التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المؤمنون» من السور المكية ، وعدد آياتها ثماني عشرة آية ومائة ، وكان نزولها بعد سورة الأنبياء.

٢ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة بالحديث عن الصفات الكريمة التي وصف الله ـ تعالى ـ بها عباده المؤمنين ، فذكر منها أنهم في صلاتهم خاشعون وأنهم للزكاة فاعلون ...

ثم ختمت السورة تلك الصفات الجليلة ، ببيان ما أعده الخالق ـ عزوجل ـ لأصحاب هذه الصفات فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

٣ ـ ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان ، فابتدأت ببيان أصل خلقه ، وانتهت ببيان أنه سيموت ، ثم سيبعث يوم القيامة ليحاسب على ما قدم وما أخر.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

٤ ـ وبعد أن أقام ـ سبحانه ـ الأدلة على قدرته على البعث عن طريق خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة ، أتبع ذلك ببيان مظاهر قدرته ـ تعالى ـ عن طريق خلق الكائنات المختلفة التي يراها الإنسان ويشاهدها وينتفع بها ..

فقال ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ* وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ ، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ).

٥ ـ ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك فيما يقرب من ثلاثين آية بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم ، فذكر جانبا من قصة نوح مع قومه ، ومن قصة موسى مع فرعون وقومه.

٥

ثم ختم هذه القصص ببيان مظاهر قدرته في خلق عيسى من غير أب ، فقال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ، وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) ..

٦ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ بعد ذلك نداء عاما إلى الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أمرهم فيه بالمواظبة على أكل الحلال الطيب ، وعلى المداومة على العمل الصالح ، وبين ـ سبحانه ـ أن شريعة الأنبياء جميعا هي شريعة واحدة في أصولها وعقائدها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).

ثم تحدثت السورة الكريمة حديثا طويلا عن موقف المشركين من الدعوة الإسلامية ، وبينت مصيرهم يوم القيامة ، وردت على شبهاتهم ودعاواهم الفاسدة ، ودافعت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن دعوته ، وختمت هذا الدفاع بما يسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثبت فؤاده.

قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ).

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا من الأدلة على وحدانية الله وقدرته ، منها ما يتعلق بخلق سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم ، ومنها ما يتعلق بنشأتهم من الأرض ، ومنها ما يتعلق بإشهادهم على أنفسهم بأن خالق هذا الكون هو الله ـ تعالى ـ.

واستمع إلى قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).

٩ ـ وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، أمر ـ سبحانه ـ نبيه أن يلتجئ إليه من شرورهم ومن شرور الشياطين ، وأمره أن يقابل سيئات هؤلاء المشركين بالتي هي أحسن ، حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ* ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ* وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ).

١٠ ـ ثم صورت السورة الكريمة في أواخرها أحوال المشركين عند ما يدركهم الموت ، وكيف أنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ولكن هذا التمني لا يفيدهم شيئا ، وكيف يوبخهم ـ سبحانه ـ على سخريتهم من المؤمنين في الدنيا.

٦

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ ، رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ* إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ).

١١ ـ ثم ختمت السورة الكريمة بهذه الآية التي يأمر الله ـ تعالى ـ فيها نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمواظبة على طلب المزيد من رحمته ومغفرته ـ سبحانه ـ فقال ـ تعالى ـ : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

١٢ ـ وهكذا نرى سورة «المؤمنون» قد طوفت بنا في آفاق من شأنها أن تغرس الإيمان في القلوب ، وأن تهدى النفوس إلى ما يسعدها في دينها ودنياها.

وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم.

صباح الأحد : ٢ من ربيع الأول سنة ١٤٠٥ ه‍

٢٥ / ١١ / ١٩٨٤ م.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٧
٨

تفسير

سورة المؤمنون

٩
١٠

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١)

أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال ؛ كان إذا نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحى ، نسمع عند وجهه كدوي النحل ، فأنزل عليه يوما ، فمكثنا ساعة فسرى عنه ، فاستقبل القبلة ، فرفع يديه فقال : «اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا».

ثم قال : لقد أنزلت على عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة ، ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ

١١

الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١).

وأخرج النسائي عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) حتى انتهت إلى قوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) وقالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

والفلاح : الظفر بالمراد ، وإدراك المأمول من الخير والبر مع البقاء فيه.

والخشوع : السكون والطمأنينة ، ومعناه شرعا : خشية في القلب من الله ـ تعالى ـ تظهر آثارها على الجوارح فتجعلها ساكنة مستشعرة أنها واقفة بين يدي الله ـ سبحانه ـ.

والمعنى : قد فاز وظفر بالمطلوب ، أولئك المؤمنون الصادقون ، الذين من صفاتهم أنهم في صلاتهم خاشعون ، بحيث لا يشغلهم شيء وهم في الصلاة عن مناجاة ربهم. وعن أدائها بأسمى درجات التذلل والطاعة.

ومن مظاهر الخشوع : أن ينظر المصلى وهو قائم إلى موضع سجوده ، وأن يتحلى بالسكون والطمأنينة ، وأن يترك كل ما يخل بخشوعها كالعبث بالثياب أو بشيء من جسده ، فقد أبصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : «لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه».

قال القرطبي : «اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو مكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول عمل يرفع من الناس ...» (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) بيان لصفة ثانية من صفات هؤلاء المؤمنين.

واللغو : ما لا فائدة فيه من الأقوال والأعمال. فيدخل فيه اللهو والهزل وكل ما يخل بالمروءة وبآداب الإسلام.

أى : أن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم ينزهون أنفسهم عن الباطل والساقط من القول أو الفعل ، ويعرضون عن ذلك في كل أوقاتهم لأنهم لحسن صلتهم بالله ـ تعالى ـ اشتغلوا بعظائم الأمور وجليلها : لا بحقيرها وسفسافها ، وهم كما وصفهم الله ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) (٤) (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٥).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٥٤.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٣٠٣.

(٤) سورة القصص الآية ٥٥.

(٥) سورة الفرقان الآية ٧٢.

١٢

أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقد بينها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ).

ويرى أكثر العلماء : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة الأموال. قالوا : لأن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة ، وما فرض بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة هو مقاديرها ، ومصارفها ، وتفاصيل أحكامها أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يخرجون زكاة أموالهم عن طيب نفس.

ويرى بعض العلماء : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة النفس. أى : تطهيرها من الآثام والمعاصي. فهي كقوله ـ تعالى ـ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١).

أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين ، أنهم يفعلون ما يطهر نفوسهم ويزكيها.

قال ابن كثير رحمه‌الله : ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ الصفة الرابعة من صفاتهم فقال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين ـ أيضا ـ أنهم أعفاء ممسكون لشهواتهم لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم التي أحلها الله ـ تعالى ـ لهم ، أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسراري ، وذلك لأن من شأن الأمة المؤمنة إيمانا حقّا ، أن تصان فيها الأعراض ، وأن يحافظ فيها على الأنساب ، وأن توضع فيها الشهوات في مواضعها التي شرعها الله ـ تعالى ـ وأن يغض فيها الرجال أبصارهم والنساء أبصارهن عن كل ما هو قبيح ..

وما وجدت أمة انتشرت فيها الفاحشة ، كالزنا واللواط وما يشبههما ، إلا وكان أمرها فرطا ، وعاقبتها خسرا ، إذ فاحشة الزنا تؤدى إلى ضياع الأنساب ، وانتشار الأمراض ، وفساد النفوس من كل قيمة خلقية مقبولة.

وفاحشة اللواط وما يشبهها تؤدى إلى شيوع الفاحشة في الأمة ، وإلى تحول من يأتى تلك الفاحشة من أفرادها إلى مخلوقات منكوسة ، تؤثر الرذيلة على الفضيلة.

وجملة : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) تعليل للاستثناء.

أى : هم حافظون لفروجهم ، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم أو ما ملكت

__________________

(١) سورة الشمس الآيتان ٩ ، ١٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ١٥٧.

١٣

أيمانهم ، فإنهم غير مؤاخذين على ذلك ، لأن معاشرة الأزواج أو ما ملكت الأيمان ، مما أحله الله تعالى.

وقوله (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أى : فمن طلب خلاف ذلك الذي أحله الله ـ تعالى ـ (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أى : المعتدون المتجاوزون حدوده ـ سبحانه ـ ، الوالغون في الحرام الذي نهى الله ـ تعالى ـ عنه. يقال : عدا فلان الشيء يعدوه عدوا ، إذا جاوزه وتركه.

أما الصفة الخامسة من صفات هؤلاء المفلحين ، فقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).

والأمانات : جمع أمانة ، وتشمل كل ما استودعك الله ـ تعالى ـ إياه ، وأمرك بحفظه.

فتشمل جميع التكاليف التي كلفنا الله بأدائها كما تشمل الأموال المودعة ، والأيمان والنذور والعقود وما يشبه ذلك.

والعهود : جمع عهد. ويتناول كل ما طلب منك الوفاء به من حقوق الله ـ تعالى ـ وحقوق الناس.

قال القرطبي : والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه ، قولا وفعلا ، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك. وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد» (١).

وراعون : من الرعي بمعنى الحفظ يقال : رعى الأمير رعيته رعاية ، إذا حفظها واهتم بشئونها.

أى : أن من صفات هؤلاء المفلحين. أنهم يقومون بحفظ ما ائتمنوا عليه من أمانات ، ويوفون بعهودهم مع الله ـ تعالى ـ ومع الناس ، ويؤدون ما كلفوا بأدائه بدون تقصير أو تقاعس.

وذلك لأنه لا تستقيم حياة أمة من الأمم. إلا إذا أديت فيها الأمانات ، وحفظت فيها العهود ، واطمأن فيها كل صاحب حق إلى وصول هذا الحق إليه.

أما الصفة السادسة والأخيرة من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، فهي قوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ).

أى : أن من صفاتهم أنهم يحافظون على الصلوات التي أمرهم الله بأدائها محافظة تامة ، بأن

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٠٧.

١٤

يؤدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والآداب والخشوع ، ولقد بدأ ـ سبحانه ـ صفات المؤمنين المفلحين بالخشوع في الصلاة وختمها بالمحافظة عليها للدلالة على عظم مكانتها ، وسمو منزلتها.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ تلك الصفات الكريمة التي تحلى بها أولئك المؤمنون المفلحون ، وهي صفات تمثل الكمال الإنسانى في أنقى صوره.

بعد ذلك بين ـ سبحانه ـ ما أعد لهم من حسن الثواب فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

والفردوس : أعلى الجنات وأفضلها وهو لفظ عربي يجمع على فراديس.

وقيل : هو لفظ معرب معناه : الذي يجمع ما في البساتين من ثمرات.

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة».

أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة ، هم الجديرون بالفلاح فإنهم يرثون أعلى الجنات وأفضلها ، وهم فيها خالدون خلودا أبديّا لا يمسهم فيها نصب ، ولا يمسهم فيها لغوب.

وعبر ـ سبحانه ـ عن حلولهم في الجنة بقوله (يَرِثُونَ) للإشعار بأن هذا النعيم الذي نزلوا به ، قد استحقوه بسبب أعمالهم الصالحة ، كما يملك الوارث ما ورثه عن غيره. ومن المعروف أن ما يملكه الإنسان عن طريق الميراث يعتبر أقوى أسباب الملك.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو (الْوارِثُونَ) لدلالة قوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) عليه.

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد مدحت المؤمنين الصادقين مدحا عظيما ووعدتهم بالفوز بأعلى الجنات وأفضلها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وبعد الحديث عن صفات المؤمنين المفلحين ، انتقلت السورة إلى الحديث عن أطوار خلق الإنسان ، وأطوار نموه ، ونهاية حياته ، وبعثه للحساب يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٧٢.

(٢) سورة الأعراف الآية ٤٣.

١٥

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

والمراد بالإنسان هنا : آدم ـ عليه‌السلام ـ.

والسلالة : اسم لما سلّ من الشيء واستخرج منه. تقول : سللت الشعرة من العجين ، إذا استخرجتها منه. ويقال : الولد سلالة أبيه. أى كأنه انسل من ظهر أبيه.

والمعنى : ولقد خلقنا أباكم آدم من جزء مستخرج من الطين.

والتعبير بسلالة يشعر بالقلة ، إذ لفظ الفعالة يدل على ذلك ، كقلامة الظفر ، ونحاتة الحجر ، وهي ما يتساقط عند النحت.

و «من» في الموضعين : ابتدائية إلا أن الأولى متعلقة «بخلقنا» والثانية متعلقة بسلالة بمعنى مسلولة من الطين.

والضمير المنصوب في قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعود على النوع الإنسانى المتناسل من آدم ـ عليه‌السلام ـ.

وأصل النطفة : الماء الصافي. أو القليل من الماء الذي يبقى في الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف. يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلة.

والمراد بها هنا : المنى الذي يخرج من الرجل ، ويصب في رحم المرأة.

والمعنى : لقد خلقنا أباكم آدم بقدرتنا من سلالة من طين ، ثم خلقنا ذريته بقدرتنا ـ أيضا ـ من منى يخرج من الرجل فيصب في قرار مكين ، أى : في مستقر ثابت ثبوتا مكينا ، وهو رحم المرأة.

قال القرطبي : «قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : الإنسان هو آدم ـ عليه

١٦

السلام ـ لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ) عائدا على ابن آدم ، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر ، فإن المعنى لا يصلح إلا له ...» (١).

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ). (٢)

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). (٣)

ثم بين ـ سبحانه ـ أطوارا أخرى لخلق الإنسان تدل على كمال قدرته ـ تعالى ـ فقال : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أى : ثم صيرنا النطفة البيضاء ، علقة حمراء إذ العلقة عبارة عن الدم الجامد.

(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أى : جعلنا بقدرتنا هذه العلقة قطعة من اللحم ، تشبه في صغرها قطعة اللحم التي يمضغها الإنسان في فمه.

(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) أى : حولنا هذه المضغة من اللحم التي لم تظهر معالمها بعد ، إلى عظم صغير دقيق ، على حسب ما اقتضته حكمتنا في خلقنا.

(فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) أى : فكسونا هذه المضغة التي تحولت بقدرتنا إلى عظام دقيقة باللحم ، بحيث صار هذا اللحم ساترا للعظام ومحيطا بها.

قال بعض العلماء : «وهنا يقف الإنسان مدهوشا ، أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين ، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا ، بعد تقدم علم الأجنة التشريحى».

ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تكون أولا من الجنين ، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا الهيكل العظمى للجنين. وهي التي يسجلها النص القرآنى في قوله ـ تعالى ـ : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) فسبحانه العليم الخبير (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) بيان لما انتهت إليه أطوار خلق الإنسان.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٠٩.

(٢) سورة السجدة الآيات من ٦ ـ ٨.

(٣) سورة المرسلات الآيات من ٢٠ ـ ٢٤.

(٤) تفسير «في ظلال القرآن» ج ١٨ ص ١٧.

١٧

أى : ثم صيرنا هذا الإنسان بشرا سويّا ، بعد أن كان نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاما ، فلحما يكسو هذه العظام ، وهذا كله يدل على كمال قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى أنه حق ، إذ قدرته ـ سبحانه ـ لا يعجزها شيء.

قال صاحب الكشاف : «قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، أى : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيوانا بعد أن كان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم وبصيرا وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره ـ بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه ـ عجائب فطرته ، وغرائب حكمته ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح ...» (١).

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أى : فكثر خيره ـ سبحانه ـ ودام إحسانه وتقدس شأنه ، فهو ـ عزوجل ـ أحسن الخالقين على الإطلاق ، فقد أتقن كل شيء خلقه ، وأحكم كل شيء صنعه.

ولفظ «تبارك» فعل ماض لا ينصرف ، والأكثر إسناده إلى غير مؤنث.

وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ، أو بمعنى الثبات والدوام وكل شيء دام وثبت فقد برك.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم بعد أن يكونوا خلقا آخر فقال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

أى : ثم إنكم بعد ذلك الذي ذكره ـ سبحانه ـ لكم من أطوار خلقكم تصيرون أطفالا ، فصبيانا فغلمانا ، فشبانا ، فكهولا ، فشيوخا .. ثم مصيركم بعد ذلك كله ، أو خلال ذلك كله ، إلى الموت المحتوم الذي لا مفر لكم منه ، ولا مهرب لكم عنه. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون من قبوركم للحساب والجزاء.

وهكذا نجد هذه الآيات الكريمة تذكر الإنسان بأطوار نشأته. وبحلقات حياته : وبنهاية عمره. وبحتمية بعثه.

وفي هذا التذكير ما فيه من الاعتبار للمعتبرين ، ومن الاتعاظ للمتعظين ، ومن البراهين الساطعة على وحدانية الله ـ تعالى ـ.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على قدرته عن طريق خلق الإنسان في تلك الأطوار المتعددة ، أتبع ذلك ببيان مظاهر قدرته عن طريق تلك الكائنات المختلفة ، فقال ـ تعالى ـ ؛

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٧٨.

١٨

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٢٢)

والطرائق : جمع طريقة ، والمراد بها السموات السبع. وسميت طرائق لأن كل سماء فوق الأخرى ، والعرب تسمى كل شيء فوق شيء طريقة بمعنى مطروقة.

وهو مأخوذ من قولهم : فلان طرق النعل ، إذا ركب بعضها فوق بعض.

فالآية الكريمة في معنى قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

وقيل : سميت طرائق ، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج.

أى : ولقد خلقنا فوقكم ـ أيها الناس ـ سبع سموات بعضها فوق بعض (وَما كُنَّا) في وقت من الأوقات (عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) بل نحن معهم بقدرتنا ورعايتنا وحفظنا ، ندبر لهم أمور معاشهم ، ونيسر لهم شئون حياتهم دون أن نغفل عن شيء ـ مهما صغر ـ من أحوالهم ، لأننا لا تأخذنا سنة ولا نوم ، ولا يعترينا ما يعترى البشر من سهو أو غفلة.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض النعم التي تأتينا من جهة هذه الطرائق فقال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ..

أى : وأنزلنا لكم ـ أيها الناس ـ بقدرتنا ورحمتنا ، ماء بقدر. أى : أنزلناه بمقدار معين ، بحيث لا يكون طوفانا فيغرقكم ، ولا يكون قليلا فيحصل لكم الجدب والجوع والعطش.

١٩

وإنما أنزلناه بتقدير مناسب لجلب المنافع ، ودفع المضار ، كما قال ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (... وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١).

وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أى : هذا الماء النازل من السماء بتقدير معين منا تقتضيه حكمتنا ، جعلناه ساكنا مستقرا في الأرض ، لتنعموا به عن طريق استخراجه من الآبار والعيون وغيرها.

وفي هذه الجملة الكريمة إشارة إلى أن المياه الجوفية الموجودة في باطن الأرض ، مستمدة من المياه النازلة من السحاب عن طريق المطر.

وهذا ما قررته النظريات العلمية الحديثة بعد مئات السنين من نزول القرآن الكريم. وبعد أن بقي العلماء دهورا طويلة ، يظنون أن المياه التي في جوف الأرض ، لا علاقة لها بالمياه النازلة على الأرض عن طريق المطر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) بيان لمظهر من مظاهر قدرته ورأفته ورحمته ـ تعالى ـ بعباده.

أى : وإنا على إذهاب هذا الماء الذي أسكناه في باطن الأرض لقادرون ، بأن نجعله يتسرب إلى أسفل طبقات الأرض فلا تستطيعون الوصول إليه ، أو بأن نزيله من الأرض إزالة تامة ، لأن القادر على إنزاله قادر على إزالته وإذهابه ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم ، وشفقة عليكم ، فاشكرونا على نعمنا وضعوها في مواضعها الصحيحة.

قال صاحب الكشاف : «قوله : (عَلى ذَهابٍ بِهِ) من أوقع النكرات وأحزها للمفصل.

والمعنى : على وجه من وجوه الذهاب به ، وطريق من طرقه ، وفيه إيذان باقتدار المذهب ، وأنه لا يتعايى عليه شيء إذا أراده ، وهو أبلغ في الإبعاد ، من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٢).

فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء. ويقيدوها بالشكر الدائم ، ويخافوا نفارها إذا لم تشكر (٣).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ..). (٤).

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٢١.

(٢) سورة الملك الآية ٣٠.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٨٠.

(٤) سورة الزمر الآية ٢١.

٢٠