التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ)(٣٥)

والمراد بالأجل في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ.). المدة التي قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير ، بجهة مدين.

والمعنى : ومكث موسى عشر سنين في مدين ، فلما قضاها وتزوج بإحدى ابنتي الشيخ الكبير ، استأذن منه (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أى وسار بزوجته متجها إلى مصر ليرى أقاربه وذوى رحمه ، أو إلى مكان آخر قيل : هو بيت المقدس.

(آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) ولفظ (آنَسَ) من الإيناس ، وهو إبصار الشيء ورؤيته بوضوح لا التباس معه ، حتى لكأنه يحسه بجانب رؤيته له.

أى : وخلال سيره بأهله إلى مصر ، رأى بوضوح وجلاء (مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً).

أى : رأى من الجهة التي تلى جبل الطور نارا عظيمة.

قال الآلوسى : «استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقة ، إلا أنه عبر عنه بالنار ، اعتبارا لاعتقاد موسى ـ عليه‌السلام ـ ، وقال بعضهم : كان المبصر في صور النار الحقيقة ، وأما حقيقته ، فوراء طور العقل ، إلا أن موسى ـ عليه‌السلام ـ ظنه النار المعروفة» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً.). حكاية لما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ لزوجته ومن معها عند ما أبصر النار.

أى : عند ما أبصر موسى النار بوضوح وجلاء (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) في مكانكم (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) على مقربة منى وسأذهب إليها.

(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) ينفعنا في مسيرتنا ، (أَوْ) أقتطع لكم منها (جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ).

قال الجمل : قرأ حمزة : (أَوْ جَذْوَةٍ) بضم الجيم. وقرأ عاصم بالفتح ، وقرأ الباقون بالكسر ، وهي لغات في العود الذي في رأسه نار ، هذا هو المشهور. وقيده بعضهم فقال : في رأسه نار من غير لهب ، وقد ورد ما يقتضى وجود اللهب فيه ، وقيل : الجذوة العود الغليظ سواء أكان في رأسه نار أم لم يكن. وليس المراد هنا إلا ما في رأسه نار. (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٧٢.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٤٦.

٤٠١

وقوله : (تَصْطَلُونَ) من الاصطلاء بمعنى الاقتراب من النار للاستدفاء بها من البرد. والطاء فيه مبدلة من تاء الافتعال.

أى : قال موسى لأهله امكثوا في مكانكم حتى أرجع إليكم ، فإنى أبصرت نارا سأذهب إليها ، لعلى آتيكم من جهتها بخبر يفيدنا في رحلتنا ، أو أقتطع لكم منها قطعة من الجمر ، كي تستدفئوا بها من البرد.

قال ابن كثير ما ملخصه : وكان ذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم ، وسار بأهله. قيل : قاصدا بلاد مصر بعد أن طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته ، فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية. ونزل منزلا بين شعاب وجبال ، في برد وشتاء ، وسحاب وظلام وضباب وجعل يقدح بزند معه ليورى نارا ـ أى : ليخرج نارا ـ كما جرت العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ، ولا يخرج منه شرر ولا شيء ، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ : ما حدث لموسى بعد أن وصل إلى الجهة التي فيها النار فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ، أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ).

والضمير في «أتاها» ، يعود إلى النار التي رآها. وشاطئ الوادي : جانبه ، والأيمن : صفته.

أى : فحين أتى موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى النار التي أبصرها ، (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) أى سمع نداء من الجانب الأيمن بالنسبة له ، أى : لموسى وهو يسير إلى النار التي رآها ، فمن لابتداء الغاية.

ويرى بعضهم أن المراد بالأيمن. أى : المبارك ، مأخوذ من اليمن بمعنى البركة.

وقوله : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متعلق بقوله (نُودِيَ) أو بمحذوف حال من الشاطئ.

وقوله : (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل اشتمال من شاطئ الوادي ، فإنه كان مشتملا عليها.

والبقعة : اسم للقطعة من الأرض التي تكون غير هيئة القطعة المجاورة لها وجمعها بقع ـ بضم الباء وفتح القاف ـ وبقاع.

ووصفت بالبركة : لما وقع فيها من التكليم والرسالة لموسى ، وإظهار المعجزات والآيات على يديه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٠.

٤٠٢

أى : فلما اقترب موسى من النار ، نودي من ذلك المكان الطيب ، الكائن على يمينه وهو يسير إليها. والمشتمل على البقعة المباركة من ناحية الشجرة.

ولعل التنصيص على الشجرة ، للإشارة إلى أنها كانت الوحيدة في ذلك المكان.

و (أَنْ) في قوله ـ تعالى ـ : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) تفسيرية ، لأن النداء قول.

أى : نودي أن يا موسى تنبه وتذكر إنى أنا الله رب العالمين.

قال الإمام ابن كثير : وقوله ـ تعالى ـ : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أى : الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين ، الفعال لما يشاء لا إله غيره. ولا رب سواه ، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله ـ سبحانه ـ : (١).

«قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) معطوف على قوله (أَنْ يا مُوسى) فكلاهما مفسر للنداء ، والفاء في قوله (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) فصيحة.

والمعنى : نودي أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين ، ونودي أن ألق عصاك ، فألقاها. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أى تضطرب بسرعة (كَأَنَّها جَانٌ) أى : كأنها في سرعة حركتها وشدة اضطرابها (جَانٌ) أى : ثعبان يدب بسرعة ويمرق في خفة ولى مدبرا ولم يعقب. أى : ولى هاربا خوفا منها ، دون أن يفكر في العودة إليها. ليتبين ماذا بها ، وليتأمل ما حدث لها.

يقال : عقب المقاتل إذا كر راجعا إلى خصمه ، بعد أن فر من أمامه.

وهنا جاءه النداء مرة أخرى ، في قوله ـ تعالى ـ : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).

أى : يا موسى أقبل نحو المكان الذي كنت فيه ، ولا تخف مما رأيته ، إنك من عبادنا الآمنين عندنا ، المختارين لحمل رسالتنا.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بأمر آخر فقال : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.) ..

ولفظ (اسْلُكْ) من السلك ـ بتشديد السين مع الفتح ـ بمعنى إدخال الشيء في الشيء.

أى : أدخل يدك يا موسى في فتحة ثوبك ، تخرج بيضاء من غير سوء مرض أو عيب (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) والجناح : اليد ، والرهب : الخوف والفزع.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٤.

٤٠٣

والمقصود بالجملة الكريمة (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) إرشاد موسى إلى ما يدخل الطمأنينة على قلبه ، ويزيل خوفه.

والمعنى : افعل يا موسى ما أمرناك به ، فإذا أفزعك أمر يدك وما تراه من بياضها وشعاعها ، فأدخلها في فتحة ثوبك ، تعد إلى حالتها الأولى.

وإذا انتابك خوف عند معاينة الحية ، فاضمم يدك إلى صدرك ، يذهب عنك الخوف.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب ، فاتقاها بيده ، كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة ـ أى منقصة ـ عند الأعداء فإذا ألقيتها فعند ما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى.

والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه ، تجلده وضبط نفسه ، وتشدده عند انقلاب العصا حية ، حتى لا يضطرب ولا يرهب ... (١).

واسم الإشارة في قوله ، فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه .. يعود إلى العصا واليد. والتذكير لمراعاة الخبر وهو (بُرْهانانِ) والبرهان : الحجة الواضحة النيرة التي تلجم الخصم ، وتجعله لا يستطيع معارضتها. أى : فهاتان المعجزتان اللتان أعطيناك إياهما يا موسى ، وهما العصا واليد ، حجتان واضحتان كائنتان (مِنْ رَبِّكَ) فاذهب بهما إلى (فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) لكي تبلغهم رسالتنا ، وتأمرهم بإخلاص العبادة لنا.

(إِنَّهُمْ) أى : فرعون وملئه (كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أى : خارجين من الطاعة إلى المعصية. ومن الحق إلى الباطل.

وهنا تذكر موسى ما كان بينه وبين فرعون وقومه من عداوة ، فقال : (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) إذا ذهبت إليهم بهذه الآيات. وهو عليه‌السلام ـ لا يقول ذلك ، هروبا من تبليغ رسالة الله ـ تعالى ـ وإنما ليستعين برعايته ـ عزوجل ـ وبحفظه. عند ما يذهب إلى هؤلاء الأقوام الفاسقين.

ثم أضاف إلى ذلك قوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أى هو أقدر منى على المدافعة عن الدعوة وعلى تبيان الحق وتوضيحه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٠٨.

٤٠٤

(فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) والردء : العون والنصير.

يقال : ردأته على عدوه وأردأته ، إذا أعنته عليه. وردأت الجدار إذا قويته بما يمنعه من أن ينقض.

أى : فأرسل أخى هارون معى إلى هؤلاء القوم ، لكي يساعدني ويعينني على تبليغ رسالتك. ويصدقني فيما سأدعوهم إليه ، ويخلفني إذا ما اعتدى على. (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) إذا لم يكن معى أخى هارون يعينني ويصدقني.

والمتأمل في هذا الكلام الذي ساقه الله ـ تعالى ـ على لسان موسى ـ عليه‌السلام ـ يرى فيه إخلاصه في تبليغ رسالة ربه ، وحرصه على أن يؤتى هذا التبليغ ثماره الطيبة على أكمل صورة ، وأحسن وجه.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟

قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له صدقت ، أو يقول للناس صدق أخى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفار كما يصدق القول بالبرهان. وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك ، لا لقوله : صدقت ، فإن سحبان وباقلا يستويان فيه (١).

ثم حكى القرآن بعد ذلك ، أن الله ـ تعالى ـ قد أجاب لموسى رجاءه فقال : (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ).

شد العضد : كناية عن التقوية له ، لأن اليد تشتد وتقوى ، بشدة العضد وقوته. وهو من المرفق إلى الكتف.

أى قال ـ سبحانه ـ لقد استجبنا لرجائك يا موسى ، وسنقويك ونعينك بأخيك (وَنَجْعَلُ لَكُما) بقدرتنا ومشيئتنا (سُلْطاناً) أى : حجة وبرهانا وقوة تمنع الظالمين (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بأذى ولا يتغلبان عليكما بحجة.

وقوله (بِآياتِنا) متعلق بمحذوف. أى : فوضا أمركما إلى ، واذهبا إلى فرعون وقومه بآياتنا الدالة على صدقكما.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) مؤكد لمضمون ما قبله. من تقوية قلب موسى ، وتبشيره بالغلبة والنصر على أعدائه.

أى : أجبنا طلبك يا موسى ، وسنقويك بأخيك ، فسيرا إلى فرعون وقومه ، فسنجعل لكما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤١٠.

٤٠٥

الحجة عليهم. وستكونان أنتما ومن اتبعكما من المؤمنين أصحاب الغلبة والسلطان على فرعون وجنده.

ونفذ موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ أمر ربهما ـ عزوجل ـ فذهبا إلى فرعون ليبلغاه دعوة الحق ، وليأمراه بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

وتحكى الآيات الكريمة بعد ذلك ما دار بين موسى وبين فرعون وقومه من محاورات ومجادلات ، انتهت بانتصار الحق ، وهلاك الباطل .. تحكى الآيات كل ذلك فتقول :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا

٤٠٦

مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٤٣)

والمراد بالآيات في قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) : العصا واليد. وجمعهما تعظيم لشأنهما ، ولاشتمال كل واحدة منهما على دلائل متعددة على صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ فيما جاء به من عند ربه ـ تعالى ـ.

والمعنى : ووصل موسى إلى فرعون وقومه ، ليأمرهم بعبادة الله وحده ، فلما جاءهم بالمعجزات التي أيدناه بها ، والتي تدل على صدقه دلالة واضحة.

(قالُوا) له على سبيل التبجح والعناد (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أى : قالوا له : ما هذا الذي جئت به يا موسى إلا سحر أتيت به من عند نفسك.

ثم أكدوا قولهم الباطل هذا بآخر أشد منه بطلانا ، فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

أى : وما سمعنا بهذا الذي جئتنا به يا موسى ، من الدعوة إلى عبادة الله وحده ومن إخبارك لنا بأنك نبي .. ما سمعنا بشيء من هذا كائنا أو واقعا في عهد آبائنا الأولين وقولهم هذا يدل على إعراضهم عن الحق ، وعكوفهم على ما ألفوه بدون تفكر أو تدبر وقد رد عليهم موسى ردا منطقيا حكيما ، حكاه القرآن في قوله : (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ.) ..

أى : وقال موسى في رده على فرعون وملئه : ربي الذي خلقني وخلقكم ، أعلم منى ومنكم بمن جاء بالهدى والحق من عنده ، وسيحكم بيني وبينكم بحكمه العادل.

ولم يصرح موسى ـ عليه‌السلام ـ بأنه يريد نفسه ، بالإتيان بالهداية لهم من عند الله ـ تعالى ـ ليكفكف من عنادهم وغرورهم ، وليرخى لهم حبل المناقشة ، حتى يخرس ألسنتهم عن طريق المعجزات التي أيده الله ـ تعالى ـ بها.

وقوله : (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) معطوف على ما قبله.

أى : وربي ـ أيضا ـ أعلم منى ومنكم بمنى تكون له النهاية الحسنة ، والعاقبة الحميدة.

قال الآلوسي : وقوله : (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) وهي الدنيا ، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها ، بما يفضى به إلى الجنة بفضل الله ـ تعالى ـ وكرمه. (١)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٧٩.

٤٠٧

وقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصديه ببان سنة من سننه ـ تعالى ـ التي لا تتخلف أى إنه ـ سبحانه ـ قد اقتضت سنته أن لا يفوز الظالمون بمطلوب بل الذين يفوزون بالعاقبة الحميدة هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.

ولكن هذا الرد المهذب الحكيم من موسى ـ عليه‌السلام ـ ، لم يعجب فرعون المتطاول المغرور فأخذ في إلقاء الدعاوى الكاذبة ، التي حكاها القرآن عنه في قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).

أى : وقال فرعون لقومه ـ على سبيل الكذب والفجور ـ يا أيها الأشراف من أتباعى. إنى ما علمت لكم من إله سواي.

وقوله هذا يدل على ما بلغه من طغيان وغرور ، فكأنه يقول لهم : إنى لم أعلم بأن هناك إلها لكم سواي ، ومالا أعلمه فلا وجود له.

وقد قابل قومه هذا الهراء والهذيان ، بالسكوت والتسليم ، شأن الجهلاء الجبناء وصدق الله إذ يقول : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (١) ثم تظاهر بعد ذلك بأنه جاد في دعواه أمام قومه بأنه لا إله لهم سواه ، وأنه حريص على معرفة الحقيقة ، فقال لوزيره هامان : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى).

والصرح : البناء الشاهق المرتفع. أى : فاصنع لي يا هامان من الطين آجرا قويا ، ثم هيئ لي منه بناء عاليا مكشوفا. أصعد عليه ، لعلى أرى إله موسى من فوقه. والمراد بالظن في قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) اليقين. أى : وإنى لمتيقن أن موسى من الكاذبين في دعواه أن هناك إلها غيرى .. في هذا الكون.

وهكذا. استخف فرعون بعقول قومه الجاهلين الجبناء ، فأفهمهم أنه لا إله لهم سواه ، وأن موسى كاذب فيما ادعاه.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ). (٢) قال ابن كثير : وذلك لأن فرعون ، بنى هذا الصرح ، الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه ،

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٥٤.

(٢) سورة غافر الآيتان ٣٦ ، ٣٧.

٤٠٨

وإنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته ، تكذيب موسى فيما قاله من أن هناك إلها غير فرعون. ولهذا قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) أى : في قوله إن ثم ربا غيرى. (١) ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي حملت فرعون على هذا القول الساقط الكاذب ، فقال : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ).

والاستكبار : التعالي والتطاول على الغير بحمق وجهل. أى : وتعالى فرعون وجنوده في الأرض التي خلقناها لهم ، دون أن يكون لهم أى حق في هذا التطاول والتعالي ، وظنوا واعتقدوا أنهم إلينا لا يرجعون ، لمحاسبتهم ومعاقبتهم يوم القيامة.

فماذا كانت نتيجة ذلك التطاول والغرور ، والتكذيب بالبعث والحساب؟ لقد كانت نتيجته كما قال ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ).

والنبذ : الطرح والإهمال للشيء لحقارته وتفاهته.

أى : فأخذنا فرعون وجنوده بالعقاب الأليم أخذا سريعا حاسما فألقينا بهم في البحر ، كما يلقى بالنواة أو الحصاة التي لا قيمة لها ، ولا اعتداد بها.

(فَانْظُرْ) أيها العاقل نظر تدبر واعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)؟ لقد كانت عاقبتهم الإغراق الذي أزهق أرواحهم واستأصل باطلهم.

(وَجَعَلْناهُمْ) أى : فرعون وجنوده ، (أَئِمَّةً) في الكفر والفسوق والعصيان بسبب أنهم (يَدْعُونَ) ، غيرهم إلى ما يوصل (إِلَى النَّارِ) وسعيرها والاحتراق بها.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أى : ويوم القيامة لا يجدون من ينصرهم ، بأن يدفع العذاب عنهم بأية صورة من الصور.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا) التي قضوا حياتهم فيها في الكفر والضلال ، أتبعناهم فيها (لَعْنَةً) أى : طردا وإبعادا عن رحمتنا.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) والشيء المقبوح : هو المطرود المبعد عن كل خير. أى : وهم يوم القيامة ـ أيضا ـ من المبعدين عن رحمتنا ، بسبب كفرهم وفسوقهم.

والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) يتناسب كل التناسب مع ما كانوا عليه في الدنيا من تطاول وغرور واستعلاء.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٨.

٤٠٩

فهؤلاء الذين كانوا في الدنيا كذلك ، صاروا في الآخرة محل الازدراء وقبح الهيئة والاشمئزاز من كل عباد الله المخلصين.

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة موسى ببيان جانب مما منحه ـ عزوجل ـ له من نعم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أى آتيناه التوراة لتكون هداية ونورا (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أى : أنزلنا التوراة على موسى ، من بعد إهلاكنا للقرون الأولى من الأقوام المكذبين ، كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم.

قال الآلوسى : «والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها ، تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن إهلاك القرون الأولى. من موجبات اندراس معالم الشرائع ، وانطماس آثارها ، المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم وكل ذلك يستدعى تشريعا جديدا. (١)

وقوله ـ تعالى ـ (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً) منصوب على أنه مفعول لأجله أو حال أى : آتيناه التوراة من أجل أن تكون أنوارا لقلوبهم يبصرون بها الحقائق ، كما يبصرون بأعينهم المرئيات ، ومن أجل أن تكون هداية لهم إلى الصراط المستقيم ، ورحمة لهم من العذاب.

وقوله ـ سبحانه ـ (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) تعليل لهذا الإيتاء ، وحض لهم على الشكر.

أى آتيناهم الكتاب الذي عن طريقه يعرفون الحق من الباطل .. كي يكونوا دائما متذكرين لنعمنا ، وشاكرين لنا على هدايتنا لهم ورحمتنا بهم.

وإلى هنا نرى السورة الكريمة ، قد حدثتنا عن جوانب متعددة من حياة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

حدثتنا عن رعاية الله ـ تعالى ـ له حيث أراد له أن يعيش في بيت فرعون وأن يحظى برعاية امرأته ، وأن يعود بعد ذلك إلى أمه كي تقر عينها به ، دون أن يصيبه أذى من فرعون الذي كان يذبح الذكور من بنى إسرائيل ويستحيى نساءهم.

ثم حدثتنا عن رعاية الله ـ تعالى ـ له ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، حيث نجاه من القوم الظالمين ، بعد أن قتل واحدا منهم.

ثم حدثتنا عن رعاية الله ـ تعالى ـ له ، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب متجها إلى

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٨٤.

٤١٠

قرية مدين ، التي قضى فيها عشر سنين أجيرا عند شيخ كبير من أهلها.

ثم حدثتنا عن رعاية الله ـ تعالى ـ له ، بعد أن قضى تلك المدة ، وسار بأهله متجها إلى مصر ، وكيف أن الله ـ تعالى ـ أمره بتبليغ رسالته إلى فرعون وقومه ، وأنه ـ عليه‌السلام ؛ ـ قد لبى أمر ربه ـ سبحانه ـ وبلغ رسالته على أتم وجه وأكمله ، فكانت العاقبة الطيبة له ولمن آمن به ، وكانت النهاية الأليمة لفرعون وجنوده.

وهكذا طوفت بنا السورة الكريمة مع قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ ذلك التطواف الذي نرى فيه رعاية الله ـ تعالى ـ لموسى ، وإعداده لحمل رسالته ، كما نرى فيه نماذج متنوعة لأخلاقه الكريمة ، ولهمته العالية ، ولصبره على تكاليف الدعوة ، ولسنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، تلك السنن التي لا تتخلف في بيان أن العاقبة الحسنة للمتقين ، والعاقبة القبيحة للكافرين والفاسقين.

ثم بدأت السورة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي بيان أن هذا القرآن من عند الله ، وفي بيان جانب من شبهات المشركين ، ثم تلقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرد المزهق لها .. لنستمع إلى الآيات الكريمة التي تحكى لنا بأسلوبها البليغ ، هذه المعاني وغيرها فتقول :

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا

٤١١

لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٥١)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ.). للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بجانب الغربي : الجانب الغربي لجبل الطور الذي وقع فيه الميقات ، وفيه تلقى موسى التوراة من ربه ـ تعالى ـ.

أى : وما كنت ـ أيها الرسول الكريم ـ حاضرا في هذا المكان ، (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أى ، وقت أن كلفناه بحمل رسالتنا ، وأنزلنا إليه التوراة ، لتكون هداية ونورا له ولقومه.

(وَما كُنْتَ) أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ (مِنَ الشَّاهِدِينَ) لذلك ، حتى تعرف حقيقة ما كلفنا به أخاك موسى ، فتبلغه للناس عن طريق المشاهدة.

فالمقصود بالآية بيان أن ما بلغه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس عن أخبار الأولين ، إنما بلغه عن طريق الوحى الذي أوحاه الله ـ تعالى ـ إليه ، وليس عن طريق آخر.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يقول ـ تعالى ـ منبها على برهان نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم ، وهو رجل أمى لا يقرأ شيئا من الكتب ، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك ، كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها ، قال ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٤٤.

٤١٢

ثم قال ـ تعالى ـ : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ). (١)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) بيان للأسباب التي من أجلها قص الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبار الأمم السابقة.

أى : أنت أيها الرسول الكريم ـ لم تكن معاصرا لتلك الأحداث ولكن أخبرناك بها عن طريق الوحى ، والسبب في ذلك أن بينك وبين موسى وغيره من الأنبياء أزمانا طويلة ، تغيرت فيه الشرائع والأحكام ، وعميت على الناس الأنباء ، فكان من الخير والحكمة أن نقص عليك أخبار السابقين بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، حتى يعرف الناس الأمور على وجهها الصحيح.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف يتصل قوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) بهذا الكلام؟

قلت : اتصاله به وكونه استدراكا له ، من حيث إن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحى إلى عهدك قرونا طويلة (فَتَطاوَلَ) على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم (الْعُمُرُ).

أى : أمد انقطاع الوحى ، واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وأكسبناك ـ أى : وأعطيناك ـ العلم بقصص الأنبياء .. فذكر سبب الوحى الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب ، على عادة الله ـ تعالى ـ في اختصاراته (٢) وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) مؤكدة لمضمون ما قبله. من عدم معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأخبار السابقين إلا عن طريق الوحى.

وقوله : (ثاوِياً) من الثواء بمعنى الإقامة. يقال : ثوى فلان بالمكان يثوى ثواء فهو ثاو ، إذا أقام فيه. والمثوى : المنزل ، ومنه الأثر القائل : أصلحوا مثاويكم ، أى : منازلكم.

أى : وما كنت ـ أيها الرسول الكريم ـ مقيما في أهل مدين ، وقت تلاوتك على أهل مكة المكرمة ، قصة موسى والشيخ الكبير وما جرى بينهما ، حتى تنقلها إليهم بطريق المشاهدة وإنما أنت أخبرتهم بها عن طريق وحينا الصادق المتمثل فيما أنزلناه عليك من آيات القرآن البينات.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤١٧.

٤١٣

فالضمير في قوله (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) يعود على أهل مكة. والجملة حالية.

ويرى أكثر المفسرين أن الضمير لأهل مدين ، أى وما كنت مقيما في أهل مدين ، تقرأ عليهم آياتنا ، وتتعلم منهم ، والجملة حالية ـ أيضا ـ أو خبر ثان.

وعلى كلا التفسيرين فالمقصود بالجملة الكريمة إثبات أن ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأولين ، إنما هو عن طريق الوحى ليس غير.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أى : ولكنا كنا مرسلين لك ، وموحين إليك بتلك الآيات وفيها ما فيها عن أخبار الأولين. لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يؤكد هذه المعاني تأكيدا قويا ، حتى يخرس ألسنة الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا).

أى وما كنت ـ أيضا أيها الرسول الكريم ـ بجانب الجبل المسمى بالطور وقت أن نادينا موسى ، وكلفناه بحمل رسالتنا ، وأعطيناه التوراة ، وأوحينا إليه بما أوحينا من أحكام وتشريعات.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أى : ولكن فعلنا ما فعلنا ، بأن أرسلناك إلى الناس ، وقصصنا عليك ما نريده من أخبار الأولين ، من أجل رحمتنا بك وبالناس ، حتى يعتبروا ويتعظوا بأحوال السابقين ، فالعاقل من اتعظ بغيره.

فقوله ـ تعالى ـ : (رَحْمَةً) منصوب على أنه مفعول لأجله ، أو على المصدرية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) متعلق بالفعل المعلل بالرحمة ، والمراد بالقوم : أهل مكة وغيرهم ممن بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم.

وجملة (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) صفة لقوله (قَوْماً) و (ما) موصولة مفعول ثان لتنذر ، وقوله : (مِنْ نَذِيرٍ) متعلق.

أى : أرسلناك رحمة ، لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك ، وكما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).

ويصح أن تكون (ما) نافية و (مِنْ) في قوله (مِنْ نَذِيرٍ) للتأكيد ، فيكون المعنى : أرسلناك رحمة لتنذر هؤلاء المشركين من أهل مكة الذين لم يأتهم نذير من قبلك منذ أزمان متطاولة. إذ الفترة التي بينك وبين أبيهم إسماعيل تزيد على ألفى سنة.

ورسالة إسماعيل إليهم قد اندرست معالمها ، فكانت الحكمة والرحمة تقتضيان إرسالك إليهم لتنذرهم سوء عاقبة الشرك.

٤١٤

أما معظم الرسل من قبلك ـ كموسى وعيسى وزكريا ويحيى وداود وسليمان فكانت مع تباعد زمانها عنك ـ أيضا ـ إلى غيرهم من بنى إسرائيل ، ومن الأمم الأخرى. المتناثرة في أطراف الجزيرة العربية.

فالمراد بالقوم على هذا الرأى : العرب المعاصرون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال ـ تعالى ـ : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ).

ولعل هذا الرأى أقرب إلى سياق الآيات ، وإلى إقامة الحجة على مشركي قريش ، الذين وقفوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقف المكذب لرسالته ، المعادى لدعوته.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) تذييل قصد به حضهم على التذكر والاعتبار.

أى : أرسلناك إليهم كي يتذكروا ما ترشدهم إليه ، ويعتبروا بما جئتهم به ، ويخشوا سوء عاقبة مخالفة إنذارك لهم.

ثم أبطل ـ سبحانه ـ ما يتعللون به من معاذير فقال : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

و (لَوْ لا) الأولى : امتناعية ، تدل على امتناع الجواب لوجود الشرط ، وجوابها محذوف لدلالة الكلام عليه ، و «أن» وما في حيزها في محل رفع بالابتداء.

و (لَوْ لا) الثانية : تحضيضية ، وجوابها قوله (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ.). وجملة (فَيَقُولُوا) عطف على (أَنْ تُصِيبَهُمْ) ومن جملة ما في حيز (لَوْ لا) الأولى.

والمعنى : ولو لا أن تصيب هؤلاء المشركين (مُصِيبَةٌ) أى عقوبة شديدة. بسبب اقترافهم الكفر والمعاصي (فَيَقُولُوا) على سبيل التعلل عند نزول العقوبة بهم (رَبَّنا) أى : يا ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) الدالة على صدقه (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) به وبما جاء به من آيات من عندك.

أى : ولو لا قولهم هذا ، وتعللهم بأنهم ما حملهم على الكفر ، إلا عدم مجيء رسول إليهم يبشرهم وينذرهم .. لو لا ذلك لما أرسلناك إليهم ، ولكنا أرسلناك إليهم لنقطع حجتهم ، ونزيل تعللهم ، ونثبت لهم أن استمرارهم على كفرهم ـ بعد إرسالك إليهم ، كان بسبب عنادهم وجحودهم ، واستحواذ الشيطان عليهم.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أى : وأرسلناك إليهم ـ يا محمد لتقيم عليهم الحجة ، ولتقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بسبب كفرهم ، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير ، كما قال ـ تعالى ـ بعد ذكره إنزال كتابه

٤١٥

المبارك وهو القرآن : (أَنْ تَقُولُوا : إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا : لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) .. (١) ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك موقفهم بعد مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فقال : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى).

أى : ظل مشركو قريش أزمانا متطاولة دون أن يأتيهم رسول ينذرهم ويبشرهم (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) متمثلا في رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما أيدناه به من معجزات دالة على صدقه ، وعلى رأسها القرآن الكريم.

لما جاءهم هذا الرسول الكريم (قالُوا) على سبيل التعنت والجحود : هلا أوتى هذا الرسول مثل ما أوتى موسى ، من توراة أنزلت عليه جملة واحدة ومن معجزات حسية منها العصا واليد والطوفان ، والجراد ... إلخ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ.). رد عليهم لبيان أن ما قالوه هو من باب العناد والتعنت ، والاستفهام لتقرير كفرهم وتأكيده.

أى : قالوا ما قالوا على سبيل الجحود ، والحال أن هؤلاء المشركين كفروا كفرا صريحا بما أعطاه الله ـ تعالى ـ لموسى من قبلك ـ يا محمد ـ من معجزات ، كما كفروا بالمعجزات التي جئت بها من عند ربك ، فهم دينهم الكفر بكل حق.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض أقوالهم الباطلة فقال : (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ، وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ).

وقوله : (سِحْرانِ) خبر لمبتدأ محذوف. أى : قالوا ما يقوله كل مجادل بغير علم : هما ـ أى ما جاء به موسى وما جاء به محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ، (سِحْرانِ تَظاهَرا) أى : تعاونا على إضلالنا ، وإخراجنا عن ديننا ، وقالوا ـ أيضا ـ (إِنَّا بِكُلٍ) أى بكل واحد مما جاءوا به (كافِرُونَ) كفرا لا رجوع معه إلى ما جاء به هذان النبيان ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.

قال الآلوسى : وقوله : (قالُوا) استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق ، وبيان كيفيته ، و (سِحْرانِ) ، يعنون بهما ما أوتى نبينا وما أوتى موسى ..

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٥١.

٤١٦

(تَظاهَرا) أى : تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر ، وتأييده إياه ، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم ، فسألوهم عن شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود. قالوا ذلك.

وقرأ الأكثرون قالوا ساحران تظاهرا وأرادوا بهما محمد وموسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحداهم ، وأن يفحمهم بما يخرس ألسنتهم فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاحدين : لقد أنزل الله ـ تعالى ـ على موسى التوراة. وأنزل القرآن على ، وأنا مؤمن بهما كل الإيمان ، فإن كنتم أنتم مصرون على كفركم (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، هُوَ أَهْدى مِنْهُما) أى هو أوضح منهما وأبين في الإرشاد إلى الطريق المستقيم.

وقوله (أَتَّبِعْهُ) مجزوم في جواب الأمر المحذوف ، أى : إن تأتوا به أتبعه .. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أن القرآن والتوراة نوع من السحر.

فالآية الكريمة تتهكم بهم ، وتسخر منهم ، بأسلوب بديع معجز ، لأنه من المعروف لكل عاقل أنهم ليس في استطاعتهم ـ ولا في استطاعة غيرهم ـ أن يأتوا بكتاب. أهدى من الكتابين اللذين أنزلهما ـ سبحانه ـ على نبيين كريمين من أنبيائه ، هما موسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ.

ولذا قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وهذا الشرط يأتى به المدل بالأمر المتحقق لصحته ، لأن امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين. أمر معلوم متحقق. لا مجال فيه للشك ، ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم بهم (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) زيادة في تثبيت قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما أصابه منهم من أذى.

أى : فإن لم يفعلوا ما تحديتهم به ، من الإتيان بكتاب هو أهدى من الكتابين.

(فَاعْلَمْ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الباطلة ، وشهواتهم الزائفة ، عند ما يجادلونك في شئون دعوتك.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ح ٢٠ ص ٩١.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٢٠.

٤١٧

والاستفهام في قوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ.). للنفي والإنكار.

أى : ولا أحد أضل ممن اتبع هواه وشيطانه ، دون أن تكون معه هداية من الله ـ تعالى ـ تهديد إلى طريق الحق ، لأن هذا الضال قد استحب العمى على الهدى. وآثر الغواية على الرشد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل مبين لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه.

أى : إنه ـ سبحانه ـ جرت سنته أن لا يهدى القوم الظالمين إلى طريق الحق بسبب إصرارهم على الباطل ، وتجاوزهم لكل حدود الحق والخير.

ثم أكد ـ سبحانه ـ قطع أعذارهم وحججهم بقوله : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

وقوله. (وَصَّلْنا) من الوصل الذي هو ضد القطع ، والتضعيف فيه للتكثير.

أى : ولقد أنزلنا هذا القرآن عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ متتابعا ، وأنت أوصلته إليهم كذلك ، ليتصل تذكيرك لهم ، عن طريق ما اشتمل عليه من عقائد وآداب وأحكام وقصص.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أى : ليكون ذلك أقرب إلى تذكرهم وتعقلهم وتدبرهم ، لأن استماعهم في كل يوم. أو بين الحين والحين إلى جديد منه ، أدعى إلى تذكرهم واعتبارهم.

فالمقصود بالآية الكريمة. قطع كل حجة لهم ، وبيان أن القرآن الكريم قد أنزله ـ سبحانه ـ متتابعا ولم ينزله جملة واحدة ، لحكم من أعظمها اتصال التذكير بهداياته بين حين وآخر ، على حسب ما يجد في المجتمع من أحداث.

وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد أقامت ألوانا من الحجج والبراهين ، على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، كما حكت جانبا من شبهات المشركين ، وردت عليها بما يبطلها.

ثم تمدح السورة الكريمة بعد ذلك ، طائفة من أهل الكتاب ، استقامت قلوبهم ، وخلصت نفوسهم من العناد ، فاستقبلوا آيات الله ـ تعالى ـ ومن جاء بها استقبالا يدل على صدق إيمانهم ، فقال ـ تعالى ـ :

٤١٨

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ)(٥٥)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : أنها نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشيّ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قدموا عليه ، قرأ عليهم سورة يس ، فجعلوا يبكون وأسلموا.

وقيل : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من اليهود.

وقيل : نزلت في نصارى نجران.

وعلى أية حال فالآيات الكريمة تمدح قوما من أهل الكتاب أسلموا ، وتعرض بالمشركين الذين أعرضوا عن دعوة الإسلام ، مع أن في اتباعها سعادتهم ورشدهم.

والضمير في قوله (مِنْ قَبْلِهِ) يعود إلى القرآن الكريم ، أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد بالموصول من آمن من أهل الكتاب ، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل.

أى : الذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى من قبل نزول القرآن عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ هم به يؤمنون ، لأنهم يرون فيه الحق الذي لا باطل معه ، والهداية التي لا ننشوبها ضلالة.

(وَإِذا يُتْلى) عليهم هذا القرآن (قالُوا) بفرح وسرور (آمَنَّا بِهِ) بأنه كلام الله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) أى : إنه الكتاب المشتمل على الحق الكائن من عند ربنا وخالقنا (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أى : من قبل نزوله (مُسْلِمِينَ) وجوهنا لله ـ تعالى ـ ، ومخلصين له العبادة.

٤١٩

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين الاستئنافين (إِنَّهُ) و (إِنَّا)؟

قلت : الأول تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني : بيان لقوله : (آمَنَّا بِهِ) لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، لأن آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره ؛ وأبناءهم من بعدهم ، (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء الأخيار من ثواب فقال : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا).

أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة يؤتون أجرهم مضاعفا بسبب صبرهم على مغالبة شهواتهم ، وبسبب صبرهم على ما يستلزمه اتباع الحق من تكاليف.

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) ثبت في صحيح مسلم عن أبى موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وأدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله ـ عزوجل ـ وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن تغذيتها ، ثم أدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران».

قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ، فالكتابى كان مخاطبا من جهة نبيه ، ثم إنه خوطب من جهة نبينا ، فأجابه واتبعه فله أجر الملتين» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) بيان لصفة أخرى من صفاتهم الحسنة.

و (يَدْرَؤُنَ) من الدرء بمعنى الدفع ومنه الحديث الشريف : «ادرءوا الحدود بالشبهات».

أى : لا يقابلون السيئة بمثلها ، وإنما يعفون ويصفحون ، ويقابلون الكلمة الخبيثة بالكلمة الحسنة.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أى : ومما أعطيناهم من مال يتصدقون ، بدون إسراف أو تقتير.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) أى : وإذا سمعوا الكلام الساقط الذي لا خير فيه.

انصرفوا عنه تكرما وتنزها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٢٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٩٧.

٤٢٠