، أى : من وقت الاخبار ، أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا في الموعد الذي حدده صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا ذلك (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) داخل في حيز ما قالوه.

أى : قالوا عند ما شاهدوا جيوش الأحزاب : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وقالوا ـ أيضا ـ على سبيل التأكيد وقوة اليقين والتعظيم لذات الله ، ولشخصية رسوله : وصدق الله ورسوله ، أى : وثبت صدق الله ـ تعالى ـ في أخباره ، وصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله.

والضمير في قوله : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) يعود إلى ما رأوه من جيوش الأحزاب ، ومن شدائد نزلت بهم بسبب ذلك.

أى ـ وما زادهم ما شاهدوه من جيوش الأحزاب ، ومن بلاء أحاط بهم بسبب ذلك ، إلا إيمانا بقدرة الله ـ تعالى ـ وتسليما لقضائه وقدره ، وأملا في نصره وتأييده.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذا المديح لهم ، مديحا آخر فقال : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) والنحب : النذر ، وهو أن يلتزم الإنسان الوفاء بأمر تعهد به.

وقضاؤه : الفراغ منه ، والوفاء به على أكمل وجه.

وكان رجال من الصحابة قد نذروا ، أنهم إذا صاحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرب ، أن يثبتوا معه ، وأن لا يفروا عنه.

والمعنى : من المؤمنين رجال كثيرون ، وفوا أكمل وفاء بما عاهدوا الله ـ تعالى ـ عليه ، من التأييد لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الثبات معه في كل موطن.

(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أى : فمنهم من وفى بوعده حتى أدركه أجله فمات شهيدا ـ

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٦٩.

١٩٥

كحمزة بن عبد المطلب ، ومصعب ابن عمير وغيرهما ـ رضى الله عنهم أجمعين ـ.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) أى : ومنهم من هو مستمر على الوفاء ، وينتظر الشهادة في سبيل الله ـ تعالى ـ في الوقت الذي يريده ـ سبحانه ـ ويختاره ، كبقية الصحابة الذين نزلت هذه الآية وهم ما زالوا على قيد الحياة.

قال الامام ابن كثير : قال الامام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال أنس : غاب عمى أنس بن النضر ـ سمّيت به ـ لم يشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غبت عنه ، لئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليريّن الله ما أصنع. قال : فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد.

فاستقبل سعد بن معاذ ، فقال له أنس : يا أبا عمرو ، أين واها (١) لريح الجنة أجده دون أحد.

قال : فقاتلهم حتى قتل : قال : فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته ـ عمتي الرّبيّع ابنة النضر ـ فما عرفت أخى إلا ببنانه.

قال : فنزلت هذه الآية : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه ـ رضى الله عنهم ، ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) معطوف على (صَدَقُوا) أى : هؤلاء الرجال صدقوا صدقا تاما في عهودهم مع الله ـ تعالى ـ حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم ، وما غيروا ولا بدلوا شيئا مما عاهدوا الله ـ تعالى ـ عليه.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة من هذا الابتلاء والاختبار فقال : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ).

أى : فعل ـ سبحانه ـ ما فعل في غزوة الأحزاب من أحداث ، ليجزي الصادقين في إيمانهم الجزاء الحسن الذي يستحقونه بسبب صدقهم ووفائهم.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) أى : إن شاء تعذيبهم بسبب موتهم على نفاقهم.

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) من نفاقهم بفضله وكرمه فلا يعذبهم.

__________________

(١) واها : كلمة تحنن وتلهف قالها أنس لسعد ـ رضى الله عنهما.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٩٥.

١٩٦

قال الجمل : وقوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) جوابه محذوف ، وكذلك مفعول (شاءَ) محذوف ـ أيضا ـ أى : إن شاء تعذيبهم عذبهم.

والمراد بتعذيبهم إماتتهم على النفاق ، بدليل العطف في قوله (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (١).

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (كانَ) وما زال (غَفُوراً رَحِيماً) أى : واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده.

ثم بين ـ سبحانه ـ المصير السيئ الذي انتهى إليه الكافرون فقال : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً).

أى : ورد الله ـ تعالى ـ بفضله وقدرته الذين كفروا عنكم ـ أيها المؤمنون ـ حالة كونهم متلبسين بغيظهم وحقدهم. دون أن ينالوا أى خير من إتيانهم إليكم ، بل رجعوا خائبين خاسرين.

فقوله (بِغَيْظِهِمْ) حال من الموصول ، والباء للملابسة ، وجملة (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) حال ثانية من الموصول أيضا.

وقوله : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بيان للمنة العظمى التي امتن بها ـ سبحانه ـ عليهم.

أى : وأغنى الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه المؤمنين عن متاعب القتال وأهواله بأن أرسل على جنود الأحزاب ريحا شديدة ، وجنودا من عنده.

(وَكانَ اللهُ) ـ تعالى ـ (قَوِيًّا) على إحداث كل أمر يريده (عَزِيزاً) أى : غالبا على كل شيء.

قال ابن كثير : وفي قوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش. وهكذا وقع بعدها ، لم يغزهم المشركون ، بل غزاهم المسلمون في بلادهم.

قال محمد بن إسحاق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا : «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك المسلمين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يغزوهم بعد ذلك ، حتى فتح الله عليه مكة.

وروى الإمام أحمد عن سليمان بن صرد قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يوم

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٣١.

١٩٧

الأحزاب : «الآن نغزوهم ولا يغزونا» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الحديث عن غزوة الأحزاب ، ببيان ما حل ببني قريظة من عذاب مهين ، بسبب نقضهم لعهودهم فقال : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ).

والصياصي : جمع صيصية وهي كل ما يتحصن به من الحصون وغيرها. ومنه قيل لقرن الثور صيصية لأنه يدفع به عن نفسه.

أى : وبعد أن رحلت جيوش الأحزاب عنكم أيها المؤمنون ـ أنزل الله ـ تعالى ـ بقدرته الذين ظاهروهم وناصروهم عليكم ، وهم يهود بنى قريظة ، أنزلهم من حصونهم ، ومكنكم من رقابهم.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الشديد منكم ، بحيث صاروا مستسلمين لكم ، ونازلين على حكمكم.

(فَرِيقاً) منهم (تَقْتُلُونَ) وهم الرجال. وتأسرون فريقا آخر وهم الذرية والنساء.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) أى : وأورثكم الله ـ تعالى ـ أرض هؤلاء اليهود وزروعهم كما أورثكم (دِيارَهُمْ) أى حصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) التي تركوها من خلفهم ، كنقودهم ومواشيهم.

كما أورثكم (أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بعد يقصد القتال وهي أرض خيبر ، أو أرض فارس والروم.

وفي هذه الجملة الكريمة (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بشارة عظيمة للمؤمنين ، بأن الله ـ تعالى ـ سينصرهم على أعدائهم.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

أخرج الشيخان عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : «لما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق ، ووضع السلاح واغتسل ، أتاه جبريل فقال : يا محمد قد وضعت السلاح ، والله ما وضعناه فاخرج إليهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإلى أين؟ قال : هاهنا. وأشار إلى بنى قريظة. فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم».

وعن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم الأحزاب ، لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٩٦.

١٩٨

بعضهم : لا نصلّى حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلّى ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يعنف أحدا (١).

وبعد أن حاصر المسلمون بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة ، نزلوا بعدها على حكم سعد بن معاذ ـ رضى الله عنه ـ فحكم بقتل رجالهم ، وتقسيم أموالهم ، وسبى نسائهم وذراريهم.

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات» (٢).

وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حدثتنا حديثا جامعا حكيما عن غزوة الأحزاب ، فقد ذكرت المؤمنين ـ أولا ـ بنعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، ثم صورت أحوالهم عند ما أحاطت بهم جيوش الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم.

ثم حكت ما قاله المنافقون في تلك الساعات العصيبة ، وما أشاروا به على أشباههم في النفاق ، وما اعتذروا به من أعذار باطلة ، وما جبلوا عليه من أخلاق قبيحة ، على رأسها الجبن والخور وضعف العزيمة وفساد النية.

ثم انتقلت إلى الحديث عن المواقف المشرقة الكريمة التي وقفها المؤمنون الصادقون عند ما رأوا الأحزاب ، وكيف أنهم ازدادوا إيمانا على إيمانهم ، ووفوا بعهودهم مع الله ـ تعالى ـ دون أن يبدلوا تبديلا.

وكما بدئت الآيات بتذكير المؤمنين بنعم الله ـ تعالى ـ عليهم ، ختمت ـ أيضا ـ بهذا التذكير حيث رد الله أعداءهم عنهم دون أن ينالوا خيرا ، ومكنهم من معاقبة الغادرين من اليهود.

ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى ـ بعد هذا الحديث عن غزوة الخندق ـ إلى بيان التوجيهات الحكيمة التي وجهها الله ـ تعالى ـ إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أزواجه ، فقال ـ سبحانه ـ :

__________________

(١) صحيح البخاري : باب مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب ج ٥ ص ١٤٢.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩٧ والآلوسى ج ٢١ ص ١٧٦.

١٩٩

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)(٢٩)

ففي هاتين الآيتين يأمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخير أزواجه بين أن يعشن معه معيشة الكفاف والزهد في زينة الحياة الدنيا وبين أن يفارقهن ليحصلن على ما يشتهينه من زينة الحياة الدنيا.

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : قال علماؤنا : هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل : سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل : سألنه زيادة في النفقة.

روى البخاري ومسلم ـ واللفظ لمسلم ـ عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبى بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا حوله نساؤه.

قال : فقال عمر ، والله لأقولن شيئا يضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت زيد ـ زوجة عمر ـ سألتنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هن حولي كما ترى يسألننى النفقة».

فقام أبو بكر إلى ابنته عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى ابنته حفصة ليضربها وكلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ليس عنده.

فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أبدا ليس عنده.

ثم نزلت هاتان الآيتان. فبدأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة فقال لها : «يا عائشة ، إنى أريد أن أعرض عليك أمرا ، أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيرى أبويك».

قالت : وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها هاتين الآيتين. فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوى!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة.

٢٠٠