التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

أحد من بنى آدم .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلُوطاً ..). منصوب بفعل مضمر محذوف ، والتقدير : واذكر ـ أيها العاقل ـ وقت أن أرسلنا لوطا إلى قومه. فقال لهم على سبيل الزجر والتوبيخ :

(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أى : أتأتون الفاحشة التي لم يسبقكم إليها أحد ، وهي إتيان الذكور دون الإناث ، وأنتم تبصرون بأعينكم أنها تتنافى مع الفطرة السوية حتى بالنسبة للحيوان الأعجم فأنتم ترون وتشاهدون أن الذكر من الحيوان لا يأتى الذكر ، وإنما يأتى الأنثى ، حيث يتأتى عن طريقها التوالد والتناسل وعمارة الكون.

فقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) جملة حالية المقصود بها زيادة تبكيتهم وتوبيخهم ، لأنهم يشاهدون تنزه الحيوان عنها ، كما يعلمون سوء عاقبتها ، وسوء عاقبة الذين خالفوا أنبياءهم من قبلهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ..). تأكيد للإنكار السابق ، وتوضيح للفاحشة التي كانوا يأتونها.

والإتيان : كناية عن الاستمتاع والجماع ، مأخوذ من أتى المرأة إذا جامعها.

أى : أإنكم ـ أيها الممسوخون في فطرتكم وطبائعكم ـ لتصبون شهوتكم التي ركبها الله ـ تعالى ـ فيكم في الرجال دون النساء اللاتي جعلهن الله ـ تعالى ـ محل شهوتكم ومتعتكم.

قال الآلوسى : والجملة الكريمة تثنية للإنكار ، وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام وتحلية الجملة بحرفى التأكيد ، للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد ، لكمال شناعته ، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية ، لزيادة التقبيح والتوبيخ .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن الأسباب التي جعلتهم يرتكبون هذه القبائح ، وهي أنهم قوم دينهم الجهل والسفاهة والمجون وانطماس البصيرة.

وقد حكى القرآن أن لوطا قد قال لهم في سورة الأعراف : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). وقال لهم في سورة الشعراء : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) وقال لهم هنا : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ومجموع الآيات يدل على أنهم كانوا مصابين بفساد العقل ، وانحراف الفطرة ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ، ص ٢٣٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ، ص ٢١٦.

٣٤١

وتجاوز كل الحدود التي ترتضيها النفوس الكريمة.

ثم حكى القرآن بعد ذلك جوابهم السيئ على نبيهم فقال : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ.) ..

والفاء للتفريع ، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء.

أى : هكذا نصح لوط قومه وزجرهم ، فما كان جوابهم شيئا من الأشياء سوى قول بعضهم لبعض أخرجوا لوطا والمؤمنين معه من قريتكم التي يساكنونكم فيها.

وفي التعبير بقولهم : (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) إشارة إلى غرورهم وتكبرهم فكأنهم يعتبرون لوطا وأهله المؤمنين دخلاء عليهم ، ولا مكان لهم بين هؤلاء المجرمين لأن القرية ـ وهي سدوم ـ هي قريتهم وحدهم ، دون لوط وأهله.

وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) تعليل للإخراج ، وبيان لسببه ، أى أخرجوهم من قريتكم لأنهم أناس يتنزهون عن الفعل الذي نفعله ، وينفرون من الشهوة التي نشتهيها وهي إتيان الرجال ..

وما أعجب العقول عند ما تنتكس ، والنفوس عند ما ترتكس ، إنها تأبى أن يبقى معها الأطهار ، بل تحرض على طردهم ، ليبقى معها الممسوخون والمنحرفون الذين انحطت طباعهم ، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقولهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش ، وافتخارا بما كانوا فيه من القذارة ، كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما آل إليه أمر الفريقين فقال : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ).

والغابر : الباقي. يقال : غبر الشيء يغبر غبورا. إذا بقي.

أى : فكانت عاقبة تلك المحاورة التي دارت بين لوط وقومه ، أن أنجينا لوطا وأهله الذين آمنوا معه ، (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فإننا لم ننجها لخبثها وعدم إيمانها ، فبقيت مع القوم الكافرين ، حيث قدرنا عليها ذلك بسبب كفرها وممالأتها لقومها.

(وَأَمْطَرْنا) على هؤلاء المجرمين (مَطَراً) عظيما هائلا عجيبا أمره وهو حجارة من سجيل دمرتهم تدميرا (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أى : فبئس العذاب عذابهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ، ص ١٢٧.

٣٤٢

وهكذا تكون عاقبة كل من آثر الكفر على الإيمان ، والرذيلة على الفضيلة.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصص بعض الأنبياء ، ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على وحدانيته ، وكمال قدرته ، وسعة فضله على عباده ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٦٤)

قال صاحب البحر المحيط : لما فرغ ـ سبحانه ـ من قصص هذه السورة ، أمر رسوله

٣٤٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمده ـ تعالى ـ والسلام على المصطفين ، وأخذ في مباينة واجب الوجود وهو الله ـ تعالى ـ ومباينة الأصنام والأديان التي أشركوها مع الله وعبدوها ، وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمد لله ، وكأنها صدر خطبة ، لما يلقى من البارهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة. وقد اقتدى بذلك المسلمون في تصانيف كتبهم ، وخطبهم ، ووعظهم ، فافتتحوا بتحميد الله ، والصلاة على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبعهم المتراسلون في أوائل كتب الفتوح والتهاني والحوادث التي لها شأن (١).

والمعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للناس : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ـ تعالى ـ وحده ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب النعم والمنن على عباده ، وهو ـ عزوجل ـ الذي له الخلق والأمر وليس لأحد سواه.

وقل ـ أيضا ـ (سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أى : أمان وتحية لعباده الذين اصطفاهم واختارهم ـ سبحانه ـ لحمل رسالته وتبليغ دعوته ، والاستجابة لأمره ونهيه ، والطاعة له في السر والعلن.

والاستفهام في قوله (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) للإنكار والتقريع ، والألف منقلبة عن همزة الاستفهام.

أى : وقل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ آلله الذي له الخلق والأمر ، والذي أنعم عليكم بالنعم التي لا تحصى ، خير ، أم الآلهة الباطلة التي لا تنفع ولا تضر ، والتي يعبدها المشركون من دون الله ـ تعالى ـ. إن كل من عنده عقل ، لا يشك في أن المستحق للعبادة والطاعة ، هو الله رب العالمين.

ولفظ (خَيْرٌ) ليس للتفضيل ، وإنما هو من باب التهكم بهم ، إذ لا خير في عبادة الأصنام أصلا. وقد حكى عن العرب أنهم يقولون : السعادة أحب إليك أم الشقاوة ، مع أنه لا خير في الشقاوة إطلاقا.

قال الآلوسى : وقوله (آللهُ) بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا ، والأصل أألله؟ (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) والظاهر أن ما موصولة ، والعائد محذوف أى : آلله الذي ذكرت شئونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام و (خَيْرٌ) أفعل تفضيل ، ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته ـ عزوجل ـ وتسفيه آرائهم الركيكة ، والتهكم بهم ، إذ

__________________

(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٧ ص ٨٨.

٣٤٤

من البين أنه ليس فيما أشركوه به ـ سبحانه ـ شائبة خير ، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض .. (١).

ثم ساق ـ سبحانه ـ خمس آيات ، وكل آية فيها ما يدل على كمال قدرته وعلمه ، وختم كل آية بقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ فقال ـ تعالى ـ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.). وأم هنا منقطعة بمعنى بل الإضرابية والاستفهام للإنكار والتوبيخ.

أى : بل قولوا لنا ـ إن كنتم تعقلون أيها الضالون ـ من الذي خلق السموات والأرض ، وأوجدهما على هذا النحو البديع ، والتركيب المحكم.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر ، الذي لا غنى لكم عنه في شئون حياتكم.

(فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) والحدائق : جمع حديقة ، وهي في الأصل اسم البستان المحاط بالأسوار ، من أحدق بالشيء إذا أحاط به ، ثم توسع فيها فصارت تطلق على كل بستان سواء أكان مسورا بسور أم لا.

أى : وأنزل ـ سبحانه ـ بقدرته من السماء ماء مباركا ، فأنبتنا لكم بسبب هذا الماء حدائق وبساتين وجنات ذات منظر حسن ، يشرح الصدور ، ويدخل السرور على النفوس.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَأَنْبَتْنا.). بصيغة الالتفات من الغيبة إلى التكلم. لتأكيد أن القادر على هذا الإنبات هو الله ـ تعالى ـ وحده ، وللإيذان بأن إنبات هذه الحدائق مع اختلاف ألوانها ، وأشجارها ، وطعومها. لا يقدر عليه إلا هو ـ سبحانه ـ.

ولذا أتبع ـ عزوجل ـ هذه الجملة بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أى : ما كان في إمكانكم ـ أيها الناس ـ بحال من الأحوال ، أن تنبتوا أشجار هذه الحدائق ، فضلا عن إيجاد ثمارها ، وإخراجها من العدم إلى الوجود.

قال الإمام الرازي : يقال : ما حكمة الالتفات في قوله : (فَأَنْبَتْنا ..). والجواب : أنه لا شبهة في أن خالق السموات والأرض ، ومنزل الماء من السماء ، ليس إلا الله ـ تعالى ـ.

ولكن ربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان ، فإن الإنسان قد يقول : أنا الذي ألقى البذر في الأرض ، وأسقيها الماء .. وفاعل السبب ، فاعل للمسبب ، فأنا المنبت للشجرة ..

فلما كان هذا الاحتمال قائما. لا جرم أزال ـ سبحانه ـ هذا الاحتمال. لأن الإنسان قد يأتى بالبذر والسقي .. ولا يأتى الزرع على وفق مراده .. فلهذه النكتة جاء الالتفات .. (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ، ص ٣.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٤١٤.

٣٤٥

وقوله ـ تعالى ـ : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أى : أإله آخر كائن مع الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء .. كلا ، لا شربك مع الله ـ تعالى ـ في خلقه وقدرته ، وإيجاده لهذه الكائنات (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ).

أى : بل إن هؤلاء المشركين قوم يعدلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد ، إلى الباطل البين وهو الشرك.

فقوله : (يَعْدِلُونَ) مأخوذ من العدول بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل. أو من العدل والمساواة ، فيكون المعنى : بل هم قوم ـ لجهلهم ـ يساوون بالله ـ تعالى ـ غيره من آلهتهم.

والجملة الكريمة : انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب ، إلى توبيخهم ، وتجهيلهم ، وبيان سوء تفكيرهم ، وانطماس بصائرهم.

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى لفت أنظارهم إلى حقائق كونية أخرى يشاهدونها بأعينهم ، ويحسونها بحواسهم. فقال ـ تعالى ـ : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) والقرار : المكان الذي يستقر فيه الإنسان ، ويصلح لبناء حياته عليه.

أى : بل قولوا لنا ـ أيها المشركون : من الذي جعل هذه الأرض التي تعيشون عليها ، مكانا صالحا لاستقراركم ، ولحرثكم ، ولتبادل المنافع فيما بينكم ، ومن الذي دحاها وسواها وجعلها بهذه الطريقة البديعة.

ومن الذي (جَعَلَ خِلالَها) أى : جعل فيما بينها (أَنْهاراً) تجرى بين أجزائها ، لتنتفعوا بمياه هذه الأنهار في شربكم ، وفي غير ذلك من شئون حياتكم. ومن الذي (جَعَلَ لَها رَواسِيَ) أى : جعل لصلاح حالها جبالا ثوابت ، تحفظها من أن تضطرب بكم.

ومن الذي : (جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أى : جعل بين البحر العذب والبحر الملح (حاجِزاً) يجعلهما لا يختلطان ولا يمتزجان.

ثم يأتى الاستفهام الإنكارى (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)؟ أى : أإله مع الله ـ تعالى ـ هو الذي فعل ذلك؟ كلا ، ليس مع الله ـ تعالى ـ آلهة أخرى فعلت ذلك.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أى : بل أكثر هؤلاء المشركين ، لا يعلمون الأمور على وجهها الصحيح ، لجهلهم ، وعكوفهم على ما ورثوه عن آبائهم بدون تفكير أو تدبر.

وعبر بأكثرهم ، لأن هناك قلة منهم تعلم الحق ، لكنها تنكره جحودا وعنادا.

ثم تنتقل السورة ـ للمرة الثالثة ـ إلى لفت أنظارهم إلى الحقيقة التي هم يحسونها في

٣٤٦

خاصة أنفسهم ، وفي حنايا قلوبهم فتقول : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).

والمضطر : اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة.

والمراد به : الإنسان الذي نزلت به شدة من الشدائد. جعلته يرفع أكف الضراعة إلى الله ـ تعالى ـ لكي يكشفها عنه.

أى : وقولوا لنا ـ أيها المشركون ـ : من الذين يجيب دعوة الداعي المكروب الذي نزلت به المصائب والرزايا؟ ومن الذي يكشف عنه وعن غيره السوء والبلاء؟ إنه الله وحده ، هو الذي يجيب دعاء من التجأ إليه ، وهو وحده ـ سبحانه ـ الذي يكشف السوء عن عباده ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته.

وقولوا لنا ـ أيضا ـ : من الذي (يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أى : من الذي يجعلكم يخلف بعضكم بعضا. قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) هو الذي فعل ذلك.

كلا ، بل الله وحده ـ عزوجل ـ هو الذي يجيب المضطر ، وهو الذي يكشف السوء ، وهو الذي يجعلكم خلفاء الأرض ، ولكنكم (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أى : ولكنكم زمانا قليلا هو الذي تتذكرون فيه نعم الله ـ تعالى ـ عليكم ، ورحمته بكم.

وختم ـ سبحانه ـ هذه الآية بتلك الجملة الحكيمة ، لأن الإنسان من شأنه ـ إلا من عصم الله ـ أنه يذكر الله ـ تعالى ـ عند الشدائد ، وينساه عند الرخاء.

وصدق الله إذ يقول : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ، فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة ـ للمرة الرابعة ـ إلى لفت أنظارهم إلى نعمه ـ سبحانه ـ عليهم في أسفارهم فقال ـ تعالى ـ : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

أى : وقولوا لنا ـ أيها المشركون ـ : من الذي يرشدكم في أسفاركم إلى المكان الذي تريدون الذهاب إليه ، عند ما تلتبس عليكم الطرق ، وأنتم بين ظلمات البحر وأمواجه ، أو وأنتم في متاهات الأرض وفجاجها.

وقولوا لنا : (مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أى : ومن الذي يرسل لكم الرياح لتكون مبشرات بقرب نزول المطر ، الذي هو رحمة من الله ـ تعالى ـ لكم ، بعد أن أصابكم اليأس والقنوط؟

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٥١.

٣٤٧

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) هو الذي فعل ذلك ، كلا ، فما فعل ذلك أحد سواه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تأكيد لوحدانيته وقدرته وتنزيه له ـ تعالى ـ عن الشرك والشركاء.

أى : تنزه الله وتقدس عن شرك هؤلاء المشركين ، فهو الواحد الأحد في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله.

ثم انتقلت السورة الكريمة ـ للمرة الخامسة ـ إلى لفت أنظارهم إلى نعمة أخروية ، بعد أن ساقت ما ساقت من النعم الدنيوية ، فقال ـ تعالى ـ : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أى : قولوا لنا ـ أيها المشركون ـ من الذي في قدرته أن يوجد الخلق في الأرحام من نطفة ، ثم يحولها إلى علقة ، ثم إلى مضغة .. ثم يعيد هذه المخلوقات جميعها بعد موتها ، إلى الحياة مرة أخرى؟ لا شك أنه لا يقدر على ذلك أحد سوى الله ـ تعالى ـ.

ثم قولوا لنا (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بالمطر والنبات والأموال ، وبغير ذلك من ألوان النعم التي لا تحصى؟.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) هو الذي فعل ذلك؟ كلا ، لم يفعل ذلك سوى الله ـ تعالى ـ وحده ثم لقن الله ـ تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجواب الذي يخرس ألسنتهم عند المعارضة أو المجادلة فقال : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ عند معارضتهم لك ، أحضروا حجتكم وهاتوا برهانا عقليا أو نقليا ، على أن لله ـ تعالى ـ شريكا في ملكه ، إن كنتم صادقين فيما انغمستم فيه من جهل وشرك وكفر به ـ عزوجل ـ.

قال الإمام الرازي ما ملخصه : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما عدد نعم الدنيا ، أتبع ذلك بنعم الآخرة فقال : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، لأن نعم الله بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء. فإن قيل : كيف قيل لهم : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهم منكرون للإعادة؟.

فالجواب : أنهم كانوا معترفين بالابتداء ، ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية ، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة ، صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار .. (١).

وبذلك ترى هذه الآيات الكريمة. قد أقامت أوضح الأدلة وأقواها ، على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى كمال قدرته ، وشمول علمه ، وانفراده بالخلق والتدبير ..

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٤١٦.

٣٤٨

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن علم الله ـ تعالى ـ الذي غيبه عن عباده ، وعن أقوال المشركين في شأن البعث والحساب ، وعن توجيهات الله ـ تعالى ـ لنبيه في الرد عليهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥)

ذكر بعض المفسرين أن كفار مكة سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت قيام الساعة ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ.) ..

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل.

٣٤٩

و «من» اسم موصول في محل رفع على أنه فاعل «يعلم» و «الغيب» مفعوله فيكون المعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لكل من سألك عن موعد قيام الساعة : لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض ، الغيب إلا الله ـ تعالى ـ وحده ، فإنه هو الذي يعلمه.

ويجوز أن يكون لفظ «من» في محل نصب على المفعولية و «الغيب» بدل منه ، ولفظ الجلالة «الله» فاعل «يعلم» فيكون المعنى : قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا ، إلا الله ـ تعالى ـ.

قال القرطبي : وفي صحيح مسلم عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من زعم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم ما في غد ، فقد أعظم على الله الفرية» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) تأكيد لانفراد الله ـ تعالى ـ بعلم الغيوب ، ولفظ «أيان» ظرف زمان متضمن معنى متى.

أى : وما يشعر هؤلاء الكافرون الذين سألوا عن وقت قيام الساعة ، ولا غيرهم ، متى يكون بعثهم من قبورهم للحساب ، إذ علم وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله وحده.

فالجملة الكريمة تنفى عنهم العلم بموعد قيام الساعة في أدق صورة وأخفاها ، فهم لا يشعرون ولا يحسون بقيام الساعة ، (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ حقيقة أمرهم في الآخرة بصورة أكثر تفصيلا. فقال : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.).

وقوله ـ تعالى ـ : (بَلِ ادَّارَكَ ..). قرأه الجمهور ـ بكسر اللام وتشديد الدال وبعدها ألف ـ وأصله تدارك ، بزنة تفاعل.

وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال أشهرها : أن التدارك بمعنى الاضمحلال والفناء ، وأصله التتابع والتلاحق. يقال : تدارك بنو فلان ، إذا تتابعوا في الهلاك ، و «في» بمعنى الباء.

أى : بل تتابع علم هؤلاء المشركين بشئون البعث حتى اضمحل وفنى ، ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توافر أسبابه ومباديه من الدلائل.

والمقصود : أن أسباب علمهم بأحوال الآخرة مع توافرها ، قد تساقطت من اعتبارهم

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٢٦.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٤٠.

٣٥٠

لكفرهم بها ، فأجرى ذلك مجرى تتابعها في الانقطاع.

ومنهم من يرى أن التدارك هنا التكامل ، فيكون المعنى : بل تكامل علمهم بشئون الآخرة ، حين يعاينون ما أعد لهم فيها من عذاب ، بعد أن كانوا ينكرون البعث والحساب في الدنيا ..

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره .. والمعنى : بل تتابع علمهم في شأن الآخرة ، التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها ، حتى انقطع وفنى ، ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا ، مع توفر أسبابه ، فهو ترق من وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش .. وجوز أن يكون «ادارك» بمعنى استحكم وتكامل .. (١).

ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للقولين ، على معنى أن المشركين اضمحل علمهم بالآخرة لكفرهم بها في الدنيا ، فإذا ما بعثوا يوم القيامة وشاهدوا العذاب ، أيقنوا بحقيقتها ، وتكامل علمهم واستحكم بأن ما كانوا ينكرونه في الدنيا. قد صار حقيقة لا شك فيها ، ولا مفر لهم من عذابها ..

ومن الآيات التي توضح هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢) أى : علمك بما كنت تنكره في الدنيا قد صار في نهاية القوة والوضوح.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك علمهم في الآخرة ـ بسكون اللام من بل. وهمزة قطع مفتوحة مع سكون الدال في «أدرك» فهو بزنة أفعل.

أى : بل كمل علمهم في الآخرة ، وذلك بعد أن شاهدوا أهوالها ، ورأوها بأعينهم ، وقد كانوا مكذبين بها في الدنيا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بيان لأحوالهم في الدنيا.

أى : أن هؤلاء المشركين كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة ، بل كانوا في عمى عنها ، بحيث لا يفتحون بصائرهم أو أبصارهم ، عما قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأنها.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد انتقلت في تصوير كفر هؤلاء المشركين بالآخرة ، من حالة شنيعة إلى حالة أخرى أشد منها في الشناعة والجحود.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٠ ص ١٣.

(٢) سورة ق الآية ٢٢.

٣٥١

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم ؛ وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم لا يعلمون بأن القيامة كائنة ، ثم إنهم يخبطون في شك ومرية ، فلا يزيلونه مع أن الإزالة مستطاعة .. ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حق ولا باطل ، ولا يفكر في عاقبة (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك أقوالهم الباطلة ، التي جعلتهم في عمى عن الآخرة فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ).

أى : وقال الذين كفروا على سبيل الإنكار للبعث والحساب : أإذا متنا وصرنا مثل التراب ، وصار آباؤنا كذلك مثل التراب ، أنبعث ونخرج إلى الحياة مرة أخرى بعد أن صرنا جميعا عظاما نخرة وأجسادا بالية؟

يقولون هذا ، وينسون لجهلهم وانطماس بصائرهم أن الله ـ تعالى ـ أوجدهم بقدرته ولم يكونوا شيئا مذكورا.

والاستفهام للإنكار والنفي ، والعامل في «إذا» محذوف ، دل عليه «مخرجون» وقوله : (وَآباؤُنا) معطوف على اسم كان ، أى : أنبعث ونخرج نحن وآباؤنا إذا كنا كذلك؟

ثم يتبعون قولهم هذا ، بقول أشد منه في الإنكار والتهكم فيقولون : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

والأساطير : جمع أسطورة ، كأحاديث وأحدوثة ، وأكاذيب وأكذوبة.

ومرادهم بها : الخرافات والتخيلات التي لا حقيقة لها.

أى : لقد وعدنا الإخراج والإعادة إلى الحياة ، نحن وآباؤنا من قبل ، أى : من قبل أن يخربنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فنحن وآباؤنا ما زلنا نسمع من القصاص أن هناك بعثا وحسابا ، ولكن لا نرى لذلك حقيقة ولا وقوعا ..

وما هذا الذي نسمعه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن الآخرة إلا أكاذيب الأولين ، وخرافاتهم التي لا مكان لها في عقولنا.

وهكذا يؤكدون إنكارهم للآخرة ، بشتى ألوان المؤكدات ، المصحوبة بالتهكم والاستخفاف.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٨٠.

٣٥٢

وهنا يلفت القرآن أنظارهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم ، ويأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحذرهم من سوء مصير هذا الإنكار والاستهزاء ، فيقول : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاحدين : سيروا في الأرض لتروا بأعينكم مصارع المكذبين بما جاءهم به الرسل من قبلكم. ولتعتبروا بما أصابهم بسبب إجرامهم ، وإنكارهم للبعث والحساب يوم القيامة.

فالآية الكريمة توجههم إلى ما من شأنه أن يفتح مغاليق قلوبهم المتحجرة وأن يزيل عن نفوسهم قسوتها وعنادها.

وبعد هذا التوجيه الحكيم تأخذ السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من حزن بسبب كفرهم فتقول : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ، وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) والحزن : اكتئاب نفسي يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه.

والمقصود بالنهى عن الحزن : النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب ، وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، ويصعب نسيانها.

والمكر : التدبير المحكم. أو صرف الغير عما يريده بحيلة ، لقصد إيقاع الأذى به.

أى : ولا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ على هؤلاء المشركين ، بسبب إصرارهم على الكفر والجحود ولا يضيق صدرك ، ويمتلئ هما وغما بسبب مكرهم فإن الله ـ تعالى ـ عاصمك منهم ، وناصرك عليهم.

ثم تعود السورة إلى سرد أباطيلهم فتقول : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى : ويقول هؤلاء المشركون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه : متى يحصل هذا الوعد الذي توعدتمونا به ، وهو أن عذابا سيصيبنا إذا لم نؤمن بما أنتم مؤمنون به.

إن كنتم صادقين في وعدكم لنا بهذا العذاب ، فأنزلوه بنا ، فنحن قد طال انتظارنا له. وهكذا الأشرار يتعجلون مصيرهم الأليم ، ويبحثون عن حتفهم بظلفهم ، وذلك لإيغالهم في الغرور والعناد.

ولذا جاء الرد عليهم ، يحمل في طياته العذاب الشديد ، والتهكم المرير ، فيقول ـ تعالى ـ آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ).

والرديف ـ كما يقول صاحب المصباح ـ الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة .. ومنه ردف

٣٥٣

المرأة ، وهو عجزها ، والجمع أرادف .. وترادف القوم : إذا تتابعوا ، وكل شيء تبع شيئا فهو ردفه. (١).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ لا نتعجلوا العذاب فعسى ما تستعجلونه من عذاب ، بعضه قد لحقكم ونزل بكم ، وبعضه في طريقه إليكم ، وأنتم لا تشعرون بذلك ، لشدة غفلتكم ، وتبلد مشاعركم.

والتعبير بقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) يشعر بأن العذاب ليس بعيدا عنهم ، وإنما هو قريب منهم ، كقرب الراكب فوق الدابة ممن هو ردفه ـ أى خلفه ـ عليها.

ولقد لحقهم شيء من هذا العذاب الذي تعجلوه في مكة ، عند ما أصيبوا بالقحط والجدب ، ولحقهم شيء منه بعد ذلك في بدر ، عند ما قتل المسلمون أكثر زعمائهم ، كأبى جهل ، وغيره .. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر فضله على الناس ، فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ).

أى : وإن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ لذو فضل عظيم ، وإنعام كبير على الناس. ومن مظاهر ذلك : أنه لم يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم ، ولكن أكثر هؤلاء الناس لا يشكرونه ـ سبحانه ـ على فضله وإنعامه.

والتعبير «بأكثر» للإشعار بأن هناك قلة مؤمنة من الناس ، ملازمة لشكر الله ـ تعالى ـ في السراء والضراء ، والعسر واليسر.

ثم بين ـ سبحانه ـ شمول علمه لكل شيء فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (لَيَعْلَمُ) علما تاما (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أى : ما تخفيه وتستره صدورهم من أسرار ، ويعلم ـ أيضا ـ (ما يُعْلِنُونَ) أى : ما يظهرونه من أقوال وأفعال.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أى : وما من شيء غائب عن علم الخلق سواء أكان في السماء أو في الأرض.

(إِلَّا) وهو عندنا (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أى : إلا وهو عندنا في كتاب واضح لمن يطالعه بإذن ربه ، وهذا الكتاب المبين هو اللوح المحفوظ الذي سجل ـ سبحانه ـ فيه أحوال خلقه.

ومادام الأمر كذلك ، فلا تحزن ـ أيها الرسول الكريم ـ لما عليه هؤلاء المشركون من

__________________

(١) المصباح المنير ج ١ ص ٣٠٦.

٣٥٤

جحود وعناد ، بل فوض إلينا أمرهم ، فأنت عليك البلاغ ، ونحن علينا الحساب.

ثم مدحت السورة الكريمة القرآن الكريم ، وساقت المزيد من التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٨١)

قال الإمام الرازي : اعلم انه ـ سبحانه ـ لما تمم الكلام في إثبات المبدأ والمعاد. ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ، ولما كانت الدلالة الكبرى في إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو القرآن ، لا جرم بين الله ـ تعالى ـ أولا كونه معجزة .. (١).

أى : إن هذا القرآن من معجزاته الدالة على أنه من عند الله ـ تعالى ـ ، أنه يقص على بنى إسرائيل ، الذين هم حملة التوراة والإنجيل ، أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها ، ويبين لهم وجه الحق والصواب فيما اختلفوا فيه.

ومن بين ما اختلف فيه بنو إسرائيل : اختلافهم في شأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، فاليهود كفروا به ، وقالوا على أمه ما قالوا من الكذب والبهتان ، والنصارى قالوا فيه إنه الله ، أو هو ابن الله ، فجاء القرآن ليبين لهم القول الحق في شأن عيسى ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٤٢٠.

٣٥٥

فقال : من بين ما قال : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.). (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) للإشارة إلى أن القرآن ترك أشياء اختلفوا فيها دون أن يحكيها ، لأنه لا يتعلق بذكرها غرض هام يستدعى الحديث عنها ، ولأن في عدم ذكرها سترا لهم ، عما وقعوا فيه من أخطاء ..

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) صفة أخرى من صفات القرآن الكريم الدالة على أنه من عند الله ـ تعالى ـ :

أى : وإن هذا القرآن لمن صفاته ـ أيضا ـ أننا جعلناه هداية للمؤمنين إلى الصراط المستقيم ، ورحمة لهم ينالون بسببها العفو والمغفرة من الله.

وخص هدايته ورحمته بالمؤمنين ، لأنهم هم الذين آمنوا به ، وصدقوا بما فيه ، وعملوا بأوامره ، واجتنبوا نواهيه ، وطبقوا على أنفسهم أحكامه ، وآدابه. وتشريعاته ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أن مرد القضاء بين المختلفين إليه وحده فقال : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ..).

أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يقضى بين بنى إسرائيل الذين اختلفوا فيما بينهم اختلافا كبيرا ، بحكمه العادل ، كما يقضى بين غيرهم ، فيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

(وَهُوَ) ـ سبحانه ـ (الْعَزِيزُ) الذي لا يغالب (الْعَلِيمُ) بكل شيء في هذا الوجود ، والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ..). للتفريع. أى : ما دمت قد عرفت ذلك ـ أيها الرسول الكريم ـ ففوض أمرك إلى العزيز العليم وحده ، وتوكل عليه دون سواه ، وبلغ رسالته دون أن تخشى أحدا إلا إياه.

وجملة «إنك على الحق المبين» تعليل للتوكل على الله وحده.

أى : توكل على الله ـ تعالى ـ وحده ، لأنك ـ أيها الرسول الكريم ـ على الحق الواضح البين ، الذي لا تحوم حوله شبهة من باطل.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ..). تعليل آخر لوجوب التوكل على الله ـ تعالى ـ.

وقد شبه ـ سبحانه ـ أولئك المشركين ، بالأموات الذين فقدوا الحياة ، وبالصم الذين

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٧١.

٣٥٦

فقدوا السمع ، وبالعمى الدين فقدوا البصر ، وذلك لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس ، فصاروا كالفاقدين لها.

أى : دم ـ أيها الرسول الكريم ـ على توكلك على الله ـ تعالى ـ وحده ، وإنك لا تستطيع أن تسمع هؤلاء المشركين. ما يردهم عن شركهم ، لأنهم كالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل ، ولأنهم كالصم الذين فقدوا نعمة السمع.

وقوله : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) لتتميم التشبيه. وتأكيد نفى السماع. أى : إذا أعرضوا عن الحق إعراضا تاما ، وأدبروا عن الاستماع إليك.

قال الجمل : فإن قلت : ما معنى قوله (مُدْبِرِينَ) والأصم لا يسمع سواء أقبل أو أدبر؟.

قلت : هو تأكيد ومبالغة للأصم. وقيل : إن الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع رفع الصوت ، أو يفهم بالإشارة ، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم.

ومعنى الآية : إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت ، الذي لا سبيل إلى إسماعه ، وكالأصم الذي لا يسمع ولا يفهم .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ.). أى : وما أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ بقادر على أن تصرف العمى عن طريق الضلال الذي انغمسوا فيه ، لأن الهداية الى طريق الحق ، مردها إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

ثم بين ـ سبحانه ـ في مقابل ذلك ، من هم أهل السماع والبصر فقال : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

أى : أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ ما تستطيع أن تسمع إسماعا مجديا نافعا ، إلا لمن يؤمن بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، لأن هؤلاء هم المطيعون لأمرنا ، المسلمون وجوههم لنا.

وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت الكثير من وسائل التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من المشركين ، كما ساقت ما يدل على أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ : وعلى أنه ـ سبحانه ـ هو الحكم العدل بين عباده.

ثم أخذت السورة الكريمة تسوق في أواخرها بعض أشراط الساعة وعلاماتها ، وأهوالها ، لكي تعتبر النفوس ، وتخشع لله ـ تعالى ـ ، فقال ـ عزوجل ـ :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٢٦.

٣٥٧

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ)(٨٨)

قال الإمام ابن كثير : هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس ، وتركهم أوامر الله ، وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض قيل : من مكة ، وقيل من غيرها.

ثم ذكر ـ رحمه‌الله ـ جملة من الأحاديث في هذا المعنى منها : ما رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفته ، ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى بن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن ، تسوق ـ أو تحشر ـ الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ـ وتقيل معهم حيث قالوا (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٢٠.

٣٥٨

والدابة : اسم لكل حيوان ذي روح ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، عاقلا أم غير عاقل ، من الدبيب وهو في الأصل : المشي الخفيف ، واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع.

والمراد بوقوع القول عليهم : قرب قيام الساعة ، وانتهاء الوقت الذي يقبل فيه الإيمان من الكافر. أو الذي تنفع فيه التوبة.

والمعنى إذا دنا وقت قيام الساعة. وانتهى الوقت الذي ينفع فيه الإيمان أو التوبة .. أخرجنا للناس بقدرتنا وإرادتنا ، دابة من الأرض تكلمهم ، فيفهمون كلامها ، ويعرفون أن موعد قيام الساعة قد اقترب. و (أَنَّ النَّاسَ) أى : الكافرين (كانُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (لا يُوقِنُونَ) بها ، ولا يصدقون أن هناك بعثا وحسابا.

فخروج الدابة علامة من علامات الساعة الكبرى ، يخرجها الله ـ عزوجل ـ ليعلم الناس قرب انتهاء الدنيا وأن الحساب العادل للمؤمنين والكافرين ، آت لا شك فيه ، وأن التوبة لن تقبل في هذا الوقت ، لأنها جاءت في غير وقتها المناسب.

وقد ذكر بعض المفسرين أوصافا كثيرة ، منها أن طولها ستون ذراعا وأن رأسها رأس ثور ، وأذنها أذن فيل ، وصدرها صدر أسد .. إلخ.

ونحن نؤمن بأن هناك دابة تخرج في آخر الزمان ، وأنها تكلم الناس بكيفية يعلمها الله ـ عزوجل ـ أمّا ما يتعلق بالمكان الذي تخرج منه هذه الدابة ، وبالهيئة التي تكون عليها من حيث الطول والقصر ، فنكل ذلك إلى علمه ـ سبحانه ـ حيث لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه في بيان ذلك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) بيان إجمالى لحال المكذبين بالساعة عند قيامها ، بعد بيان بعض أشراطها.

والظرف متعلق بمحذوف. والحشر : الجمع ، قالوا والمراد بهذا الحشر : حشر الكافرين إلى النار ، بعد حشر الخلائق جميعها ، والفصل بينهم.

والفوج : يطلق في الأصل على الجماعة التي تسير بسرعة ، ثم توسع فيه فصار يطلق على كل جماعة ، وإن لم يكن معها مرور أو إسراع.

وقوله : (يُوزَعُونَ) من الوزع. بمعنى الكف والمنع ، يقال : وزعه عن الشيء ، إذا كفه عنه ، ومنعه من غشيانه ، والوازع في الحرب ، هو الموكل بتنظيم الصفوف ، ومنع الاضطراب فيها.

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ يوم (نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (فَوْجاً).

٣٥٩

أى : جماعة من الذين كانوا يكذبون في الدنيا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أى : فهم يقفون بين أيدينا ، داخرين صاغرين ، بحيث لا يتقدم أحد منهم على أحد ، وإنما يتحركون ويساقون إلى حيث نريد منهم ، ويتجمعون جميعا ليلقوا مصيرهم المحتوم.

وأفرد ـ سبحانه ـ هؤلاء المكذبين بالذكر. ـ مع أن الحشر يشمل الناس جميعا ـ لإبراز الحال السيئة التي يكونون عليها عند ما يجمعون للحساب دون أن يشذ منهم أحد ، ودون أن يتحرك أولهم حتى يجتمع معه آخرهم ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أحوالهم بعد ذلك فقال : (حَتَّى إِذا جاؤُ) أى : حتى إذا ما وصلوا إلى موقف الحساب قال الله ـ تعالى ـ لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) الدالة على وحدانيتي وعلى أن الآخرة حق. وأن الحساب حق وجملة ، «ولم تحيطوا بها علما» حالية ، لزيادة التشنيع عليهم. والتجهيل لهم.

أى : أكذبتم بآياتى الدالة على أن البعث حق ، دون أن تتفكروا فيها ، ودون أن يكون عندكم أى علم أو دليل على صحة هذا التكذيب.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذا التوبيخ لهم ، توبيخا أشد وأعظم ، فقال : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أى : إذا لم تكونوا قد كذبتم بآياتى ، فقولوا لنا ماذا كنتم تعملون ، فإننا لا يخفى علينا شيء منها ، ولا نعاقبكم إلا عليها.

ولا شك أن هذا التساؤل المقصود منه تأنيبهم وتقريعهم ، والاستهزاء بهم ، لأنه من المعروف أنهم كذبوا بآيات الله ، وأنهم قد قضوا حياتهم في الكفر والضلال ، ولذا وقفوا واجمين لا يحيرون جوابا ، فكانت النتيجة كما قال ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ). أى : وحل العذاب عليهم بسبب ظلمهم وجحودهم ، فاستقبلوه باستسلام وذلة ، دون أن يستطيعوا النطق بكلمة تنفعهم. أو بحجة يدافعون بها عن أنفسهم ..

فالمقصود بوقوع القول عليهم : إقامة الحجة عليهم ، ونزول العذاب بهم واستحقاقهم له بسبب ظلمهم وكفرهم.

وبعد هذا التوبيخ لهم وهم في ساحة الحشر ، انتقلت السورة إلى توبيخهم على فعلتهم حين كانوا في الدنيا. فتقول : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ، وَالنَّهارَ مُبْصِراً).

أى : أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المكذبين ـ أنهم يعيشون في هذا الكون ليأكلوا ويشربوا ويتمتعوا ، دون أن يعتبروا أو يتفكروا.

٣٦٠