التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

والحزن ـ ، ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضى ما قالوا. ولكن إذا نظرنا إلى معنى السياق ، فإنه تبقى اللام للتعليل ، لأن معناه : أن الله ـ تعالى ـ قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوا وحزنا ، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه (١).

ومع وجاهة الرأيين ، إلا أننا نميل إلى الرأى الثاني ، لأنه ـ كما قال الإمام ابن كثير ـ أبلغ في إبطال حذرهم منه ، ولأن قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) يشير إلى أن اللام للتعليل ..

والمعنى : ونفذت أم موسى ما أوحيناه إليها ، فأرضعت ابنها موسى. وألقته في اليم حين خافت عليه القتل ، فالتقطه آل فرعون من اليم ، ليكون لهم عدوا وحزنا ، وليعلموا أن ما أردناه لا بد أن يتم مهما احترسوا واحتاطوا وحذروا ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) تعليل لما قبله ، و (خاطِئِينَ) أى : مرتكبين للخطيئة التي هي الذنب العظيم ، كقوله ـ تعالى ـ في قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ...).

وكقوله ـ سبحانه ـ في شأن الكافرين (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢).

أى : فعلنا ما فعلنا من جعل موسى عدوا وحزنا لفرعون وآله ، لأن فرعون ووزيره هامان ، وجنودهما الذين يناصرونهما ، كانوا مرتكبين للذنوب العظيمة في كل ما يأتون ويذرون ، ومن مظاهر ذلك قتلهم لذكور بنى إسرائيل ، وإبقاؤهم لإناثهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ..). بيان لما أنطق الله به امرأة فرعون للدفاع عن موسى ـ عليه‌السلام ـ.

قال الجمل : وامرأة فرعون هي : آسيا بنت مزاحم ، وكانت من خيار النساء ، ومن بنات الأنبياء ، وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم (٣).

ويكفى في مدحها قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ : رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٧.

(٢) سورة البقرة الآية ٨١.

(٣) حاشية الجمل في الجلالين ج ٣ ص ٣٣٧.

(٤) سورة التحريم آية ١١.

٣٨١

أى : وقالت امرأة فرعون بعد أن أخرج موسى من التابوت ، ورأته بين أيدى فرعون وآله : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) أى : هذا الطفل هو قرة عين لي ولك ، أى : هو محل السرور والفرح لعيني ولعينك يا فرعون.

فالجملة الكريمة كناية عن السرور به ، إذ لفظ (قُرَّتُ) مأخوذ من القرار بمعنى الاستقرار ، وذلك لأن العين إذا رأت ما تحبه ، استقر نظرها عليه ، وانشغلت به عن غيره.

ثم أضافت إلى ذلك قولها (لا تَقْتُلُوهُ) والخطاب لفرعون وجنده.

ثم عللت النهى عن قتله بقولها : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في مستقبل حياتنا ، فنجني من ورائه خيرا.

(أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لنا ، فإن هيئته وصورته تدل على النجابة والجمال واليمن وهكذا شاءت إرادة الله ـ تعالى ـ ، أن تجعل امرأة فرعون ، سببا في إنقاذ موسى من القتل ، وفي أن يعيش في بيت فرعون ، ليكون له في المستقبل عدوا وحزنا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة حالية ، أى : فعلوا ما فعلوا والحال أنهم لا يشعرون أن هلاكهم سيكون على يديه.

والظاهر أن هذه الجملة من كلام الله ـ تعالى ـ ، وليست حكاية لما قالته امرأة فرعون.

ثم صورت السورة الكريمة تصويرا بديعا مؤثرا ، ما كانت عليه أم موسى من لهفة وقلق ، بعد أن فارقها ابنها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً ..). أى : وبعد أن ألقت أم موسى به في اليم ، والتقطه آل فرعون ، وعلمت بذلك أصبح قلبها وفؤادها خاليا من التفكير في أى شيء في هذه الحياة ، إلا في شيء واحد وهو مصير ابنها موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وفي هذا التعبير ما فيه من الدقة في تصوير حالتها النفسية ، حتى لكأنها صارت فاقدة لكل شيء في قلبها سوى أمر ابنها وفلذة كبدها.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وقتادة .... وغيرهم (١).

و (إِنْ) في قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) هي المخففة من الثقيلة واسمها

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٣.

٣٨٢

ضمير الشأن ، وتبدى بمعنى تظهر ، من بدا الشيء يبدو بدوا وبداء إذا ظهر ظهورا واضحا.

والضمير في (بِهِ) يعود إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ.

أى : وصار فؤاد أم موسى فارغا من كل شيء سوى التفكير في مصيره ، وإنها كادت لتصرح للناس بأن الذي التقطه آل فرعون ، هو ابنها ، وذلك لشدة دهشتها وخوفها عليه من فرعون وجنده.

وجواب الشرط في قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) محذوف دل عليه ما قبله.

أى : لو لا أن ربطنا على قلبها بقدرتنا وإرادتنا. بأن ثبتناه وقويناه ، لأظهرت للناس أن الذي التقطه آل فرعون هو ابنها.

وأصل الربط : الشد والتقوية للشيء. ومنه قولهم فلان رابط الجأش ، أى : قوى القلب.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) علة لتثبيت قلبها وتقويته ، فهو متعلق بقوله : (رَبَطْنا).

أى : ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله ـ تعالى ـ ، وأنه سيرد إليها ابنها ، كي تقر عينها ولا تحزن.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعلته أم موسى بعد ذلك فقال : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ.). أى لم تسكت أم موسى بعد أن علمت بالتقاط آل فرعون له ، بل قالت لأخت موسى (قُصِّيهِ) أى تتبعى أثره وخبره وما آل إليه أمره. يقال : قص فلان أثر فلان فهو يقصه ، إذا تتبعه ، ومنه القصص للأخبار المتتبعة.

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) هي الفصيحة. والجنب : الجانب.

أى : فقصت أخت موسى أثره ، فأبصرته عن جانب منها ، وكأنها لا تريد أن تطلع أحدا على أنها تبحث عن أخيها. وتتبع أثره والجار والمجرور حال من الفاعل ، أى : بصرت به مستخفية كائنة عن جنب.

قال الآلوسى : (عَنْ جُنُبٍ) أى عن بعد ، وقيل عن شوق إليه .. وقال الكرماني (جُنُبٍ) صفة لموصوف محذوف ، أى عن مكان جنب بعيد وكأنه من الأضداد ، فإنه يكون بمعنى القريب ـ أيضا ـ كالجار الجنب. وقيل على جانب .. وقيل : النظر عن جنب ، أن

٣٨٣

تنظر الشيء كأنك لا تريده (١).

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) يشعر بأن أخت موسى أبصرت أخاها إبصارا فيه مخادعة لآل فرعون ، حتى لا تجعلهم يشعرون بأنها تبحث عنه.

ويشهد لذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى : وهم ـ أى آل فرعون ـ لا يشعرون أنها أخته تبحث عنه وتتبع أخباره.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظهرا من مظاهر حكمته وقدرته وتدبيره لأمر موسى كي يعود إلى أمه ، فقال ـ تعالى ـ. (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ...).

والمراد بالتحريم هنا : المنع ، والمراضع : جمع مرضع ـ بضم الميم وكسر الضاد ـ وهي المرأة التي ترضع.

أى : ومنعنا موسى بقدرتنا وحكمتنا من أن يرضع من المرضعات وكان ذلك من قبل أن تعلم بخبره أمه وأخته.

قال ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أى : تحريما قدريا ، وذلك لكرامة الله له ، صانه عن أن يرتضع غير ثدي أمه ، لأنه ـ سبحانه ـ جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه ، لترضعه وهي آمنة بعد أن كانت خائفة .. (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) حكاية لما قالته أخت موسى لفرعون وحاشيته ، والاستفهام للتحضيض.

أى : وبعد أن بصرت أخت موسى به عن جنب ، ورأت رفضه للمراضع ، وبحثهم عمن يرضعه ، قالت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) أى : يقومون بتربيته وإرضاعه من أجل راحتكم وراحته ، (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أى : وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وغذائه ، ولا يقصرون فيما يعود عليه بالخير والعافية.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) معطوف على كلام محذوف ، والتقدير : فسمعوا منها ما قالت ، ودلتهم على أمه ، فرددناه إليها ، كي يطمئن قلبها وتقر عينها برجوع ولدها إليها ، ولا تحزن لفراقه.

ولتعلم أن وعد الله ـ تعالى ـ حق ، أى : أن وعده ـ سبحانه ـ لا خلف فيه ، بل هو كائن لا محالة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٥٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٣.

٣٨٤

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة حق العلم ، ولذا يستعجلون الأمور ، دون أن يفطنوا إلى حكمته ـ سبحانه ـ في تدبير أمر خلقه.

وبذلك نرى هذه الآيات قد صاغت لنا بأبلغ أسلوب ، جانبا من حياة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ومن رعاية الله ـ تعالى ـ له ، وهو ما زال في سن الرضاعة.

* * *

ثم قص علينا ـ سبحانه ـ جانبا من حياة موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن بلغ أشده واستوى ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)

٣٨٥

وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٢١)

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) بيان لجانب من النعم التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها على موسى في تلك المرحلة من حياته.

و (لَمَّا) ظرف بمعنى حين. والأشد : قوة الإنسان ، واشتعال حرارته من الشدة بمعنى القوة والارتفاع يقال : شد النهار إذا ارتفع. وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ولا واحد له من لفظه.

وقوله : (وَاسْتَوى) من الاستواء بمعنى الاكتمال وبلوغ الغاية والنهاية.

أى ـ وحين بلغ موسى ـ عليه‌السلام ـ منتهى شدته وقوته ، واكتمال عقله ، قالوا : وهي السن التي كان فيها بين الثلاثين والأربعين.

(آتَيْناهُ) بفضلنا وقدرتنا (حُكْماً) أى : حكمة وهي الإصابة في القول والفعل ، وقيل : النبوة.

(وَعِلْماً) أى : فقها في الدين ، وفهما سليما للأمور ، وإدراكا قويما لشئون الحياة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) بيان لسنة من سننه ـ تعالى ـ التي لا تتخلف.

أى : ومثل هذا الجزاء الحسن ، والعطاء الكريم ، الذي أكرمنا به موسى وأمه نعطى ونجازي المحسنين ، الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله ـ تعالى ـ به. فكل من أحسن في أقواله وأعماله ، أحسن الله ـ تعالى ـ جزاءه ، وأعطاه الكثير من آلائه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الأحداث التي تعرض لها موسى ـ عليه‌السلام ـ في تلك الحقبة من عمره فقال : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها).

والمراد بالمدينة : مصر ، وقيل : ضاحية من ضواحيها ، كعين شمس ، أو منف.

وجملة (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) حال من الفاعل. أى : دخلها مستخفيا.

قيل : والسبب في دخوله على هذه الحالة ، أنه بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما

٣٨٦

يكرهون ، فخافهم وخافوه. فاختفى وغاب ، فدخلها متنكرا (١).

أى : وفي يوم من الأيام ، وبعد أن بلغ موسى سن القوة والرشد ، دخل المدينة التي يسكنها فرعون وقومه : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أى : دخلها مستخفيا في وقت كان أهلها غافلين عما يجرى في مدينتهم من أحداث ، بسبب راحتهم في بيوتهم في وقت القيلولة ، أو ما يشبه ذلك.

(فَوَجَدَ) موسى (فِيها) أى في المدينة (رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أى : يتخاصمان ويتنازعان في أمر من الأمور.

(هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أى : أحد الرجلين كان من طائفته وقبيلته. أى : من بنى إسرائيل : (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أى : والرجل الثاني كان من أعدائه وهم القبط الذين كانوا يسيمون بنى إسرائيل سوء العذاب.

(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أى : فطلب الرجل الإسرائيلى من موسى ، أن ينصره على الرجل القبطي.

والاستغاثة : طلب الغوث والنصرة ، ولتضمنه معنى النصرة عدى بعلى.

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) والفاء هنا فصيحة. والوكز : الضرب بجميع الكف.

قال القرطبي : والوكز واللكز واللهز بمعنى واحد ، وهو الضرب بجميع الكف (٢).

أى : فاستجاب موسى لمن استنصر به ، فوكز القبطي ، أى : فضربه بيده مضمومة أصابعها في صدره ، (فَقَضى عَلَيْهِ) أى : فقتله. وهو لا يريد قتله ، وإنما كان يريد دفعه ومنعه من ظلم الرجل الإسرائيلى.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) يشير إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان على جانب عظيم من قوة البدن ، كما يشير ـ أيضا ـ إلى ما كان عليه من مروءة عالية. حملته على الانتصار للمظلوم بدون تقاعس أو تردد.

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أن رأى القبطي جثة هامدة ، استرجع وندم ، وقال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أى : قال موسى : هذا الذي فعلته وهو قتل القبطي ، من عمل الشيطان ومن وسوسته. ومن تزيينه.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٥٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٦٠.

٣٨٧

(إِنَّهُ) أى : الشيطان (عَدُوٌّ) للإنسان (مُضِلٌ) له عن طريق الحق (مُبِينٌ) أى : ظاهر العداوة والإضلال.

ثم أضاف إلى هذا الندم والاسترجاع ، ندما واستغفارا آخر فقال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ).

أى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد قتله القبطي بدون قصد ـ مكررا الندم والاستغفار : يا رب إنى ظلمت نفسي ، بتلك الضربة التي ترتب عليها الموت ، فاغفر لي ذنبي ، (فَغَفَرَ) الله ـ تعالى ـ (لَهُ) ذنبه ، (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ثم أكد موسى عليه‌السلام ـ للمرة الثالثة ، توبته إلى ربه ، وشكره إياه على نعمه ، فقال : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ).

والظهير : المعين لغيره والناصر له. يقال : ظاهر فلان فلانا إذا أعانه. ويطلق على الواحد والجمع. ومنه قوله ـ تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

قال صاحب الكشاف : قوله (بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف ، تقديره : أقسم بإنعامك على بالمغفرة لأتوبن (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) وأن يكون استعطافا ، كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت على من المغفرة فلن أكون ـ إن عصمتني ـ ظهيرا للمجرمين.

وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته ، وتكثيره سواده ، حيث كان يركب بركوبه ، كالولد مع الوالد. وكان يسمى ابن فرعون. وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلى المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له .. (١).

وهذه الضراعة المتكررة إلى الله ـ تعالى ـ من موسى ـ عليه‌السلام ـ ، تدل على نقاء روحه ، وشدة صلته بربه ، وخوفه منه ، ومراقبته له ـ سبحانه ـ ، فإن من شأن الأخيار في كل زمان ومكان ، أنهم لا يعينون الظالمين ، ولا يقفون إلى جانبهم.

قال القرطبي : ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ، ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة ، يوم تزل الأقدام ، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه ، أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما كان من أمر موسى بعد هذه الحادثة فقال : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٩٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٦٣.

٣٨٨

أى : واستمر موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد قتله للقبطي ، يساوره القلق ، فأصبح يسير في طرقات المدينة التي حدث فيها القتل ، (خائِفاً) من وقوع مكروه به (يَتَرَقَّبُ) ما سيسفر عنه هذا القتل من اتهامات وعقوبات ومساءلات.

والتعبير بقوله (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) يشعر بشدة القلق النفسي الذي أصاب موسى ـ عليه‌السلام ـ في أعقاب هذا الحادث ، كما يشعر ـ أيضا ـ بأنه ـ عليه‌السلام ـ لم يكن في هذا الوقت على صلة بفرعون وحاشيته ، لأنه لو كان على صلة بهم ، ربما دافعوا عنه ، أو خففوا المسألة عليه.

و (فَإِذَا) في قوله ـ تعالى ـ (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) فجائية.

ويستصرخه : أى : يستغيث به ، مأخوذ من الصراخ وهو رفع الصوت ، لأن من عادة المستغيث بغيره أن يرفع صوته طالبا النجدة والعون.

أى : وبينما موسى على هذه الحالة من الخوف والترقب ، فإذا بالشخص الإسرائيلى الذي نصره موسى بالأمس ، يستغيث به مرة أخرى من قبطى آخر ويطلب منه أن يعينه عليه.

وهنا قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لذلك الإسرائيلى المشاكس : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).

والغوى : فعيل من أغوى يغوى ، وهو بمعنى مغو ، كالوجيع والأليم بمعنى : الموجع والمؤلم. والمراد به هنا : الجاهل أو الخائب أو الضال عن الصواب.

أى : قال له موسى بحدة وغضب : إنك لضال بين الضلال ولجاهل واضح الجهالة ، لأنك تسببت في قتلى لرجل بالأمس ، وتريد أن تحملني اليوم على أن أفعل ما فعلته بالأمس ، ولأنك لجهلك تنازع من لا قدرة لك على منازعته أو مخاصمته.

ومع أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد قال للإسرائيلى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) إلا أن همته العالية ، وكراهيته للظلم ، وطبيعته التي تأبى التخلي عن المظلومين كل ذلك دفعه إلى إعداد نفسه لتأديب القبطي ، ويحكى القرآن ذلك فيقول : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما.) ..

والبطش : هو الأخذ بقوة وسطوة. يقال : بطش فلان بفلان إذا ضربه بعنف وقسوة.

أى : فحين هيأ موسى ـ عليه‌السلام ـ نفسه للبطش بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلى ، حيث لم يكن على دينهما.

(قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ، إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ).

٣٨٩

ويرى بعض المفسرين ، أن القائل لموسى هذا القول ، هو الإسرائيلى ، الذي طلب من موسى النصرة والعون ، وسبب قوله هذا : أنه توهم أن موسى يريد أن يبطش به دون القبطي ، عند ما قال له : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).

فيكون المعنى : قال الإسرائيلي لموسى بخوف وفزع : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا ـ هي نفس القبطي ـ بالأمس ، وما تريد بفعلك هذا إلا أن تكون (جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) أى : ظالما قتالا للناس في الأرض ، (وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون ، بين الناس ، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن.

ويرى بعضهم أن القائل لموسى هذا القول هو القبطي ، لأنه فهم من قول موسى للإسرائيلى (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أنه ـ أى : موسى ـ هو الذي قتل القبطي بالأمس.

وقد رجح الإمام الرازي هذا الوجه الثاني فقال : والظاهر هذا الوجه ، لأنه ـ تعالى ـ قال : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى) فهذا القول إذن منه ـ أى من القبطي ـ لا من غيره ـ وأيضا قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) لا يليق إلا بأن يكون قولا من كافر ـ وهو القبطي ـ.

وما رجحه الإمام الرازي هو الذي نميل إليه ، وإن كان أكثر المفسرين قد رجحوا الرأى الأول ، وسبب ميلنا إلى الرأى الثاني ، أن السورة الكريمة قد حكت ما كان عليه فرعون وملؤه من علو وظلم واضطهاد لبنى إسرائيل ، ومن شأن الظالمين أنهم يستكثرون الدفاع عن المظلومين ، بل ويتهمون من يدافع عنهم بأنه جبار في الأرض ، لذا نرى أن القائل هذا القول لموسى ، هو القبطي ، وليس الإسرائيلى ـ والله أعلم بمراده ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى.). معطوف على كلام محذوف يرشد إليه السياق.

والتقدير : وانتشر خبر قتل موسى للقبطي بالمدينة ، فأخذ فرعون وقومه في البحث عنه لينتقموا منه .. وجاء رجل ـ قيل هو مؤمن من آل فرعون ـ من أقصى المدينة ، أى : من أطرافها وأبعد مكان فيها (يَسْعى) أى : يسير سيرا سريعا نحو موسى ، فلما وصل إليه قال له : (يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) وهم زعماء قوم فرعون.

(يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) أى : يتشاورون في أمرك ليقتلوك ، أو يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، وسمى التشاور بين الناس ائتمارا ، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ، ويأتمر بأمره.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أى : وتشاوروا بينكم بمعروف.

٣٩٠

وقوله : (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أى : قال الرجل لموسى : مادام الأمر كذلك يا موسى فاخرج من هذه المدينة ، ولا تعرض نفسك للخطر ، إنى لك من الناصحين بذلك ، قبل أن يظفروا بك ليقتلوك.

واستجاب موسى لنصح هذا الرجل (فَخَرَجَ مِنْها) أى : من المدينة ، حالة كونه (خائِفاً) من الظالمين (يَتَرَقَّبُ) التعرض له منهم ، ويعد نفسه للتخفى عن أنظارهم.

وجعل يتضرع إلى ربه قائلا : (رَبِّ نَجِّنِي) بقدرتك وفضلك (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بأن تخلصني من كيدهم ، وتحول بينهم وبيني ، فأنا ما قصدت بما فعلت ، إلا دفع ظلمهم وبغيهم.

وإلى هنا تكون السورة الكريمة ، قد قصت علينا هذا الجانب من حياة موسى ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن دفع بهمته الوثابة ظلم الظالمين ، وخرج من مدينتهم خائفا يترقب ، ملتمسا من خالقه ـ عزوجل ـ النجاة من مكرهم.

* * *

ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك ، ما كان منه عند ما توجه إلى جهة مدين ، وما حصل له في تلك الجهة من أحداث ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما

٣٩١

يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٢٨)

ولفظ (تِلْقاءَ) في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) منصوب على الظرفية المكانية ، وهو في الأصل اسم مصدر. يقال دارى تلقاء دار فلان ، إذا كانت محاذية لها.

و (مَدْيَنَ) اسم لقبيلة شعيب ـ عليه‌السلام ـ أو لقريته التي كان يسكن فيها ، سميت بذلك نسبة إلى مدين بن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وإنما توجه إليها موسى ـ عليه‌السلام ـ ، لأنها لم تكن داخلة تحت سلطان فرعون وملئه.

أى : وبعد أن خرج موسى من مصر خائفا يترقب ، صرف وجهه إلى جهة قرية مدين التي على أطراف الشام جنوبا ، والحجاز شمالا.

صرف وجهه إليها مستسلما لأمر ربه ، متوسلا إليه بقوله : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ).

أى : قال على سبيل الرجاء في فضل الله ـ تعالى ـ وكرمه : عسى ربي الذي خلقني بقدرته ، وتولاني برعايته وتربيته ، أن يهديني ويرشدني إلى أحسن الطرق التي تؤدى بي إلى النجاة من القوم الظالمين.

فالمراد بسواء السبيل : الطريق المستقيم السهل المؤدى. إلى النجاة ، من إضافة الصفة إلى الموصوف أى : عسى أن يهديني ربي إلى الطريق الوسط الواضح.

وأجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه ، ووصل موسى بعد رحلة شاقة مضنية إلى أرض مدين ،

٣٩٢

ويقص علينا القرآن ما حدث له بعد وصوله إليها فيقول : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ).

قال القرطبي : ووروده الماء : معناه بلغه ، لا أنه دخل فيه. ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل ، فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (تَذُودانِ) من الذود بمعنى الطرد والدفع والحبس. يقال : ذاد فلان إبله عن الحوض ، ذودا وذيادا إذا حبسها ومنعها من الوصول إليه.

والمعنى وحين وصل موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى الماء الذي تستقي منه قبيلة مدين وجد أمة أى جماعة كثيرة (مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أى : يسقون إبلهم وغنمهم ، ودوابهم المختلفة.

(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أى : ووجد بالقرب منهم. أو في جهة غير جهتهم.

(امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) أى : امرأتين تطردان وتمنعان أغنامهما أو مواشيهما عن الماء ، حتى ينتهى الناس من السقي ، ثم بعد ذلك هما تسقيان دوابهما ، لأنهما لا قدرة لهما على مزاحمة الرجال.

وهنا قال لهما موسى ـ صاحب الهمة العالية ، والمروءة السامية ، والنفس الوثابة نحو نصرة المحتاج ـ قال لهما بما يشبه التعجب : (ما خَطْبُكُما)؟ أى : ما شأنكما؟ وما الدافع لكما إلى منع غنمكما من الشرب من هذا الماء ، مع أن الناس يسقون منه؟

وهنا قالتا له على سبيل الاعتذار وبيان سبب منعهما لمواشيهما عن الشرب : (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ).

ويصدر : من أصدر ـ والصدر عن الشيء : الرجوع عنه ، وهو ضد الورود. يقال : صدر فلان عن الشيء. إذا رجع عنه.

قال الشوكانى : قرأ الجمهور «يصدر» بضم الياء وكسر الدال ـ مضارع أصدر المتعدى بالهمزة ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال ـ من صدر يصدر اللازم ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف. أى : يرجعون مواشيهم .. (٢) و (الرِّعاءُ) جمع الراعي ، مأخوذ من الرعي بمعنى الحفظ.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٦٧.

(٢) فتح القدير ج ٤ ص ١٦٦.

٣٩٣

أى : قالتا لموسى ـ عليه‌السلام ـ : إن من عادتنا أن لا نسقى. مواشينا حتى يصرف الرعاء دوابهم عن الماء ، ويصبح الماء خاليا لنا ، لأننا لا قدرة لنا على المزاحمة ، وليس عندنا رجل يقوم بهذه المهمة ، وأبونا شيخ كبير في السن لا يقدر ـ أيضا ـ على القيام بمهمة الرعي والمزاحمة على السقي.

وبعد أن سمع موسى منهما هذه الإجابة ، سارع إلى معاونتهما ـ شأن أصحاب النفوس الكبيرة ، والفطرة السليمة ، وقد عبر القرآن عن هذه المسارعة بقوله : (فَسَقى لَهُما).

أى : فسقى لهما مواشيهما سريعا. من أجل أن يريحهما ويكفيهما عناء الانتظار وفي هذا التعبير إشارة إلى قوته ، حيث إنه استطاع وهو فرد غريب بين أمة من الناس يسقون ـ أن يزاحم تلك الكثرة من الناس ، وأن يسقى للمرأتين الضعيفتين غنمهما. دون أن يصرفه شيء عن ذلك.

رحم الله صاحب الكشاف. فقد أجاد عند عرضه لهذه المعاني. فقال ما ملخصه : «قوله : (فَسَقى لَهُما) أى : فسقى غنمهما لأجلهما. وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال .. فأقله وحده.

وإنما فعل ذلك رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء ، وقد ازدحمت عليه أمة من الناس ، متكافئة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم ، مع غنمهما مترقبتين لفراغهم. فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، بقوة قلبه ، وبقوة ساعده.

فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور في قوله (يَسْقُونَ) و (تَذُودانِ) قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول. ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا.

فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله؟ قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا ، وما لنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ كبير ، فقد أضعفه الكبر ، فلا يصلح للقيام به ، فهما قد أبدتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما.

فإن قلت : كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب ـ عليه‌السلام ـ أن يرضى لا بنتيه بسقى الماشية؟ قلت ، الأمر في نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك. والعادات متباينة فيه .. وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم. ومذهب أهل البدو

٣٩٤

غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) فقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) بيان لما فعله موسى وقاله بعد أن سقى للمرأتين غنمهما.

أى : فسقى موسى للمرأتين غنمهما ، ثم أعرض عنهما متجها إلى الظل الذي كان قريبا منه في ذلك المكان ، قيل كان ظل شجرة وقيل ظل جدار.

فقال : على سبيل التضرع إلى ربه : يا ربي : إنى فقير ومحتاج إلى أى خير ينزل منك على سواء أكان هذا الخير طعاما أم غيره.

قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) أى : لأى شيء تنزله من خزائن كرمك إلى (مِنْ خَيْرٍ) جل أو قل ، (فَقِيرٌ) أى : محتاج ، وهو خبر إن. وعدى باللام لتضمنه معنى الاحتياج. وما نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها. والرابط محذوف ، و (مِنْ خَيْرٍ) بيان لها والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه ، بسبب ما ناله من شدة الجوع.

يدل لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لما سقى موسى للجاريتين ، ثم تولى إلى الظل ، فقال : رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ، وإنه يومئذ فقير إلى كف من تمر» (٢).

واستجاب الله ـ تعالى ـ لموسى دعاءه. وأرسل إليه الفرج سريعا ، يدل لذلك قوله ـ تعالى ـ بعد هذا الدعاء من موسى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا.) ..

وفي الكلام حذف يفهم من السياق وقد أشار إليه ابن كثير بقوله : لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى ـ عليه‌السلام ـ. فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أى : مشى الحرائر ، كما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : كانت مستترة بكم درعها. أى قميصها.

ثم قال ابن كثير : وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي ـ عليه‌السلام ـ الذي أرسله الله إلى أهل مدين ، وهذا هو المشهور عند كثيرين وقد قاله الحسن البصري وغير واحد ورواه ابن أبى حاتم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٠٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ٦٤.

٣٩٥

وقد روى الطبراني عن مسلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : مرحبا بقوم شعيب ، وأختان موسى.

وقال آخرون. بل كان ابن أخى شعيب. وقيل : رجل مؤمن من آل شعيب.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ ثم من المقوى لكونه ليس بشعيب ، أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده (١).

والمعنى : ولم يطل انتظار موسى للخير الذي التمسه من خالقه ـ عزوجل ـ فقد جاءته إحدى المرأتين اللتين سقى لهما ، حالة كونها (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أى : على تحشم وعفاف شأن النساء الفضليات.

(قالَتْ) بعبارة بليغة موجزة : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) للحضور إليه (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أى : ليكافئك على سقيك لنا غنمنا.

واستجاب موسى لدعوة أبيها وذهب معها للقائه (فَلَمَّا جاءَهُ) ، أى : فلما وصل موسى إلى بيت الشيخ الكبير ، (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) ، أى : وقص عليه ما جرى له قبل ذلك ، من قتله القبطي ، ومن هروبه إلى أرض مدين.

فالقصص هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أى : المقصوص.

(قالَ) أى : الشيخ الكبير لموسى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أى : لا تخف يا موسى من فرعون وقومه ، فقد أنجاك الله ـ تعالى ـ منهم ومن كل ظالم.

وهذا القول من الشيخ الكبير لموسى ، صادف مكانه ، وطابق مقتضاه ، فقد كان موسى ـ عليه‌السلام ـ أحوج ما يكون في ذلك الوقت إلى نعمة الأمان والاطمئنان ، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها : فقال ـ تعالى ـ : (قالَتْ إِحْداهُما) ولعلها التي جاءت إلى موسى على استحياء لتقول له : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا).

(يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أى : قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد ـ شأن المرأة السليمة الفطرة النقية العرض القوية الشخصية ـ يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعي ، ومشقة العمل خارج البيت.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٨.

٣٩٦

ثم عللت طلبها بقولها : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أى : استأجره ليرعى غنمنا ، فإنه جدير بهذه المهمة ، لقوته وأمانته ، ومن جمع في سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة ، كان أهلا لكل خير ، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم.

قال ابن كثير : قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضي ، وأبو مالك ، وقتادة .. وغير واحد : لما قالت : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) قال لها أبوها : وما علمك بذلك؟ قالت : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى ـ أى فارمى ـ بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه (١).

واستجاب الشيخ الكبير لما اقترحته عليه ابنته ، وكأنه أحس بصدق عاطفتها ، وطهارة مقصدها وسلامة فطرتها ، فوجه كلامه إلى موسى قائلا : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ).

أى : قال الشيخ الكبير لموسى مستجيبا لاقتراح ابنته : يا موسى إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين.

ولعله أراد بإحداهما ، تلك التي قالت له : يا أبت استأجره ، لشعوره ـ وهو الشيخ الكبير ، والأب العطوف ، الحريص على راحة ابنته ـ بأن هناك عاطفة شريفة تمت بين قلب ابنته ، وبين هذا الرجل القوى الأمين ، وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وفي هذه الآيات ما فيها من الإشارة إلى رغبة المرأة الصالحة ، في الرجل الصالح ، وإلى أنه من شأن الآباء العقلاء أن يعملوا على تحقيق هذه الرغبة.

قال الشوكانى : في هذه الآية مشروعية عرض ولى المرأة لها على الرجل ، وهذه سنة ثابتة في الإسلام ، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبى بكر وعثمان ، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوة ، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) بيان لما اشترطه الشيخ الكبير على موسى ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٣٩.

(٢) تفسير فتح القدير للشوكانى ح ٤ ص ١٦٩.

٣٩٧

أى قال له بصيغة التأكيد : إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين ، بشرط أن تعمل أجيرا عندي لرعى غنمي (ثَمانِيَ حِجَجٍ) أى : ثماني سنين.

قال الجمل : وقوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) في محل نصب على الحال ، إما من الفاعل أو من المفعول.

أى : مشروطا على أو عليك ذلك .. و (تَأْجُرَنِي) مفعوله الثاني محذوف أى : تأجرنى نفسك و (ثَمانِيَ حِجَجٍ) ظرف له .. (١).

وقوله : (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أى : فإن أتممت عشر سنين كأجير عندي لرعاية غنمي ، أى : فهذا الإتمام من عندك على سبيل التفضل والتكرم فإنى لا أشترط عليك سوى ثماني حجج.

وقوله (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) بيان لحسن العرض الذي عرضه الشيخ على موسى.

أى : وما أريد أن أشق عليك أو أتعبك في أمر من الأمور خلال استئجارى لك ، بل ستجدني ـ إن شاء الله ـ تعالى ـ من الصالحين ، في حسن المعاملة ، وفي لين الجانب ، وفي الوفاء بالعهد.

وقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ.). للدلالة على أنه من المؤمنين. الذين يفوضون أمورهم إلى الله ـ تعالى ـ ويرجون توفيقه ومعونته على الخير.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به موسى فقال : (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ ، وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

أى : (قالَ) موسى في الرد على الشيخ الكبير (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أى : ذلك الذي قلته لي واشترطته على ، كائن وحاصل بيني وبينك ، وكلانا مطالب بالوفاء به فاسم الإشارة مبتدأ ، وبيني وبينك خبره ، والإشارة مرجعها إلى ما تعاقدا عليه ، وأى في قوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) شرطية ، وجوابها ، (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) وما مزيدة للتأكيد.

والمعنى : أى الأجلين ، أى الثمانية الأعوام أو العشرة الأعوام (قَضَيْتُ) أى : وفيت به ، وأديته معك أجيرا عندك (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أى : فلا ظلم على ، وأصل العدوان : تجاوز الحد.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : أى قال موسى : ذلك الذي قلته .. قائم بيننا جميعا

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٤٥.

٣٩٨

لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك .. ثم قال : أى أجل من الأجلين قضيت ـ أطولهما أو أقصرهما ـ (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أى : فلا يعتدى على في طلب الزيادة عليه. فإن قلت : تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟

قلت : معناه ، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني. أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء ، وأما التتمة فهي موكولة إلى رأيى. إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .. (١).

والمقصود بقوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) توثيق العهد وتأكيده ، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا.

أى : والله ـ تعالى ـ شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه ، وتعاهدنا على تنفيذه ، وكفى بشهادته ـ سبحانه ـ شهادة.

وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار التي تدل على أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد قضى أطول الأجلين. ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : سألت جبريل : أى الأجلين قضى موسى؟ قال : «أكملهما وأتمهما ، وفي رواية : أبرهما وأوفاهما» (٢).

هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يرى فيها بجلاء ووضوح ، ما جبل عليه موسى ـ عليه‌السلام ـ من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله في كل موطن على إعانة المحتاج ، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين ، ومن عاطفة رقيقة تجعله في كل الأوقات دائم التذكر لخالقه ، كثير التضرع إليه بالدعاء.

كما يرى فيها الفطرة السوية ، والصدق مع النفس ، والحياء ، والعفاف ، والوضوح ، والبعد عن التكلف والالتواء ، كل ذلك متمثل في قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهما ، واللتين جاءته إحداهما تمشى على استحياء ، ثم قالت لأبيها : يا أبت استأجره.

كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح ، ومن قول طيب حكيم ، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف ، ومن أبوة حانية رشيدة ، تستجيب

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٠٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٠.

٣٩٩

للعواطف الشريفة ، وتعمل على تحقيق رغباتها عن طريق الزواج الذي شرعه الله ـ تعالى ـ.

ومضت السنوات العشر ، التي قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير في مدين ، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه ، وتزوج موسى بإحدى ابنتي الشيخ الكبير ، وقرر الرجوع بأهله إلى مصر ، فماذا حدث له في طريق عودته؟ يحكى لنا القرآن الكريم بأسلوبه البديع ما حدث لموسى ـ عليه‌السلام ـ بعد ذلك فيقول :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤)

٤٠٠