التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

وقوله (مَعْرُوفاً) صفة لمصدر محذوف. أى : صحابا معروفا. أو منصوب بنزع الخافض. أى : بالمعروف.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ إلى وجوب اتباع أهل الحق فقال : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) ... أى : واتبع ـ أيها العاقل طريق الصالحين من عبادي ، الذين رجعوا إلى بالتوبة والإنابة والطاعة والإخلاص.

(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) جميعا يوم القيامة ـ أيها الناس ـ (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا ، وأجازى كل إنسان على حسب عمله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

قال القرطبي ما ملخصه : وهاتان الآيتان نزلتا في شأن سعد بن أبى وقاص لما أسلم ، وأن أمه حلفت أن لا تأكل طعاما حتى تموت .. وفيهما دليل على صلة الأبوين الكافرين ، بما أمكن من المال إن كانا فقيرين .. وقد قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قدمت عليها خالتها وقيل : أمها من الرضاعة : يا رسول الله ، إن أمى قدمت على وهي راغبة أفأصلها؟ قال : «نعم» وراغبة قيل معناه : عن الإسلام ، أو راغبة في الصلة (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بقية الوصايا التي أوصى بها لقمان ابنه فقال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ ، أَوْ فِي السَّماواتِ ، أَوْ فِي الْأَرْضِ ، يَأْتِ بِهَا اللهُ) ..

والضمير في قوله : (إِنَّها) يعود إلى الفعلة التي يفعلها من خير أو شر. و (تَكُ) مجزوم بسكون النون المحذوفة ، وهو فعل الشرط. والجواب : «يأت بها الله» والمثقال : أقل ما يوزن به الشيء. والخردل : في غاية الصغر والدقة.

والمعنى : يا بنى إن ما تفعله من حسنة أو سيئة ، سواء أكان في نهاية القلة والصغر ، كمثال حبة من خردل ، أم كان هذا الشيء القليل مخبوءا في صخرة من الصخور الملقاة في فجاج الأرض ، أم كان في السموات أم في الأرض ، فإن الله ـ تعالى ـ يعلمه ويحضره ويجازى عليه (إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ لطيف خبير أى : محيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها ، عظيمها وصغيرها.

فالمقصود من الآية الكريمة ، غرس الهيبة والخشية والمراقبة لله ـ تعالى : لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ، مهما دق وقل وتخفى في أعماق الأرض أو السماء.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٦٥.

١٢١

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

ثم أمره بالمحافظة على الصلاة وبالأمر بالمعروف ، وبالنهى عن المنكر وبالصبر على الأذى ، فقال : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أى : واظب على أدائها في أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين.

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أى بكل ما حض الشرع على قوله أو فعله (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى : عن كل ما نهى الشرع عن قوله أو فعله.

(وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الأذى ، فإن الحياة مليئة بالشدائد والمحن والراحة إنما هي في الجنة فقط.

واسم الإشارة في قوله : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يعود إلى الطاعات المذكورة قبله.

وعزم الأمور : أعاليها ومكارمها. أو المراد بها ما أوجبه الله ـ تعالى ـ على الإنسان.

قال صاحب الكشاف : (إِنَّ ذلِكَ) مما عزمه الله من الأمور ، أى : قطعه قطع إيجاب وإلزام .. ومنه الحديث : «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» ومنه عزمات الملوك ، وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده ، عزمت عليك إلا فعلت كذا. فإذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، ولا مندوحة في تركه.

وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأمورا بها في سائر الأمم ، وأن الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها (٢).

ثم نهاه عن التكبر والغرور والتعالي على الناس فقال : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) ...

والصعر في الأصل : مرض يصيب البعير فيجعله معوج العنق ، والمراد به هنا ، التكبر واحتقار الناس ، ومنه قول الشاعر :

وكنا إذا الجبّار صعر خده

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه

أى : ولا تمل صفحة وجهك عن الناس ، ولا تتعالى عليهم كما يفعل المتكبرون والمغرورون ، بل كن هينا لينا متواضعا ، كما هو شأن العقلاء ..

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أى : ولا تمش في الأرض مشية المختالين المعجبين

__________________

(١) سورة الأنبياء. الآية ٤٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٩٦.

١٢٢

بأنفسهم. و (مَرَحاً) مصدر وقع موقع الحال على سبيل المبالغة ، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف. أى : تمرح مرحا. والجملة في موضع الحال. أو مفعول لأجله. أى : من أجل المرح.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) تعليل للنهى. والمختال : المتكبر الذي يختال في مشيته ، ومنه قولهم : فلان يمشى الخيلاء. أى يمشى مشية المغرور المعجب بنفسه.

والفخور : المتباهى على الناس بماله أو جاهه أو منصبه .. يقال فخر فلان ـ كمنع ـ فهو فاخر وفخور ، إذا تفاخر بما عنده على الناس ، على سبيل التطاول عليهم ، والتنقيص من شأنهم.

أى : إن الله ـ تعالى ـ لا يحب من كان متكبرا على الناس ، متفاخرا بماله أو جاهه.

ثم أمر بالقصد والاعتدال في كل أموره فقال : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أى وكن معتدلا في مشيك ، بحيث لا تبطئ ولا تسرع. من القصد وهو التوسط في الأمور.

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) واخفض من صوتك فلا ترفعه إلا إذا استدعى الأمر رفعه ، فإن غض الصوت عند المحادثة فيه أدب وثقة بالنفس ، واطمئنان إلى صدق الحديث واستقامته.

وكان أهل الجاهلية يتفاخرون بجهارة الصوت وارتفاعه ، فنهى المؤمنون عن ذلك ، ومدح ـ سبحانه ـ الذين يخفضون أصواتهم في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) تعليل للأمر بخفض الصوت ، وللنهى عن رفعه بدون موجب.

أى : إن أقبح الأصوات وأبشعها لهو صوت الحمير ، فالجملة الكريمة حض على غض الصوت بأبلغ وجه وآكده ، حيث شبه ـ سبحانه ـ الرافعين لأصواتهم في غير حاجة إلى ذلك ، بأصوات الحمير التي هي مثار السخرية مع النفور منها.

وهكذا نجد أن لقمان قد أوصى ابنه بجملة من الوصايا السامية النافعة ، فقد أمره ـ أولا ـ بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ثم غرس في قلبه الخوف من الله ـ عزوجل ـ ، ثم حضه على إقامة الصلاة ، وعلى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وعلى الصبر على الأذى ، ثم نهاه عن الغرور والتكبر والافتخار ، وعن رفع الصوت بدون مقتض لذلك.

وبتنفيذ هذه الوصايا ، يسعد الأفراد ، وترقى المجتمعات.

١٢٣

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض النعم التي أنعم بها على الناس ، ودعا المنحرفين عن الحق إلى ترك المجادلة بالباطل ، وإلى مخالفة الشيطان ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)(٢١)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) .. لأولئك المشركين الذين استحبوا العمى على الهدى ، واشتروا لهو الحديث ليضلوا غيرهم عن طريق الحق.

وسخر : من التسخير ، بمعنى التذليل والتكليف ، يقال : سخر فلان فلانا تسخيرا ، إذا كلفه عملا بلا أجرة ، والمراد به هنا : الإعداد والتهيئة لما يراد الانتفاع به.

والاستفهام لتقرير الواقع وتأكيده. أى : لقد رأيتم ـ أيها الناس ـ وشاهدتم أن الله ـ تعالى ـ سخر لمنفعتكم ومصلحتكم ما في السموات من شمس وقمر ونجوم .. وما في الأرض من زرع وأشجار وحيوانات وجبال .. وما دام الأمر كذلك فاشكروا الله ـ تعالى ـ على هذا التسخير ، وأخلصوا له العبادة والطاعة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) معطوف على ما قبله.

وقوله : (وَأَسْبَغَ) بمعنى أتم وأكمل عليكم نعمه : وهي ما ينتفع به الإنسان ويستلذه من الحلال.

والنعمة الظاهرة : هي النعمة المشاهدة المحسوسة كنعمة السمع والبصر وحسن الهيئة والمال ، والجاه ، وما يشبه ذلك مما يراه الإنسان ويشاهده.

والنعمة الباطنة : هي النعمة الخفية التي يجد الإنسان أثرها في نفسه دون أن يراها. كنعمة الإيمان بالله ـ تعالى ـ وإسلام الوجه له ـ عزوجل ـ ، والاتجاه إلى مكارم الأخلاق ، والبعد عن رذائلها وسفسافها.

١٢٤

وفي تفسير النعم الظاهرة والباطنة أقوال أخرى ، نرى أن ما ذكرناه أوجهها وأجمعها (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما عليه بعض الناس من جدال بالباطل فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَلا هُدىً ، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ).

وقوله : (يُجادِلُ) من الجدال بمعنى المفاوضة على سبيل المخاصمة والمنازعة والمغالبة. مأخوذ من جدلت الحبل ، إذا أحكمت فتله ، فكأن المتجادلين يحاول كل واحد منهما أن يقوى رأيه ، ويضعف رأى صاحبه.

والمراد من المجادلة في الله : المجادلة في ذاته وصفاته وتشريعاته ..

وقوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من الفاعل في (يُجادِلُ) ، وهي حال موضحة لما تشعر به المجادلة هنا من الجهل والعناد. أى : ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد ، لأنهم يجادلون وينازعون في ذات الله ، وفي صفاته ، وفي وحيه ، وفي تشريعاته .. بغير مستند من علم عقلي أو نقلي ، وبغير «هدى» يهديه ويرشده إلى الحق ، وبغير (كِتابٍ مُنِيرٍ) أى : وبغير وحى ينير عقله وقلبه ، ويوضح له سبيل الرشاد.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جردت هذا المجادل ، من أى مستند يستند إليه في جداله ، سواء أكان هذا المستند عقليا أم نقليا ، بل أثبتت له الجهالة من كل الجهات.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المجادلين بالباطل ، لم يكتفوا بذلك ، بل أضافوا إلى رذائلهم السابقة رذائل أخرى منها العناد والتقليد الأعمى ، فقال (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) ... أى : وإذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل اتبعوا ما أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن كريم ، ومن وحى حكيم.

(قالُوا) على سبيل العناد والتقليد الأعمى (بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام والأوثان ، والسير على طريقتهم التي كانوا يسيرون عليها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) رد عليهم ، وبيان لبطلان الاعتماد في العقيدة على مجرد تقليد الآباء.

والهمزة للاستفهام الإنكارى ، والواو للحال. أى : أيتبعون ما كان عليه آباؤهم ، والحال أن هذا الاتباع هو من وحى الشيطان الذي يقودهم إلى ما يؤدى إلى عذاب السعير.

قال الآلوسى : وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر. وأما اتباع الغير

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٩٣.

١٢٥

في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق ، فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله ـ تعالى ـ وليس من التقليد المذموم في شيء ، وقد قال ـ سبحانه ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

ثم فصل سبحانه بعد ذلك حسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار الذين لا يحسنون التدبر في أنفسهم ، أو فيما حولهم ، فقال تعالى ـ :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٦)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أى : ومن يتجه إلى الله ـ تعالى ـ ويذعن لأمره ، ويخلص له العبادة ، وهو محسن في أقواله وأفعاله.

من يفعل ذلك (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) والعروة في أصل معناها : تطلق على ما يتعلق بالشيء من عراه ، أى من الجهة التي يجب تعليقه منها. وتجمع على عرا.

والعروة من الدلو مقبضه ، ومن الثوب : مدخل زره.

والوثقى : تأنيث الأوثق ، وهو الشيء المحكم الموثق. يقال : وثق ـ بالضم ـ وثاقه ، أى : قوى وثبت فهو وثيق ، أى : ثابت محكم.

والمعنى : ومن يستسلم لأمر الله ـ تعالى ـ ويأتى بالأقوال والأفعال على وجه حسن ، فقد

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٤١.

١٢٦

ثبت أمره ، واستقام على الطريقة المثلى ، وأمسك من الدين بأقوى سبب ، وأحكم رباط.

فقد شبه ـ سبحانه ـ المتوكل عليه في جميع أموره ، المحسن في أفعاله ، بمن ترقى في حبل شاهق ، وتدلى منه ، فاستمسك بأوثق عروة ، من حبل متين مأمون انقطاعه.

وخص ـ سبحانه ـ الوجه بالذكر ، لأنه أكرم الأعضاء وأعظمها حرمة ، فإذا خضع الوجه الذي هو أكرم الأعضاء ، فغيره أكثر خضوعا.

وقوله : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أى : وإلى الله ـ تعالى ـ وحده تصير الأمور ، وترجع إليه ، وتخضع لحكمه وإرادته.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.) .. تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عما أصابه من حزن بسبب إصرار الكافرين على كفرهم.

أى : ومن استمر ـ أيها الرسول ـ على كفره بعد أن بلغته رسالتنا ودعوتنا ، فلا يحزنك بعد ذلك بقاؤه على كفره وضلاله ، فأنت عليك البلاغ ، ونحن علينا الحساب ، وإنك لا تهدى من أحببت ، ولكن الله يهدى من يشاء.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا.) .. بيان لسوء مصيرهم.

أى : إلينا وحدنا مرجع هؤلاء الكافرين ، فنخبرهم بما عملوه في الدنيا من أعمال سيئة ، ونجازيهم عليها بما يستحقونه من عقاب.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (عَلِيمٌ) علما تاما (بِذاتِ الصُّدُورِ) أى : بمكنونات الصدور وخفاياها ..

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) في هذه الحياة الدنيا. أى نمتعهم تمتيعا قليلا في دنياهم ، بأن نعطيهم الأموال والأولاد على سبيل الاستدراج.

(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أى نعطيهم في حياتهم القصيرة ما يتمتعون به من مال وصحة ... ثم نلجئهم وندفعهم دفعا يوم القيامة الى عذاب مروع فظيع ، لضخامة ثقله ، وشدة وقعه.

والمراد بالاضطرار : الإلجاء والقسر والإلزام ، أى : أنهم لا يستطيعون التفلت أو الانفكاك عن هذا العذاب الذي أعد لهم.

ووصف ـ سبحانه ـ العذاب بالغلظ ، لزيادة تهويله وشدته. فهو ثقيل عليهم ثقل الأجرام الضخمة التي تهوى على رأس الإنسان ، فتشل حركته وتهلكه.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان عليه هؤلاء الكافرون من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم فقال :

١٢٧

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أيها الرسول الكريم ـ (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وأوجدهما على هذا النظام البديع .. (لَيَقُولُنَ) في الجواب (اللهُ) أى : الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهما ، وهو الذي أوجدهما.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قل ـ أيها الرسول الكريم ـ الحمد لله ـ تعالى ـ وحده ، حيث اعترفتم بأن خالقهما هو الله ، وما دام الأمر كذلك ، فكيف أشركتم معه في العبادة غيره؟ إن قولكم هذا الذي تؤيده الفطرة ، ليتنافى مع ما أنتم عليه من كفر وضلال.

وقوله ـ سبحانه ـ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب عن أقوالهم إلى بيان واقعهم ، أى : بل أكثرهم لا يعلمون الحقائق علما سليما ، وإنما هم يقولون بألسنتهم ، وما يتباين تباينا تاما مع أفعالهم ، وهذا شأن الجاهلين ، الذين انطمست بصائرهم ..

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدل على عظيم قدرته ، وشمول ملكه فقال : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). أى : لله ـ تعالى ـ وحده ، ما في السموات وما في الأرض ، خلقا ، وملكا ، وتصرفا ..

(إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أى : المحمود من أهل الأرض والسماء ، لأنه هو الخالق لكل شيء ، والرازق لكل شيء.

ثم ساق ـ تعالى ـ بعد ذلك ما يدل على شمول علمه ، ونفاذ قدرته ، فقال ـ سبحانه ـ :

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(٢٨)

قال ابن كثير : قال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال ـ تعالى ـ (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) ...

وعن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرأيت قولك : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)؟ إيانا تريد أم قومك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا عنيت» فقالوا : ألست

١٢٨

تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) (١).

و «لو» شرطية ، وجوابها «ما نفدت كلمات الله ..» و «من» في قوله (مِنْ شَجَرَةٍ) للبيان ، وفي الآية الكريمة كلام محذوف يدل عليه السياق.

والمعنى : ولو أن ما في الأرض من أشجار تحولت بغصونها وفروعها إلى أقلام ، ولو أن البحر ـ أيضا ـ تحول إلى مداد لتلك الأقلام ، وأمد هذا البحر بسبعة أبحر أخرى. وكتبت بتلك الأقلام ، وبذلك المداد كلمات الله التي يحيط بها علمه ـ تعالى ـ ..

لنفدت الأقلام ، ولنفد ماء البحر ، لتناهى كل ذلك ، وما نفدت كلمات الله ـ تعالى ـ ولا معلوماته ، لعدم تناهيها.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء ، ولا يغلبه غالب (حَكِيمٌ) في كل أقواله وأفعاله.

فالآية الكريمة المقصود منها بيان أن علم الله ـ تعالى ـ لا نهاية له ، وأن مشيئته لا يقف أمامها شيء ، وكلماته لا أول لها ولا آخر.

وقال ـ سبحانه ـ (مِنْ شَجَرَةٍ) بالإفراد ، لأن المراد تفصيل الشجر واستقصاؤه شجرة فشجرة ، حتى لا تبقى واحدة من أنواع الأشجار إلا وتحولت إلى أقلام.

وجمع ـ سبحانه ـ الأقلام ، للتكثير ، أى : أقلام كثيرة يصعب عدها.

والمراد بالبحر : البحر المحيط بالأرض ، لأنه المتبادر من التعريف ، إذ هو الفرد الكامل.

وإنما ذكرت السبعة بعد ذلك على وجه المبالغة دون إرادة الحصر ، وإلا فلو اجتمعت عشرات البحار ما نفدت كلمات الله.

قال صاحب الكشاف فإن قلت : مقتضى الكلام أن يقال : ولو أن الشجر أقلام ، والبحر مداد؟ قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله (يَمُدُّهُ) لأنه من قولك : مد الدواة وأمدها. جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا ، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع.

فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل ، فهلا قيل : كلم الله؟.

قلت : معناه أن كلماته لا تفي بكتابتها البحار فكيف بكلمة؟ (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٥٢.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٠١.

١٢٩

وقال الآلوسى : والمراد بكلماته ـ تعالى ـ كلمات علمه ـ سبحانه ـ وحكمته. وقيل : المراد بها : مقدوراته وعجائب خلقه ، والتي إذا أراد ـ سبحانه ـ شيئا منها قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) (١).

ثم أتبع ـ سبحانه ـ ذلك بيان نفاذ قدرته فقال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.) ... أى : ما خلقكم ـ أيها الناس ـ جميعا ، ولا بعثكم يوم القيامة ، إلا كخلق نفس واحدة أو بعثها ، لأن قدرته ـ عزوجل ـ يتساوى معها القليل والكثير ، والصغير والكبير ، قال ـ تعالى ـ (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وقال ـ سبحانه ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ : (سَمِيعٌ) لكل شيء (بَصِيرٌ) بأحوال خلقه لا يخفى عليه شيء منهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ الناس بجانب من مظاهر قدرته ونعمه عليهم ، لكي يخلصوا له العبادة والطاعة ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)(٣٢)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٠٠.

١٣٠

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ.) .. للتقرير. والخطاب لكل من يصلح له ليعتبر ويتعظ ، ويخلص العبادة لله ـ تعالى ـ.

وقوله (يُولِجُ) من الإيلاج بمعنى الإدخال. يقال : ولج فلان منزله ، إذا دخله ...

ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه ، بحسب المطالع.

أى : لقد رأيت وشاهدت ـ أيها العاقل ـ أن الله ـ تعالى ـ ، يدخل الليل في النهار ، ويدخل النهار في الليل ، ويزيد في أحدهما وينقص من الآخر ، على حسب مشيئته وحكمته ..

وأنه ـ سبحانه ـ (سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) .. أى : ذللهما وجعلهما لمنفعة الناس ومصلحتهم ، كما جعلهما يسيران هما والليل والنهار ، بنظام بديع لا يتخلف.

وقوله : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كل من الشمس والقمر يجريان في مدارهما بنظام ثابت محكم ، إلى الوقت الذي حدده ـ سبحانه ـ لنهاية سيرهما ، وهو يوم القيامة. قال ابن كثير : قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قيل : إلى غاية محدودة.

وقيل : إلى يوم القيامة ، وكلا المعنيين صحيح. ويستشهد للقول الأول بحديث أبى ذر الذي في الصحيحين ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا أبا ذر ، أتدرى أين تذهب هذه الشمس؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأذن ربها ، فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت» (١).

وقال الجمل : قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قاله هنا بلفظ (إِلى) ، وفي سورتي فاطر والزمر ، بلفظ «لأجل» ، لأن ما هنا وقع بين آيتين دالتين على غاية ما ينتهى إليه الخلق ، وهما قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ.) .. الآية. وقوله (اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً) .. الآية ، فناسب هنا ذكر إلى الدالة على الانتهاء ، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك. إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهائه ، وما في الزمر ذكر مع ابتدائه ، فناسب ذكر اللام ، والمعنى يجرى كل كما ذكر لبلوغ أجل مسمى (٢).

وجملة (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) معطوفة على قوله : (أَنَّ اللهَ يُولِجُ) .. أى : لقد علمت أن الله ـ تعالى ـ قد فعل ذلك ، وأنه ـ سبحانه ـ خبير ومطلع على كل عمل تعملونه ـ أيها الناس ـ دون أن يخفى عليه شيء منها.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٥٢.

(٢) حاشية الجمل ج ٣ ص ٤٠٩.

١٣١

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) .. يعود إلى ما تقدم ذكره من إيلاج الليل في النهار ، وتسخير الشمس والقمر. وهو مبتدأ. وقوله (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) خبره. والباء للسببية. أى : ذلك الذي فعلناه سببه ، أن الله ـ تعالى ـ هو الإله الحق ، الذي لا إله سواه ، وأن ما يدعون من دونه من آلهة أخرى هو (الْباطِلُ) الذي لا يصح أن يسمى بهذا الاسم ، لأنه مخلوق زائل متغير ، لا يضر ولا ينفع.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ الناس بنعمة أخرى من نعمه التي لا تحصى فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) ...

أى : ولقد علمت ـ أيضا ـ وشاهدت ـ أيها العاقل ـ حال السفن ، وهي تجرى في البحر ، بمشيئة الله وقدرته ، وبلطفه ورحمته وإحسانه. ليطلعكم على بعض آياته الدالة على باهر قدرته ، وسمو حكمته وسابغ نعمته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي شاهدتموه وانتفعتم به من السفن وغيرها (لَآياتٍ) واضحات على قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته لعباده (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أى : لكل إنسان كثير الصبر (شَكُورٍ). أى : كثير الشكر لله ـ تعالى ـ على نعمه ورحمته.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أحوال الناس عند ما تحيط بهم المصائب وهم في وسط البحر فقال : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

وقوله (غَشِيَهُمْ) من الغشاء بمعنى : الغطاء. فيقال : غشى الظلام المكان ، إذا حل به وأصل «الموج» الحركة والازدحام. ومنه قولهم : ماج البحر إذا اضطرب وارتفع ماؤه. والظلل : جمع ظلة ـ كغرفة وغرف ـ ، وهي ما أظل غيره من سحاب أو جبل أو غيرهما.

أى : وإذا ما ركب الناس في السفن ، وأحاطت بهم الأمواج من كل جانب ، وأوشكت أن تعلوهم وتغطيهم ... في تلك الحالة لجئوا إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، يدعونه بإخلاص وطاعة وتضرع ، أن ينجيهم مما هم فيه من بلاء ..

(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) ـ سبحانه ـ بفضله وإحسانه ، وأوصلهم (إِلَى الْبَرِّ) انقسموا إلى قسمين ، أما القسم الأول ، فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أى : فمنهم من هو مقتصد ، أى : متوسط في عبادته وطاعته ، يعيش حياته بين الخوف والرجاء.

قال ابن كثير : قال ابن زيد : هو المتوسط في العمل ، ثم قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادا هنا ـ أيضا ـ ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك

١٣٢

الأهوال ، والأمور العظام ، والآيات الباهرات في البحر ، ثم بعد ما أنعم الله عليه من الخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والمبادرة إلى الخيرات ، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا ، والحالة هذه (١).

وأما القسم الثاني فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ).

والختار : من الختر ، وهو أبشع وأقبح الغدر والخديعة. يقال : فلان خاتر وختار وختير ، إذا كان شديد الغدر والنقض لعهوده ، ومنه قول الشاعر :

وإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

والكفور : هو الشديد الكفران والجحود لنعم الله ـ تعالى ـ.

أى : وما يجحد بآياتنا الدالة على قدرتنا ورحمتنا ، إلا من كان كثير النقض لعهودنا ، شديد النكران لنعمنا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بدعوة الناس إلا الاستعداد ليوم الحساب وإلى مراقبة الله ـ تعالى ـ في كل أحوالهم ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء منها. فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

والمعنى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بأن تطيعوه ولا تعصوه ، وبأن تشكروه ولا تكفروه ، واخشوا يوما ، أى : وخافوا أهوال يوم عظيم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٥٣.

١٣٣

(لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أى : لا يستطيع والد أن ينفع ولده بشيء من النفع في هذا اليوم. أو أن يقضى عنه شيئا من الأشياء.

(وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أى : ولا يستطيع المولود ـ أيضا ـ أن يدفع عن والده شيئا مما يحتاجه منه.

وخص ـ سبحانه ـ الوالد والمولود بالذكر ، لأن رابطة المحبة والمودة بينهما هي أقوى الروابط وأوثقها ، فإذا انتفى النفع بينهما في هذا اليوم ، كان انتفاؤه بالنسبة لغيرهما من باب أولى.

وقوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أى : إن ما وعد الله ـ تعالى ـ به عباده من البعث والحساب والثواب والعقاب ، حق وثابت ثبوتا لا يقبل الشك أو التخلف.

وما دام الأمر كذلك (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أى : فلا تخدعنكم الحياة الدنيا بزخارفها وشهواتها ومتعها ، ولا تشغلنكم عن طاعة الله ـ تعالى ـ وعن حسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد. فإن الكيّس الفطن هو الذي يتزود لهذا اليوم بالإيمان الحق ، والعمل الصالح النافع.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أى : ولا يصرفنكم الشيطان عن طاعة الله ، وعن امتثال أمره. فالمراد بالغرور : الشيطان. أو كل ما يصرفك عن طاعة الله ـ تعالى.

قال الآلوسى : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أى : الشيطان ، كما روى عن ابن عباس وغيره. بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ... وعن أبى عبيدة : كل شيء غرك حتى تعصى الله ـ تعالى ـ فهو غرور سواء أكان شيطانا أم غيره وعلى ذلك ذهب الراغب فقال : الغرور كل ما يغر الإنسان من مال أو جاه أو شهوة أو شيطان .. وأصل الغرور : من غر فلان فلانا ، إذا أصاب غرته ، أى : غفلته ، ونال منه ما يريد. والمراد به الخداع ..

والظاهر أن «بالله» صلة «يغرنكم» أى : لا يخدعنكم بذكر شيء من شئونه ـ تعالى ـ ، يجركم بها على معاصيه ـ سبحانه ـ (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من الأمور التي استأثر ـ عزوجل ـ بعلمها فقال : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أى : عنده وحده علم وقتها ، وعلم قيامها ، كما قال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١٠٨.

١٣٤

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) .. (١).

(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أى : وينزل بقدرته المطر ، ويعلم وحده وقت نزوله. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أى : ويعلم ما في أرحام الأمهات من ذكر أو أنثى.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ) من النفوس كائنة من كانت (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، ومن رزق قليل أو كثير ، لأنها لا تملك عمرها إلى الغد.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ) من النفوس ـ أيضا ـ كائنة من كانت (بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أى : بأى مكان ينتهى أجلها.

(إِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ (عَلِيمٌ) بكل شيء (خَبِيرٌ) بما يجرى في نفوس عباده. وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ، جملة من الأحاديث والآثار ، منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم قرأ هذه الآية» ..

وعن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن امرأتي حبلى فأخبرنى ما تلد؟ وبلادنا جدبة فأخبرنى متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرنى متى أموت؟ فأنزل الله الآية» (٢).

وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي استأثر الله ـ تعالى ـ بها على سبيل العلم اليقيني الشامل المطابق للواقع ..

ولا مانع من أن يطلع الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه ، بعض أصفيائه على شيء منها.

وليست المغيبات محصورة في هذه الخمسة ، بل كل غيب لا يعلمه إلا الله ـ تعالى ـ داخل فيما استأثر الله ـ تعالى ـ بعلمه ، وإنما خصت هذه الخمسة بالذكر لأنها من أهم المغيبات ، أو لأن السؤال كان عنها.

وما يخبر به المنجم والطيب وعلماء الأرصاد الجوية من الأمور التي لم تتكشف بعد ، فمبناه على الظن لا على اليقين ، وعلى احتمال الخطأ والصواب.

أما علم الله ـ تعالى ـ بهذه الأمور وغيرها ، فهو علم يقيني قطعى شامل. لا يحتمل الظن أو الشك أو الخطأ.

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٨٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٥٧.

١٣٥

وصدق الله إذ يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).

وبعد : فهذا تفسير محرر لسورة «لقمان» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

القاهرة ـ مدينة نصر

١٣٦

تفسير

سورة السّجدة

١٣٧
١٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

١ ـ سورة «السجدة» هي السورة الثانية والثلاثون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة «المؤمنون» ، أى : أنها من أواخر السور المكية.

قال الآلوسى ما ملخصه : وتسمى ـ أيضا ـ بسورة «المضاجع». وهي مكية ، كما روى عن ابن عباس.

وروى عنه أنها مكية سوى ثلاث آيات ، تبدأ بقوله ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً.) .. وهي تسع وعشرون آية في البصري. وثلاثون آية في المصاحف الباقية ...» (١).

ومن فضائل هذه السورة ما رواه الشيخان عن أبى هريرة قال : كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ في الفجر يوم الجمعة (الم. تَنْزِيلُ.) .. السجدة. و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ.) ...

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : «كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا ينام حتى يقرأ هذه السورة ، وسورة تبارك» (٢).

٢ ـ وتبدأ هذه السورة الكريمة ، بالثناء على القرآن الكريم ، وببيان أنه من عند الله ـ تعالى ـ ، وبالرد على الذين زعموا أن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد افتراه من عند نفسه ...

ثم تسوق ألوانا من نعم الله ـ تعالى ـ على عباده ، ومن مظاهر قدرته ، وبديع خلقه ، وشمول إرادته ، وإحسانه لكل شيء خلقه (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ).

٣ ـ ثم تذكر السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من شبهات المشركين حول البعث والحساب ، وترد عليها بما يبطلها ، وتصور أحوالهم عند ما يقفون أمام خالقهم للحساب تصويرا مؤثرا مرعبا قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا ، فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ١١٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٦٣.

١٣٩

٤ ـ وبعد أن تذكر السورة الكريمة ما أعده الله ـ تعالى ـ للمؤمنين من ثواب لا تعلمه نفس من الأنفس ، وما أعده للكافرين من عقاب .. بعد كل ذلك تبين أن عدالته ـ تعالى ـ قد اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار وإنما يجازى كل إنسان على حسب عمله.

قال ـ تعالى ـ : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ، لا يَسْتَوُونَ).

٥ ـ ثم تشير السورة الكريمة بعد ذلك إلى ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ من نعم ، وما منحه للصالحين من قومه من منن ، لكي يتأسى بهم المؤمنون (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا ، وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ).

٦ ـ ثم حضت السورة الكريمة المشركين على التدبر والتفكر في آيات الله ـ تعالى ـ ، ونهتهم عن الجحود والعناد ، وحكت جانبا من سفاهاتهم ، وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد عليهم ، وأن يمضى في طريقه دون أن يعير سفاهاتهم اهتماما.

قال ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ).

٧ ـ وبعد فهذا عرض إجمالى لسورة «السجدة» ومنه نرى أنها زاخرة بالأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعلى أن القرآن حق ، والبعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق ..

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٤٠