التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

إتمام عقد الزواج ، والمرأة ـ في هذا الباب ـ تكون في العادة مطلوبة لا طالبة ، ومرغوبة لا راغبة.

وجمع ـ سبحانه ـ بين رغبة الزاني ورغبة الزانية لتأكيد ما يليق بكليهما من الميل الدنىء. والطبع الوضيع. والسلوك الخبيث. وأن كل واحد منهما ألعن من صاحبه في ولوج الطريق القبيح.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعود على الزنا. وعلى الزواج من الزواني ، لما فيه من التشبيه بالفاسقين ، ومن التعرض للعقوبة وسوء السيرة.

أى : وحرم ذلك الذي نهيناكم عنه ـ وهو الزنا والاقتران بمن يرتكبه ـ على المؤمنين الأطهار ، الذين ينزهون أنفسهم عن الوقوع في السوء والفحشاء.

هذا. وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما رواه الترمذي وأبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له «مرثد بن أبى مرثد» كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتى بهم المدينة. قال : وكانت امرأة بغىّ بمكة يقال لها «عناق» وكانت صديقة له ـ أى في الجاهلية ـ وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال : فجاءت «عناق» فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إلى عرفتني ، فقالت : مرثد؟

فقلت : مرثد فقالت : مرحبا وأهلا. هلم فبت عندنا الليلة. فقال : فقلت : يا عناق. حرم الله الزنا. فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية ودخلت الخندمة ـ أى جبل بمكة ـ فانتهيت إلى غار ... فأعماهم الله ـ تعالى ـ عنى. ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته إلى المدينة ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا؟ أنكح عناقا؟ ـ مرتين ـ ، فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرد شيئا حتى نزلت هذه الآية : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.). فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا مرثد. (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.). فلا تنكحها. (١) هذا. ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :

١ ـ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.).

يفيد أن هذا الجلد لكل من ارتكب هذه الفاحشة سواء أكان محصنا أم غير محصن.

ولكن هذا الظاهر قد فصلته السنة الصحيحة. حيث بينت أن هذا الحد ، إنما هو لغير

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٩.

٨١

المحصن. أما المحصن ـ وهو المتزوج أو من سبق له الزواج ـ فإن حده الرجم حتى يموت.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : «هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد».

وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ، فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا : وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا : وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل.

فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية. ويزاد على ذلك أن يغرّب عاما عند جمهور العلماء.

وحجتهم في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة ، أن أعرابيين أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عسيفا ـ أى أجيرا ـ عند هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن على ابني جلد مائة وتغريب عام. وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك. وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس ـ وهو رجل من قبيلة أسلم ـ إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها ، فاعترفت فرجمها.

ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلده مائة. إذا كان بكرا لم يتزوج فأما إذا كان محصنا فإنه يرجم.

وثبت في الصحيحين من حديث مالك ـ مطولا ـ ، أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قام فخطب الناس فقال : «أيها الناس ، إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف».

وقد رجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عزا والغامدية ، إلا أن جمهور الفقهاء يرون أنه يكتفى بالرجم ، ولا يجلد قبل الرجم ، لأنه لم ينقل عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جلد أحدا من الزناة المحصنين قبل أن يرجمهم ، ومن الفقهاء من يرى أنهم يجلدون ثم يرجمون بعد ذلك (١) وقال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أن رجم الزانيين المحصنين ، دلت عليه آيتان من

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣ وما بعدها.

٨٢

كتاب الله ـ تعالى ـ ، إحداهما : نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، والثانية : باقية التلاوة والحكم.

أما التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، فهي قوله ـ تعالى ـ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ـ وقد ورد ذلك في روايات متعددة ـ وتدل هذه الروايات على أن الصحابة قرءوها ووعوها. وعقلوها. وأن حكمها باق لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله ، والصحابة فعلوه من بعده.

وأما الآية التي هي باقية التلاوة والحكم ، فهي قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (١) ، على القول بأنها نزلت في رجم اليهوديين الزانيين بعد الإحصان ، وقد رجمهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصة رجمه لهما مشهورة ، ثابتة في الصحيح. وعليه فقوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أى : عما في التوراة من حكم الرجم ، وذم المعرض عن الرجم في هذه الآية. يدل على أنه ثابت في شرعنا فدلت الآية ـ على هذا القول ـ أن الرجم ثابت في شرعنا. وهي باقية التلاوة ... (٢) ٢ ـ كذلك أخذ العلماء من قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ..).

أنه لا تجوز الشفاعة في الحدود ، كما لا يجوز إسقاط الحد ؛ لأن في ذلك تعطيلا لتنفيذ شرع الله ـ تعالى ـ على الوجه الأكمل.

قال الآلوسى ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ.). أى في طاعته وإقامة حده الذي شرعه. والمراد النهى عن التخفيف في الجلد. بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم ، أو بأن يكون أقل من مائة جلدة. أو بإسقاط الحد بشفاعة أو نحوها.

لما صح أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنكر على حبّه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية ، التي سرقت قطيفة أو حليا ، وقال له : «يا أسامة ، أتشفع في حد من حدود الله ـ تعالى ـ ، ثم قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب فقال : «أيها الناس ، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ـ تعالى ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».

وكما تحرم الشفاعة ، يحرم قبولها ، فعن الزبير بن العوام ـ رضى الله عنه ـ قال : «إذا بلغ الحد إلى الإمام ، فلا عفا الله ـ تعالى ـ عنه إن عفا» (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٢٣.

(٢) راجع : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج ٦ ص ٥ وما ببعدها للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٨٣.

٨٣

٣ ـ يرى كثير من الفقهاء أن التحريم في قوله ـ تعالى ـ : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) للتنزيه ، وعبر عنه بلفظ «حرّم» للتغليظ والتنفير من الإقدام على زواج المؤمن من الزانية ، أو على زواج المؤمنة من الزاني.

ويرى آخرون أن التحريم على ظاهره ، وأنه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج بالزانية. وكذلك لا يجوز للمؤمنة أن تتزوج بالزاني.

وقد فصل القول في هذه المسألة بعض العلماء فقال ما ملخصه : اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف بالزانية ونكاح العفيفة بالزاني.

فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة ـ أبو حنيفة ومالك والشافعى ـ إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية .. لأن الله ـ تعالى ـ قال : (... وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ..). (١) وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة.

وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : لا يجوز تزويج الزاني العفيفة ، ولا عكسه ، وهو مذهب الإمام أحمد. وقد روى عن الحسن وقتادة.

ومن أدلتهم الآية التي نحن بصددها ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) لأنها قد حرمت في نهايتها أن يتزوج التقى بالزانية ، أو التقية بالزاني (٢).

وعلى أية حال فالمتدبر في هاتين الآيتين يراهما ، تشددان العقوبة على من يرتكب جريمة الزنا ، وتنفران من الاقتراب منها وممن يقع فيها أعظم تنفير ، لأن الإسلام حرص على أن ينتشر العفاف والطهر بين أفراد المجتمع الإسلامى ، وشرع من وسائل الوقاية ما يحمى الأفراد والجماعات من الوقوع في هذه الرذيلة.

* * *

وبعد أن نفر ـ سبحانه ـ من جريمة الزنا أعظم تنفير ، وأمر بتنفيذ عقوبته في مرتكبها بدون رأفة أو تساهل ... أتبع ذلك بتشريعات أخرى من شأنها أن تحمى أعراض الناس وأنفسهم من اعتداء المعتدين ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة النساء الآية ٢٤.

(٢) راجع تفسير : «أضواء البيان» ج ٦ ص ٧٢ وما بعدها.

٨٤

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)

وقوله ـ تعالى ـ (يَرْمُونَ) من الرمي ، وأصله القذف بشيء صلب أو ما يشبهه تقول : رمى فلان فلانا بحجر. إذا قذفه به. والمراد به هنا : الشتم والقذف بفاحشة الزنا ، أو ما يستلزمه كالطعن في النسب.

قال الإمام الرازي : وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا : الرمي بالزنا.

وفي الآية أقوال تدل عليه. أحدها : تقدم ذكر الزنا. وثانيها : أنه ـ تعالى ـ ذكر المحصنات ، وهن العفائف ، فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف ، وثالثها : قوله (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يعنى على صحة ما رموهن به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا بالزنا ، ورابعها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا. فوجب أن يكون المراد هنا هو الرمي بالزنا ..» (١).

و «المحصنات» جمع محصنة ، والإحصان في اللغة بمعنى المنع ، يقال : هذه درع حصينة ، أى : مانعة صاحبها من الجراحة. ويقال هذا موضع حصين ، أى : مانع من يريده بسوء.

والمراد بالمحصنات هنا : النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة.

وسميت المرأة العفيفة بذلك. لأنها تمنع نفسها من كل سوء.

قالوا : ويطلق الإحصان على المرأة والرجل ، إذا توفرت فيهما صفات العفاف. والإسلام ، والحرية ، والزواج.

وإنما خص ـ سبحانه ـ النساء بالذكر هنا : لأن قذفهن أشنع ، والعار الذي يلحقهن بسبب ذلك أشد ، وإلا فالرجال والنساء في هذه الأحكام سواء.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ.). مبتدأ ، أخبر عنه بعد ذلك بثلاث

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٢٢٧.

٨٥

جمل ، وهي قوله : «فاجلدوهم .. ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الفاسقون».

والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفوهن به ، فاجلدوا ـ أيها الحكام ـ هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة ، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء في حق هؤلاء المحصنات ، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو برىء منها. وأولئك هم الفاسقون. أى : الخارجون على أحكام شريعة الله ـ تعالى ـ وعلى آدابها السامية.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات.

أولاها : حسية ، وتتمثل في جلدهم ثمانين جلدة ، وهي عقوبة قريبة من عقوبة الزنا.

وثانيتها : معنوية ، وتتمثل في عدم قبول شهادتهم ، بأن تهدر أقوالهم ، ويصيرون في المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين ، الذين إن قالوا لا يصدق الناس أقوالهم ، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم ، لأنهم انسلخت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم.

وثالثتها : دينية ، وتتمثل في وصف الله ـ تعالى ـ لهم بالفسق. أى : بالخروج عن طاعته ـ سبحانه ـ وعن آداب دينه وشريعته.

وما عاقب الله ـ تعالى ـ هؤلاء القاذفين في أعراض الناس ، بتلك العقوبات الرادعة ، إلا لحكم من أهمها : حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء ، وصيانتهم من كل ما يخدش كرامتهم ، ويجرح عفافهم.

وأقسى شيء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة ، أن تلصق بهم التهم الباطلة. وعلى رأس الرذائل التي تؤدى إلى فساد المجتمع ، ترك ألسنة السوء. تنهش أعراض الشرفاء ، دون أن تجد هذه الألسنة من يخرسها أو يردعها.

وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء في قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) يعود على الجملة الأخيرة. بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم.

أى : وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه. هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله ـ تعالى ـ ، إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا ، وأصلحوا أحوالهم وأعمالهم ، فإن الله ـ تعالى ـ كفيل بمغفرة ذنوبهم ، وبشمولهم برحمته.

كما اتفقوا ـ أيضا ـ على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهي الجلد ، لأن

٨٦

هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم ، متى ثبت قذفهم للمحصنات ، حتى ولو تابوا وأصلحوا.

والخلاف إنما هو في العقوبة الوسطى وهي قبول شهادتهم ، فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة ، فيكون المعنى : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، فاقبلوا شهادتهم.

ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم ، وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهي الفسق ، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أى : طول مدة حياتهم ، حتى وإن تابوا وأصلحوا.

وقد فصل القول في هذه المسألة الإمام القرطبي فقال ما ملخصه : «تضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده ، ورد شهادته أبدا ، وفسقه.

فالاستثناء غير عامل في جلده وإن تاب ـ أى أنه يجلد حتى ولو تاب.

وعامل في فسقه بإجماع. أى : أن صفة الفسق تزول عنه بعد ثبوت توبته.

واختلف الناس في عمله في رد الشهادة. فقال أبو حنيفة وغيره : «لا يعمل الاستثناء في رد شهادته. وإنما يزول فسقه عند الله ـ تعالى ـ. وأما شهادة القاذف فلا تقبل ألبتة. ولو تاب وأكذب نفسه ، ولا بحال من الأحوال.

وقال الجمهور : الاستثناء عامل في رد الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، وإنما كان ردها لعلة الفسق ، فإذا زال بالتوبة قبلت شهادته مطلقا ، قبل الحد وبعده. وهو قول عامة الفقهاء.

ثم اختلفوا في صورة توبته ، فمذهب عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ والشعبي وغيره : أن توبته لا تكون ـ مقبولة ـ إلا إذا كذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه.

وقالت فرقة منها مالك وغيره : توبته أن يصلح ويحسن حاله ، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، وحسبه الندم على قذفه ، والاستغفار منه ، وترك العود إلى مثله» (١).

ويبدو لنا أن ما أفتى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب هو الأولى بالقبول ، لأن اعتراف القاذف بكذبه ، فيه محو لآثار هذا القذف ، وفيه تبرئة صريحة للمقذوف ، وهذه التبرئة تزيده انشراحا وسرورا ، وترد إليه اعتباره بين أفراد المجتمع.

كما يبدو لنا أن الأولى في هذه الحالة أن تقبل شهادة القاذف ، بعد هذه التوبة التي صاحبها

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٧٩ وراجع أيضا البيان ج ٦ ص ٨٩ وما بعدها.

٨٧

اعتراف منه بكذبه فيما قال. لأن إقدامه على تكذيب نفسه قرينة على صدق توبته وصلاح حاله.

وهكذا يحمى الإسلام أعراض أتباعه ، بهذه التشريعات الحكيمة ، التي يؤدى اتباعها إلى السعادة في الدنيا والآخرة.

ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن حكم القذف بصفة عامة ، إلى الحديث عن حكم القذف إذا ما حدث بين الزوجين ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، أن هلال بن أمية ، قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن السحماء ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة أو حدّ في ظهرك». فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له : «البينة أو حد في ظهرك».

فقال هلال : والذي بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل بهذه الآيات.

فانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله يعلم أن أحدكم كاذب ، فهل منكما تائب؟ ثم قامت زوجته فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة ـ أى للعذاب ولغضب الله ـ تعالى ـ.

٨٨

قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت.

وفي رواية فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ..» (١).

والمراد بالرمي في قوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) الرمي بفاحشة الزنا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أى : ولم يكن لهؤلاء الأزواج الذين قذفوا زوجاتهم بالزنا من يشهد معهم سوى أنفسهم.

وقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) أى : فشهادة أحدهم التي ترفع عنه حد القذف ، أن يشهد «أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين» فيما رماها به من الزنا.

قال الجمل ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) في رفع أنفسهم وجهان : أحدهما أنه بدل من شهداء ، والثاني ، أنه نعت له على أن إلا بمعنى غير ، ولا مفهوم لهذا القيد. بل يلاعن ولو كان واجدا للشهود الذين يشهدون بزناها. وقوله : (فَشَهادَةُ) مبتدأ ، وخبره «أربع شهادات» أى : فشهادتهم المشروعة أربع شهادات ...» (٢).

وقرأ الجمهور : «أربع شهادات» بالنصب على المصدر ، لأن معنى : فشهادة. أن يشهد.

والتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما قاله.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) بيان لما يجب على القاذف بعد أن شهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.

أى : والشهادة الخامسة بعد الأربع المتقدمة ، أن يشهد القاذف بأن لعنة الله ـ تعالى ـ عليه ، إن كان من الكاذبين ، في رميه لزوجته بالزنا.

قال الآلوسى : وإفرادها ـ أى الشهادة الخامسة ـ بالذكر ، مع كونها شهادة ـ أيضا ـ ، لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصد بالشهادة من تحقيق الخبر ، وإظهار الصدق. وهي مبتدأ ، خبره قوله ـ تعالى ـ (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يجب على المرأة لكي تبرئ نفسها مما رماها به زوجها فقال :

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٠٩.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٠٥.

٨٩

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

وقوله ـ تعالى ـ (وَيَدْرَؤُا) من الدّرء بمعنى الدفع. يقال : درأ فلان التهمة عن نفسه ، إذا دفعها عن نفسه ، وتبرأ منها.

والمراد بالعذاب هنا : العذاب الدنيوي وهو الحد الذي شرعه الله ـ تعالى ـ في هذا الشأن.

أى : أن الزوجة التي رماها زوجها بفاحشة الزنا يدفع عنها الحد ويرفع ، إذا شهدت أربع شهادات بالله ، إن زوجها لمن الكاذبين فيما قذفها به.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَالْخامِسَةُ) بالنصب عطفا على (أَرْبَعُ شَهاداتٍ).

أى : يدرأ عنها العذاب إذا شهدت أربع شهادات بالله أن زوجها كاذب فيما رماها به ، ثم تشهد بعد ذلك شهادة خامسة مؤداها : أن غضب الله عليها ، إن كان زوجها من الصادقين ، في اتهامه إياها بفاحشة الزنا.

وجاء من جانب المرأة التعبير بقوله ـ تعالى ـ : (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) ليكون أشد في زجرها عن الكذب ، واعترافها بالحقيقة بدون إنكار ، لأن العقوبة الدنيوية أهون من غضب الله ـ تعالى ـ عليها في حالة كذبها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات ببيان جانب من فضله ـ تعالى ـ على خلقه فقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).

وجواب «لو لا» محذوف. وجاءت الآية بأسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، للعناية بشأن مقام الامتنان والفضل من الله ـ تعالى ـ عليهم بتشريع هذه الأحكام.

أى : ولو لا أن الله ـ تعالى ـ تفضل عليكم ورحمكم ـ أيها المؤمنون ـ بسبب ما شرعه لكم في حكم الذين يرمون أزواجهم بالفاحشة .. لو لا ذلك لحصل لكم من الفضيحة ومن الحرج ما لا يحيط به الوصف ، ولكنه ـ سبحانه ـ شرع هذه الأحكام سترا للزوجين ، وتخفيفا عليهما. وحضا لهما على التوبة الصادقة النصوح ، وأن الله ـ تعالى ـ «تواب» أى : كثير القبول لتوبة التائب متى صدق فيها ، «حكيم» أى : في كل ما شرعه لعباده.

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ، أن قاذف زوجته بفاحشة الزنا ، إذا لم يأت بأربعة شهداء على صحة ما قاله. فإنه يكون مخيرا بين أن يلاعن ، وبين أن يقام عليه الحد.

بخلاف من قذف أجنبية محصنة بفاحشة الزنا ، فإنه يقام عليه الحد ، إذا لم يأت بأربعة

٩٠

شهداء على أنه صادق في قوله.

قال بعض العلماء : ولعلك تقول : لما ذا كان حكم قاذف زوجته ، مخالفا لحكم قاذف الأجنبية؟ وما السر في أنه جاء مخففا.؟

والجواب : أنه لا ضرر على الزوج بزنا الأجنبية؟ وأما زنا زوجته فيلحقه به العار. وفساد البيت. فلا يمكنه الصبر عليه ، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة. فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى. وأيضا فإن الغالب في الرجل أنه لا يرمى زوجته بتلك الفاحشة ، إلا عن حقيقة. لأن في هذا الرمي إيذاء له ، وهتكا لحرمته ، وإساءة لسمعته .. فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه. إلا أن الشارع أراد كمال شهادة الحال. بذكر كلمات اللعان المؤكدة بالأيمان ، فجعلها ـ منضمة إلى قوة جانب الزوج ـ قائمة مقام الشهود في قذف الأجنبى» (١).

كذلك أخذ العلماء من هذه الآيات أن كيفية اللعان بين الزوجين ، أن يبدأ بالزوج فيقول أمام القاضي : أشهد بالله إنى لمن الصادقين ، وفي المرة الخامسة يقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ـ أى فيما رمى به زوجته ـ ، وكذلك المرأة تقول في لعانها أربع مرات : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين. وفي المرة الخامسة تقول : غضب الله عليها إن كان من الصادقين ـ أى فيما قاله زوجها في حقها ـ.

فإذا ما قالا ذلك. سقط عنهما الحد ، وفرق القاضي بينهما فراقا أبديا.

قال القرطبي : «قال مالك وأصحابه : وبتمام اللعان تقع الفرقة بين المتلاعنين فلا يجتمعان أبدا. ولا يتوارثان. ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل زوج ولا بعده.

وقال أبو حنيفة وغيره : لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما.

وقال الشافعى : إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان. فقد زال فراش امرأته. التعنت أو لم تلتعن. لأن لعانها إنما هو لدرء الحد عنها لا غير. وليس لالتعانها في زوال الفراش معنى ..» (٢).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حكم القذف بالنسبة للمحصنات. وبالنسبة للزوجات ، أتبع ـ عزوجل ـ ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون في شأن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ. ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه في مثل هذه الأحوال ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ١٣٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٩٣.

٩١

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٨)

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «هذه الآيات نزلت في شأن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التي غار الله ـ تعالى ـ لها ولنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي ـ وكان ذلك في غزوة بنى المصطلق على الأرجح ـ ، فخرجت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج وأنزل فيه.

٩٢

فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش.

فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فاحتبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري. وهم يحسبون أنى فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعد ما سار الجيش. فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلي الذي كنت فيه. وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلى.

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرّس ـ أى تأخر ـ من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب.

فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني. فخمرت وجهى بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطئ على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة. حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا في نحو الظهيرة. فهلك من هلك في شأنى ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ..» (١).

وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ).

والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفك فلان ـ كضرب وعلم ـ أفكا وإفكا ، أى : كذب كذبا قبيحا.

والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل واحد منها يشد الآخر ويؤازره.

أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ هم جماعة ينتسبون إليكم ـ أيها المسلمون ـ بعضهم قد استزلهم الشيطان. ـ كمسطح بن أثاثة ـ وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق ـ كعبد الله بن أبى بن سلول ـ وأتباعه.

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ (عُصْبَةٌ) : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التي

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٨. وما بعدها ففيه جملة من الأحاديث في هذا الشأن.

٩٣

تواطئوا على نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.). تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح.

أى : لا تظنوا ـ أيها المؤمنون ـ أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفه. كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء الخائضين في حديث الإفك من عقاب فقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).

أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا في إشاعة حديث الإفك العقاب الذي يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب.

والكبر ـ بكسر الكاف وضمها ـ مصدر لمعظم الشيء وأكثره.

أى : والذي تولى معظم الخوض في هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله ـ تعالى ـ.

والمقصود بهذا الذي تولى كبره. عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذي قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته.

روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة ـ رضى الله عنها ـ قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه؟ قالوا عائشة فقال ـ لعنه الله ـ : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها.

وقال ابن جرير : «والأولى بالصواب قول من قال ، الذي تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذي بدأ بذكر الإفك. وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن أبى بن سلول» (١).

وقال الآلوسى : «والذي تولى كبره .. كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٨ ص ٧١.

٩٤

عائشة : هو عبد الله بن أبى ـ عليه اللعنة ـ وقد سار على ذلك أكثر المحدثين.

أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات في براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم. ثم بعث إلى عبد الله بن أبى. فجيء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح. وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا .. وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة» (١).

ثم وجه ـ سبحانه ـ المؤمنين إلى الطريق الذي كان يجب عليهم أن يسلكوه في مثل هذه الأحوال فقال :

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

و «لو لا» حرف تحضيض بمعنى هلا والمراد «بأنفسهم» هنا إخوانهم في الدين والعقيدة.

أى : هلا وقت أن سمعتم ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ حديث الإفك هذا ظننتم «بأنفسكم». أى : بإخوانكم وبأخواتكم ظنا حسنا جميلا ، وقلتم : هذا الحديث الذي أذاعه المنافقون كذب شنيع وبهتان واضح لا يصدقه عقل أو نقل.

وفي التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في الدين بأنفسهم ، أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء الصادق بين المؤمنين ، حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما ظنه بنفسه.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (... ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ..). (٢). وقوله ـ سبحانه ـ : (... وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ..). (٣).

قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ : «وعدل بعد الخطاب ـ في الآية الأولى ـ إلى الغيبة في هذه الآية ـ ، وعن الضمير إلى الظاهر ، فلم يجئ التركيب ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك مبين. ليبالغ ـ سبحانه ـ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، وليصرح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك فيه ، مقتض في أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن المؤمن إذا سمع قالة سوء في أخيه أن يبنى الأمر فيه على ظن الخير ، وأن يقول بناء على ظنه : هذا إفك مبين. هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه ، كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن ، ومعنى بأنفسهم ، أى : كأن يقيس فضلاء المؤمنين

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١١٦.

(٢) سورة البقرة الآية ٨٥.

(٣) سورة الحجرات الآية ١١.

٩٥

والمؤمنات هذا الأمر على أنفسهم. فإذا كان ذلك يبعد عليهم قضوا بأنه في حق من هو خير منهم أبعد ..» (١).

ولقد فعل المؤمنون الصادقون ذلك ، فها هو ذا أبو أيوب خالد بن زيد الأنصارى ، قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقوله الناس في عائشة ـ رضى الله عنها ـ؟ قال : نعم ، وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا. والله ما كنت لأفعله. قال : فعائشة والله خير منك (٢).

وفي رواية أن أبا أيوب قال لزوجته أم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقالت له : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوءا؟ قال : لا ، فقالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ـ رضى الله عنها ـ ما خنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعائشة خير منى ، وصفوان خير منك (٣).

وهكذا المؤمنون الأطهار الأخيار ، يبنون أمورهم على حسن الظن بالناس.

ورحم الله صاحب الانتصاف. فقد علق على ما قالته أم أيوب لزوجها فقال : ولقد ألهمت ـ أم أيوب ـ بنور الإيمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس ، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة ، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بالطريق الأولى ـ رضى الله عنها ـ (٤).

ثم وصف ـ سبحانه ـ الخائضين في حديث الإفك بالكذب لأنهم قالوا قولا بدون دليل ، فقال : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أى : هلا جاء هؤلاء الذين افتروا على السيدة عائشة ما افتروا ، بأربعة شهداء يشهدون لهم على ثبوت ما تفوهوا به.

(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) أى : وما داموا لم يأتوا بهم ـ ولن يأتوا بهم ـ (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه ـ سبحانه ـ وفي شريعته (هُمُ الْكاذِبُونَ) كذبا قبيحا تشمئز منه النفوس ، ويسجل عليهم الخزي والعار إلى يوم القيامة.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله ورحمته بالمؤمنين فقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٤٣٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٦.

(٣ ، ٤) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢١٨.

٩٦

و «لو لا» هنا لامتناع الشيء لوجود غيره ، و «أفضتم» من الإفاضة بمعنى التوسع في الشيء. والاندفاع فيه بدون تريث أو تحقق ، وأصله من قولهم : «أفاض فلان الإناء ، إذا ملأه حتى فاض».

أى : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته بكم ـ أيها المؤمنون ـ في الدنيا بإعطائكم فرصة للتوبة. وفي الآخرة بقبول توبتكم ، لو لا ذلك «لمسكم» أى : لنزل بكم بسبب ما أفضتم فيه من حديث الإفك عذاب عظيم ، لا يعلم مقدار ألمه وشدته إلا الله ـ تعالى ـ.

ثم صور ـ سبحانه ـ أحوالهم في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الدعوة الإسلامية فقال : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ). و «إذ» ظرف لقوله ـ تعالى ـ (لَمَسَّكُمْ).

أى : لمسكم عذاب عظيم. وقت تلقيكم هذا الحديث السيئ لسانا عن لسان باستخفاف واستهتار! ويأخذه بعضكم عن بعض بدون تحرج أو تدبر.

(وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أى : وتقولون بأفواهكم قولا تلوكه الأفواه ، دون أن يكون معه بقية من علم أو بينة أو دليل.

ففي هاتين الجملتين زجر شديد لأولئك الذين خاضوا في حديث الإفك ، بدون تدبر أو تعقل ، حتى لكأنهم ـ وقد أفلت منهم الزمام ، واستزلهم الشيطان ـ ينطقون بما ينطقون به بأفواههم لا بوعيهم ، وبألسنتهم لا بعقولهم ، ولا بقلوبهم ، وإنما هم يتفوهون بكلمات لا علم لهم بحقيقتها. ولا دليل معهم على صدقها.

وهذا كله يتنافى مع ما يقتضيه الإيمان الصحيح من تثبت ومن حسن ظن بالمؤمنين.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما هو أشد في الزجر والتهديد فقال : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ).

أى : وتحسبون أن ما خضتم فيه من كذب على الصديقة بنت الصديق شيئا هينا ، والحال أن ما فعلتموه ليس كذلك ، بل هو عند الله ـ تعالى ـ وفي حكمه شيء عظيم ، تضج لهوله الأرض والسماء لأن ما خضتم فيه يسيء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسيء إلى أهل بيته ، ويسيء إلى صحابى جليل هو صفوان ، ويسيء إلى بيت الصديق ـ رضى الله عنه ـ بل ويسيء إلى الجماعة الإسلامية كلها.

ثم يوجههم ـ سبحانه ـ مرة أخرى إلى ما كان يجب عليهم أن يفعلوه في مثل هذه الأحوال فيقول : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

٩٧

وأصل معنى «سبحانك» تنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل نقص. ثم شاع استعماله في كل أمر يتعجب منه. وهذا المعنى هو المراد هنا.

والبهتان : هو الكذب الذي يبهت ويحير سامعه لشناعته وفظاعته ، يقال : بهت فلان فلانا إذا قال عليه ما لم يقله وما لم يفعله.

أى : وهلا وقت أن سمعتم ـ أيها المؤمنون ـ حديث الإفك ممن افتراه واخترعه ، قلتم له على سبيل الزجر والردع والإفحام : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا. أى : ما يصح منا إطلاقا أن نتكلم بهذا الحديث البالغ أقصى الدركات في الكذب والافتراء.

وقلتم له أيضا ـ على سبيل التعجب من شناعة هذا الخبر : «سبحانك» ، أى : نتعجب يا ربنا من شناعة ما سمعناه ، فإن ما سمعناه عن أم المؤمنين عائشة كذب يبهت ويدهش من يسمعه ، وهو في الشناعة لا تحيط بوصفه عبارة.

وهكذا يؤدب الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين بالأدب السامي ، حيث يأمرهم في مثل هذه الأحوال ، أن ينزهوا أسماعهم عن مجرد الاستماع إلى ما يسيء إلى المؤمنين ، وأن يتحرجوا من مجرد النطق بمثل حديث الإفك ، وأن يستنكروا ذلك على من يتلفظ به.

ثم نهى ـ سبحانه ـ المؤمنين من العودة إلى مثل هذا الأمر العظيم فقال : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

أى : يعظكم الله تعالى أيها المؤمنون ـ بما يرقق قلوبكم ، ويحذركم من العودة إلى الخوض في حديث الإفك ، أو فيما يشبهه من أحاديث باطلة ، وعليكم أن تمتثلوا ما آمركم به ، وما أنهاكم عنه امتثالا كاملا ، إن كنتم مؤمنين إيمانا كاملا.

فقوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) من باب تهييجهم وإثارة حماستهم للاستجابة لوعظه وتحذيره ـ سبحانه ـ.

وقوله ـ تعالى ـ (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إبراز لما تفضل به ـ سبحانه ـ عليهم من تعليم وتوجيه وحسن تربية.

أى : ويبين الله ـ تعالى ـ لكم الآيات التي تسعدكم في دنياكم وآخرتكم متى اتبعتم ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ، والله ـ تعالى ـ «عليم» بأحوال خلقه «حكيم» في جميع ما يأمر به ، أو ينهى عنه.

* * *

ثم يواصل القرآن الكريم توجيهاته الحكيمة للمؤمنين ، فيهدد الذين يحبون أن تشيع

٩٨

الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم ، وينهى المؤمنين وينهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٢)

قال الإمام الرازي : «اعلم أنه ـ سبحانه ـ بعد أن بين ما على أهل الإفك ، وما على من سمع منهم ، وما ينبغي أن يتمسك به المؤمنون من آداب ، أتبعه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا.). ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا الذم ، كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره ، وليعلم أهل الإفك كما أن عليهم العقوبة فيما أظهروه ، فكذلك يستحقون العقوبة بما أسروه ، من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين (١).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٢٤٦.

٩٩

ومعنى «تشيع» تنتشر وتكثر ، ومنه قولهم : شاع الحديث. إذا ظهر بين الناس.

والفاحشة : هي الصفة البالغة أقصى دركات القبح ، كالرمى بالزنا وما يشبه ذلك.

وهي صفة لموصوف محذوف. أى : الخصلة الفاحشة ، والمقصود بمحبة شيوعها : محبة شيوع خبرها بين عامة الناس.

والمعنى : إن الذين يحبون أن تنتشر قالة السوء بين صفوف المؤمنين ، وفي شأنهم ، لكي يلحقوا الأذى بهم ، هؤلاء الذين يحبون ذلك «لهم» بسبب نواياهم السيئة «عذاب أليم في الدنيا» كإقامة الحد عليهم ، وازدراء الأخيار لهم ، ولهم ـ أيضا ـ عذاب أليم «في الآخرة» وهو أشد وأبقى من عذاب الدنيا.

«والله» تعالى وحده «يعلم» ما ظهر وما خفى من الأمور والأحوال «وأنتم» أيها الناس ـ «لا تعلمون» إلا ما كان ظاهرا منها ، فعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ، واتركوا بواطنهم لخالقهم ، فهو ـ سبحانه ـ الذي يتولى محاسبتهم عليها.

فالآية الكريمة يؤخذ منها : أن العزم على ارتكاب القبيح ، منكر يعاقب عليه صاحبه ، وأن محبة الفجور وشيوع الفواحش في صفوف المؤمنين ، ذنب عظيم يؤدى إلى العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، لأن الله ـ تعالى ـ علق الوعيد الشديد في الدارين على محبة انتشار الفاحشة في الذين آمنوا.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ المؤمنين بفضله عليهم مرة أخرى ، لكي يزدادوا اعتبارا واتعاظا فقال (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وجواب «لو لا» محذوف ، كما أن خبر المبتدأ محذوف ، والتقدير : ولو لا فضل الله عليكم ، ورحمته بكم موجودان ، لعاجلكم بالعقوبة. ولكنه ـ سبحانه ـ لم يعاجلكم بها ، لأنه شديد الرأفة والرحمة بعباده ، ولو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك عليها من دابة.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن اتباع خطوات الشيطان ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ..).

والخطوات : جمع خطوة. وهي في الأصل تطلق على ما بين القدمين. والمراد بها هنا : طرقه ومسالكه ووساوسه ، التي منها الإصغاء إلى حديث الإفك ، والخوض فيه. وما يشبه ذلك من الأقوال الباطلة ، والأفعال القبيحة.

أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، احذروا أن تسلكوا المسالك التي يغريكم بسلوكها

١٠٠