التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١١

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0691-4
الصفحات: ٣٦٧

آخر ، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه في الضعف ، وهي مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التي هي أرذل العمر ، وفيها يصير الإنسان أشبه ما يكون بالطفل الصغير في كثير من أحواله ..

(يَخْلُقُ) ـ سبحانه ـ (ما يَشاءُ) خلقه (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بكل شيء (الْقَدِيرُ) على كل شيء.

فأنت ترى أن هذه الآية قد جمعت مراحل حياة الإنسان بصورها المختلفة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يقوله المجرمون عند ما يبعثون من قبورهم للحساب فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ).

والمراد بالساعة : يوم القيامة ، وسميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من عمر الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة ، والمراد بقيامها : حصولها ووجودها ، وقيام الخلائق في ذلك الوقت للحساب أى : وحين تقوم الساعة ؛ ويرى المجرمون أنفسهم وقد خرجوا من قبورهم للحساب بسرعة ودهشة ، يقسمون بأنهم ما لبثوا في قبورهم أو في دنياهم ، غير وقت قليل من الزمان.

قال ابن كثير : يخبر الله ـ تعالى ـ عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأصنام ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم ـ أيضا ـ فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة واحدة. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم (١).

وقوله : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) تذييل قصد به بيان ما جبلوا عليه من كذب.

ويؤفكون من الإفك بمعنى الكذب. يقال : أفك الرجل ، إذا صرف عن الخير والصدق أى : مثل هذا الكذب الذي تفوهوا به في الآخرة كانوا يفعلون في الدنيا ، فهم في الدارين لا ينفكون عن الكذب وعن اختلاق الباطل.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله أهل العلم والإيمان في الرد عليهم ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ).

أى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان من الملائكة والمؤمنين الصادقين في الرد على هؤلاء المجرمين : لقد لبثتم في علم الله وقضائه بعد مفارقتكم الدنيا إلى يوم البعث ، أى : إلى الوقت الذي حدده ـ سبحانه ـ لبعثكم ، والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) هي

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٣١.

١٠١

الفصيحة. اى : إن كنتم منكرين للبعث ، فهذا يومه تشاهدونه بأعينكم. ولا تستطيعون إنكاره الآن كما كنتم تنكرونه في الدنيا.

فالجملة الكريمة ، المقصود بها توبيخهم وتأنيبهم على إنكارهم ليوم الحساب.

وقوله (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) زيادة في تقريعهم. أى : فهذا يوم البعث ماثل أمامكم. ولكنكم كنتم في الدنيا لا تعلمون أنه حق وصدق. بل كنتم بسبب كفركم وعنادكم تستخفون به وبمن يحدثكم عنه ، فاليوم تذوقون سوء عاقبة إنكاركم له ، واستهزائكم به.

ولذا قال ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (فَيَوْمَئِذٍ) أى : فيوم أن تقوم الساعة ويقف الناس للحساب. (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أى لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يفيدهم علمهم بأن الساعة حق. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أى : ولا هم يقبل منهم الرجوع إلى الله ـ تعالى ـ بالتوبة والعمل الصالح.

قال الآلوسى : والاستعتاب : طلب العتبى ، وهي الاسم من الإعتاب ، بمعنى إزالة العتب. أى : لا يطلب منهم إزالة عتب الله ـ تعالى ـ وغضبه عليهم ، لأنهم قد حق عليهم العذاب ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقفهم من القرآن الكريم ، وأنهم لو اتبعوا توجيهاته لنجوا من العذاب المهين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ...

أى : وبالله لقد ضربنا للناس في هذا القرآن العظيم ، كل مثل حكيم ، من شأنه أن يهدى القلوب إلى الحق ، ويرشد النفوس إلى ما يسعدها ...

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أى ولئن جئت ـ أيها الرسول ـ هؤلاء المشركين بآية بينة تدل على صدقك فيما تبلغه عن ربك.

(لَيَقُولَنَ) على سبيل التطاول والتبجح (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أى : ما أنتم إلا متبعون للباطل أيها المؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم يعقب ـ سبحانه ـ على هذا التطاول والغرور بقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). والطبع : الختم على الشيء حتى لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخل فيه ما هو خارج عنه.

أى : مثل هذا الطبع العجيب ، يطبع الله ـ تعالى ـ على قلوب هؤلاء الذين لا يعلمون ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٦١.

١٠٢

ولا يعملون على إزالة جهلهم ، لتوهمهم أنهم ليسوا بجهلاء ، وهذا أسوأ أنواع الجهل ، لأنه جهل مركب ، إذ صاحبه يجهل أنه جاهل. فهو كما قال الشاعر :

قال حمار الحكيم يوما

لو أنصفونى لكنت أركب

لأننى جاهل بسيط

وصاحبي جاهل مركب

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين ، فقال : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

أى : إذا كان الأمر كما وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين ، فاصبر على أذاهم ، وعلى جهالاتهم ، فإن وعد الله ـ تعالى ـ بنصرك عليهم حق لا شك في ذلك.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أى : ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون بصحة ما تتلو عليهم من آيات ، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير.

وهكذا ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر ، كما افتتحت بالوعد به ، للمؤمنين الصادقين (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وبعد : فهذه هي سورة الروم ، وهذا تفسير محرر لها ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٠٣
١٠٤

تفسير

سورة لقمان

١٠٥
١٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

١ ـ سورة لقمان هي السورة الحادية والثلاثون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة السادسة والخمسون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة الصافات (١).

وعدد آياتها : أربع وثلاثون آية. وقد ذكر الإمام ابن كثير وغيره أنها مكية ، دون أن يستثنى شيئا منها.

وقال الآلوسى ما ملخصه : أخرج ابن الضريس ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أنه قال : أنزلت سورة لقمان بمكة ... وفي رواية عنه : أنها مكية إلا ثلاث آيات تبدأ بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) (٢).

٢ ـ وتبدأ السورة الكريمة ، بالثناء على القرآن الكريم ، وعلى المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم يوقنون.

ثم تنتقل إلى الحديث عن جانب من صفات المشركين ، الذين يستهزئون بآيات الله ـ تعالى ـ ، ويعرضون عنها ، (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

ثم ساقت أدلة متعددة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، قال ـ تعالى ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ، وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ ، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ. هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

٣ ـ ثم قص علينا ـ سبحانه ـ تلك الوصايا الحكيمة ، التي أوصى بها لقمان ابنه ، والتي اشتملت على ما يهدى إلى العقيدة السليمة ، وإلى الأخلاق الكريمة ، وإلى مراقبة الخالق ـ عزوجل ـ وإلى أداء العبادات التي كلفنا ـ سبحانه ـ بها.

ومن هذه الوصايا قوله ـ سبحانه ـ : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ مبحث المكي والمدني.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٦٤.

١٠٧

الْمُنْكَرِ ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ، وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

٤ ـ ثم بين ـ سبحانه ـ ألوانا من نعمه على عباده ، منها ما يتعلق بخلق السموات ، ومنها ما يتعلق بخلق الأرض ، كما بين ـ عزوجل ـ أن علمه محيط بكل شيء ، وأنه لا نهاية له .. قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

٥ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بدعوة الناس جميعا إلى تقواه ـ عزوجل ـ وإلى بيان الأمور الخمسة التي لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ. إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

٦ ـ هذا ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يراها قد خاطبت النفس البشرية ، بما من شأنه أن يسعدها ويحييها حياة طيبة.

إنها قد بينت أوصاف المؤمنين الصادقين ، وأوصاف أعدائهم : وبينت عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار ، ووضحت تلك الوصايا الحكيمة التي أوصى بها لقمان ابنه وأحب الناس إليه ، وساقت أنواعا من النعم التي أنعم بها ـ سبحانه ـ على عباده ، وبينت أن هناك أمورا لا يعلمها إلا الله ـ تعالى ـ وحده.

وقد ساقت السورة ما ساقت من هدايات ، بأسلوب بليغ مؤثر ، يرضى العواطف ، ويقنع العقول ..

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

١٠٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٥)

سورة لقمان من السور التي بدئت ببعض حروف التهجي ...

وقد فصلنا القول في معانيها ، عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران وغيرهما.

وقلنا في نهاية سردنا لأقوال العلماء في ذلك : ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها. فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة ، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة ..

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) يعود إلى آيات القرآن الكريم ، ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم على الصحيح. لأنه هو المتحدث عنه.

قال الآلوسى : وأما حمله على الكتب التي خلت قبل القرآن .. فهو في غاية البعد (١) ، والحكيم ـ بزنة فعيل ـ مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع ، تقول : حكمت الفرس ، إذا وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والشرود.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٥٨.

١٠٩

والمقصود ، أن هذا القرآن ممتنع أن يتطرق إليه الفساد ، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه ، منها : أن الحكيم هو ذو الحكمة ، بمعنى اشتماله على الحكمة ، فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر. ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم .. «أى المبرأ من الكذب والتناقض» (١).

والمعنى : تلك الآيات السامية ، المنزلة عليك يا محمد ، هي آيات الكتاب ، المشتمل على الحكمة والصواب ، المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.

وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت كلها لأن الإشارة إلى بعضها كالإشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإنزال ، ولأن الله ـ تعالى ـ قد وعد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزول القرآن عليه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ووعد الله ـ تعالى ـ لا يتخلف.

وقوله (هُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحالية من (آياتُ).

أى : هذا الكتاب أنزلنا عليك يا محمد آياته ، لتكون هداية ورحمة للمحسنين في أقوالهم وفي أفعالهم ، وفي كل أحوالهم.

ثم وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء المحسنين ، بصفات كريمة فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أى : يؤدونها في أوقاتها المحددة لها ، مستوفية لواجباتها ، وسننها ، وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة التامة هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، والخشوع ، والأداء الصحيح المطابق لما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أى : ويعطون الزكاة التي أوجبها الله ـ تعالى ـ في أموالهم لمستحقيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) والمراد بالآخرة : الدار الآخرة ، وسميت بذلك لأنها تأتى بعد الدنيا التي هي الدار الدنيا.

وقوله (يُوقِنُونَ) من الإيقان ، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، ولا تحوم حوله شبهة ..

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥.

١١٠

أى : أن من صفات هؤلاء المحسنين ، أنهم يؤدون الصلاة بخشوع وإخلاص ، ويقدمون زكاة أموالهم لمستحقيها ، وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب ، يوقنون إيقانا قطعيا ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة.

وفي إيراد «هم» قبل لفظ الآخرة. وقبل لفظ يوقنون : تعريض بغيرهم ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة ، أو غير بالغ مرتبة اليقين.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك الثمار الطيبة التي ترتبت على تلك الصفات الكريمة ، فقال ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

والمفلحون : من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية. وأصله من الفلح ـ بسكون اللام ـ وهو الشق والقطع ، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث ، واستعمل منه الفلاح في الفوز ، كأن الفائز شق طريقه وفلحه ، للوصول إلى مبتغاه ، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.

والمعنى : أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة ، على هداية عظيمة من ربهم توصلهم إلى المطلوب ، وأولئك هم الفائزون بكل مرغوب.

والتنكير في قوله (عَلى هُدىً) للتعظيم ، وأتى بلفظ «على» للاشارة إلى التمكن والرسوخ ، ووصفه بأنه (مِنْ رَبِّهِمْ) لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي وفقهم إليه ، ويسر لهم أسبابه.

ثم بين ـ سبحانه ـ حال طائفة أخرى من الناس ، كانوا على النقيض من سابقيهم ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٧)

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات اشهرها ، أنهما نزلتا في النضر بن الحارث. اشترى قينة ـ أى مغنية ـ ، وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى

١١١

قينته ، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه ، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه. (١).

و (لَهْوَ الْحَدِيثِ) : باطله ، ويطلق على كل كلام يلهى القلب ، ويشغله عن طاعة الله ـ تعالى ـ ، كالغناء ، والملاهي ، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله ـ تعالى ـ :

وقد فسره كثير من العلماء بالغناء ، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيرا.

و (مِنَ) في قوله (وَمِنَ النَّاسِ) للتبعيض ، أى : ومن الناس من يترك القول الذي ينفعه ، ويشترى الأحاديث الباطلة ، والخرافات الفاسدة.

قال القرطبي ما ملخصه : هذه إحدى الآيات التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. ولا يختلف في تحريم الغناء الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على الغزل والمجون .. فأما ما سلّم من ذلك ، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق .. (٢).

وقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً) .. تعليل لاشتراء لهو الحديث. والمراد بسبيل الله ـ تعالى ـ : دينه وطريقه الذي اختاره لعباده.

وقد قرأ الجمهور : (لِيُضِلَ) بضم الياء ـ أى : يشترى لهو الحديث ليضل غيره عن صراط الله المستقيم ، حالة كونه غير عالم بسوء عاقبة ما يفعله ، ولكي يتخذ آيات الله ـ تعالى ـ مادة لسخريته واستهزائه.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (لِيُضِلَ) ـ بفتح الياء ـ فيكون المعنى : يشترى لهو الحديث ليزداد رسوخا في ضلاله.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو ، أن يصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ، ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟.

قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصد الناس عنه. والثاني : أن

__________________

(١) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص ١٧٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٤ ص ٥٤ وراجع تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٦٧ وما بعدها.

١١٢

يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف .. (١).

وقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بيان لسوء عاقبة من يؤثر الضلالة على الهداية.

أى : أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ليصرفوا الناس عن دين الله ـ تعالى ـ ، وليستهزئوا بآياته ، لهم عذاب يهينهم ويذلهم ، ويجعلهم محل الاحتقار والهوان.

ثم فصل ـ سبحانه ـ حال هذا الفريق الشقي فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ) أى : على النضر وأمثاله (آياتُنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وعلى صدق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أى : أعرض عنها بغرور واستعلاء. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أى : كأن حاله في استكباره عن سماع الآيات ، كحال الذي لم يسمعها إطلاقا.

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أى : كأن في أذنيه صمما وثقلا ومرضا يحول بينه وبين السماع.

والجملتان الكريمتان حال من قوله (مُسْتَكْبِراً) والمقصود بهما توبيخ هذا الشقي وأمثاله ، وذمهم ذما موجعا لإعراضهم عن الحق.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) تهكم به ، واستخفاف بتصرفاته.

أى : فبشر هذا الشقي الذي اشترى لهو الحديث ، وأعرض عن آياتنا بالعذاب الأليم ، الذي يناسب غروره واستكباره.

ثم أكدت السورة الجزاء الحسن الذي أعده الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، وذكرت جانبا من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ ، ورحمته بعباده ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٩١.

١١٣

مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

أى : إن الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وعملوا الأعمال الصالحات (لَهُمْ) في مقابلة ذلك (جَنَّاتُ النَّعِيمِ) أى : لهم جنات عالية يتنعمون فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أى : هم خالدون في تلك الجنات خلودا أبدا ، فقد وعدهم ـ سبحانه ـ بذلك ، ووعده حق وصدق ، ولن يخلفه ـ سبحانه ـ تفضلا منه وكرما.

قال الجمل. وقوله (وَعْدَ) مصدر مؤكد لنفسه ، لأن قوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) في معنى وعدهم الله ذلك. وقوله (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره. أى : لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف ، فتقدير الأولى : وعد الله ذلك وعدا. وتقدير الثانية ، وحقه حقا. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى : وهو ـ سبحانه ـ العزيز الذي لا يغلبه غالب. الحكيم في كل أفعاله وتصرفاته.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر قدرته وعزته وحكمته فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ...

والعمد : جمع عماد. وهو ما تقام عليه القبة أو البيت. وجملة «ترونها» في محل نصب حال من السموات.

أى هو : ـ سبحانه ـ وحده ، الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفي ضخامتها ، بغير مستند يسندها. وبغير أعمدة تعتمد عليها. وأنتم ترون ذلك بأعينكم بدون لبس أو خفاء. ولا شك أن خلقها على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقا مدبرا قادرا حكيما ، هو المستحق للعبادة والطاعة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) بيان لنعمة ثانية مما أنعم به ـ سبحانه ـ على عباده.

والرواسي : جمع راسية. والمراد بها الجبال الشوامخ الثابتة.

__________________

(١) حاشية الجمل ج ٣ ص ٤٠١.

١١٤

أى : ومن رحمته بكم ، وفضله عليكم ، أن ألقى ـ سبحانه ـ في الأرض جبالا ثوابت كراهة أن تميد وتضطرب بكم ، وأنتم عليها.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أى : وأوجد ونشر في الأرض التي تعيشون فوقها ، من كل دابة من الدواب التي لا غنى لكم عنها والتي فيها منفعتكم ومصلحتكم.

والبث : معناه : النشر والتفريق. يقال : بث القائد خيله إذا نشرها وفرقها.

ثم بين ـ سبحانه ـ نعمة ثالثة فقال : (وَأَنْزَلْنا) أى : بقدرتنا (مِنَ السَّماءِ ماءً) أى : ماء كثيرا هو المطر ، (فَأَنْبَتْنا فِيها) أى : فأنبتنا في الأرض بسبب نزول المطر عليها. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أى : صنف (كَرِيمٍ) أى حسن جميل كثير المنافع.

والإشارة في قوله : (هذا خَلْقُ اللهِ) .. تعود إلى ما ذكره ـ سبحانه ـ من مخلوقات قبل ذلك. والخلق بمعنى المخلوق.

هذا الذي ذكرناه لكم من خلق السموات والأرض والجبال ... هو من مخلوقنا وحدنا ، دون أن يشاركنا فيما خلقناه مشارك.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) واقعة في جواب شرط مقدر ، أى : إذا علمتم ذلك فأرونى وأخبرونى ، ماذا خلق الذين اتخذتموهم آلهة من دونه ـ سبحانه ـ إنهم لم يخلقوا شيئا ما ، بل هم مخلوقون لله ـ تعالى ـ.

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة تحدى المشركين ، وإثبات أنهم في عبادتهم لغير الله ، قد تجاوزوا كل حد في الجهالة والضلالة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم وتوبيخهم ، إلى تسجيل الضلال الواضح عليهم.

أى : بل الظالمون في ضلال بين واضح ، لأنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع ، ويتركون عبادة الله ـ تعالى ـ الخلاق العليم.

ثم ساق ـ سبحانه ـ على لسان عبد صالح من عباده ، جملة من الوصايا الحكيمة ، لتكون عظة وعبرة للناس ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ

١١٥

لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩)

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : اختلف السلف في لقمان ، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا.

وعن ابن عباس وغيره : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا ..

قال له مولاه : اذبح لنا شاة وجئني بأخبث ما فيها؟ فذبحها وجاءه بلسانها وقلبها. ثم قال له مرة ثانية : اذبح لنا شاة وجئني بأحسن ما فيها؟ فذبحها وجاءه ـ أيضا ـ بقلبها ولسانها ، فقال له مولاه ما هذا؟ فقال لقمان : إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ، وليس من شيء أخبث منهما إذا خبثا.

١١٦

وقال له رجل : ألست عبد فلان؟ فما الذي بلغ بك ما أرى من الحكمة؟ فقال لقمان : قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركي ما لا يعنيني (١).

ومن أقواله لابنه : يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة.

يا بنى ، لا تكن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك.

يا بنى ، اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق.

يا بنى ، عليك بمجالس العلماء ، وبسماع كلام الحكماء ، فإن الله ـ تعالى ـ يحيى القلب الميت بنور الحكمة.

يا بنى ، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها ، واستقبلت الآخرة ، ودار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترتحل .. (٢).

وقال الآلوسى ما ملخصه : ولقمان : اسم أعجمى لا عربي وهو ابن باعوراء. قيل : كان في زمان داود ـ عليه‌السلام ـ وقيل : كان زمانه بين عيسى وبين محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.

ثم قال الآلوسى : وإنى أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ، ولم يكن نبيا (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ.) .. كلام مستأنف مسوق لإبطال الإشراك بالله ـ تعالى ـ عن طريق النقل ، بعد بيان إبطاله عن طريق العقل ، في قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.) ...

والحكمة : اكتساب العلم النافع والعمل به. أو هي : العقل والفهم. أو هي الإصابة في القول والعمل.

والمعنى : والله لقد أعطينا ـ بفضلنا وإحساننا ـ عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به.

وقوله ـ سبحانه ـ (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة. أى : آتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكي يزيدك منها.

قال الشوكانى : قوله : (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أن هي المفسرة : لأن في إيتاء الحكمة معنى القول. وقيل التقدير : قلنا له أن اشكر لي .. وقيل : بأن اشكر لي فشكر ، فكان حكيما بشكره.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٦.

(٢) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٤٠٣.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢١ ص ٨٢.

١١٧

والشكر لله : الثناء عليه في مقابلة النعمة ـ واستعمالها فيما خلقت له ـ ، وطاعته فيما أمر به (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال : (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

أى : ومن يشكر الله ـ تعالى ـ على نعمه ، فإن نفع شكره إنما يعود إليه ، ومن جحد نعم الله ـ تعالى ـ واستحب الكفر على الإيمان ، فالله ـ تعالى ـ غنى عنه وعن غيره ، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإنعامه عليهم بالنعم التي لا تعد ولا تحصى : فحميد بمعنى محمود.

فالجملة الكريمة المقصود بها ، بيان غنى الله ـ تعالى ـ عن خلقه ، وعدم انتفاعه بطاعتهم ، لأن منفعتها راجعة إليهم ، وعدم تضرره بمعصيتهم. وإنما ضرر ذلك يعود عليهم. وعبر ـ سبحانه ـ في جانب الشكر بالفعل المضارع ، للإشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله ـ تعالى ـ ، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت ، عادوا إلى طاعته ـ سبحانه ـ وشكره.

وعبر في جانب الكفر بالفعل الماضي ، للإشعار بأنه لا يصح ولا ينبغي من أى عاقل ، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما ، وأن يجعله في خبر كان.

وجواب الشرط محذوف ، وقد قام مقامه قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) والتقدير : ومن كفر فضرر كفره راجع إليه. لأن الله ـ تعالى ـ غنى حميد.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله لقمان لابنه على سبيل النصيحة والإرشاد فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ، يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقوله (يَعِظُهُ) من الوعظ ، وهو الزجر المقترن بالتخويف. وقيل : هو التذكير بوجوه الخير بأسلوب يرق له القلب.

قالوا : واسم ابنه «ثاران» أو «ماثان» أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتنتفع ، وقت أن قال لقمان لابنه وهو يعظه ، ويرشده إلى وجوه الخير بألطف عبارة : يا بنى (لا تُشْرِكْ بِاللهِ) ـ تعالى ـ لا في عبادتك ، ولا في قولك ، ولا في عملك ، بل أخلص كل ذلك لخالقك ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ٢٣٧.

١١٨

وفي ندائه بلفظ (يا بُنَيَ) إشفاق عليه. ومحبة له ، فالمراد بالتصغير إظهار الحنو عليه ، والحرص على منفعته.

قيل : وكان ابنه كافرا فما زال يعظه حتى أسلم. وقيل : بل كان مسلما ، والنهى عن الشرك المقصود به ، المداومة على ما هو عليه من إيمان وطاعة لله رب العالمين.

وجملة (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) تعليل للنهى. أى : يا بنى حذار أن تشرك بالله في قولك أو فعلك ، إن الشرك بالله ـ تعالى ـ لظلم عظيم ، لأنه وضع للأمور في غير موضعها الصحيح ، وتسوية في العبادة بين الخالق والمخلوق.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) .. كلام مستأنف ، جيء به على سبيل الاعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه ، لبيان سمو منزلة الوالدين ، ولأن القرآن كثيرا ما يقرن بين الأمر بوحدانية الله ـ تعالى ـ ، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) .. (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) .. (٢). أى : أمرنا كل إنسان أن يكون بارا بأبويه ، وأن يحسن إليهما ، وأن يطيع أمرهما في المعروف.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما بذلته الأم من جهد يوجب الإحسان إليها فقال : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أى : حملته أمه في بطنها وهي تزداد في كل يوم ضعفا على ضعف ، بسب زيادة وزنه ، وكبر حجمه ، وتعرضها لألوان من التعب خلال حمله ووضعه.

والوهن : الضعف. يقال : وهن فلان يهن وهنا. إذا ضعف. ولفظ «وهنا» حال من أمه بتقدير مضاف. أى : حملته أمه ذات وهن ، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال. أى : تهن وهنا. وقوله : (عَلى وَهْنٍ) متعلق بمحذوف صفة للمصدر. أى : وهنا كائنا على وهن. وقوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) بيان لمدة إرضاعه. والفصال : الفطام عن الرضاع.

أى : وفطام المولود عن الرضاعة يتم بانقضاء عامين من ولادته ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ.) .. (٣).

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٢٣.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٥١.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٣٣.

١١٩

وهاتان الجملتان (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما ، تأكيدا لحق الأم ، وبيانا لما تبذله من جهد شاق في سبيل أولادها ، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟

قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا ، ومن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن قال له : من أبر؟ قال : «أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك : «ثم أباك» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى : وصينا الإنسان بوالديه حسنا ، وقلنا له : اشكر لخالقك فضله عليك ، بأن تخلص له العبادة والطاعة ، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب ، بأن تحسن إليهما ، واعلم أن مصيرك إلى خالقك ـ عزوجل ـ وسيحاسبك على أعمالك ، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ حدود الطاعة للوالدين فقال : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ..

والجملة الكريمة معطوفة على قوله (وَوَصَّيْنَا.) .. بإضمار القول. أى : ووصينا الإنسان بوالديه. وقلنا له : (وَإِنْ جاهَداكَ) أى : وإن حملاك (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) في العبادة أو الطاعة ، (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) في ذلك ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وجملة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لبيان الواقع ، فلا مفهوم لها ، إذ ليس هناك من إله يعلم سوى الله ـ عزوجل ـ.

ثم أمر ـ سبحانه ـ بمصاحبتهما بالمعروف حتى مع كفرهما فقال : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً).

أى : إن حملاك على الشرك. فلا تطعهما ، ومع ذلك فصاحبهما في الأمور الدنيوية التي لا تتعلق بالدين مصاحبة كريمة حسنة ، يرتضيها الشرع ، وتقتضيها مكارم الأخلاق.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٩٤.

١٢٠