التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الروم ، أى : أنها من أواخر السور المكية في النزول ، إذ أن ترتيبها في النزول الثالثة والثمانون من بين السور المكية ، ولم ينزل بعدها قبل الهجرة سوى سورة المطففين (١) وعدد آياتها تسع وستون آية.

٢ ـ وجمهور العلماء على أنها مكية ، ومنهم من يرى أن فيها آيات مدنية.

قال الآلوسى : عن ابن عباس أنها مكية وذهب إلى ذلك ـ أيضا ـ الحسن وجابر وعكرمة. وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة ... وقال يحيى بن سلام : هي مكية ، إلا من أولها إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ.) .. (٢).

والذي تطمئن إليه النفس أن سورة العنكبوت كلها مكية ، وليس هناك روايات يعتمد عليها في كون بعض آياتها مدنية.

٣ ـ وقد افتتحت سورة العنكبوت ببعض الحروف المقطعة (الم) ، ثم تحدثت عن تكاليف الإيمان ، وأنه يستلزم الامتحان والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وعن الحسنة التي أعدها ـ سبحانه ـ لعباده المؤمنين الصادقين. قال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ).

٤ ـ ثم حكت جانبا من أقوال المشركين ، ومن دعاواهم الكاذبة ، وردت عليهم بما يبطل أقوالهم ، وبما يزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ...

قال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ).

__________________

(١) راجع كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج ١ ص ٢٧.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٣٢.

٥

٥ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، فأشارت إلى قصة نوح مع قومه ، ثم ذكرت بشيء من التفصيل جانبا من قصة إبراهيم مع قومه ، ومن قصة لوط مع قومه ، وأتبعت ذلك بإشارات مركزة تتعلق بقصة شعيب وهود وصالح وموسى مع أقوامهم ...

ثم اختتمت هذه القصص ببيان العاقبة السيئة التي صار إليها المكذبون لرسلهم ، فقال ـ تعالى ـ : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

٦ ـ ثم ضربت السورة الكريمة مثلا لحال الذين أشركوا مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى في العبادة ، فشبهت ما هم عليه من كفر وشرك ـ في ضعفه وهوانه وهلهلته ـ ببيت العنكبوت ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، أن يزدادوا ثباتا على ثباتهم ، وأن يستعينوا على ذلك ، بتلاوة القرآن الكريم ، وبإقامة الصلاة ، وبالإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ.

قال ـ سبحانه ـ : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ).

٧ ـ ثم أمرت السورة الكريمة المؤمنين بأن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ، وأرشدتهم إلى ما يقولونه لهم ، ومدحت من يستحق المدح منهم ، وذمت من يستحق الذم ، وأقامت الأدلة الساطعة على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

قال ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ، فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ* وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

٨ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، حضهم فيه على الهجرة من أرض الكفر إلى دار الإيمان ، ورغبهم في ذلك بوسائل ، منها : إخبارهم بأن الآجال بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، وكذلك الأرزاق بيده وحده ، وأن من استجاب لما أمره الله ـ تعالى ـ به ، أعطاه ـ سبحانه ـ الكثير من خيره وفضله.

قال ـ تعالى ـ (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ* كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ، ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

٦

٩ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ في أواخر السورة ، ألوانا من تناقضات المشركين ، حيث إنهم إذا سألهم سائل عمن خلق السموات والأرض ... قالوا : الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهما ، ومع ذلك فهم يشركون معه في العبادة آلهة أخرى ، وإذا أحاط بهم الموج وهم في السفن ... (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ، وهم يعيشون في حرم آمن ، والناس يتخطفون من حولهم .. ومع ذلك فهم بالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون.

هذا شأنهم ، أما المؤمنون الصادقون فقد وعدهم الله ـ تعالى ـ بما يقر أعينهم فقال في ختام السورة : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).

١٠ ـ وهكذا نرى هذه السورة الكريمة ، وقد حدثتنا ـ من بين ما حدثتنا ـ عن الإيمان وتكاليفه ، وعن سنن الله في خلقه ، وعن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم ، وعن هوان الشرك والشركاء ، وعما يعين المؤمن على طاعة الله ، وعن علاقة المؤمنين بغيرهم ، وعن البراهين الساطعة الناطقة بأن هذا القرآن من عند الله ، وعن أن المؤمن لا يليق به أن يقيم في مكان لا يستطيع فيه أن يؤدى شعائر دينه ، وعن سوء عاقبة الأشرار ، وحسن عاقبة الأخبار ... نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من عباده الأخيار.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوى

٧
٨

تفسير

سورة العنكبوت

٩
١٠

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٧)

سورة العنكبوت من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي (الم) ، ويبلغ عدد السور التي افتتحت بحروف التهجي ، تسعا وعشرين سورة.

وقد سبق أن قلنا : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه ، للذين تحداهم القرآن الكريم ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله ، فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ...

١١

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) للإنكار و (حَسِبَ) من الحسبان بمعنى الظن. وقوله : (يُفْتَنُونَ) من الفتن ، بمعنى الاختبار والامتحان.

يقال : فتنت الذهب بالنار ، أى : أدخلته فيها لتعلم الجيد منه من الخبيث.

وجملة «أن يتركوا» سدت مسد مفعولي حسب ، وجملة «أن يقولوا» في موضع نصب ، على معنى : لأن يقولوا ، وهي متعلقة بقوله : (يُتْرَكُوا). وجملة «وهم لا يفتنون» في موضع الحال من ضمير «يتركوا».

والمعنى : أظن الناس أن يتركوا بدون امتحان ، واختبار ، وابتلاء ، وبدون نزول المصائب بهم ، لأنهم نطقوا بكلمة الإيمان؟ إن ظنهم هذا ظن باطل ، ووهم فاسد ، لأن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط ، بل هو عقيدة تكلف صاحبها الكثير من ألوان الابتلاء والاختبار ، عن طريق التعرض لفقد الأموال والأنفس والثمرات ، حتى يتميز قوى الإيمان من ضعيفه.

قال القرطبي : والمراد بالناس قوم من المؤمنين كانوا بمكة ، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، كسلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد .. فكانت صدورهم تضيق بذلك ، وربما استنكروا أن يمكن الله الكفار من المؤمنين. قال مجاهد وغيره : فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده ، اختبار للمؤمنين وفتنة.

قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال ، فهي باقية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، موجود حكمها بقية الدهر ...» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) مؤكد لما قبله من أن ظن الناس أن يتركوا بدون ابتلاء ، لقولهم آمنا ، هذا الظن في غير محله ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، وأن يجعل الكافرين يتصارعون مع المؤمنين ، إلا أن العاقبة في النهاية للمؤمنين.

والمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (فَلَيَعْلَمَنَّ) .. إظهار علمه ـ سبحانه ـ ، أو المجازاة على الأعمال.

أى : ولقد فتنا الذين من قبل هؤلاء المؤمنين من أصحابك ـ أيها الرسول الكريم ـ ، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا.) .. أى فليظهرن الله ـ تعالى ـ في عالم الواقع حال الذين صدقوا في إيمانهم ، من حال الكاذبين منهم ، حتى ينكشف للناس ما هو غائب عن علمهم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠٤.

١٢

أو المعنى : ولقد فتنا الذين من قبلهم من المؤمنين السابقين ، كأتباع نوح وهود وصالح وغيرهم ، فليجزين الذين صدقوا في إيمانهم بما يستحقون من ثواب ، وليجزين الكاذبين بما يستحقون من عقاب ، ولترتب المجازاة على العلم ، أقيم السبب مقام المسبب.

قال الإمام ابن جرير : قوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا.) .. أى : فليعلمن الله الذين صدقوا منهم في قولهم آمنا ، وليعلمن الكاذبين منهم في قولهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم ، قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قوله آمنا بالله ، من كذب الكاذب منهم ...

وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين ، عذبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم ، حتى أتاهم الله بفرج من عنده» (١).

وفي معنى هاتين الآيتين وردت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٢) وقوله ـ تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ..) (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٤).

وقد ساق الإمام القرطبي عند تفسيره لهاتين الآيتين من سورة العنكبوت عددا من الأحاديث النبوية ، منها قوله : روى البخاري عن خباب بن الأرت قالوا : شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون» (٥).

والخلاصة ، أن المقصود من الآيتين تنبيه الناس في كل زمان ومكان ، إلى أن ظن بعض الناس بأن الإيمان يتعارض مع الابتلاء بالبأساء والضراء ، ظن خاطئ ، وإلى أن هذا الابتلاء سنة ماضية في السابقين وفي اللاحقين إلى يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٢٠ ص ٨٣.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٢.

(٣) سورة التوبة. الآية ١٦.

(٤) سورة محمد. الآية ٣١.

(٥) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٢٤.

١٣

ثم بين ـ سبحانه ـ أن عقابه للمرتكبين السيئات واقع بهم ، وأنهم إذا ظنوا خلاف ذلك ، فظنهم من باب الظنون السيئة القبيحة ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ).

و «أم» هنا منقطعة بمعنى بل ، والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، وقوله : (أَنْ يَسْبِقُونا) سد مسد مفعولي حسب ، وأصل السبق : الفوت والتقدم على الغير. والمراد به هنا : التعجيز ، والمعنى : بل أحسب الذين يعملون الأعمال السيئات كالكفر والمعاصي ، «أن يسبقونا» أى : أن يعجزونا فلا نقدر على عقابهم ، أو أن في إمكانهم أن يهربوا من حسابنا لهم؟ إن كانوا يظنون ذلك فقد : «ساء ما يحكمون» أى : بئس الظن ظنهم هذا ، وبئس الحكم حكمهم على الأمور.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدخل السرور والاطمئنان على قلوب عباده المؤمنين الصادقين فقال ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ، فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). أى : من كان من الناس يرجو لقاء الله ـ تعالى ـ يوم القيامة لقاء يسره ويرضيه ، ويطمعه في ثوابه وعطائه ، فليثبت على إيمانه ، وليواظب على العمل الصالح ، «فإن أجل الله لآت». أى : فإن الأجل الذي حدده الله ـ تعالى ـ لموت كل نفس وللبعث والحساب ، لآت لا محالة في وقته الذي حدده ـ سبحانه ـ «وهو السميع» لأقوال خلقه «العليم» بما يخفونه وما يعلنونه.

فالرجاء في لقاء الله ، بمعنى الطمع في ثوابه ، ومنهم من فسره بمعنى الخوف من حسابه ـ سبحانه ـ.

قال صاحب الكشاف : لقاء الله : مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت ، والبعث ، والحساب ، والجزاء ، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتى ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب ، لما رضى من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها ... وقيل : «يرجو» يخاف ، كما في قول الشاعر :

إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ..» (١)

 أى : إذا لسعته النحل لم يخف لسعها

وعلى كلا التفسيرين للرجاء ، فإن الآية الكريمة تبشر المؤمنين بما يدخل السرور على نفوسهم ، وتعدهم بأنهم متى ثبتوا على إيمانهم ، وأحسنوا أعمالهم ، فإن ثوابهم سيظفرون به كاملا غير منقوص ، بفضل الله وإحسانه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٠٣.

١٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه. أى : ومن جاهد في طاعة الله ، وفي سبيل إعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، فإنما يعود ثواب جهاده ونفعه لنفسه لا لغيره.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) جميعا ، لأنه ـ سبحانه ـ لا تنفعه طاعة مطيع ، كما لا تضره معصية عاص ، وإنما لنفسه يعود ثواب المطيع وعليها يرجع عقاب المسيء.

ثم وضح ـ سبحانه ـ ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب جزيل فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.) .. أى : لنسترن عنهم سيئاتهم ، ولنزيلنها ـ بفضلنا وإحساننا ـ من صحائف أعمالهم.

ثم بعد ذلك (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : ولنجزينهم بأحسن الجزاء على أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها في الدنيا ، بأن نعطيهم على الحسنة عشر أمثالها.

قال الجمل ما ملخصه : قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والخبر جملة القسم المحذوفة ، وجوابها أى : والله لنكفرن. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر على الاشتغال. أى : ونخلص الذين آمنوا من سيئاتهم ...

وقال (أَحْسَنَ) لأنه سبحانه إذا جازاهم بالأحسن ، جازاهم بما هو دونه. فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن طاعة الله ـ تعالى ـ يجب أن تقدم على كل طاعة ، فقال :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٦٨.

١٥

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما أخرجه الترمذي ، من أنها نزلت في سعد بن أبى وقاص ، وذلك أنه حين أسلم ، قالت له أمه حمنة بنت سفيان :

يا سعد بلغني أنك صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب على حرام ، حتى تكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فجاء سعد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكى إليه ما قالته أمه.

فنزلت هذه الآية .. فجاء سعد إليها فقال لها : يا أماه لو كانت لك مائة نفس ، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني ، فكلي إن شئت ، وإن شئت فلا تأكلى ، فلما يئست منه أكلت وشربت ...» (١) وقوله : (حُسْناً) منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف. أى : ووصينا الإنسان بوالديه إيصاء حسنا ، وعبر بالمصدر للمبالغة في وجوب الإحسان إليهما ، بأن يكون بارا بهما ، وعطوفا عليهما ، وسخيّا معهما.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ جاهَداكَ) معطوف على ما قبله بإضمار القول : أى : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ، وقلنا له (إِنْ جاهَداكَ) أى : إن حملاك وأمراك (لِتُشْرِكَ بِي) في العبادة أو الطاعة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) في ذلك ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بيان للواقع ، فهذا القيد لا مفهوم له ، لأنه ليس هناك من إله في هذا الكون ، سوى الله عزوجل.

وقوله تعالى : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تذييل المقصود به التحذير من معصيته ـ سبحانه ـ.

أى : إلى مرجعكم جميعا ـ أيها الناس ـ يوم القيامة ، فأحاسبكم على أعمالكم حسابا دقيقا ، وأجازى الذين أساءوا بما عملوا ، وأجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ) بفضلنا وإحساننا (فِي الصَّالِحِينَ) أى في زمرة الأقوام (الصَّالِحِينَ) الذين رضينا عنهم ، ورضوا عنا.

* * *

ثم يرسم القرآن الكريم بعد ذلك صورة واضحة لأصحاب القلوب المريضة ، والنفوس الضعيفة ، ويحكى جانبا من أقوالهم الفاسدة ، ودعاواهم الكاذبة فيقول :

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٢٨.

١٦

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) .. بيان لحال قوم ضعف إيمانهم ، واضطراب يقينهم ، بعد بيان حال المؤمنين الصادقين في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ...

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ.) .. قال مجاهد : نزلت في ناس من المنافقين بمكة ، كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. وقال عكرمة : كان قوم قد أسلموا فأكرههم المشركون على الخروج معهم إلى بدر ، فقتل بعضهم» (١).

والمعنى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) بلسانه دون أن يواطئ هذا القول قلبه (آمَنَّا بِاللهِ).

وقوله (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) بيان لحال هذا البعض من الناس عند ما تنزل بهم المصائب والنكبات.

أى : فإذا أوذى هذا البعض ـ بعد قوله آمنا بالله ـ من أجل هذا القول ومن أجل تركه

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٣٠.

١٧

الدين الباطل ، ودخوله في الدين الحق (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) له أى جعل عذابهم له ، وإيذاءهم إياه (كَعَذابِ اللهِ) أى بمنزلة عذاب الله في الشدة والألم ، فيترتب على ذلك أن يتزلزل إيمانه ، ويضعف يقينه ، بل ربما رجع إلى الكفر بعد الإيمان.

وفي جعل هذا البعض (فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) دليل واضح على ضعف إيمانه ، وفساد تفكيره ، لأن عذاب الناس له دافع ، أما عذاب الله فلا دافع له ، ولأن عذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم ، أما عذاب الله فهو بسبب غضب الله ـ سبحانه ـ على من عصاه ، ولأن عذاب الناس معروف أمده ونهايته أما عذاب الله فلا يعرف أحد مداه أو نهايته.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال هذا الفريق إذا ما منّ الله ـ تعالى ـ على المؤمنين الصادقين بنصر ، فقال : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ، لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ).

والضمير في قوله : (لَيَقُولُنَ) بضم اللام يعود إلى (مِنَ) في قوله : (مَنْ يَقُولُ). باعتبار معناها ، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها باعتبار لفظها ، أى : هكذا حال ضعاف الإيمان ، عند الشدائد يساوون عذاب الناس بعذاب الله ، ولا يثبتون على إيمانهم أما إذا جاءكم النصر ـ أيها الرسول الكريم ـ فإن هؤلاء الضعاف في إيمانهم ، يقولون بكل ثقة وتأكيد : إنا كنا معكم مشايعين ومؤيدين ، ونحن إنما أكرهنا على ما قلنا ، ومادام الأمر كذلك فأشركونا معكم فيما ترتب على النصر من مغانم وخيرات.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) رد عليهم في دعواهم الإيمان ، وفي قولهم للمؤمنين : (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) والاستفهام لإنكار ما زعموه ، ولتقرير علم الله ـ تعالى ـ الشامل للسر والعلانية.

أى : إن الله ـ تعالى ـ عالم بما في صدور العالمين جميعا من خير وشر ، وإيمان وكفر. وإن هؤلاء الذين يقولون آمنا ، ليس الله ـ تعالى ـ في حاجة إلى قولهم ، فهو ـ سبحانه ـ يعلم السر وأخفى (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) ـ تعالى ـ علما تاما (الَّذِينَ آمَنُوا) به حق الإيمان (وَلَيَعْلَمَنَ) حال المنافقين ، علما لا يخفى عليه شيء من حركاتهم وسكناتهم. وسيجازيهم بما يستحقون من عقاب. وأكد ـ سبحانه ـ علمه بلام القسم وبنون التوكيد ، للرد على دعاوى ضعاف الإيمان بأقوى أسلوب ، وأبلغه ، حتى يقلعوا عن نفاقهم ، ويتبعوا المؤمنين الصادقين في ثباتهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما زعمه أئمة الكفر من دعاوى باطلة ، ورد عليها فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ).

أى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا على سبيل التضليل والإغراء : اتبعوا سبيلنا أى

١٨

طريقنا الذي وجدنا عليه آباءنا ، وهو عبادة الأصنام ، ولنحمل عنكم خطاياكم يوم القيامة ، إن كان هناك بعث وحساب.

واللام في قوله : (وَلْنَحْمِلْ) لام الأمر ، كأنهم آمرين أنفسهم بذلك ، ليغروا المؤمنين باتباعهم.

أى : اطمئنوا إلى أننا لن نتخلى عنكم ، ولن ننقض عهودنا معكم في حمل خطاياكم لو اتبعتمونا ، أو هو أمر في تأويل الشرط والجزاء. أى : إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم.

وقد رد الله ـ تعالى ـ زعمهم هذا بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أى : وما هؤلاء الكافرون بحاملين لشيء من خطايا غيرهم التي زعموا حملها يوم القيامة ، وإنهم لكاذبون في كل أقوالهم.

و (مِنْ) الأولى بيانية ، والثانية لنفى حمل أى خطايا مهما صغرت. وقد جاء التكذيب لهم بهذا الأسلوب المؤكد ، حتى يخرس ألسنتهم ، ويمحو كل أثر من أقوالهم من الأذهان.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الأمر على عكس ما زعموه فقال : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ). أى : ليس الأمر ـ كما ـ زعموا من أنهم يحملون خطايا المؤمنين ، بل الحق أن أئمة الكفر هؤلاء سيحملون خطاياهم كاملة غير منقوصة ، وسيحملون فوقها خطايا أخرى ، هي خطايا تسببهم في إضلال غيرهم ، وصرفه عن الطريق الحق.

وعبر عن الخطايا بالأثقال ، للإشعار بغاية ثقلها ، وفداحة حملها ، وعظم العذاب الذي يترتب عليها.

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) سؤال تأنيب وتوبيخ (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أى : عما كانوا يختلقونه في الدنيا من أكاذيب ، وأباطيل ، أدت بهم إلى سوء المصير.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (١).

قال الإمام ابن كثير : وفي الصحيح : «من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم ، مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» (٢).

* * *

__________________

(١) آية ٢٥ من سورة النحل.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٧٧.

١٩

وبعد هذا الحديث عن انواع الناس ، وعن اقوال المشركين الفاسدة ، وعن سوء عاقبتهم ، ساق ـ سبحانه ـ جانبا من قصة نوح وإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(١٧)

قال الآلوسى : قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ). شروع في بيان افتتان الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بأذية أممهم ، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء ، وحثا لهم على الصبر ، فإن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها ، فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى ...» (١).

و «نوح» ـ عليه‌السلام ـ ينتهى نسبه إلى شيث بن آدم ، وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا ، وجاءت قصته مع قومه بصورة فيها شيء من التفصيل ، في سور : هود والأعراف ، والمؤمنون ، ونوح.

وقوم الرجل : أقر باؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٤٢.

٢٠