التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

(وَقالُوا) لمن تطاول عليهم وآذاهم ، لنا أعمالنا ، التي سيحاسبنا الله ـ تعالى ـ عليها (وَلَكُمْ) ـ أيضا ـ أعمالكم ، التي سيحاسبكم الله ـ تعالى ـ عليها.

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أى : سلام متاركة منا عليكم ، وإعراض عن سفاهتكم ، فليس المراد بالسلام هنا : سلام التحية ، وإنما المقصود به سلام المتاركة والإعراض.

(لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أى : إن ديننا ينهانا عن طلب صحبة الجاهلين ، وعن المجادلة معهم.

قال ابن كثير ما ملخصه : لما انتهى وقد أهل الكتاب من لقائه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمنوا به ، وقاموا عنه ، اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تكد تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، وصدقتموه فيما قال ، ما نعلم وفدا أحمق منكم .. فقالوا لهم : سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، (١).

* * *

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن الهداية منه وحده ، ورد على أقوال المشركين ، وبين سنة من سننه في خلقه ، كما بين أن ما عنده ـ سبحانه ـ أفضل وأبقى ، من شهوات الدنيا وزينتها ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٥٥.

٤٢١

الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)(٦١)

والمعنى : (إِنَّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أى : لا تستطيع بقدرتك الخاصة أن تهدى إلى الإيمان من تريد هدايته إليه.

(وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أى : ولكن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي يملك هداية من يشاء هدايته إلى الإيمان ، فهو ـ سبحانه ـ الخالق لكل شيء ، وقلوب العباد تحت تصرفه ـ تعالى ـ يهدى من يشاء منها ويضل من يشاء ، على حسب مشيئته وحكمته ، التي تخفى على الناس.

(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أى : بالقابلين للهداية المستعدين لها.

فبلغ ـ أيها الرسول الكريم ـ ما كلفناك به ، ثم اترك بعد ذلك قلوب الناس إلى خالقهم ، فهو ـ سبحانه ـ الذي يصرفها كيف يشاء.

قال بعض العلماء : وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر ، مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته ، فهذا عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكافله وحاميه والذائد عنه ، لا يكتب الله له الإيمان ، على شدة حبه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشدة حب الرسول له أن يؤمن. (١) ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة ، ولم يقصد إلى العقيدة ، وقد علم الله منه ذلك فلم يقدر له ما كان يحبه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرجوه ، فأخرج هذا الأمر ـ أى الهداية ـ من خاصة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعله خاصا بإرادته ـ سبحانه ـ وتقديره. وما على الرسول

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٥٦.

٤٢٢

إلا البلاغ ، وما على الداعين بعده إلا النصيحة ، والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد ، واستعدادهم للهدى والضلال (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من الاعتذارات الواهية التي تذرع بها المشركون في عدم الدخول في الإسلام.

فقال ـ تعالى ـ : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) والتخطف : الانتزاع بسرعة. يقال : فلان اختطفه الموت. إذا أخذه بغتة بدون إمهال.

وقد ذكروا في سبب نزولها ، أن بعض المشركين أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا محمد ، نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخشى إن اتبعناك ، وخالفنا العرب ، أن يتخطفونا من أرضنا ، وإنما نحن أكلة رأس ـ أى : قليلون لا نستطيع مقاومة العرب.

وقد رد الله ـ تعالى ـ على تعللهم هذا بقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ) أى : يحمل إليه ، يقال جبى فلان الماء في الحوض إذا جمعه فيه ، وحمله إليه.

والاستفهام لتقريعهم على قولهم هذا الذي يخالف الحقيقة.

أى : كيف قالوا ذلك ، مع أننا قد جعلنا لهم حرما ذا أمان يعيشون من حوله ، وتأتيهم خيرات الأرض من كل مكان ، وقد فعلنا ذلك معهم وهم مشركون ، فكيف نعرضهم للخطف وهم مؤمنون.

قال صاحب الكشاف : وكانت العرب في الجاهلية حولهم ـ أى حول أهل مكة ـ يتغاورون ويتناحرون وهم آمنون مطمئنون في حرمهم ، وبحرمة البيت هم قارون بواد غير ذي زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل مكان ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها ، وهم كفرة عبدة أصنام ، فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخطف والخوف ، ويسلبهم الأمن ، إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة ، الإسلام .. (٢).

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) للإشعار بكثرة الخيرات والثمرات ، التي تأتى إلى أهل مكة من كل جانب من جوانب الأرض ، ومن كل نوع من أنواع ثمارها. والجملة الكريمة صفة من صفات الحرم.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ج ٢٠ ص ٣٦١. للأستاذ سيد قطب.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٧٢.

٤٢٣

وقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ لَدُنَّا) أى : من جهتنا ومن عندنا وليس من عند غيرنا الذين تخشون غضبهم أو تخطفهم لكم ، إن اتبعتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة بيان سعة فضل الله ـ تعالى ـ ، وأنه هو القادر على كل شيء.

وقوله ـ تعالى ـ (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) متعلق بقوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً).

أى : لقد جعلنا لهم حرما ذا أمن ، وأفضنا عليهم من خيرات الأرض ، ولكن أكثرهم يجهلون هذه الحقيقة ، ويجهلون أن اتباعهم للدين الحق ، يؤدى إلى سعادتهم في حياتهم وبعد مماتهم.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب الحقيقية التي تؤدى إلى زوال النعم ، التي من بينها نعمة الأمان والاطمئنان ، فقال ـ تعالى ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها).

وكم هنا خبرية للتكثير ، و (بَطِرَتْ) من البطر ، بمعنى الأشر والغرور واستعمال نعم الله ـ تعالى ـ في غير ما خلقت له.

أى : وكثيرا من أهل قرى كانت أحوالهم كحال أهل مكة في الأمن وسعة الرزق ، فلما بطروا معيشتهم ، واستعملوا نعمنا في الشر لا في الخير ، وفي الفسوق لا في الطاعة ، أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، بأن دمرناهم وقراهم تدميرا.

إذا فبطر النعمة وعدم الشكر عليها ، هو السبب الحقيقي في الهلاك ، وليس اتباع الهدى ، كما زعم أولئك المشركون الجاهلون.

قال القرطبي : «بين ـ سبحانه ـ لمن توهم ، أنه لو آمن لقاتلته العرب وتخطفته ، أن الخوف في ترك الإيمان أكثر ، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار. والبطر : الطغيان بالنعمة».

و (مَعِيشَتَها) أى : في معيشتها ، فلما حذف «في» تعدى الفعل ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٢).

__________________

(١) سورة العنكبوت الآية ٦٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٠١.

٤٢٤

ثم بين ـ سبحانه ـ مآل مساكن هؤلاء الطاغين فقال : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً).

أى : فتلك مساكن هؤلاء الطغاة ترونها يا أهل مكة في أسفاركم ـ إنها لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا ، كالذي يرتاح بها وهو مسافر ثم يتركها إلى غير عودة إليها ، لأنها صارت غير صالحة لذلك لشؤمها.

(وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أى : وكنا نحن وحدنا الوارثين لها منهم ، لأنهم لم يتركوا أحدا يرث منازلهم وأموالهم ، أو لأنها صارت خرابا لا تصلح للسكن.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر عدالته ، وسنة من سننه التي كتبها على نفسه فقال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا.) ..

والمراد ب (أُمِّها) أكبرها وأعظمها كمكة بالنسبة للجزيرة العربية.

أى : إن حكمة الله ـ تعالى ـ وعدالته قد اقتصت ، أن لا يهلك قرية من القرى التي كفر أهلها ، حتى يبعث في كبرى تلك القرى وأصلها رسولا من رسله الكرام ، يتلو على أهلها آياته ، ويبلغهم دعوته ، ويبين لهم الحق من الباطل.

وحكمة إرسال الرسول في كبرى تلك القرى ، لأنها المركز والعاصمة ، التي تبلغ الرسالة إلى القرى التابعة لها ، ولأنها في العادة ـ المكان المختار لسكنى وجهاء القوم ورؤسائهم.

قال ابن كثير ما ملخصه : وفي هذه الآية دلالة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث من أم القرى ـ وهي مكة ـ ، رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها.). ، وقال ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً). وثبت في الصحيحين أنه قال : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ولذا ختم به الرسالة والنبوة ، فلا نبي بعده ، ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة ، (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) معطوف على ما قبله. وهو قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) ومؤكد له.

أى : وما كنا في حال من الأحوال بمهلكى هذه القرى ، إلا في حال ظلم أهلها لأنفسهم ، عن طريق تكذيبهم لرسلنا وإعراضهم عن آياتنا ، وإيثارهم الكفر على الإيمان.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٥٨.

٤٢٥

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هذه الدنيا وما فيها من متاع ، هي شيء زهيد وضئيل بالنسبة لما ادخره ـ عزوجل ـ لعباده الصالحين من خيرات ، فقال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها).

أى : وما أعطيتموه ـ أيها الناس ـ من خير ، وما أصبتموه من مال فهو متاع زائل من أعراض الحياة الدنيا الزائلة وحطامها الذي لا دوام له ، ومهما كثر فهو إلى نفاد ، ومهما طال فله نهاية ، فأنتم تتمتعون بزينة الحياة الدنيا ثم تتركونها لغيركم.

(وَما عِنْدَ اللهِ) ـ تعالى ـ من ثواب وعطاء جزيل في الآخرة ، هو في نفسه (خَيْرٌ وَأَبْقى) لأن لذته خالصة من الشوائب والأكدار وبهجته لا تنتهي ولا تزول.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذه التوجيهات الحكيمة ، وتعملون بمقتضاها ، فإن من شأن العقلاء أن يؤثروا الباقي على الفاني ، والذي هو خير على الذي هو أدنى.

ثم نفى ـ سبحانه ـ التسوية بين أهل الجنة وأهل النار بأبلغ أسلوب فقال : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ، كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

فالاستفهام للإنكار ونفى المساواة بين الفريقين ، والمراد بالوعد : الموعود به وهو الجنة ونعيمها.

أى : إنه لا يستوي في عرف أى عاقل ، حال المؤمنين الذين وعدناهم وعدا حسنا بالجنة ونعيمها ، وهم سيظفرون بما وعدناهم به لا محالة ، وحال أولئك الكافرين والفاسقين الذين متعناهم إلى حين بمتاع الدنيا الزائلة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معطوف على (مَتَّعْناهُ) وداخل معه في حيز الصلة ، ومؤكد لإنكار المساواة.

أى : ثم هو هذا الذي متعناه بمتاع الحياة الدنيا الزائل ، من المحضرين لعذابنا في النار ، والمحضرين : جمع محضر. اسم مفعول من أحضره.

وهذا التعبير يشعر بإحضاره إلى النار وهو مكره خائف ، من العذاب المهين الذي أعدّ له ، فالآية الكريمة قد نفت بأبلغ أسلوب ـ المساواة بين المؤمنين والكافرين.

* * *

٤٢٦

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من أقوال المشركين يوم القيامة ، ومن أحوالهم السيئة ، ورد أمرهم وأمر غيرهم إليه وحده ـ عزوجل ـ فقال :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٧٠)

والظرف في قوله ـ سبحانه ـ : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) منصوب بفعل مقدر ، ونداؤهم نداء إهانة وتحقير. والنداء صادر عن الله ـ تعالى ـ.

أى : واذكر ـ أيها المخاطب ـ لتتعظ وتعتبر ، حال أولئك الظالمين ، يوم يناديهم الله ـ تعالى ـ فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أى : أين شركائى الذين كنتم في الدنيا تزعمونهم شركائى ، لكي ينصروكم أو يدفعوا عنكم العذاب.

٤٢٧

فمفعولا (تَزْعُمُونَ) محذوفان ، لدلالة الكلام عليهما. والمقصود بهذا الاستفهام (أَيْنَ شُرَكائِيَ) الخزي والفضيحة ، إذ من المعلوم أنه لا شركاء لله ـ تعالى ـ لا في ذاته ولا في صفاته.

والمراد بالذين حق عليهم القول في قوله ـ تعالى ـ : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ..). رؤساؤهم في الكفر ، ودعاتهم إليه كالشياطين ، ومن يشبهونهم في التحريض على الضلال.

أى قال : رؤساؤهم ودعاتهم إلى الكفر ، الذين ثبت عليهم العذاب بسبب إصرارهم على الفسوق والجحود.

(رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) أى : يا ربنا هؤلاء هم أتباعنا الذين أضللناهم.

(أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أى : دعوناهم إلى الضلالة التي كنا عليها فأطاعونا فيما دعوناهم إليه.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : قوله : (هؤُلاءِ) مبتدأ ، و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف و (أَغْوَيْناهُمْ) الخبر. والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره : أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء. أودعونا إلى الغي وسولوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم ، لأن إغواءنا لهم ، لم يكن إلا وسوسة وتسويلا. لا قسرا أو إلجاء «فلا فرق إذا بين غينا وغيهم ..» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) من كلام الرؤساء والشياطين ، فهو مقرر لما قبله ، ومؤكد له.

أى : تبرأنا إليك منهم ، ومن ادعائهم أننا أجبرناهم على الضلالة والغواية ، والحق أنهم ما كانوا يعبدوننا ، بل كانوا يعبدون ما سولته لهم أهواؤهم وشهواتهم الباطلة.

فالآية الكريمة تحكى تبرؤ رءوس الكفر من أتباعهم يوم القيامة ، ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.). (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٢٦.

(٢) سورة إبراهيم الآية ٢٢.

٤٢٨

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١).

ثم وجه ـ سبحانه ـ إليهم توبيخا آخر فقال : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ).

أى : وقيل لهؤلاء الكافرين على سبيل الفضيحة والتقريع : اطلبوا من شركائكم الذين توهمتم فيهم النفع والضر أن يشفعوا لكم ، أو أن ينقذوكم مما أنتم فيه من عذاب ، فطلبوا منهم ذلك لشدة حيرتهم وذلتهم (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ولم يلتفتوا إليهم.

(وَرَأَوُا الْعَذابَ) أى : ورأى الشركاء والمشركون العذاب ماثلا أمام أعينهم.

و (لَوْ) في قوله : (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) شرطية ، وجوابها محذوف. والتقدير : لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين إلى طريق الحق. لما أصابهم هذا العذاب المهين.

ويجوز أن تكون للتمني فلا تحتاج إلى جواب ، ويكون المعنى. ورأوا العذاب. فتمنوا أن لو كانوا ممن هداهم الله ـ تعالى ـ إلى الصراط المستقيم في الدنيا.

ثم وجه ـ سبحانه ـ إليهم نداء آخر لا يقل عن سابقه في فضيحتهم وتقريعهم فقال ـ تعالى ـ : ويوم يناديهم فيقول : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ).

أى : واذكر ـ أيها العاقل ـ حال هؤلاء الكافرين يوم يناديهم المنادى من قبل الله ـ عزوجل ـ فيقول لهم : ما الذي أجبتم به رسلكم عند ما أمروكم بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ونهوكم عن الإشراك والكفر؟

فالمقصود من السؤال الأول : توبيخهم على إشراكهم ، والمقصود من السؤال الثاني ، توبيخهم على تكذيبهم لرسلهم ، ولذا وقفوا من هذه الأسئلة موقف الحائر المذهول المكروب ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ).

أى : فخفيت عليهم الحجج التي يجيبون بها على هذه الأسئلة ، وصاروا لفرط دهشتهم وذهولهم عاجزين عن أن يسأل بعضهم بعضا عن الإجابة.

وعدى (فَعَمِيَتْ) بعلى ، لتضمنه معنى الخفاء قال ـ سبحانه ـ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) ولم يقل : فعموا عن الأنباء ، للمبالغة في بيان ذهولهم وصمتهم المطبق في ذلك اليوم العسير ، حتى لكأنما الأنباء والأخبار عمياء لا تصل إليهم ، ولا تعرف شيئا عنهم.

__________________

(١) سورة مريم الآية ٨١ ، ٨٢.

٤٢٩

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) يشعر بزيادة حيرتهم وفرط دهشتهم فهم جميعا قد صاروا في حالة من الإبلاس والحيرة ، جعلتهم يتساوون في العجز والجهل.

وكعادة القرآن الكريم في الجمع بين حال الكافرين وحال المؤمنين ، أتبع الحديث عن الكافرين ، بالحديث عن المؤمنين فقال : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى) هذا التائب المؤمن المواظب على الأعمال الصالحة (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أى من الفائزين بالمطلوب.

قال ابن كثير : وعسى من الله ـ عزوجل ـ موجبة ، فإن هذا واقع بفضل الله ومنّه ـ أى وعطائه ـ لا محالة (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرد الأمور جميعها إليه ، وأنه هو صاحب الخلق والأمر فقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ).

أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يخلق ما يشاء أن يخلقه ، ويختار من يختار من عباده لحمل رسالته ، ولتبليغ دعوته. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

و (ما) في قوله ـ تعالى ـ (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) نافية والخيرة من التخير وهي بمعنى الاختيار ، والجملة مؤكدة لما قبلها من أنه ـ سبحانه ـ يخلق ما يشاء ويختار.

أى : وربك وحده يخلق ما يشاء خلقه ويختار ما يشاء اختياره لشئون عباده ، وما صح وما استقام لهؤلاء المشركين أن يختاروا شيئا لم يختره الله ـ تعالى ـ أو لم يرده ، إذ كل شيء في هذا الوجود خاضع لإرادته وحده ـ عزوجل ـ ولا يملك أحد كائنا من كان أن يقترح عليه شيئا ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا.

وليس لهؤلاء المشركين أن يختاروا للنبوة أو لغيرها أحدا لم يختره الله ـ تعالى ـ لذلك ، فالله ـ عزوجل ـ أعلم حيث يجعل رسالته.

قال القرطبي ما ملخصه : قوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أى : ليس يرسل من اختاروه هم.

وقيل : يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بيختار ، ويكون المعنى ، ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة.

والصحيح الأول لإطباقهم الوقف على قوله (وَيَخْتارُ) ، و (ما) نفى عام لجميع الأشياء ، أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله ـ عزوجل ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٦١.

٤٣٠

وقال الثعلبي : و (ما) نفى ، أى ليس لهم الاختيار على الله. وهذا أصوب ، كقوله ـ تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.). (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له ـ عزوجل ـ عن الشرك والشركاء.

أى تنزه الله ـ تعالى ـ وتقدس بذاته وصفاته عن إشراك المشركين ، وضلاك الضالين.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن علمه شامل لكل شيء فقال : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ).

أى : وربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يعلم علما تاما ما تخفيه صدور هؤلاء المشركين من أسرار ، وما تعلنه من أقوال ، وسيحاسبهم على كل ذلك حسابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

(وَهُوَ اللهُ) ـ سبحانه ـ لا إله إلا هو يستحق العبادة والخضوع (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ).

أى : في الدنيا ، وله الحمد ـ أيضا ـ في الآخرة ، وله وحده (الْحُكْمُ) النافذ (وَإِلَيْهِ) وحده (تُرْجَعُونَ) للحساب لا إلى غيره.

* * *

ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يذكر الناس بمظاهر قدرته ـ سبحانه ـ في هذا الكون ، وأن يوقظ مشاعرهم للتأمل في ظاهرتين كونيتين ، هما الليل والنهار ، فإن التدبر فيما اشتملتا عليه من تنظيم دقيق ، من شأنه أن يبعث على الإيمان بقدرة موجدهما ، وهو الله عزوجل. قال ـ تعالى ـ :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٥٠.

٤٣١

يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

السرمد : الدائم الذي لا ينقطع ، والمراد به هنا : دوام الزمان من ليل أو نهار.

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس ليعتبروا ويتعظوا وينتبهوا إلى مظاهر قدرتنا ورحمتنا ، أخبرونى ماذا كان يحصل لكم إن جعل الله ـ تعالى ـ عليكم الزمان ليلا دائما إلى يوم القيامة ، (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ـ تعالى ـ (يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) تبصرون عن طريقه عجائب هذا الكون ، وتقضون فيه حوائجكم (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ما أرشدناكم إليه سماع تدبر وتفهم واعتبار يهديكم إلى طاعة الله ـ تعالى ـ وشكره على نعمه.

ثم قال لهم : أخبرونى بعد ذلك ، لو جعل الله ـ تعالى ـ عليكم الزمان ضياء دائما إلى يوم القيامة (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ـ تعالى ـ (يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) أى : تستريحون فيه من عناء العمل والكد والتعب بالنهار (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أى : أفلا تبصرون هذه الدلائل الساطعة الدالة على قدرة الله ـ تعالى ـ ورأفته بكم.

إن دوام الزمان على هيئة واحدة من ليل أو نهار ، يؤدى إلى اختلال الحياة ، وعدم توفر أسباب المعيشة السليمة لكم ، بل ربما أدى إلى هلاككم.

إن المشاهد من أحوال الناس ، أنهم مع وجود الليل لساعات محدودة ، يشتاقون لطلوع الفجر ، لقضاء مصالحهم ، ومع وجود النهار لساعات محدودة ـ أيضا ـ يتطلعون إلى حلول الليل ، ليستريحوا فيه من عناء العمل.

وختم ـ سبحانه ـ الآية الأولى بقوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) لأن حاسة السمع ـ فيما لو

٤٣٢

كان الليل سرمدا ـ هي أكثر الحواس استعمالا في تلك الحالة المفترضة ، وختم الآية الثانية بقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، لأن حاسة البصر ـ فيما لو كان النهار سرمدا ـ من أكثر الحواس استعمالا في هذه الحالة.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل «بليل تسكنون فيه ،؟

قلت ذكر الضياء ـ هو ضوء الشمس ـ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بيان لمظاهر فضل الله ـ تعالى ـ على الناس ، حيث جعل الليل والنهار على تلك الحالة التي يعيشون فيها.

أى : ومن رحمته بكم ـ أيها الناس ـ أنه ـ سبحانه ـ لم يجعل زمان الليل سرمدا ، ولا زمان النهار ، بل جعلهما متعاقبين ، وجعل لكل واحد منهما زمانا محددا مناسبا لمصالحكم ومنافعكم ، فالليل تسكنون فيه وتريحون فيه أبدانكم ، والنهار تنتشرون فيه لطلب الرزق من الله تعالى.

وقد فعل ـ سبحانه ـ ذلك لمصلحتكم ، كي تشكروه على نعمه ، وتخلصوا له العبادة والطاعة.

وبعد هذا الحديث عن مشاهد الكون ، عادت السورة ـ للمرة الثالثة ـ إلى الحديث عن أحوال المجرمين يوم القيامة ، فقال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

أى : كن متذكرا ـ أيها العاقل ـ لتعتبر وتتعظ ، حال المجرمين يوم القيامة ، يوم يناديهم الله ـ تعالى ـ على سبيل التقريع والتأنيب فيقول لهم : أين شركائى الذين كنتم في دنياكم تزعمون أنهم شركائى في العبادة والطاعة.

إنهم لا وجود لهم إلا في عقولكم الجاهلة ، وأفكاركم الباطلة ، وتقاليدكم السقيمة.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الكاشف ج ٣ ص ٤٢٨.

(٢) سورة الأنعام الآية ٩٤.

٤٣٣

وقوله ـ تعالى ـ : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أى : أخرجنا بسرعة من كل أمة من الأمم شهيدا يشهد عليهم ، والمراد به الرسول الذي أرسله ـ سبحانه ـ إلى تلك الأمة المشهود عليها. (فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أى : فقلنا لهؤلاء المشركين ـ بعد أن شهد عليهم أنبياؤهم بأنهم قد بلغوهم رسالة الله ـ قلنا لهم : هاتوا برهانكم وأدلتكم على صحة ما كنتم عليه من شرك وكفر في الدنيا : والأمر هنا للتعجيز والإفضاح.

ولذا عقب ـ سبحانه ـ عليهم بقوله : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أى : فعجزوا عن الإتيان بالبرهان ، وعلموا أن العبادة الحق إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أى : وغاب عنهم ما كانوا يفترونه في حياتهم ، من أن معبوداتهم الباطلة ستشفع لهم يوم القيامة.

وبعد هذا البيان المتنوع عن دعاوى المشركين والرد عليها ، وعن أحوالهم يوم القيامة ، وعن أحوال المؤمنين الصادقين .. بعد كل ذلك ، ختم ـ سبحانه ـ قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ التي جاء الحديث عنها في كثير من آيات هذه السورة ـ ختمها بقصة قارون الذي كان من قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ

٤٣٤

فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨٤)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) لما قال ـ تعالى ـ : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) بين أن قارون أوتيها واغتر بها. ولم تعصمه من عذاب الله ، كما لم تعصم فرعون ولستم ـ أيها المشركون ـ بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون ، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله ، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.

قال النخعي وقتادة وغيرهما : كان قارون ابن عم موسى .. وقيل كان ابن خالته .. (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ٣ ص ٣١٠.

٤٣٥

وقوله (فَبَغى عَلَيْهِمْ) من البغي وهو مجاوزة الحد في كل شيء. يقال : بغى فلان على غيره بغيا ، إذا ظلمه واعتدى عليه. وأصله من بغى الجرح ، إذا ترامى إليه الفساد.

والمعنى : إن قارون كان من قوم موسى ، أى : من بنى إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى كما أرسل إلى فرعون وقومه.

(فَبَغى عَلَيْهِمْ) أى : فتطاول عليهم ، وتجاوز الحدود في ظلمهم وفي الاعتداء عليهم.

ولم يحدد القرآن كيفية بغيه أو الأشياء التي بغى عليهم فيها ، للإشارة إلى أن بغيه قد شمل كل ما من شأنه أن يسمى بغيا من أقوال أو أفعال.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) بيان لما أعطى الله ـ تعالى ـ لقارون من نعم.

والكنوز : جمع كنز وهو المال الكثير المدخر ، و (ما) موصولة. وهي المفعول الثاني لآتينا.

وصلتها (إِنَ) وما في حيزها. وقوله : (مَفاتِحَهُ) جمع مفتح ـ بكسر الميم وفتح التاء ـ وهو الآلة التي يفتح بها ـ أو جمع مفتح ـ بفتح الميم والتاء ـ بمعنى الخزائن التي تجمع فيها الأموال.

وهو ـ أى لفظ مفاتحه ـ اسم إن ، والخبر : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

وقوله (لَتَنُوأُ). أى لتعجز أو لتثقل. يقال : ناء فلان بحمل هذا الشيء ، إذا أثقله حمله وأتعبه : والباء في قوله (بِالْعُصْبَةِ) للتعدية والعصبة : الجماعة من الناس من غير تعيين بعدد معين ، سموا بذلك لأنهم يتعصب بعضهم لبعض ومنهم من خصها في العرف ، بالعشرة إلى الأربعين.

والمعنى : وآتينا قارون ـ بقدرتنا وفضلنا ـ من الأموال الكثيرة ، ما يثقل حمل مفاتح خزائنها ، العصبة من الرجال الأقوياء ، بحيث تجعلهم شبه عاجزين عن حملها.

قال صاحب الكشاف : وقد بولغ في ذكر ذلك ـ أى في كثرة أمواله ـ بلفظ الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة (١).

والمراد بالفرح في قوله ـ سبحانه ـ : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) : البطر والأشر والتفاخر على الناس ، والاستخفاف بهم واستعمال نعم الله ـ تعالى ـ في السيئات والمعاصي.

__________________

(١) تفسير الكاشف ج ٣ ص ٦٣٠.

٤٣٦

وجملة : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) تعليل للنهى عن الفرح المذموم.

أى : لقد أعطى الله ـ تعالى ـ قارون نعما عظيمة ، فلم يشكر الله عليها ، بل طغى وبغى ، فقال له العقلاء من قومه : لا تفرح بهذا المال الذي بين يديك فرح البطر الفخور ، المستعمل لنعم الله في الفسوق والمعاصي ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يحب من كان كذلك.

ثم قالوا له ـ أيضا ـ على سبيل النصح والإرشاد : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أى : واطلب فيما أعطاك الله ـ تعالى ـ من أموال عظيمة ، ثواب الدار الآخرة ، عن طريق إنفاق جزء من مالك في وجوه الخير ، كالإحسان إلى الفقراء والمحتاجين.

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أى : اجعل مالك زادا لآخرتك ، ولا تترك التنعم بنعم الله في دنياك ، فإن لربك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أى : وأحسن إلى عباد الله بأن تترك البغي عليهم ، وتعطيهم حقوقهم. مثل ما أحسن الله إليك بنعم كثيرة.

(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أى : ولا تطلب الفساد في الأرض عن طريق البغي والظلم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) كما أنه ـ سبحانه ـ لا يحب الفرحين المختالين.

وهكذا ساق العقلاء من قوم قارون النصائح الحكيمة له ، والتي من شأن من اتبعها أن ينال السعادة في دنياه وأخراه.

ولكن قارون قابل هذه النصائح ، بالغرور وبالإصرار على الفساد والجحود فقال كما حكى القرآن عنه (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي).

أى : قال قارون في الرد على ناصحيه : إن هذا المال الكثير الذي تحت يدي ، إنما أوتيته بسبب علمي وجدي واجتهادي .. فكيف تطلبون منى أن أتصرف بمقتضى نصائحكم؟ لا. لن أتبع تلك النصائح التي وجهتموها إلى ، فإن هذا المال مالي ولا شأن لكم بتصرفى فيه ، كما أنه لا شأن لكم بتصرفاتى الخاصة ، ولا بسلوكى في حياتي التي أملكها.

وهذا القول يدل على أن قارون ، كان قد بلغ الذروة في الغرور والطغيان وجحود النعمة.

ولذا جاءه التهديد المصحوب بالسخرية منه ومن كنوزه ، في قوله ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً).

والمقصود بهذا الاستفهام التعجيب من حاله ، والتأنيب له على جهله وغروره.

أى : أبلغ الغرور والجهل بقارون أنه يزعم أن هذا المال الذي بين يديه جمعه بمعرفته

٤٣٧

واجتهاده ، مع أنه يعلم ـ حق العلم عن طريق التوراة وغيرها ، أن الله ـ تعالى ـ قد أهلك من قبله. من أهل القرون السابقة عليه من هو أشد منه في القوة ، وأكثر منه في جمع المال واكتنازه.

فالمقصود بالجملة الكريمة تهديده وتوبيخه على غروره وبطره.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) جملة حالية. أى : والحال أنه لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون سؤال استعتاب واستعلام ، لأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء. وإنما يسألون ـ كما جاء في قوله ـ تعالى ـ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ـ سؤال توبيخ وإفضاح.

فالمراد بالنفي في قوله ـ سبحانه ـ (وَلا يُسْئَلُ.). سؤال الاستعلام والاستعتاب ، والمراد بالإثبات في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَ) أو في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) سؤال التقريع والتوبيخ.

أو نقول : إن في يوم القيامة مواقف ، فالمجرمون قد يسألون في موقف ، ولا يسألون في موقف آخر ، وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تنفى السؤال والآيات التي تثبته.

ثم حكى القرآن بعد ذلك مظهرا آخر من مظاهر غرور قارون وبطره فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) والجملة الكريمة معطوفة على قوله قبل ذلك (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) وما بينهما اعتراض. والزينة : اسم ما يتزين به الإنسان من حلى أو ثياب أو ما يشبههما.

أى : قال ما قال قارون على سبيل الفخر والخيلاء ، ولم يكتف بهذا القول بل خرج على قومه في زينة عظيمة. وأبهة فخمة ، فيها ما فيها من ألوان الرياش والخدم.

وقد ذكر بعض المفسرين روايات متعددة ، في زينته التي خرج فيها ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها ، ويكفى أن نعلم أنها زينة فخمة ، لأنه لم يرد نص في تفاصيلها.

وأمام هذه الزينة الفخمة التي خرج فيها قارون ، انقسم الناس إلى فريقين ، فريق استهوته هذه الزينة ، وتمنى أن يكون له مثلها ، وقد عبر القرآن عن هذا الفريق بقوله : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

أى : خرج قارون على قومه في زينته ، فما كان من الذين يريدون الحياة الدنيا وزخارفها من قومه ، إلا أن قالوا على سبيل التمني والانبهار .. يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون من مال وزينة ورياش ، إنه لذو حظ عظيم ، ونصيب ضخم ، من متاع الدنيا وزينتها.

٤٣٨

هكذا قال الذين يريدون الحياة الدنيا. وهم الفريق الأول من قوم قارون. أما الفريق الثاني المتمثل في أصحاب الإيمان القوى ، والعلم النافع ، فقد قابلوا أصحاب هذا القول بالزجر والتعنيف ، وقد حكى القرآن ذلك عنهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ، ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ).

وكلمة (وَيْلَكُمْ) أصلها الدعاء بالهلاك ، وهي منصوبة بمقدر. أى : ألزمكم الله الويل.

ثم استعملت في الزجر والتعنيف والحض على ترك ما هو قبيح ، وهذا الاستعمال هو المراد هنا.

أى : وقال الذين أوتوا العلم النافع من قوم قارون. لمن يريدون الحياة الدنيا : كفوا عن قولكم هذا ، واتركوا الرغبة في أن تكونوا مثله ، فإن (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة (خَيْرٌ) مما تمنيتموه ، وهذا الثواب إنما هو (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) فلا تتمنوا عرض الدنيا الزائل.

وهذه المثوبة العظمى التي أعدها الله ـ تعالى ـ لمن آمن وعمل صالحا (وَلا يُلَقَّاها) أى : لا يظفر بها ، ولا يوفق للعمل لها (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على طاعة الله ـ تعالى ـ وعلى ترك المعاصي والشهوات.

قال صاحب الكشاف : والراجع في (وَلا يُلَقَّاها) للكلمة التي تكلم بها العلماء ، أو للثواب ، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة ، أو للسيرة والطريقة وهي الإيمان والعمل الصالح (١).

ثم جاءت بعد ذلك العقوبة لقارون ، بعد أن تجاوز الحدود في البغي والفخر والإفساد في الأرض. وقد حكى سبحانه ـ هذه العقوبة في قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ).

وقوله ـ تعالى ـ (فَخَسَفْنا) من الخسف وهو النزول في الأرض ، يقال : خسف المكان خسفا ـ من باب ضرب ـ إذا غار في الأرض. ويقال : خسف القمر ، إذا ذهب ضوؤه ، وخسف الله بفلان الأرض ، إذا غيبه فيها.

قال ابن كثير لما ذكر الله ـ تعالى ـ اختيال قارون في زينته ، وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح ـ عند البخاري من حديث الزهري عن سالم ـ أن أباه حدثه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا رجل يجر إزاره إذ خسف به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٣٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٦٦.

٤٣٩

أى. تمادى قارون في بغيه ، ولم يستمع لنصح الناصحين ، فغيبناه في الأرض هو وداره ، وأذهبناهما فيها إذهابا تاما.

(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أى : فما كان لقارون من جماعة أو عصبة تنصره من عذاب الله ، بأن تدفعه عنه ، أو ترحمه منه.

(وَما كانَ) قارون (مِنَ المُنْتَصِرِينَ) بل كان من الأذلين الذين تلقوا عقوبة الله ـ تعالى ـ باستسلام وخضوع وخنوع ، دون أن يستطيع هو أو قومه رد عقوبة الله ـ تعالى ـ.

ثم ـ بين ـ سبحانه ـ ما قاله الذين كانوا يتمنون أن يكونوا مثل قارون فقال ـ تعالى ـ : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ، لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ).

ولفظ «وى» اسم فعل بمعنى أعجب ، ويكون ـ أيضا ـ للتحسر والتندم ، وكان الرجل من العرب إذا أراد أن يظهر ندمه وحسرته على أمر فائت يقول : وى.

وقد يدخل هذا اللفظ على حرف «كأن» المشددة ـ كما في الآية ـ وعلى المخففة.

قال الجمل ما ملخصه قوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ) في هذا اللفظ مذاهب : أحدها : أن وى كلمة برأسها ، وهي اسم فعل معناها أعجب ، أى : أنا ، والكاف للتعليل ، وأن وما في حيزها مجرورة بها ، أى : أعجب لأن الله ـ تعالى ـ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .. وقياس هذا القول أن يوقف على «وى» وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائي.

الثاني : أن كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب معناه وصارت للخبر واليقين ، وهذا ـ أيضا يناسبه الوقف على وى.

الثالث : أن «ويك» كلمة برأسها ، والكاف حرف خطاب ، و «أن» معمولة لمحذوف. أى : أعلم أن الله يبسط .. وهذا يناسب الوقف على ويك وقد فعله أبو عمرو.

الرابع : أن أصل الكلمة ويلك ، فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف ـ أيضا ـ كما فعل أبو عمرو.

الخامس : أن (وَيْكَأَنَ) كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها : ألم تر .. ولم يرسم في القرآن إلا (وَيْكَأَنَ) ويكأنه متصلة في الموضعين .. ووصل هذه الكلمة عند القراءة لا خلاف بينهم فيه.

والمعنى : وبعد أن خسف الله ـ تعالى ـ الأرض بقارون ومعه داره ، أصبح الذين تمنوا أن يكونوا مثله (بِالْأَمْسِ) أى : منذ زمان قريب ، عند ما خرج عليهم في زينته ، أصبحوا

٤٤٠