التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

١٤١

سورة السجدة من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن ذكرنا آراء العلماء في ذلك بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسورة : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ...

وقلنا ما ملخصه : إن أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك الكافرين المعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ومنظوما من حروف ، وهي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم.

فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو سورة من مثله ...

ومع كل هذا التساهل في التحدي. فقد عجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت بذلك أن القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله ـ تعالى ـ : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بيان لمصدر القرآن الكريم وأنه لا شك في كونه من عند الله ـ عزوجل ـ.

وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ. وخبره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وجملة (لا رَيْبَ فِيهِ) معترضة بينهما ، أو حال من الكتاب .. (١).

أى : تنزيل هذا الكتاب عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ كائن من رب العالمين ، وهذا أمر لا شك فيه ، ولا يخالطه ريب أو تردد عند كل عاقل.

وعجل ـ سبحانه ـ بنفي الريب ، حيث جعله بين المبتدأ والخبر ، لبيان أن هذه القضية ليست محلا للشك أو الريب ، وأن كل منصف يعلم أن هذا القرآن من رب العالمين.

و «أم» في قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة. والاستفهام للتعجيب من قولهم وإنكاره.

والافتراء : الاختلاق. يقال : فلان افترى الكذب ، أى : اختلقه. وأصله من الفري بمعنى قطع الجلد ، وأكثر ما يكون للإفساد.

والمعنى : بل أيقول هؤلاء المشركون ، إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد افترى هذا القرآن ، واختلقه من عند نفسه ...؟

__________________

(١) راجع حاشية الجمل ج ٣ ص ٤١٢.

١٤٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) رد على أقوالهم الباطلة.

أى : لا تستمع ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى أقاويلهم الفاسدة ، فإن هذا القرآن هو الحق الصادر إليك من ربك ـ عزوجل ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحكمة في إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إنزال القرآن عليه فقال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

والإنذار : هو التخويف من ارتكاب شيء تسوء عاقبته. و «ما» نافية. و «نذير» فاعل «أتاهم» و «من» مزيدة للتأكيد.

أى : هذا القرآن ـ يا محمد ـ هو معجزتك الكبرى ، وقد أنزلناه إليك لتنذر قوما لم يأتهم نذير من قبلك بما جئتهم به من هدايات وإرشادات وآداب.

وقد فعلنا ذلك رجاء أن يهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ويستقبلوا دعوتك بالطاعة والاستجابة لما تدعوهم إليه.

ولا يقال : إن إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ قد أرسل إلى آباء هؤلاء العرب الذين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، لأن رسالة إسماعيل قد اندرست بطول الزمن ، ولم ينقلها الخلف عن السلف ، فكانت رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومه ، جديدة في منهجها وأحكامها وتشريعاتها.

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على ذاته ، بما يستحقه من إجلال وتعظيم وتقديس فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.) ...

والأيام جمع يوم ، واليوم في اللغة : مطلق الوقت ، أى : في ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله ـ تعالى ـ.

وهو ـ سبحانه ـ قادر على أن يخلق السموات والأرض وما بينهما في لمحة أو لحظة ، ولكنه ـ عزوجل ـ خلقهن في تلك الأوقات ، لكي يعلم عباده التأنى والتثبت في الأمور.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (سِتَّةِ أَيَّامٍ) قال الحسن : من أيام الدنيا. وقال ابن عباس : إن اليوم من الأيام الستة ، التي خلق الله فيها السموات والأرض ، مقداره ألف سنة من سنى الدنيا .. (١).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : وليست هذه الأيام من أيام هذه الأرض التي نعرفها ، إذ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٨٦.

١٤٣

أيام هذه الأرض ، مقياس زمنى ناشئ من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض .. وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة. أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن ، فعلمها عند الله. ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها ، فهي من أيام الله التي يقول عنها : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) إشارة إلى استعلائه وهيمنته على شئون خلقه.

وقال بعض العلماء : وعرش الله ـ تعالى ـ مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم .. وقد ذكر في إحدى وعشرين آية. وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.

أما الاستواء على العرش ، فذهب سلف الأمة ، إلى أنه صفة الله ـ تعالى ـ بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه ـ سبحانه ـ بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

وأنه يجب الإيمان بها كما وردت ، وتفويض العلم بحقيقتها إليه ـ تعالى ـ.

قال الإمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.

وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات ، من غير تفسير ولا تشبيه.

وقال الإمام الرازي : إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه ..» (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أى : ليس لكم ـ أيها الناس ـ إذا تجاوزتم حدوده ـ عزوجل ـ (مِنْ وَلِيٍ) أى : من ناصر ينصركم إن أراد عقابكم ، (وَلا شَفِيعٍ) يشفع لكم عنده لكي يعفو عنكم ، أفلا تعقلون هذه المعاني الواضحة ، وتسمعون هذه المواعظ البليغة ، التي من شأنها أن تحملكم على التذكر والاعتبار والطاعة التامة لله رب العالمين.

فالآية الكريمة جمعت في توجيهاتها الحكيمة ، بين مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، وبين الترهيب من معصيته ومخالفة أمره ، وبين الحض على التذكر والاعتبار.

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ٢١ ص ٥١٠.

(٢) راجع تفسير صفوة البيان ص ٢٦٣ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

١٤٤

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى ما سبق أن وصف به ذاته ، صفات أخرى تليق بجلاله ، فقال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

وقوله ـ تعالى ـ : (يُدَبِّرُ) من التدبير بمعنى الإحكام والإتقان ، والمراد به هنا : إيجاد الأشياء على هذا النحو البديع الحكيم الذي نشاهده ، وأصل التدبير : النظر في أعقاب الأمور محمودة العاقبة.

وقوله : (يَعْرُجُ) من العروج بمعنى الصعود والارتفاع والصيرورة إليه ـ تعالى ـ.

والضمير في «إليه» يعود إلى الأمر الذي دبره وأحكمه ـ سبحانه ـ.

أى : أن الله ـ تعالى ـ هو الذي يحكم شئون الدنيا السماوية والأرضية إلى أن تقوم الساعة ، وهو الذي يجعلها على تلك الصورة البديعة المتقنة ، ثم تصعد إليه ـ تعالى ـ تلك الأمور والشئون المدبرة ، في يوم ، عظيم هو يوم القيامة (كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) من أيام الدنيا.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) متعلقان بقوله : (يُدَبِّرُ) ومن ابتدائية ، وإلى انتهائية. أى : يريده ـ تعالى ـ على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة ، منزلا له من السماء إلى الأرض. وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه ، فإن أسبابه سماوية من الملائكة وغيرهم.

وقوله (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أى : ذلك الأمر بعد تدبيره. وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه .. أو عن كتابته في صحف الملائكة بأمره ـ تعالى ـ (١).

وقال بعض العلماء : وقد ذكر ـ سبحانه ـ هنا أنه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). وذكر في سورة الحج (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). وذكر في سورة المعارج (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) والجمع بين هذه الآيات من وجهين :

الأول : ما جاء عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج ، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. ويوم الألف في سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه ـ تعالى ـ ، ويوم الخمسين ألفا ـ في سورة المعارج ـ هو يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٢٠.

١٤٥

الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ويدل لهذا الوجه قوله ـ تعالى ـ : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١).

أى : أن يوم القيامة يتفاوت طوله بحسب اختلاف الشدة ، فهو يعادل في حالة ألف سنة من سنى الدنيا ، ويعادل في حالة أخرى خمسين ألف سنة.

واسم الإشارة في قوله (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) يعود إلى الله ـ تعالى ـ ، وهو مبتدأ ، وما بعده أخبار له ـ عزوجل ـ.

أى : ذلك الذي اتصف بتلك الصفات الجليلة ، وفعل تلك الأفعال المتقنة الحكيمة ، هو الله ـ تعالى ـ ، (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أى : عالم كل ما غاب عن الحس ، وكل ما هو مشاهد له ، لا يخفى عليه شيء مما ظهر أو بطن (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه غالب (الرَّحِيمُ) بعباده.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أى : الذي أحكم وأتقن كل شيء خلقه وأوجده في هذا الكون ، لأنه ـ سبحانه ـ أوجده على النحو الذي تقتضيه حكمته ، وتستدعيه مصلحة عباده.

قال الشوكانى : وقرأ الجمهور (خَلَقَهُ) ـ بفتح اللام ـ على أنه فعل ماض صفة لشيء ، فهو في محل جر. أو صفة للمضاف فيكون في محل نصب.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ابن عامر : (خَلَقَهُ) ـ بسكون اللام ـ وفي نصبه أوجه : الأول : أن يكون بدلا من (كُلَّ شَيْءٍ) بدل اشتمال ، والضمير عائد على كل شيء ، وهذا هو المشهور ... (٢).

والمراد بالإنسان في قوله ـ تعالى ـ : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) آدم ـ عليه‌السلام ـ ، أى وبدأ خلق أبيكم آدم من طين ، فصار على أحسن صورة ، وأبدع شكل (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أى : ذريته ، وسميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه.

(مِنْ سُلالَةٍ) أى : من خلاصة ، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية.

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أى : ممتهن لا يهتم بشأنه ، ولا يعتنى به ، والمقصود به : المنى الذي يخرج من الرجل.

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٦ ص ٥٠٣ للشيخ الأمين الشنقيطى.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٦ ص ٢٤٩.

١٤٦

(ثُمَّ سَوَّاهُ) أى : هذا المخلوق الذي أوجده من طين ، أو من ماء مهين. والمراد : ثم عدل خلقه ، وسوى شكله ، وناسب بين أعضائه ، وأتمه في أحسن صورة ...

(وَنَفَخَ فِيهِ) ـ سبحانه ـ (مِنْ رُوحِهِ) أى : من قدرته ورحمته ، التي صار بها هذا الإنسان إنسانا كاملا في أحسن تقويم.

وإضافة الروح إليه ـ تعالى ـ للتشريف والتكريم لهذا المخلوق ، كما في قولهم بيت الله.

(وَجَعَلَ لَكُمُ) بعد ذلك (السَّمْعَ) الذي تسمعون به (وَالْأَبْصارَ) التي تبصرون بها ، (وَالْأَفْئِدَةَ) التي تعقلون بها ، وتحسون الأشياء بواسطتها.

وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بيان لموقف بنى آدم من هذه النعم المتكاثرة والمتنوعة. ولفظ «قليلا» منصوب على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون.

أى : شكرا قليلا تشكرون ، أو زمانا قليلا تشكرون.

وهكذا بنو آدم ـ إلا من عصم الله ـ ، أوجدهم الله ـ تعالى ـ بقدرته ، وسخر لمنفعتهم ومصلحتهم ما سخر من مخلوقات ، وصانهم في كل مراحل خلقهم بأنواع من الصيانة والحفظ ... ومع ذلك فقليل منهم هم الذين يشكرونه ـ عزوجل ـ على نعمه. وصدق ـ سبحانه ـ حيث يقول : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

ثم حكى ـ سبحانه ـ شبهات المشركين ورد عليها ، وصور أحوالهم الأليمة عند ما تقبض الملائكة أرواحهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ

١٤٧

مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) هذا قول منكري البعث أى : هلكنا وبطلنا وصرنا ترابا. وأصله من قول العرب : ضل الماء في اللبن إذا ذهب. والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره : قد ضل ..» (١).

أى : وقال الكافرون على سبيل الإنكار ليوم القيامة وما فيه من حساب أإذا صارت أجسادنا كالتراب واختلطت به ، أنعاد إلى الحياة مرة أخرى ، ونخلق خلقا جديدا ...؟

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب وانتقال من حكاية كفرهم بالبعث والحساب إلى حكاية ما هو أشنع من ذلك وهو كفرهم بلقاء الله ـ تعالى ـ الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم ... أى : بل هم لانطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد والجهل عليهم ، بلقاء ربهم يوم القيامة ، كافرون جاحدون ، لأنهم قد استبعدوا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، مع أن الله ـ تعالى ـ قد أوجدهم ولم يكونوا شيئا مذكورا.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن مردهم إليه لا محالة بعد أن يقبض ملك الموت أرواحهم فقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).

وقوله (يَتَوَفَّاكُمْ) من التوفي. وأصله أخذ الشيء وافيا تاما. يقال : توفاه الله ، أى : استوفى روحه وقبضها ، وتوفيت مالي بمعنى استوفيته والمراد بملك الموت : عزرائيل.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ في الرد على هؤلاء الجاحدين : سيتولى قبض أرواحكم عند انتهاء آجالكم ملك الموت الذي كلفه الله ـ تعالى ـ بذلك ثم إلى ربكم ترجعون ، فيجازيكم بما تستحقونه من عقاب ، بسبب كفركم وجحودكم.

وأسند ـ سبحانه ـ هنا التوفي إلى ملك الموت ، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح. وأسنده إلى الملائكة في قوله ـ تعالى ـ (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) لأنهم أعوان ملك الموت الذين كلفهم الله بذلك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٩١.

١٤٨

وأسنده ـ سبحانه ـ إلى ذاته في قوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) لأن كل شيء كائنا ما كان ، لا يكون إلا بقضائه وقدره.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوال هؤلاء الكافرين ، عند ما يقفون للحساب ، تصويرا مرعبا مخيفا فقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

وجواب «لو» محذوف ، والتقدير : لرأيت شيئا تقشعر من هوله الأبدان.

وقوله : (ناكِسُوا) من النكس ، وهو قلب الشيء على رأسه كالتنكيس .. وفعله من باب نصر ـ والخطاب يصح أن يكون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح له.

أى : ولو ترى ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أولئك المجرمين الذين أنكروا البعث والجزاء ، وهم يقفون أمام خالقهم بذلة وخزي ، لحسابهم على أعمالهم .. لو ترى ذلك لرأيت شيئا ترتعد له الفرائص ، وتهتز منه القلوب.

وقوله : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) حكاية لما يقولونه في هذا الموقف العصيب. أى : يقولون بذلة وندم : يا ربنا نحن الآن نبصر مصيرنا ، ونسمع قولك ونندم على ما كنا فيه من كفر وضلال ، (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا ، لكي (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) الآن بأن ما جاءنا به رسولك هو الحق ، وأن البعث حق. وأن الجزاء حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق.

ولكن هذا الإيقان والاعتراف منهم ، قد جاء في غير أوانه ، ولذا لا يقبله ـ سبحانه ـ منهم ، ولذا عقب ـ سبحانه ـ على ما قالوه بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.) ... أى : ولو شئنا أن نؤتى كل نفس رشدها وهداها وتوفيقها إلى الإيمان ، لفعلنا ، لأن إرادتنا نافذة ، وقدرتنا لا يعجزها شيء.

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أى : ولكن ثبت وتحقق قولي.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أى من الجن وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار.

ومن (النَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسبب فسوقهم عن أمرنا ، وتكذيبهم لرسلنا.

فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن قدرة الله ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء ، إلا أن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن الذين سبق في علمه أنهم يؤثرون الضلالة على الهداية ، لسوء استعدادهم ، يكون مصيرهم إلى النار ، وأما الذين آثروا الهداية على الضلالة لنقاء نفوسهم ، وكمال استعدادهم ، فيكون مصيرهم إلى جنة عرضها السموات والأرض.

كما أن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن يميز الإنسان على غيره ، بأن يجعل له طبيعة

١٤٩

خاصة يملك معها اختيار طريق الهدى أو طريق الضلال. كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقال لهؤلاء المجرمين عند ما يلقى بهم في جهنم فقال ـ تعالى ـ : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ ، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

والذوق حقيقة إدراك المطعومات. والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه. والتعبير به هنا عن ذوق العذاب من باب التهكم بهم.

والفاء في قوله : (فَذُوقُوا) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله والباء للسببية. والمراد بالنسيان لازمه ، وهو الترك والإهمال.

أى : ويقال لهؤلاء المجرمين عند ما يلقى بهم في النار : ذوقوا لهيبها وسعيرها بسبب نسيانكم وإهمالكم وجحودكم ليوم القيامة وما فيه من حساب. وإننا من جانبنا قد أهملناكم وتركناكم. بسبب إصراركم على كفركم ، وذوقوا العذاب الذي أنتم مخلدون فيه بسبب أعمالكم القبيحة في الدنيا «جزاء وفاقا».

وكرر ـ سبحانه ـ لفظ (فَذُوقُوا) على سبيل التأكيد ، وزيادة التقريع والتأنيب.

ثم تترك السورة الكريمة هؤلاء المجرمين يذوقون العذاب ، وتنتقل إلى الحديث عن مشهد آخر ، عن مشهد يشرح النفوس ، ويبهج القلوب ، إنه مشهد المؤمنين الصادقين ، وما أعد الله ـ تعالى ـ من ثواب قال ـ تعالى ـ :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٧)

١٥٠

أى : (إِنَّما يُؤْمِنُ) ويصدق (بِآياتِنَا) الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، أصحاب النفوس النقية الصافية ، الذين إذ ذكروا بها ، أى : بهذه الآيات.

(خَرُّوا سُجَّداً) لله ـ تعالى ـ من غير تردد (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أى : ونزهوه عن كل ما لا يليق به ـ عزوجل ـ (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن طاعته ـ سبحانه ـ ، وعن الانقياد لأمره ونهيه.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوالهم في عبادتهم وتقربهم إلى الله ، تصويرا بديعا فقال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً).

والتجافي : التحرك إلى جهة أعلى. وأصله من جفا فلان السرج عن فرسه ، إذا رفعه. ويقال تجافى فلان عن مكانه ، إذا انتقل عنه.

والجنوب : جمع جنب. وأصله الجارحة ، والمراد به الشخص.

والمضاجع : جمع مضجع ، وهو مكان الاتكاء للنوم.

والمعنى : أن هؤلاء المؤمنين الصادقين ، تتنحى وترتفع أجسامهم ، عن أماكن نومهم ، وراحتهم ، حالة كونهم يدعون ربهم بإخلاص وإنابة (خَوْفاً) من سخطه عليهم ، (وَطَمَعاً) في رضاه عنهم.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من فضلنا وخيرنا (يُنْفِقُونَ) في وجوه البر والخير.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.) .. بيان للعطاء الجزيل ، والثواب العظيم. أى : فلا تعلم نفس من النفوس سواء أكانت لملك مقرب ، أم لنبي مرسل ، ما أخفاه الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المؤمنين المتهجدين بالليل والناس نيام ، من ثواب تقر به أعينهم ، وتسعد به قلوبهم ، وتبتهج له نفوسهم ..

وهذا العطاء الجزيل إنما هو بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا.

وهكذا نرى في هذه الآيات الكريمة صورة مشرقة لعباد الله الصالحين ، وللثواب الذي لا تحيط به عبارة ، والذي أكرمهم الله ـ تعالى ـ به.

وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات ، عددا من الأحاديث الواردة في فضل قيام الليل ، منها ما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل ـ رضى الله عنه ـ قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فأصبحت يوما قريبا منه. ونحن نسير ، فقلت : يا نبي الله ، أخبرنى بعمل يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار. فقال : «لقد سألت عن عظيم ، وأنه ليسير

١٥١

على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت. ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين ، ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ...» وعن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثم يرجع فينادى : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع».

وعن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله ـ تعالى ـ قال : «أعددت لعبادي الصالحين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن عدالته قد اقتضت عدم التسوية بين الأخيار والأشرار ، وأن كل إنسان إنما يجازى يوم القيامة على حسب عمله فقال ـ تعالى ـ.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)(٢٢)

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٦٥.

١٥٢

والاستفهام في قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) .. للإنكار ، والفسوق : الخروج عن طاعة الله.

أى : أفمن كان في هذه الدنيا مؤمنا بالله حق الإيمان ، كمن كان فيها فاسقا وخارجا عن طاعة الله ـ تعالى ـ وعن دينه الذي ارتضاه لعباده؟

كلا ، إنهم لا يستوون لا في سلوكهم وأعمالهم ، ولا في جزائهم الدنيوي أو الأخروى.

وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن عقبة ، وعلى بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ ، حيث قال الوليد لعلى : أنا أبسط منك لسانا ، وأحد سنانا ، وأملأ في الكتيبة جسدا ، فقال له على : اسكت ، فإنما أنت فاسق ، فنزلت هذه الآية (١).

ثم فصل ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة الفاسقين ، فقال : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله حق الإيمان (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ).

(فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) أى : فلهم الجنات التي يأوون إليها ، ويسكنون فيها (نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) والنزل : أصله ما يهيّأ للضيف النازل من الطعام والشراب والصلة ، ثم عمم في كل عطاء. أى : فلهم جنات المأوى ينزلون فيها نزولا مصحوبا بالتكريم والتشريف جزاء أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أى : خرجوا عن طاعتنا ، وعن دعوة رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أى : فمنزلتهم ومسكنهم ومستقرهم النار وبئس القرار.

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) هربا من لهيبها وسعيرها وعذابها.

(أُعِيدُوا فِيها) مرغمين مكرهين ، وردوا إليها مهانين مستذلين.

(وَقِيلَ لَهُمْ) على سبيل الزجر والتأنيب وزيادة الحسرة في قلوبهم.

(ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) في الدنيا ، وتستهزءون بمن ينذركم به ، ويخوفكم منه.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أى الأهون والأقرب والأقل وهو عذاب الدنيا ، عن طريق ما ننزله بهم من أمراض وأسقام ومصائب متنوعة.

(دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أى : الأشد والأعظم والأبقى ، وهو عذاب الآخرة.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٠٤.

١٥٣

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عما هم فيه من شرك وكفر وفسوق وعصيان.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال من يدعى إلى الهدى فيعرض عنه ، فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها).

أى : لا أحد أشد ظلما وكفرا ممن ذكره المذكر بالآيات الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى أن دين الإسلام هو الحق ، ثم أعرض عنها جحودا وعنادا.

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أى : إنّا من أهل الإجرام والجحود لآياتنا منتقمون انتقاما يذلهم ويهينهم.

قال صاحب الكشاف : «ثم» في قوله (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) للاستبعاد.

والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله ، في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل. كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها ، استبعادا لتركه الانتهاز. ومنه «ثم» في بيت الحماسة :

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثم يزورها

استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها.

فإن قلت : هلا قيل : إنا منه منتقمون؟ قلت : لما جعله أظلم كل ظالم ، ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دل على إصابة الأظلم بالنصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الإفادة (١).

ثم أشارت السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ من نعم. وما منحه للصالحين من قومه من منن ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥١٥.

١٥٤

بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢٥)

والمراد بالكتاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة التي أنزلها ـ سبحانه ـ لتكون هداية لبنى إسرائيل.

قالوا : وإنما ذكر موسى لقربه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجود من كان على دينه إلزاما لهم. إنما لم يختر عيسى ـ عليه‌السلام ـ للذكر وللاستدلال ، لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوته ، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنبوة موسى ـ عليه‌السلام ـ (١).

والضمير المجرور في قوله : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) يعود إلى موسى على أرجح لأقوال ـ أو إلى الكتاب.

أى : آتينا موسى الكتاب فلا تكن ـ أيها الرسول الكريم ـ في مرية أو شك من لقاء موسى للكتاب الذي أوحيناه إليه ، بقبول ورضا وتحمل لتكاليف الدعوة به ، فكن مثله في لك ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك دون أن تخشى أحدا سواه.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أى : جنس الكتاب (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) أى : شك (مِنْ لِقائِهِ) أى : من لقائك ذلك الجنس.

وحمل بعضهم (الْكِتابَ) على العهد ، أى الكتاب المعهود وهو التوراة.

ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يكون في شك ، المقصود به أمته ، والتعريض بمن اتصف بذلك.

وقيل الكتاب ، المراد به التوراة ، وضمير ، لقائه ، عائد إليه من غير تقدير مضاف. ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله ، وفاعله موسى ، أى : فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب ، ومضاف إلى فاعله ، ومفعوله موسى. أى : من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه .. (٢).

وهذا الرأى الأخير الذي عبر عنه الآلوسى ـ رحمه‌الله ـ بقوله «وقيل» وهو في رأينا رجح الآراء ، وأقربها إلى الصواب ، لبعده عن التكلف.

قال الجمل في حاشيته ، بعد أن ساق ستة أقوال في عودة الضمير في قوله (مِنْ لِقائِهِ) : وأظهرها أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب. أى : لا ترتب في أن موسى لقى الكتاب أنزل عليه» (٣).

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤١٩.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٣٧.

(٣) حاشية الجمل ج ٣ ص ٤١٩.

١٥٥

قال صاحب الكشاف : والضمير في «لقائه» له ـ أى لموسى ـ ، ومعناه : إنا آتينا موسى ـ عليه‌السلام ـ مثل ما آتيناك من الكتب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحى ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ، ولقيت نظيره كقوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أى : وجعلنا الكتاب الذي أنزلناه على نبينا موسى ـ عليه‌السلام ـ هداية لبنى إسرائيل إلى طريق الحق والسداد.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) والأئمة : جمع إمام ، وهو من يقتدى به في الأمور المختلفة. والمراد بهم هنا : من يقتدى بهم في وجوه الخير والبر.

أى : وجعلنا من بنى إسرائيل أئمة في الخير والصلاح ، يهدون غيرهم إلى الطريق الحق ، بأمرنا وإرادتنا وفضلنا ، وقد وفقناهم لذلك حين صبروا على أداء ما كلفناهم به من عبادات ، وحين تحملوا الشدائد والمحن في سبيل إعلاء كلمتنا.

وأنت ترى أن جعلهم أئمة في الخير لم يكن اعتباطا ، وإنما كان بسبب صبرهم على الأذى ، وعلى مشاق الدعوة إلى الحق ، وعلى كل أمر يستلزم الصبر وحبس النفس.

وفي ذلك إرشاد وتعليم للمسلمين ، بأن يسلكوا طريق الأئمة الصالحين ، ممن كانوا قبلهم ، وأن يبلغوا دعوة الله إلى غيرهم بصبر ويقين.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) زيادة في مدحهم ، وفي تقرير أنهم أهل للإمامة في الخير. أى : وكانوا بسبب إدراكهم السليم لمعانى آياتنا : يوقنون إيقانا جازما بأنهم على الحق الذي لا يحوم حوله باطل وبأنهم متبعون لشريعة الله ـ تعالى ـ التي لا يضل من اتبعها وسار على نهجها.

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى أن بنى إسرائيل جميعا لم يكونوا كذلك ، وإنما كان منهم الأخيار والأشرار ، وأنه ـ تعالى ـ سيحكم بين الجميع يوم القيامة بحكمه العادل ، فقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هو وحده الذي يتولى القضاء والحكم بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة ، فيما كانوا يختلفون فيه في الدنيا من أمور متنوعة. على رأسها ما يتعلق بالأمور الدينية.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥١٦.

١٥٦

ثم يسوق ـ سبحانه ـ في أواخر السورة ما من شأنه أن يهدى الضالين إلى الصراط المستقيم ، وما يرشدهم إلى مظاهر نعمه عليهم ، وما يزيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثباتا على ثباته ، ويقينا على يقينه ، فيقول ـ عزوجل ـ :

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا.) .. لإنكار عدم اهتدائهم إلى ما ينفعهم مع وضوح أسباب هذا الاهتداء. والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والخطاب للمشركين وعلى رأسهم كفار مكة. و «كم» خبرية بمعنى كثير. في محل نصب لأهلكنا.

والمعنى : أغفل هؤلاء المشركون عما أصاب الظالمين من قبلهم ، ولم يتبين لهم ـ لانطماس بصائرهم ـ أننا قد أهلكنا كثيرا من أهل الأزمان السابقة من قبلهم ، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، وإيثارهم الكفر على الإيمان.

وقوله ـ تعالى ـ (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) حال من الضمير في (لَهُمْ) ، لتسجيل أقصى أنواع الجهالة والعناد عليهم. أى : أبلغ بهم الجهل والعناد أنهم لم يعتبروا بالقرون المهلكة من قبلهم ، مع أنهم يمشون في مساكن هؤلاء السابقين ، ويمرون على ديارهم مصبحين وممسين ، ويرون بأعينهم آثارهم الدارسة ، وبيوتهم الخاوية على عروشها.

١٥٧

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يزيد في تبكيتهم وتقريعهم فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ).

أى : إن في ذلك الذي يرونه من مصارع الغابرين ، وآثار الماضين ، لآيات بينات ، وعظات بليغات ، فهلا تدبروا في ذلك ، واستمعوا إلى صوت الحق بتعقل وتفهم؟

فقوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَسْمَعُونَ) حض لهم على الاستماع إلى الآيات الدالة على سوء عاقبة الظالمين ، بتدبر وتعقل واتعاظ ، وتحول من الباطل إلى الحق ، قبل أن يحل بهم ما حل بأهل الأزمنة الغابرة.

ثم نبههم ـ سبحانه ـ إلى نعمة من نعمه الكثيرة فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ، تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) والأرض الجرز : هي الأرض اليابسة التي جرز نباتها وقطع ، إما لعدم نزول الماء عليها ، وإما لرعيه منها.

قال القرطبي ما ملخصه : والأرض الجرز هي التي جرز نباتها أى : قطع ، إما لعدم الماء ، وإما لأنه رعى وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز.

وهو مشتق من قولهم : رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله ، وكذلك ناقة جروز : إذا كانت تأكل كل شيء تجده ، وسيف جراز ، أى : قاطع ...» (١).

أى : أعموا ولم يشاهدوا بأعينهم (أَنَّا نَسُوقُ) بقدرتنا ورحمتنا (الْماءَ) الذي تحمله السحب (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أى : اليابسة الخالية من النبات ، فينزل عليها.

(فَنُخْرِجُ بِهِ) أى : فنخرج بهذا الماء النازل على الأرض القاحلة (زَرْعاً) كثيرا نافعا (تَأْكُلُ مِنْهُ) أى : من هذا الزرع (أَنْعامُهُمْ) أى : تأكل منه ما يصلح لأكلها كالأوراق والأغصان وما يشبه ذلك.

وقوله (وَأَنْفُسُهُمْ) معطوف على أنعامهم. أى : تأكل أنعامهم من الزرع ما يناسبها ، ويأكل منه الناس ما يناسبهم كالبقول والحبوب.

وقدم ـ سبحانه ـ الأنعام على بنى آدم للترقي من الأدنى إلى الأشرف.

وقوله ـ تعالى ـ (أَفَلا يُبْصِرُونَ) حض لهم على التأمل في هذه النعم ، والحرص على شكر المنعم عليها ، وإخلاص العبادة له.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١١٠.

١٥٨

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كان عليه المشركون من غرور واستخفاف بالوعيد فقال : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

والمراد بالفتح : الحكم والقضاء والفصل في الخصومة بين المتخاصمين ، ومنه قوله ـ تعالى ـ حكاية عن شعيب ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). أى : «احكم بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الحاكمين».

أى : ويقول المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه على سبيل الاستهزاء ، واستعجال العقاب : متى هذا الذي تحدثوننا عنه من أن الله ـ تعالى ـ سيفصل بيننا وبينكم ، ويجعل لكم النصر ولنا الهزيمة؟

لقد طال انتظارنا لهذا اليوم الذي يتم فيه الحكم بيننا وبينكم ، فإن كنتم صادقين في قولكم ، فادعوا ربكم أن يعجل بهذا اليوم.

وهنا يأمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بما يخرسهم فيقول : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). أى : قل ـ أيها الرسول ـ في الرد على هؤلاء الجاهلين المغرورين : إن يوم الفصل بيننا وبينكم قريب ، وهو آت لا محالة في الوقت الذي يحدده الله ـ تعالى ـ ويختاره ، سواء أكان هذا اليوم في الدنيا ، عند ما تموتون على الكفر ، أم في الآخرة عند ما يحل بكم العذاب ، ولا ينفعكم إيمانكم ، ولا أنتم تمهلون أو تنظرون ، بل سينزل بكم العذاب سريعا وبدون مهلة.

وما دام الأمر كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ). أى : فأعرض عن هؤلاء المشركين ، وعن أقوالهم الفاسدة دون أن تلتفت إليها ، وامض في طريقك أنت وأتباعك ، وانتظر النصرة عليهم بفضلنا وإرادتنا ، إنهم ـ أيضا ـ منتظرون ما سيئول إليه أمرك ، وسيكون أمرك بخلاف ما يمكرون وما ينتظرون.

وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة السجدة ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٥٩
١٦٠