التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

بالعقائد والعبادات والمعاملات ، وإن اختلفت في الأحكام الفرعية.

وقرأ بعض القراء السبعة : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ.). بفتح الهمزة ، على أن الآية من جملة ما خوطب به الرسل.

والتقدير : واعلموا ـ أيها الرسل ـ أن ملتكم وشريعتكم ، ملة واحدة ، وشريعة واحدة في عقائدها وأصول أحكامها.

(وَأَنَا رَبُّكُمْ) لا شريك لي في الربوبية (فَاتَّقُونِ) أى : فخافوا عقابي ، واحذروا مخالفة أمرى ، وصونوا أنفسكم من كل ما نهيتكم عنه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حال المصرين على كفرهم وضلالهم من دعوة الرسل عليهم ـ الصلاة والسلام ـ فقال :

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَقَطَّعُوا) لترتيب حالهم وما هم عليه من تفرق وتنازع واختلاف ، على ما سبق من أمرهم بالتقوى ، واتباع ما جاءهم به الرسل.

وضمير الجمع يعود إلى الأقوام السابقين الذين خالفوا رسلهم ، وتفرقوا شيعا وأحزابا.

وقوله (زُبُراً) حال من هذا الضمير. ومفردة زبرة ـ كغرفة ـ بمعنى : قطعة. والمراد به هنا : طائفة من الناس. والمراد بأمرهم : أمر دينهم الذي هو واحد في الأصل.

أى : أن هؤلاء الأقوام الذين جاء الرسل لهدايتهم ، لم يتبعوا دين رسلهم بل تفرقوا في شأنه شيعا وأحزابا ، فمنهم أهل الكتاب الذين قال بعضهم : عزير ابن الله ، وقال بعضهم : المسيح ابن الله ، ومنهم المشركون الذين عبدوا من دون الله ـ تعالى ـ أصناما لا تضر ولا تنفع ، وصار كل حزب من هؤلاء المعرضين عن الحق ، مسرورا بما هو عليه من باطل ، وفرحا بما هو فيه من ضلال.

والآية القرآنية بأسلوبها البديع ، تسوق هذا التنازع من هؤلاء الجاهلين في شأن الدين الواحد ، في صورة حسية ، يرى المتدبر من خلالها ، أنهم تجاذبوه فيما بينهم ، حتى قطعوه في أيديهم قطعا ، ثم مضى كل فريق منهم بقطعته وهو فرح مسرور ، مع أنه ـ لو كان يعقل ـ لما

٤١

انحدر إلى هذا الفعل القبيح ، ولما فرح بعمل شيء من شأنه أن يحزن له كل عاقل.

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والضمير المنصوب «هم» للمشركين.

والغمرة في الأصل : الماء الذي يغمر القامة ويسترها ، إذ المادة تدل على التغطية والستر. يقال : غمر الماء الأرض إذا غطاها وسترها. ويقال : هذا رجل غمر ـ بضم الغين وإسكان الميم ـ إذا غطاه الجهل وجعله لا تجربة له بالأمور. ويقال : هذا رجل غمر ـ بكسر الغين ـ إذا غطى الحقد قلبه والمراد بالغمرة هنا : الجهالة والضلالة ، والمعنى : لقد أديت ـ أيها الرسول ـ الرسالة ، ونصحت لقومك. وبلغتهم ما أمرك الله ـ تعالى ـ بتبليغه ، وعليك الآن أن تترك هؤلاء الجاحدين المعاندين في جهالاتهم وغفلتهم وحيرتهم (حَتَّى حِينٍ) أى : حتى يأتى الوقت الذي حددناه للفصل في أمرهم بما تقتضيه حكمتنا.

وجاء لفظ «حين» بالتنكير ، لتهويل الأمر وتفظيعه.

ثم تأخذ السورة الكريمة بعد ذلك في السخرية منهم لغفلتهم عن هذا المصير المحتوم ، الذي سيفاجئهم بما لا يتوقعون. فيقول : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

والهمزة في قوله (أَيَحْسَبُونَ) للاستفهام الإنكارى. و «ما» موصولة ، وهي اسم «أن» وخبرها جملة «نسارع لهم ...» والرابط مقدر أى : به.

أى : أيظن هؤلاء الجاهلون. أن ما نعطيهم إياه من مال وبنين ، هو من باب المسارعة منا في إمدادهم بالخيرات لرضانا عنهم وإكرامنا لهم؟ كلا : ما فعلنا معهم ذلك لتكريمهم ، وإنما فعلنا ذلك معهم لاستدراجهم وامتحانهم ، ولكنهم لا يشعرون بذلك. ولا يحسون به لانطماس بصائرهم ولاستيلاء الجهل والغرور على نفوسهم.

فقوله ـ سبحانه ـ (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) إضراب انتقالي عن الحسبان المذكور وهو معطوف على مقدر ينسحب إليه الكلام.

أى : ما فعلنا ذلك معهم لإكرامنا إياهم كما يظنون ، بل فعلنا ما فعلنا استدراجا لهم ، ولكنهم لا شعور لهم ولا إحساس ، وما هم إلا كالأنعام بل هم أضل.

لذا قال بعض الصالحين : من يعص الله ـ تعالى ـ ولم ير نقصانا فيما أعطاه ـ سبحانه ـ من الدنيا. فليعلم أنه مستدرج قد مكر به.

٤٢

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ ، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١).

* * *

وبعد أن صورت السورة الكريمة حالة أصحاب القلوب التي غمرها الجهل والعمى ، أتبعت ذلك بإعطاء صورة وضيئة مشرقة لأصحاب القلوب الوجلة المؤمنة ، المسارعة في الخيرات فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٦٢)

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) بيان للصفة الأولى من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين.

والإشفاق : هو الخوف من الله ـ تعالى ـ والخشية منه ـ سبحانه ـ مع شدة الرقة في القلب وكثرة الخوف من عقابه.

أى : أنهم من خشية عقابه ـ عزوجل ـ حذرون خائفون ، وهذا شأن المؤمنين الصادقين ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بيان للصفة الثانية أى : أنهم يؤمنون إيمانا راسخا بجميع آيات الله ـ سبحانه ـ الدالة على وحدانيته وقدرته ، سواء أكانت تلك الآيات تنزيلية أم كونية.

__________________

(١) سورة القلم الآية ٤٤ ، ٤٥.

٤٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) صفة ثالثة لهم. أى : أنهم يخلصون العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ويقصدون بأقوالهم وأعمالهم وجهه الكريم ، فهم بعيدون عن الرياء والمباهاة بطاعاتهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ صفتهم الرابعة فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ).

قرأ القراء السبعة (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإعطاء ، والوجل : استشعار الخوف. يقال : وجل فلان وجلا فهو واجل ، إذا خاف ، أى : يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين : لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : أى : يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط.

كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : «يا رسول الله (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله ـ عزوجل ـ؟

قال : «لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله ـ تعالى ـ».

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ وقد قرأ آخرون : والذين يأتون ما أتوا .. من الإتيان. أى : يفعلون ما فعلوا وهم خائفون ...

والمعنى على القراءة الأولى ـ وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم ـ أظهر لأنه قال ـ بعد ذلك ـ : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين (١).

وجملة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) حال من الفاعل في قوله ـ تعالى ـ (يُؤْتُونَ).

وجملة (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) تعليلية بتقدير اللام ، وهي متعلقة بقوله : (وَجِلَةٌ).

أى : وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٧٤.

٤٤

أقوالهم وأعمالهم ، وهم ـ لقوة إيمانهم ـ يخشون التقصير في أى جانب من جوانب طاعتهم له ـ عزوجل ـ.

وقد جاءت هذه الصفات الكريمة ـ كما يقول الإمام الرازي ـ في نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي ، والثانية : دلت على قوة إيمانهم بآيات ربهم ، والثالثة دلت على شدة إخلاصهم ، والرابعة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتى بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله ـ سبحانه ـ الوصول إليها (١).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) يعود إلى هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات الجليلة.

وهذه الجملة خبر عن قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) وما عطف عليه ، فاسم «إن» : أربع موصولات ، وخبرها جملة (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ..).

أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات ، يبادرون برغبة وسرعة إلى فعل الخيرات ، وإلى الوصول إلى ما يرضى الله ـ تعالى ـ (وَهُمْ لَها) أى : لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوز وفلاح (سابِقُونَ) لغيرهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة المشتملة على صفات المؤمنين الصادقين ، ببيان أن هذه الصفات الجليلة لم تكلف أصحابها فوق طاقتهم ، لأن الإيمان الحق إذا خالطت بشاشته القلوب يجعلها لا تحس بالمشقة عند فعل الطاعات ، وإنما يجعلها تحس بالرضا والسعادة والإقدام على فعل الخير بدون تردد ، فقال ـ تعالى ـ (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ..).

أى : وقد جرت سنتنا فيما شرعناه لعبادنا من تشريعات ، أننا لا نكلف نفسا من النفوس إلا في حدود طاقتها وقدرتها. كما قال ـ تعالى ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢).

والمراد بالكتاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ.). كتاب الأعمال الذي يحصيها الله ـ تعالى ـ فيه ويشهد لذلك قوله ـ سبحانه ـ : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣) وقوله ـ تعالى ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.). (٤).

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٢٠٠.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٨٦.

(٣) سورة الجاثية الآية ٢٩.

(٤) سورة الكهف الآية ٤٩.

٤٥

والمراد بنطق الكتاب بالحق : أن كل ما فيه حق وصدق. أى : ولدينا صحائف أعمالكم ، التي سجلها عليكم الكرام الكاتبون ، وفيها جميع أقوالكم وأفعالكم في الدنيا ، بدون زيادة أو نقصان ، بل هي مشتملة على كل حق وصدق فقد اقتضت حكمتنا وعدالتنا أننا لا نظلم أحدا وإنما نعطى كل إنسان ما يستحقه من خير ، ونعفو عن كثير من الهفوات.

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد مدحت المؤمنين الصادقين ، ووصفتهم بما هم أهله من صفات كريمة.

ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن أحوال الكافرين ، فتوبخهم على استمرارهم في غفلتهم ، وتصور جزعهم وجؤارهم عند ما ينزل بهم العذاب فتقول :

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ)(٦٧)

قال الجمل : قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ قُلُوبُهُمْ ..). هذا رجوع لأحوال الكفار المحكية فيما سبق بقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ ..). والجمل التي بينهما وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) إلى قوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) اعتراض في خلال الكلام المتعلق بالكفار (١).

أى : هذه هي أوصاف المؤمنين الصادقين ، أما الكافرون فقلوبهم في (غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أى : في جهالة وغفلة مما عليه هؤلاء المؤمنون من صفات حميدة ، ومن إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

وهؤلاء الكافرون (لَهُمْ أَعْمالٌ) سيئة كثيرة (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أى من غير ما ذكرناه عنهم من كون قلوبهم في غمرة وجهالة عن الحق (هُمْ لَها عامِلُونَ) أى : هم مستمرون عليها ، ومعتادون لفعلها مندفعون في ارتكابها بدون وعى أو تدبر.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٩٦.

٤٦

ثم بين ـ سبحانه ـ عند ما ينزل بهم العذاب فقال : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).

وحتى هنا : ابتدائية ، أى : حرف تبتدئ بعده الجمل ، وجملة (إِذا أَخَذْنا) شرطية. وجوابها (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).

والجؤار : الصراخ مطلقا ، أو باستغاثة. يقال : جأر الثور يجأر إذا صاح.

وجأر الداعي إلى الله ، إذا ضج ورفع صوته بالتضرع إلى الله عزوجل.

أى : حتى إذا عاقبنا هؤلاء المترفين الذين أبطرتهم النعمة. بالعذاب الذي يردعهم ويخزيهم ويذلهم ، إذا هم يجأرون إلينا بالصراخ وبالاستغاثة.

وعبر عن عقابهم ، بالأخذ ، للإشعار بسرعة هذا العقاب وشدته ، كما في قوله ـ تعالى ـ (... أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (١).

وخص المترفين بالذكر ، للإشارة إلى أن ما كانوا فيه من التنعم والتمتع والتطاول في الدنيا ، لن ينفعهم شيئا عند نزول هذا العذاب بهم.

وقوله ـ سبحانه ـ (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تأنيب وزجر لهم على جؤارهم وصراخهم. والمراد باليوم. الوقت الذي فيه نزل العذاب بهم.

أى : عند ما أخذناهم بالعذاب المباغت المفاجئ ، وضجوا بالاستغاثة والجؤار ، قلنا لهم على سبيل التقريع والزجر : لا تجأروا ولا تصرخوا في هذا الوقت الذي أصابكم ما أصابكم فيه من عذاب. فإنكم لن تجدوا من ينجيكم من عذابنا ، أو من يدفع عنكم هذا العذاب ..

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أفضت بهم إلى هذا العذاب المهين ، فقال ـ تعالى ـ : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ...).

والأعقاب : جمع عقب ، وهو مؤخر القدم و (تَنْكِصُونَ) من النكوص ، وهو الرجوع إلى الخلف. يقال : فلان نكص على عقبيه ، إذا رجع إلى الوراء ، وهو هنا كناية عن الإعراض عن الآيات.

أى : لا تجأروا ولا تصرخوا ، فإن ذلك لن يفيدكم شيئا ، بسبب إصراركم على كفركم في حياتكم الدنيا ، فقد كانت آياتي الدالة على وحدانيتي تتلى على مسامعكم من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن المؤمنين به ، فكنتم تعرضون عن سماعها أشد الإعراض ، وكنتم تستهزءون بها ، وتكادون تسطون بالذين يتلونها عليكم.

__________________

(١) سورة الأنعام آية ٤٤.

٤٧

وقوله ـ تعالى ـ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) مقرر لمضمون ما قبله ، من إعراضهم عن آيات الله. ونكوصهم على أعقابهم عند سماعها.

والضمير في (بِهِ) يرى جمهور المفسرين أنه يعود إلى البيت الحرام ، والباء للسببية.

وقوله : «سامرا» اسم جمع كحاج وحاضر وراكب ، مأخوذ من السمر وأصله ظل القمر وسمى بذلك لسمرته ، ثم أطلق على الحديث بالليل. يقال : سمر فلان يسمر ـ ككرم يكرم ـ إذا تحدث ليلا مع غيره بقصد المسامرة والتسلية.

وقوله : (تَهْجُرُونَ) قرأه الجمهور ـ بفتح التاء وضم الجيم ـ مأخوذ من الهجر ـ بإسكان الجيم ـ بمعنى الصد والقطيعة ، أو من الهجر ـ بفتح الجيم ـ بمعنى الهذيان والنطق بالكلام الساقط ، بسبب المرض أو الجنون.

وقرأ نافع (تَهْجُرُونَ) بضم التاء وكسر الجيم ـ مأخوذ من هجر هجارا إذا نطق بالكلام القبيح.

والمعنى : قد كانت آياتي تتلى عليكم ـ أيها المستغيثون من العذاب ـ فكنتم تعرضون عنها ، ولم تكتفوا بهذا الإعراض ، بل كنتم متكبرين على المسلمين بالبيت الحرام ، وكنتم تتسامرون بالليل حوله ، فتستهزئون بالقرآن ، وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتعاليم الإسلام وتنطقون خلال سمركم بالقول الباطل ، الذي يدل على مرض قلوبكم ، وفساد عقولكم ، وسوء أدبكم.

وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ) و (سامِراً) و (تَهْجُرُونَ) أحوال ثلاثة مترادفة على واو الفاعل في (تَنْكِصُونَ) أو متداخلة ، بمعنى أن كل كلمة منها حال مما قبلها.

قال القرطبي : (مُسْتَكْبِرِينَ) حال ، والضمير في (بِهِ) قال الجمهور : هو عائد على الحرم ، أو المسجد ، أو البلد الذي هو مكة. وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر.

أى : يقولون نحن أهل الحرم فلا نخاف. وقيل : المعنى أنهم يعتقدون في نفوسهم أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل فيستكبرون لذلك.

وقالت فرقة : الضمير عائد على القرآن ، من حيث ذكرت الآيات.

والمعنى : يحدث لكم سماع آياتي كبرا وطغيانا فلا تؤمنوا بي ...» (١).

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور حسرة المشركين وجؤارهم يوم ينزل بهم

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٣٦.

٤٨

العذاب تصويرا بديعا ، كما تبين ما كانوا عليه من غرور وسوء أدب ، مما جعلهم أهلا لهذا المصير الأليم.

ثم تنتقل السورة الكريمة من تأنيبهم وتيئيسهم من الاستجابة لجؤارهم ، إلى سؤالهم بأسلوب توبيخي عن الأسباب التي أدت بهم إلى الإعراض عما جاءهم به رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقول :

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)(٧٤)

قال الجمل : قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ..). شروع في بيان أسباب حاملة لهم على ما سبق من قوله ـ تعالى ـ : (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ..). إلخ (١).

والهمزة لإنكار ما هم فيه من عدم التدبر واستقباحه ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام : والمراد بالقول : القرآن الكريم وما اشتمل عليه من هدايات.

والمعنى : أفعلوا ما فعلوا من النكوص على الأعقاب ، ومن الغرور ومن الهذيان بالباطل من القول ، فلم يتدبروا هذا القرآن ، ولم يتفكروا فيما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة ..

إنهم لو تدبروه لوجدوا فيه من العظات والآداب والأحكام ، والقصص ، والعقائد ، والتشريعات .. ما يسعدهم ويهد بهم إلى الصراط المستقيم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ١٩٧.

٤٩

فالجملة الكريمة تحضهم على تدبر هذا القرآن ، لأنهم إن تدبروه تدبرا صادقا. لعلموا أنه الحق الذي لا يحوم حوله باطل.

وشبيه بهذه الجملة قوله ـ تعالى ـ (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ، وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢).

وبعد أن وبخهم ـ سبحانه ـ على تركهم الانتفاع بالقرآن. أتبع ذلك بتقريعهم على أن ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتفق في أصوله مع ما جاء به الرسل السابقون لآبائهم الأولين.

أى : أكذبوا رسولهم لأنه جاءهم بما لم يأت به الرسل لآبائهم؟ كلا ، فإن ما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطابق ـ في جوهره ـ ما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهما ، من آبائهم الأولين.

قال ـ تعالى ـ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ، أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.). (٣).

وقال ـ سبحانه ـ : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ..). (٤).

ويجوز أن يكون المعنى : أكذب هؤلاء الجاهلون رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم في أمان من العذاب ، وهذا الأمان لم يكن فيه آباؤهم الأولون؟

كلا ، وإن من شأن العقلاء أنهم لا يأمنون مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

قال الآلوسى : وأم في قوله ـ تعالى ـ (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) منقطعة ، وما فيها من معنى بل ، للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر. والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع. أى : بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين ، حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، بمعنى أن مجيء الكتب من جهته ـ تعالى ـ إلى الرسل سنة قديمة له ـ تعالى ـ وأن مجيء القرآن جار على هذه السنة فلما ذا ينكرونه؟

وقيل المعنى : أفلم يدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته ، ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ،

__________________

(١) سورة النساء آية ٨٢.

(٢) سورة محمد آية ٢٤.

(٣) سورة الشورى آية ١٣.

(٤) سورة الأحقاف آية ٩.

٥٠

أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين ، حين خافوا الله ـ تعالى ـ فآمنوا به ويكتبه ورسله ، فالمراد بآبائهم : «المؤمنون» منهم كإسماعيل ـ عليه‌السلام ... (٥).

ثم انتقلت السورة إلى توبيخهم ـ ثالثا ـ على كفرهم مع علمهم بصدق الرسول وأمانته ، فقال ـ تعالى ـ (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

أى : أيكون سبب كفرهم أنهم لم يعرفوا رسولهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ كلا فإن هذا لا يصلح سببا ، إذ هم يعرفون حسبه ونسبه ، وأمانته ، وصدقه ، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين قبل بعثته ، وأبو سفيان ـ قبل أن يدخل في الإسلام ـ شهد أمام هرقل ملك الروم ، بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معروفا بصدقه وأمانته قبل البعثة.

ثم انتقلت السورة ـ للمرة الرابعة ـ إلى توبيخهم على أمر آخر ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ...).

أى : أيكون سبب إصرارهم على كفرهم اتهامهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون؟ كلا ، فإنهم يعلمون حق العلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أكمل الناس عقلا ، وأرجحهم فكرا ، وأثقبهم رأيا ، وأوفرهم رزانة.

وقوله ـ تعالى ـ (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) إضراب عما يدل عليه ما سبق من اتهامات باطلة دارت على ألسنة المشركين.

أى : ليس الأمر كما زعموا من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به جنة أو أنه أتاهم بما لم يأت آباءهم الأولين ، بل الأمر الصدق ، أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم بالحق الثابت الذي لا يحوم حوله باطل ولكن هؤلاء القوم أكثرهم كارهون للحق ، لأنه يتعارض مع أنانيتهم وشهواتهم ، وأهوائهم ..

وقال ـ سبحانه ـ : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لأن قلة من هؤلاء المشركين كانت تعرف أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءهم بالحق ، وتحب أن تدخل في الإسلام ، ولكن حال بينهم وبين ذلك ، الخوف من تعيير أقوامهم لهم بأنهم فارقوا دين آبائهم وأجدادهم ، كأبى طالب ـ مثلا ـ فإنه مع دفاعه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقي على كفره.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : قوله (وَأَكْثَرُهُمْ) فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق؟ قلت : كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه ، وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه ، لا كراهة للحق ، كما يحكى عن أبى طالب.

__________________

(٥) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٥٠.

٥١

فإن قلت : يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه؟ قلت : يا سبحان الله. كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس ـ رضى الله عنهما ـ ويخفى إسلام أبى طالب» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما كان سينزل بالعالم من فساد. فيما لو اتبع الحق ـ على سبيل الفرض ـ أهواء هؤلاء المشركين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ...).

والمراد بالحق هنا ـ عند كثير من المفسرين ـ هو الله ـ عزوجل ـ إذ أن هذا اللفظ من أسمائه ـ تعالى ـ.

والمعنى : ولو أجاب الله ـ تعالى ـ هؤلاء المشركين إلى ما يهوونه ويشتهونه من باطل وقبيح. لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ؛ لأن أهواءهم الفاسدة من شرك. وظلم ، وحقد ، وعناد ... ، لا يمكن أن يقوم عليها نظام هذا الكون البديع ، الذي أقمناه على الحق والعدل ...

ويرى بعض المفسرين أن المراد بالحق هنا ما يقابل الباطل ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

فيكون المعنى : ولو اتبع الحق الذي جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهواء المشركين ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ، وذلك لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم بالتوحيد وهم يريدون الشرك ، وجاءهم بمكارم الأخلاق ، وهم يريدون ما ألفوه من شهوات ، وجاءهم بالتشريعات العادلة الحكيمة ، وهم يريدون التشريعات التي ترضى غرورهم وأوضاعهم الفاسدة ، والتي منها تفضيل الناس بحسب أحسابهم وغناهم ، لا بحسب إيمانهم وتقواهم ...

ومع وجاهة الرأيين ، إلا أننا نميل إلى الرأى الثاني ، لأنه أقرب إلى سياق الآيات ، كما يشير إلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) انتقال من توبيخهم على كراهيتهم للحق ، إلى توبيخهم على نفورهم مما فيه عزهم وفخرهم.

والمراد بذكرهم : القرآن الذي هو شرف لهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الكاشف ج ٣ ص ١٩٥.

(٢) سورة الزخرف الآية ٤٤.

٥٢

أى : كيف يكرهون الحق الذي جاءهم به رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه قد أتاهم بالقرآن الكريم الذي فيه شرفهم ومجدهم؟ إن إعراضهم عن هذا القرآن ليدل دلالة قاطعة ، على غبائهم ، وجهلهم ، لأن العاقل لا يعرض عن شيء يرفع منزلته ، ويكرم ذاته.

ثم انتقلت السورة الكريمة ـ للمرة الخامسة ـ إلى توبيخهم على كفرهم ، مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسألهم أجرا على ما ينقذهم من ظلمات هذا الكفر إلى نور الإيمان. فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً.). أى : أجرا وجعلا وجزاء ...

أى : أيكون السبب في عدم إيمانهم بك ـ أيها الرسول الكريم ـ أنك تسألهم أجرا على دعوتك لهم إلى إخلاص العبادة لنا؟.

لا : ليس الأمر كما يتوهمون ، فإنك لم تسألهم أجرا على دعوتك إياهم إلى الدخول في الإسلام.

والجملة الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ.).

وما بينهما اعتراض وقوله ـ سبحانه ـ : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) تعليل لنفى سؤاله إياهم الأجر على دعوتهم إلى الحق.

أى : أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ ما طالبتهم بأجر على دعوتك إياهم إلى الإيمان بالله ـ تعالى ـ وحده ، لأن ما أعطاك الله ـ تعالى ـ من خير وفضل أكبر وأعظم من عطاء هؤلاء الضعفاء الذين لا يستغنون أبدا عن عطائنا. والله ـ تعالى ـ هو خير الرازقين ، لأن رزقه دائم ورزق غيره مقطوع ، ولأنه هو المالك لجميع الأرزاق ، وغيره لا يملك معه شيئا.

قال بعض العلماء : المراد بالخرج والخراج هنا. الأجر والجزاء والمعنى : أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيرى الدنيا والآخرة أجرا وأصل الخرج والخراج : هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجرة أو جعل.

وقرأ ابن عامر : أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير ـ بإسكان الراء فيهما معا وحذف الألف ـ.

وقرأ حمزة والكسائي : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) ـ بفتح الراء بعدها ألف فيهما معا وقرأ الباقون : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) بإسكان الراء وحذف الألف في الأول وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني.

والتحقيق : أن معنى اللفظين واحد ، وأنهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان ، خلافا لمن

٥٣

زعم أن بين معناهما فرقا زاعما أن الخرج ما تبرعت به ، وأن الخراج ما لزمك أداؤه» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة ، ببيان أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدعو إلا إلى الحق ، وأن المعرضين عن دعوته عن طريق الحق خارجون ، فقال ـ تعالى ـ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ..) ..

أى : وإنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لتدعو هؤلاء المشركين إلى طريق واضح قويم ، تشهد العقول باستقامته وسلامته من أى عوج.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ككفار قريش ومن لف لفهم (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم (لَناكِبُونَ) أى : لمائلون وخارجون.

يقال : نكب فلان عن الطريق ينكب نكوبا ـ من باب دخل ـ ، إذا عدل عنه. ومال إلى غيره.

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة. قد شهدت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراءة من كل تهمة تفوه بها المشركون ، وقطعت معاذيرهم ، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم ، حيث حكت شبهاتهم بأمانة ثم كرت عليها بالإبطال ، وأثبتت أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جاءهم ليدعوهم إلى الصراط المستقيم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، أن هؤلاء المشركين ، قد قست قلوبهم ، وفسدت نفوسهم ، وماتت ضمائرهم ، وصاروا لا يؤثر فيهم الابتلاء بالخير أو الشر ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(٧٧)

أى : ولو رحمنا هؤلاء المشركين الذين تنكبوا الصراط المستقيم وكشفنا ما بهم من ضر.

أى : من سوء حال بسبب ما نزل بهم من قحط وجدب وفقر

__________________

(١) تفسير أضواء البيان ج ٥ ص ٨٠٦.

٥٤

(لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أى : لتمادوا في طغيانهم ، وتجاوزوا الحدود في كفرهم وضلالهم ، وفي تحيرهم وترددهم بدون تمييز بين الحق والباطل.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (لَلَجُّوا) يشعر بأنهم لقسوة قلوبهم ، صاروا لا تؤثر فيهم المصائب بل يزدادون بسببها طغيانا وكفرا ، إذ الفعل «لجوا» مأخوذ من اللجاج. هو التمادي والعناد في ارتكاب المنهي عن ارتكابه.

يقال : لج فلان في الأمر يلج لججا ولجاجة. إذا لازمه وواظب عليه. ومنه «اللّجة» ـ بفتح اللام ـ لكثرة الأصوات. ولجة البحر ـ بضم اللام ـ لتردد أمواجه ..

وقوله : (يَعْمَهُونَ) من العمه ، بمعنى التردد والتحير ، وهو للقلوب بمنزلة العمى للعيون.

وهو مأخوذ من قولهم : أرض عمهاء ، إذا لم يكن فيها علامات ترشد إلى الخروج منها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) مؤكد لما قبله من وصف هؤلاء المشركين بالجحود والعناد.

والمراد بالعذاب هنا : العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب.

والاستكانة : الانتقال من كون إلى كون ومن حال إلى حال. ثم غلب استعمال هذه الكلمة في الانتقال من حال التكبر والغرور إلى حال التذلل والخضوع.

أى : ولقد أخذنا هؤلاء الطغاة ، بالعذاب الشديد ، كالفقر ، والمصائب والأمراض فما خضعوا لربهم ـ عزوجل ـ وما انقادوا له وأطاعوه ، وما تضرعوا إليه ـ سبحانه ـ بالدعاء الخالص لوجهه الكريم ، لكي يكشف عنهم ـ عزوجل ـ ما نزل بهم من ضر.

ولفظ «حتى» في قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ ..). يقصد به ابتداء الكلام ، وإذا الأولى شرطية ، والثانية وهي قوله (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) رابطة للجواب.

أى : هم مستمرون على جحودهم وعنادهم ، حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد ، من أبواب عذاب الآخرة المعد لهم إذا هم فيه مبلسون ، أى : ساكتون من شدة الحيرة ، وآيسون من كل نجاء. يقال : أبلس فلان إبلاسا ، إذا سكت في حيرة ويأس من الخلاص مما هو فيه من عذاب وبلاء.

وقريب من هذه الآيات في المعنى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ

٥٥

مُعْرِضُونَ) (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ، فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ، وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣).

ثم تأخذ السورة الكريمة بعد ذلك في تذكيرهم بنعم الله عليهم ، لعلهم يتوبون أو يتذكرون ، فتقول :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٨٠)

أى : «وهو» الله ـ تعالى ـ وحده ، «الذي أنشأ لكم» أيها الناس بفضله ورحمته «السمع» الذي تسمعون به «والأبصار» التي تبصرون بها «والأفئدة» التي بواسطتها تفهمون وتدركون ...

ولو تدبر الإنسان هذه النعم حق التدبر : لاهتدى إلى الحق. ولآمن بأن الخالق لهذه الحواس وغيرها. هو الله الواحد القهار.

ولكن الإنسان ـ إلا من عصم الله ـ قليل الشكر لله ـ تعالى ـ ولذا قال ـ سبحانه ـ : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أى : شكرا قليلا ما تشكرون هذه النعم الجليلة ، بدليل أن أكثر الناس في هذه الحياة ، كافرون بوحدانية الله ـ تعالى ـ.

فلفظ «قليلا» صفة لموصوف محذوف ، و «ما» لتأكيد هذه القلة وتقريرها.

__________________

(١) سورة الأنفال آية ٢٢ ، ٢٣.

(٢) سورة الأنعام آية ٢٨.

(٣) سورة الأنعام الآية ٤٢ ، ٤٣.

٥٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بيان لنعمة أخرى من نعمه التي لا تحصى.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أوجدكم من الأرض ، ونشركم فيها عن طريق التناسل ، وإليه وحده تجمعون يوم القيامة للحساب.

ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته فقال : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بدون أن يشاركه في ذلك مشارك ، (وَلَهُ) وحده التأثير في اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما ، وزيادة أحدهما ونقص الآخر ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتدركون ما في هذا كله من دلائل واضحة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته؟

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن هؤلاء المشركين ، لم يقابلوا نعم الله ـ تعالى ـ عليهم بالشكر ، وإنما قابلوها بالجحود وبإنكار البعث والحساب ، وأمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم فقال ـ تعالى ـ :

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)(٨٩)

ولفظ «بل» في قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) للإضراب الانتقالى. وهو معطوف على مضمر يقتضيه المقام.

٥٧

أى : لقد سقنا لهم ألوانا من النعم ، وسقنا لهم ما يدل على قدرتنا ومع ذلك فلم يؤمنوا. بل قالوا مثل ما قال من هم على شاكلتهم في الكفر من الأقوام الأولين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه فقال : (قالُوا) على سبيل التعجب والإنكار (أَإِذا مِتْنا ، وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

فهم يرون ـ لجهلهم وغبائهم ـ أنه من المستحيل أن يعادوا إلى الحياة بعد أن يموتوا ويصيروا ترابا وعظاما نخرة.

وهذا الذي قالوه هنا. قد حكى القرآن عنهم مثله في آيات كثيرة ، من ذلك قوله ـ تعالى ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ* أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً* قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم لم يكتفوا بإنكارهم للبعث ، بل أضافوا إلى ذلك سوء الأدب ، والسخرية ممن يؤمن به فقال : (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ...).

أى : لقد وعدنا على لسان هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن البعث حق ، كما وعد آباؤنا قبل ذلك على ألسنة الرسل السابقين ، ونحن لا نصدق هذا الرسول ، ولا أولئك الرسل.

(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أى : ما هذا البعث الذي وعدنا جميعا به ، إلا أساطير الأولين. أى : أكاذيبهم التي سطروها من عند أنفسهم في كتبهم.

والأساطير : جمع أسطورة ، كأحدوثة ، وأعجوبة ، وأكذوبة.

وهكذا الجهلاء المغرورون ، لا يقفون من الحق موقف المنكر له فحسب ، بل يضيفون إلى ذلك سوء الأدب ، وقبح المنطق ، والقول بغير علم.

وقد أمر الله ـ تعالى ـ رسوله أن يرد على أباطيلهم ، وأن يلزمهم بثلاث حجج ، تدل على أن الله ـ تعالى ـ قادر على إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم.

أما الحجة الأولى فتتجلى في قوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ لمن هذه الأرض ملكا وتصرفا ، ولمن هذه المخلوقات التي عليها ، خلقا وتدبيرا ، إن كنتم من أهل العلم والفهم؟ أو كنتم عالمين بذلك فأخبرونى من خالقهم؟ فجواب الشرط محذوف لدلالة الاستفهام عليه.

__________________

(١) سورة ق الآية ٣.

(٢) سورة النازعات الآيات ١٠ ـ ١٢.

٥٨

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) ولا يملكون أن يقولوا غير ذلك ، لأن بداهة العقل تضطرهم إلى أن يعترفوا بأن الأرض ومن فيها لله ـ تعالى ـ.

(قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أى : قل لهم في الجواب على اعترافهم هذا ، أتعلمون ذلك ، فلا تتذكرون بأن من خلق الأرض ومن فيها قادر على إحياء الناس بعد موتهم.

وأما الحجة الثانية فهي قوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وهو كرسيه الذي وسع السموات والأرض؟

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فهو رب كل شيء. (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أى : قل لهم على سبيل التبكيت والتقريع ، أتقولون ذلك ، ومع هذا لا تتقون الله ، ولا تخافون عقابه ، بسبب عبادتكم لغيره ، وإنكاركم لما نهاكم عن إنكاره؟

وأما الحجة الثالثة ، فتتجلى في قوله عزوجل : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.). أى : قل لهم من بيده ملك كل شيء كائنا ما كان.

فالملكوت من الملك ، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في هذا الملك.

(وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أى : وهو ـ سبحانه ـ يغيث من يشاء من خلقه فلا يستطيع أحد أن يناله بسوء ، أما من يريد الله ـ تعالى ـ أن ينزل به عقابه ، فلن يستطيع أحد أن يمنع هذا العقاب عنه.

يقال : أجرت فلانا على فلان ، إذا أغثته وأنقذته منه. وعدى بعلى لتضمينه معنى النصر.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أى : إن كنتم ـ أيضا ـ من أهل العلم والفهم.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أى : سيقولون ملك كل شيء لله ، والقدرة على كل شيء لله.

(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أى : قل لهم في الجواب عليهم ، ما دمتم قد اعترفتم بأن كل شيء تحت قدرة الله وسيطرته ، فكيف تخدعون وتصرفون عن الحق وعن الرشد مع علمكم بهما ، إلى ما أنتم عليه من باطل وغي!! يقال : سحر فلان غيره ، بمعنى خدعه ، أو أتى عمل السحر. والمسحور هو الشخص المخدوع أو من تأثر بما عمل له من سحر.

وبهذه الحجج الدامغة ، أخرس الله ـ تعالى ـ ألسنة المنكرين للبعث ، وأثبت لهم أنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء.

وبعد أن أثبت ـ سبحانه ـ أن البعث حق ، أتبع ذلك بإثبات وحدانيته ، وإبطال ما يزعمون له ـ تعالى ـ من الولد والشريك. فقال :

٥٩

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٩٢)

وقوله ـ سبحانه ـ (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ ..). إضراب عن قول أولئك الكافرين (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

أى : ما كان ما أخبرناهم به من أن هناك بعثا وحسابا ، أساطير الأولين بل أخبرناهم وأتيناهم بالحق الثابت ، والوعد الصادق ، وإنهم لكاذبون في دعواهم أن البعث غير واقع ، وأن مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجئهم بالحق الذي يريدونه.

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على قولهم إن لله ولدا وشريكا فقال : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ...).

أى : لم يتخذ الله ـ تعالى ـ ولدا ـ كما يزعم هؤلاء الجاهلون ؛ لأنه ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك. ولم يكن معه من إله يشاركه في ألوهيته وربوبيته ـ عزوجل ـ.

ولو كان الأمر كما يزعمون (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) واستقل به عن غيره. (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أى : ولحدث بينهم التجارب والتغالب ... ولفسد هذا الكون ، كما قال ـ تعالى ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ...).

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أى : تنزه الله ـ تعالى ـ وتقدس عما يصفه به هؤلاء الجاهلون. فهو ـ سبحانه ـ الواحد الأحد. الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أى : هو العليم بما يغيب عن عقول الناس ومداركهم وهو العليم ـ أيضا ـ بما يشاهدونه بأبصارهم وحواسهم.

(فَتَعالى) الله ـ عزوجل ـ وتقدس (عَمَّا يُشْرِكُونَ) معه من آلهة أخرى ، لا تضر ولا تنفع : ولا تملك لعابديها موتا ولا حياة ولا نشورا.

ثم تترك السورة الحديث مع هؤلاء المشركين ، وتوجه حديثها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأمره أن يلتجئ إلى خالقه ، وأن يستعيذ به من شرور الشياطين .. قال ـ تعالى ـ :

٦٠