التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

تفسير

سورة الأحزاب

١٦١
١٦٢

مقدّمة

١ ـ سورة الأحزاب هي السورة الثالثة والثلاثون في ترتيب المصحف وهي من السور المدنية ، وكان نزولها بعد سورة آل عمران ، أى : أنها من أوائل السور المدنية ، إذ لم يسبقها في النزول بعد الهجرة سوى سور : البقرة والأنفال وآل عمران.

ويبدو : أن نزولها كان في الفترة التي أعقبت غزوة بدر ، إلى ما قبل صلح الحديبية. وعدد آياتها ثلاث وسبعون آية.

٢ ـ وقد افتتحت سورة الأحزاب بنداء من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نهته فيه عن طاعة المنافقين والكافرين ، وأمرته بالمداومة على طاعة الله ـ تعالى ـ وحده ، وباتباع أمره ، وبالتوكل عليه ـ سبحانه ـ.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً* وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

٣ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان حكم الله ـ تعالى ـ في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت ، فأبطلت التبني ، كما أبطلت ما كان سائدا في المجتمع من عادة الظهار ، وهو أن يقول الرجل لزوجته : أنت على كظهر أمى ، فتصير محرمة عليه حرمة مؤبدة.

قال ـ تعالى ـ : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ، وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ).

٤ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الأحكام التشريعية الأخرى ، كوجوب طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة تفوق طاعتهم لأنفسهم ، ولوجوب تعظيم المسلمين لزوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتعظيم أمهاتهم ، وكوجوب التوارث بين الأقارب بالطريقة التي بينها ـ

١٦٣

سبحانه ـ في آيات أخرى ، وإبطال التوارث عن طريق المؤاخاة التي تمت بعد الهجرة بين المهاجرين والأنصار.

قال ـ تعالى ـ : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).

٥ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، ذكرهم فيه بجانب من نعمه عليهم ، حيث دفع عنهم جيوش الأحزاب ، وأرسل على تلك الجيوش جنودا من عنده لم يروها ، وكشف عن رذائل المنافقين التي ارتكبوها في تلك الغزوة ، ومدح المؤمنين الصادقين على وفائهم بعهودهم ، وكافأهم على ذلك بأن أورثهم أرض أعدائهم وديارهم.

قال ـ تعالى ـ : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ. وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

وبعد هذا الحديث المفصل عن غزوة الأحزاب ، والذي استغرق ما يقرب من عشرين آية ، انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخيرهن بين التسريح بإحسان ، وبين الصبر على شظف العيش ، ليظفرن برضا الله ـ تعالى ـ كما وجهت نداء إليهن أمرتهن فيه ، بالتزام الآداب الدينية التي تليق بهن. لأنهن في مكان القدوة لسائر النساء.

كما أمرتهن بالبقاء في بيوتهن ، فلا يخرجن لغير حاجة مشروعة. ومثلهن في ذلك مثل سائر نساء المسلمين. حتى يتفرغن لرعاية شئون بيوتهن التي هي من خصائصهن وليست من خصائص الرجال.

ثم ختم ـ سبحانه ـ تلك التوجيهات الحكيمة ببيان الثواب الجزيل الذي أعده للمؤمنين والمؤمنات ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ. وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ. أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

٧ ـ ثم أشارت السورة بعد ذلك إلى قصة زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيدة زينب بنت جحش. وإلى الحكمة من ذلك. وإلى تطليق زيد بن حارثة لها. وإلى أن ما فعله

١٦٤

رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة لهذه الحادثة. كان بأمر الله ـ تعالى ـ وإذنه.

قال ـ تعالى ـ : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ، سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ. وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ، وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

ثم وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بالإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ ومن تسبيحه وتنزيهه. كما وجهت نداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينت له فيه وظيفته ، قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً).

٩ ـ ثم تحدثت السورة بعد ذلك بشيء من التفصيل عن بعض الأحكام التي تتعلق بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعلاقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهن من حيث القسم وغيره ، ومن حيث الزواج بغيرهن.

كما تحدثت عن الآداب التي يجب على المؤمنين أن يلتزموها عند دخولهم بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة منه. لأجل تناول طعام ، أو لأجل أمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بدينهم أو دنياهم.

ثم ختمت هذه الآيات بقوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

١٠ ـ وبعد هذا البيان المفصل لكثير من الأحكام والآداب ، أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في تهديد المنافقين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وفي بيان أن سنن الله في خلقه لا تتخلف ، وأن علم وقت قيام الساعة إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، وأن الإصرار على الكفر يؤدى إلى سوء العاقبة ، وأن السير على طريق الحق. يؤدى إلى مغفرة الذنوب. وأن الإنسان قد ارتضى حمل الأمانة. التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ، وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ، وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

١٦٥

١١ ـ ومن هذا العرض المجمل لآيات سورة الأحزاب ، نرى أنها قد اهتمت بموضوعات من أبرزها ما يلي :

(أ) كثرة التوجيهات والإرشادات ، من الله ـ تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أفضل الأحكام ، وأقوم الآداب ، وأهدى السبل.

وهذه التوجيهات والإرشادات. نراها في كثير من آيات سورة الأحزاب لا سيما التي نادت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف النبوة.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ).

وقوله ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ).

(ب) أمر المؤمنين بطاعة الله ـ تعالى ـ ، وبطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهيهم عن كل مأمن شأنه أن يتعارض مع تشريعات الإسلام ومع آدابه.

وهذه الأوامر والنواهي ، نراها في كثير من آيات هذه السورة الكريمة.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها.) ...

وقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ، فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

(ج) هذه السورة الكريمة تعتبر على رأس السور القرآنية التي اهتمت ببيان فضل نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقوقهن ، وواجباتهن وخصائصهن.

١٦٦

ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ.) ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ.) ...

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ ، وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ.) ...

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ.) ..

وقوله ـ تعالى ـ : (... وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.) ..

وقوله ـ عزوجل ـ : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ...

(د) هذه السورة تعتبر من أجمع السور القرآنية التي تعرضت لكثير من الأحكام الشرعية ، والآداب الاجتماعية ، التي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان.

ومن ذلك حديثها عن الظهار ، وعن التبني. وعن التوارث بين الأقارب دون غيرهم ، وعن وجوب تقديم طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طاعة الإنسان لنفسه ، وعن وجوب التأسى به ، وعن وجوب الابتعاد عن كل ما يؤذيه أو يجرح شعوره ، وعن وجوب الخضوع لحكم الله ـ تعالى ـ ولحكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً).

(ه) السورة الكريمة فصلت الحديث عن غزوة الأحزاب ، التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة بين المسلمين وأعدائهم.

فبدأت حديثها عن تلك الغزوة بتذكير المؤمنين بفضل الله ـ تعالى ـ عليهم في هذه الغزوة ، ثم صورت أحوالهم عند إحاطة جيوش الأحزاب بالمدينة المنورة.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا).

١٦٧

ثم حكت أقوال المنافقين القبيحة ، وأفعالهم الذميمة ، وردت عليهم بما يفضحهم ، وبما يكشف عن سوء أخلاقهم.

قال ـ تعالى ـ : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

ثم مدحت المؤمنين الصادقين لوفائهم بعهودهم ، ولشجاعتهم في مواجهة أعدائهم.

قال ـ سبحانه ـ : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

وكما بدأت السورة حديثها عن غزوة الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ـ ختمته ـ أيضا ـ بهذا التذكير ، لكي يزدادوا شكرا له ـ عزوجل ـ.

قال ـ تعالى ـ : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

(و) والخلاصة أن المتأمل في سورة الأحزاب ، يراها زاخرة بالأحكام الشرعية ، وبالآداب الاجتماعية ، وبالتوجيهات الربانية ، تارة من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتارة لأزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتارة للمؤمنين.

كما يراها تهتم اهتماما واضحا بتنظيم المجتمع الإسلامى تنظيما حكيما ، من شأنه أن يأخذ بيد المتبعين له إلى السعادة الدنيوية والأخروية.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٦٨

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٣)

افتتحت سورة الأحزاب بهذا النداء لسيد الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبهذا الوصف الكريم ، وهو الوصف بالنبوة ، على سبيل التشريف والتعظيم.

قال صاحب الكشاف : جعل ـ سبحانه ـ نداءه بالنبي والرسول في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ). (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وترك نداءه باسمه ، كما قال : يا آدم ، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود : كرامة له وتشريفا ، وتنويها بفضله.

فإن قلت : إن لم يوقع اسمه في النداء. فقد أوقعه في الإخبار ، في قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)؟

قلت : ذلك لتعليم الناس بأنه رسول ، وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به (١).

والمراد بأمره بتقوى الله : المداومة على ذلك ، والازدياد من هذه التقوى.

أى : واظب ـ أيها النبي الكريم ـ على تقوى الله ، وعلى مراقبته ، وعلى الخوف منه ، وأكثر من ذلك ، فإن تقوى الله ، على رأس الفضائل التي يحبها ـ سبحانه ـ.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥١٨.

١٦٩

قال ابن كثير : هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى ، فإنه ـ تعالى ـ إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا ، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى.

وقد قال خلف بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله (١).

وبعد الأمر بالتقوى ، جاء النهى عن طاعة غير المؤمنين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ). أى : واظب ـ أيها النبي الكريم ـ على تقوى الله ، واجتنب طاعة الكافرين الذين جحدوا نعم الله عليهم ، وعبدوا معه آلهة أخرى ، واجتنب كذلك طاعة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر.

وفي إيراد هذا النهى بعد الأمر بتقوى الله ، إشارة وإيحاء إلى ما كان يبذله هؤلاء الكافرون والمنافقون من جهود عنيفة ، لزحزحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما هو عليه من حق ، ولصرفه عن دعوتهم إلى الإسلام.

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أن جماعة من أهل مكة ، طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع عن قوله ، وأن يعطوه شطر أموالهم ، وأن المنافقين واليهود بالمدينة هددوه بالقتل إن لم يرجع عن دعوتهم إلى الإسلام ، فنزلت (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) : تعليل الأمر والنهى ، أى : اتبع ما أمرناك به ، وما نهيناك عنه ، لأن الله ـ تعالى ـ عليم بكل شيء ، وحكيم في كل أقواله وأفعاله.

ثم أمره ـ سبحانه ـ باتباع ما يوحيه إليه فقال : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ..

أى : واظب على تقوى الله ، وابتعد عن طاعة أعدائك ، واتبع في كل ما تأتى وتذر ، كل ما نوحيه إليك من عندنا اتباعا تاما.

فالجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. من قبيل عطف العام على الخاص.

وفي النص على أن الوحى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن هذا الوحى من ربه الذي تولاه بالتربية والرعاية ، إشعار بوجوب الاتباع التام الذي لا يشوبه انحراف أو تردد.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا الأمر تأكيدا قويا فقال : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أى : إنه ـ تعالى ـ خبير ومحيط بحركات النفوس وبخفايا القلوب ، وكل من يخالف

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٧٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٤٠.

١٧٠

ما أمرناه به ، أو نهيناه عنه ، فلا يخفى علينا أمره ، وسنجازيه يوم القيامة بما يستحقه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أى : وفوض أمرك إليه ـ عزوجل ـ وحده.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أى : وكفى بربك حافظا لك ، وكفيلا بتدبير أمرك.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد تضمنت ثلاثة أوامر : تقوى الله ، واتباع وحيه ، والتوكل عليه ـ تعالى ـ وحده. كما تضمنت نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طاعة الكافرين والمنافقين. وباتباع هذه الأوامر والنواهي ، يسعد الأفراد ، وتسعد الأمم.

ثم أبطل ـ سبحانه ـ بعض العادات التي كان متفشية في المجتمع ، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإسلام وآدابه ، فقال ـ تعالى ـ :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٥)

قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) نزلت في رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهري ، كان حفاظا لما يسمع ، وكان يقول : لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر ، ومعهم هذا الرجل ، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله ـ من شدة الهلع ـ ، فقال له أبو سفيان : ما حال الناس؟ قال : انهزموا. فقال له : فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله في يده.

١٧١

وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول ، فأكذبهم الله بقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (١).

ويرى بعضهم : أن هذه الجملة الكريمة ، مثل ضربه الله ـ تعالى ـ للمظاهر من امرأته ، والمتبنى ولد غيره ، تمهيدا لما بعده.

أى : كما أن الله ـ تعالى ـ لم يخلق للإنسان قلبين في جوفه ، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له في وقت واحد ، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له في زمن واحد.

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : أى : ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوة ودعوة في رجل .. لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والزوجة ليست كذلك.

ولأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير.

فإن قلت : أى فائدة في ذكر الجوف؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلي للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه.

يقال. ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها ، إذا قال لها : أنت على كظهر أمى ، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه.

وقد جاء الكلام عن الظهار ، وعن حكمه ، وعن كفارته ، في سورة المجادلة ، في قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ، وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ، وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ، وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) إبطال لعادة أخرى كانت موجودة ، وهي عادة التبني.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١١٦.

(٢) تفسير الكشاف ـ بتصرف وتلخيص ـ ج ٣ ص ٥٢١.

١٧٢

والأدعياء : جمع دعى. وهو الولد الذي يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره ، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ، ومنها حرمة زواج الأب بزوجة ابنه بالتبني بعد طلاقها ، ومنها التوارث فيما بينهما.

قال ابن كثير : وقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) هذا هو المقصود بالنفي ، فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة ، مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له زيد بن محمد. فأراد الله ـ تعالى ـ أن يقطع هذا الإلحاق ، وهذه النسبة بقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، كما قال في أثناء السورة : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار ، ومن إجراء التبني على ولد الغير ، وهو مبتدأ ، وما بعده خبر.

أى : ذلكم الذي تزعمونه من تشبيه الزوجة بالأم في التحريم ، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين ، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع ، ولا يسانده الحق.

قال ابن جرير : وقوله : (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) يقول ـ تعالى ذكره ـ هذا القول ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت على كظهر أمى ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، ولا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها : أنت على كظهر أمى (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أى : والله ـ تعالى ـ يقول الحق الثابت الذي لا يحوم حوله باطل ، وهو ـ سبحانه ـ دون غيره يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذي يوصل إلى الخير والصلاح. وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التي ألفتموها. والتي أبطلها الله ـ تعالى ـ بحكمته ، واتبعوا ما يأمركم به ـ سبحانه ـ.

ثم أرشدهم إلى الطريقة السليمة في معاملة الابن المتبنى فقال : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أى : انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم ، فإن هذا النسب هو أقسط وأعدل عند الله ـ تعالى ـ.

قال الآلوسى : أخرج الشيخان عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ أن زيد بن حارثة مولى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٧٧.

(٢) تفسير ابن جرير ج ٢١ ص ٧٥.

١٧٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد. حتى نزل القرآن : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل» (١).

وكان زيد قد أسر في بعض الحروب ، ثم بيع في مكة ، واشتراه حكيم بن حزام ، ثم أهداه إلى عمته السيدة خديجة ، ثم أهدته خديجة ـ رضى الله عنها ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار الناس يقولون : زيد بن محمد حتى نزلت الآية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) إرشاد إلى معاملة هؤلاء الأدعياء في حالة عدم معرفة آبائهم.

أى : انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم الحقيقيين ، فإن ذلك أعدل عند الله ـ تعالى ـ ، وأشرف للآباء والأبناء ، فإن لم تعلموا آباءهم الحقيقيين لكي تنسبوهم إليهم ، فهؤلاء الأدعياء هم إخوانكم في الدين والعقيدة ، وهم مواليكم ، فقولوا لهم ، يا أخى أو يا مولاي ، واتركوا نسبتهم إلى غير آبائهم الشرعيين.

وفي هذه الجملة الكريمة إشارة إلى ما كان عليه المجتمع الجاهلى من تخلخل في العلاقات الجنسية ، ومن اضطراب في الأنساب ، وقد عالج الإسلام كل ذلك بإقامة الأسرة الفاضلة ، المبنية على الطهر والعفاف ، ووضع الأمور في مواضعها السليمة.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر اليسر ورفع الحرج في تشريعاته فقال : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ، وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

أى. انسبوا ـ أيها المسلمون ـ الأبناء إلى آبائهم الشرعيين ، فإن لم تعرفوا آباءهم فخاطبوهم ونادوهم بلفظ : يا أخى أو يا مولاي. ومع كل ذلك فمن رحمتنا بكم أننا لم نجعل عليكم جناحا أو إثما ، فيما وقمتم فيه من خطأ غير مقصود بنسبتكم بعض الأبناء الأدعياء إلى غير آبائهم ، ولكننا نؤاخذكم ونعاقبكم فيما تعمدته قلوبكم من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم.

و (كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ـ وما زال واسع المغفرة والرحمة لمن يشاء من عباده.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين : حرص شريعة الإسلام على إعطاء كل ذي حق حقه ، ومن مظاهر ذلك إبطال الظهار الذي كان يجعل المرأة محرمة على الرجل ، ثم تبقى بعد ذلك معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غير زوجها ، ولا هي زوجة فتحل له فشرع الإسلام كفارة الظهار إنصافا للمرأة ، وحرصا على كرامتها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٤٧.

١٧٤

ومن مظاهر ذلك ـ أيضا ـ : إبطال عادة التبني ، حتى ينتسب الأبناء إلى آبائهم الشرعيين ، وحتى تصير العلاقات بين الآباء والأبناء قائمة على الأسس الحقيقية والواقعية.

ولقد حذر الإسلام من دعوى الإبن إلى غير أبيه تحذيرا شديدا. ونفر من ذلك.

قال القرطبي : جاء في الحديث الصحيح عن سعد بن أبى وقاص وأبى بكرة ، كلاهما قال : سمعته أذناى ووعاه قلبي ، محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» وفي حديث أبى ذر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحو أزواجه ، وما يجب للأقارب فيما بينهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦)

أى : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى في المحبة والطاعة ، فإذا ما دعاهم إلى أمر ، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه ، على ما تدعوهم إليه أنفسهم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم ، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم.

وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنما مثلي ومثل أمتى ، كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه ـ أى في الشيء المستوقد ـ وأنا آخذ بحجزكم ـ أى : وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإزار ـ وأنتم تقحمون فيه» أى : وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم ـ.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٢١.

١٧٥

قال القرطبي : قال العلماء : الحجزة : السراويل ، والمعقد للإزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا (١).

وقال الإمام ابن كثير. قد علم الله ـ تعالى ـ شفقة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمته ، ونصحه لهم : فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم.

وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين».

وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرءوا إن شئتم : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه».

وروى الإمام أحمد عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى ، ومن ترك مالا فلورثته (٢).

وقال الآلوسى : وإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين ، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عليهم أنفذ من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها.

وسبب نزول الآية ـ على ما قيل ـ ما روى من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج : فقال أناس منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت. ووجه دلالتها على السبب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان أولى من أنفسهم ، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ منزلة أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة للمؤمنين فقال : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أى : وأزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة أمهاتكم ـ أيها المؤمنون ـ في الاحترام والإكرام ، وفي حرمة الزواج بهن.

قالوا : وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن. فهن كالأجنبيات.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال ـ تعالى ـ (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٢٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٨١.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٦١.

١٧٦

والمراد بأولى الأرحام : الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء ، والإخوة ، والأخوات.

وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) متعلق بقوله (أَوْلى) أو بمحذوف على أنه حال من الضمير في (أَوْلى).

والمراد بالمؤمنين والمهاجرين. من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة.

قال ابن كثير : وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ـ عزوجل ـ فينا خاصة معشر قريش والأنصار : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وذلك أنا معشر قريش ، لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان ، فواخيناهم ووارثناهم ... حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا (١).

وشبيه بهذه الآية في وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم ، قوله ـ تعالى ـ في آخر آية من سورة الأنفال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

والاستثناء في قوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) رجح بعضهم أنه استثناء منقطع. وقوله (أَنْ تَفْعَلُوا) مبتدأ ، وخبره محذوف.

والمراد بالكتاب في قوله (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) القرآن الكريم ، أو اللوح المحفوظ.

والمعنى : وأولو الأرحام وهم الأقارب ، بعضهم أولى ببعض في التوارث فيما بينهم ، وفي تبادل المنافع بعضهم مع بعض ، وهذه الأولوية والأحقية ثابتة في كتاب الله ـ تعالى ـ حيث بين لكم في آيات المواريث التي بسورة النساء ، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب ، وهم بهذا البيان أولى في ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة.

هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث ، لكن إذا أردتم ـ أيها المؤمنون ـ أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا ، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس ، ولا حرج عليكم في ذلك.

وهذا الحكم الذي بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب ، كان مسطورا ومكتوبا في

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٨٣.

١٧٧

اللوح المحفوظ ، وفي آيات القرآن التي سبق نزولها ، فاعملوا بما شرعناه لكم ، واتركوا ما نهيناكم عنه.

قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، من صدقة أو وصية ، فإن ذلك جائز.

وإما منقطع. والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به.

والإشارة بقوله : (كانَ ذلِكَ) تعود إلى ما تقدم ذكره. أى : كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة ، ورده إلى ذوى الأرحام من القرابات (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أى : في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن مكتوبا (١).

وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم ، وما يجب عليهم نحو أزواجه ، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث.

ثم ذكر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعهد الذي أخذه عليه وعلى الأنبياء من قبله ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨)

والميثاق : العهد الموثق المؤكد ، مأخوذ من لفظ وثق ، المتضمن معنى الشد والربط على الشيء بقوة وإحكام.

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وقت أن أخذنا من جميع النبيين العهد الوثيق ، على أن يبلغوا ما أوحيناه إليهم من هدايات للناس ، وعلى أن يأمروهم بإخلاص العبادة لنا ، وعلى أن يصدق بعضهم بعضا في أصول الشرائع ومكارم الأخلاق .. كما أخذنا هذا العهد الوثيق منك ، ومن أنبيائنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٦ ص ٢٦٢.

١٧٨

وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر ، للتنويه بفضلهم ، فهم أولو العزم من الرسل ، وهم الذين تحملوا في سبيل إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ أكثر مما تحمل غيرهم.

وقدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم في قوله (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) لمزيد فضله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع الأنبياء.

قال الآلوسى : ولا يضر تقديم نوح ـ عليه‌السلام ـ في سورة الشورى ، أعنى قوله ـ تعالى ـ : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إذ لكل مقام مقال. والمقام في سورة الشورى وصف دين الإسلام بالأصالة. والمناسب فيه تقديم نوح ، فكأنه قيل : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) معطوف على ما قبله وهو (أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) ، لإفادة تفخيم شأن هذا الميثاق المأخوذ على الأنبياء ، وبيان أنه عهد في أقصى درجات الأهمية والشدة.

أى : وأخذنا من هؤلاء الأنبياء عهدا عظيم الشأن ، بالغ الخطورة ، رفيع المقدار.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما ذا أراد بالميثاق الغليظ؟

قلت : أراد به ذلك الميثاق بعينه. إذ المعنى : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا.

والغلظ استعارة في وصف الأجرام. والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه.

وقيل : المراد بالميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حملوا (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) متعلق بقوله : (أَخَذْنا) ، أو بمحذوف. والمراد بالصادقين : الأنبياء الذين أخذ الله عليهم الميثاق.

أى : فعل ـ سبحانه ـ ذلك ليسأل يوم القيامة أنبياءه عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم ، وعن موقف هؤلاء الأقوام منهم.

والحكمة من هذا السؤال تشريف هؤلاء الرسل وتكريمهم ، وتوبيخ المكذبين لهم فيما جاءوهم به من كلام صادق ومن إرشاد حكيم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) معطوف على ما دل عليه قوله ، ليسأل الصادقين.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٥٤.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٢٥.

١٧٩

أى : أثاب ـ عزوجل ـ الأنبياء الكرام بسبب صدقهم في تبليغ رسالته وأعد للكافرين الذين أعرضوا عن دعوة أنبيائهم عذابا أليما ، بسبب هذا الإعراض.

وهكذا جمعت الآية الكريمة بين ما أعده ـ سبحانه ـ من ثواب عظيم للصادقين. ومن عذاب أليم للكافرين.

وبعد هذا البيان الحكيم لبعض الأحكام الشرعية. انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن غزوة الأحزاب ، وعن فضل الله ـ تعالى ـ على المؤمنين فيها ، فقال ـ سبحانه ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً)(١٥)

وغزوة الأحزاب ، من الغزوات الشهيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية ، وكانت ـ على الراجح ـ في شهر شوال من السنة الخامسة بعد الهجرة.

١٨٠