التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

وهذا هو اللائق بشأن النبي الكريم سليمان ، الذي آتاه الله ـ تعالى ـ النبوة والملك والحكمة.

قال القرطبي «وقوله : (سَنَنْظُرُ) من النظر الذي هو التأمل والتصفح. (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أى : في مقالتك. و (كُنْتَ) بمعنى أنت وقال : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) ولم يقل سننظر في أمرك ، لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت ، فكان ذلك كفاء لما قاله» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ، ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ، فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) بيان لما أمر به سليمان ـ عليه‌السلام ـ الهدهد ، بعد أن قال له : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين.

أى : خذ ـ أيها الهدهد ـ كتابي هذا. فاذهب به إلى هؤلاء القوم من أهل سبأ ، (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أى : ثم انصرف عنهم إلى مكان قريب منهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أى : فتأمل ماذا يقول بعضهم لبعض ، وبما ذا يراجع بعضهم بعضا ، ثم أخبرنى بذلك.

قال ابن كثير : وذلك أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ كتب كتابا إلى بلقيس وقومها ، وأعطاه لذلك الهدهد فحمله ... وذهب به إلى بلادهم ، فجاء في قصر بلقيس. إلى الخلوة التي كانت تختلى فيها بنفسها ، فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها. ثم تولى ناحية أدبا ، فتحيرت مما رأت. وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ، ففتحت ختمه وقرأته ...» (٢).

وقال صاحب الكشاف : «فإن قلت : لم قال : فألقه إليهم. على لفظ الجمع؟ قلت : لأنه قال : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) فقال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ، اهتماما منه بأمر الدين ، واشتغالا به عن غيره. وبنى الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك» (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعلته ملكة سبأ ، بعد أن جاءها كتاب سليمان ـ عليه‌السلام ـ ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

أى : قالت لحاشيتها بعد أن قرأت الكتاب وفهمت ما فيه : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ـ أى : يا أيها الأشراف من قومي (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٨٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٩٨.

(٣) تفسير الكشاف ج ٣ ، ص ٣٦٣.

٣٢١

وصفته بالكرم لاشتماله على الكلام الحكيم ، والأسلوب البديع ، والتوجيه الحسن ، ولجمال هيئته ، وعجيب أمره.

ثم أفصحت عن مصدره فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) وعن مضمونه فقالت : (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وفي ذلك إشارة إلى وصفه بالكرم ، حيث اشتمل على اسم الله ـ تعالى ـ وعلى بعض صفاته ، وعلى ترك التكبر ، وعلى الدخول وعلى الدخول في الدين الحق ، كما يدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أى : ألا تتكبروا على كما يفعل الملوك الجبابرة (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) منقادين طائعين لشريعة الله ـ وحده ، التي توجب عليكم إخلاص العبادة له ، دون أحد سواه ، إذ هو ـ سبحانه ـ الخالق لكل شيء ، وكل معبود سواه فهو باطل.

فالكتاب ـ مع إيجازه ـ متضمن لفنون البلاغة. ولمظاهر القوة الحكيمة العادلة ، التي اتبعها سليمان في رسالته إلى ملكة سبأ وقومها.

وبعد أن بلغت حاشيتها بمصدر الكتاب ومضمونه ، استأنفت حديثها فقالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) والفتوى : الجواب على المستفتى فيما سأل عنه ، والمراد بها هنا : المشورة وإبداء الرأى.

أى : قالت يا أيها الأشراف والقادة من قومي ، أشيروا على ماذا سأفعل في أمر هذا الكتاب الذي جاءني من سليمان ، والذي يطلب منا فيه ما سمعتم؟

ثم أضافت إلى ذلك قولها : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) أى : أنتم تعلمون أنى لا أقطع أمرا يتعلق بشئون المملكة إلا بعد استشارتكم ، وأخذ رأيكم.

وفي قولها هذا دليل على حسن سياستها ، ورجاحة عقلها ، حيث جمعت رءوس مملكتها ، واستشارتهم في أمرها ، وأعلمتهم أن هذه عادة مطردة عندها. وبذلك طابت نفوسهم ، وزادت ثقتهم فيها.

فقد قالوا لها : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أى : أصحاب قوة في الأجساد ، (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أى : وأصحاب بلاء شديد في القتال.

(وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أى : موكول إلى رأيك ، وإلى ما تطمئن إليه نفسك من قرار.

(فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) فتأملى وتفكري فيما تأمريننا به بالنسبة لهذا الكتاب ، فنحن سنطيعك في كل ما تطلبينه منا.

وهنا يحكى لنا القرآن الكريم ما كانت عليه تلك المرأة من دهاء وكياسة ، وإيثار للسلم على الحرب ، واللين على الشدة ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ) من شأنهم أنهم (إِذا

٣٢٢

دَخَلُوا قَرْيَةً) من القرى. أو مدينة من المدن ، بعد تغلبهم على أهلها عن طريق الحرب والقتال .. (أَفْسَدُوها) أى : أشاعوا فيها الفساد والخراب والدمار.

وفوق كل ذلك : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أى : أهانوا أشرافها ورؤساءها ، وجعلوهم أذلة بعد أن كانوا أعزة. ليكونوا عبرة لغيرهم.

(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) أى : وهذه هي عادتهم التي يفعلونها عند دخولهم قرية من القرى ، عن طريق القهر والقسر والقتال.

والمقصود من قولها هذا : التلويح لقومها بأن السلم أجدى من الحرب ، وأن الملاينة مع سليمان ـ عليه‌السلام ـ أفضل من المجابهة والمواجهة بالقوة.

ثم صرحت لهم بما ستفعله معه فقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ). وقوله : (فَناظِرَةٌ) معطوف على (مُرْسِلَةٌ) وهو من الانتظار بمعنى الترقب.

أى : وإنى قد قررت أن أرسل إلى سليمان وجنوده هدية ثمينة تليق بالملوك أصحاب الجاه والقوة والسلطان ، وإنى لمنتظرة ماذا سيقول سليمان لرسلي عند ما يرى تلك الهدية. وماذا سيفعل معهم.

قال ابن عباس : قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.

وقال قتادة : رحمها الله ورضى عنها ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! لقد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما كان من سليمان عند ما رأى الهدية ، فقال ـ تعالى ـ :

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ)(٣٧)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٠٠.

٣٢٣

وفي الكلام حذف يفهم من السياق ، وتقتضيه بلاغة القرآن الكريم والتقدير : وهيأت ملكة سبأ الهدية الثمينة لسليمان ـ عليه‌السلام ـ. وأرسلتها مع من اختارتهم من قومها لهذه المهمة ، فلما جاء سليمان ، أى : فلما وصل الرسل إلى سليمان ومعهم هدية ملكتهم إليه.

فلما رآها قال ـ على سبيل الإنكار والاستخفاف بتلك الهدية ـ : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) أى : أتقدمون إلى هذا المال الزائل والمتمثل في تلك الهدية لأكف عن دعوتكم إلى إتيانى وأنتم مخلصون العبادة لله ـ تعالى ـ وحده. وتاركون لعبادة غيره؟

كلا لن ألتفت إلى هديتكم (فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك الواسع (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من أموال من جملتها تلك الهدية.

فالجملة الكريمة تعليل لإنكاره لهديتهم ، ولاستخفافه بها ، وسخريته منها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) إضراب عما ذكره من إنكاره لتلك الهدية وتعليله لهذا الإنكار ، إلى بيان ما هم عليه من ضيق في التفكير ، حيث أوهموا أن هذه الهدية ، قد تفيد في صرف سليمان عن دعوتهم إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وقد تحمله على تركهم وشأنهم.

أى : افهموا ـ أيها الرسل ـ وقولوا لمن أرسلكم بتلك الهدية : إن سليمان ما آتاه الله من خير ، أفضل مما آتاكم ، وإنه يقول لكم جميعا : انتفعوا أنتم بهديتكم وافرحوا بها ، لأنكم لا تفكرون إلا في متع الحياة الدنيا ، أما أنا ففي غنى عن هداياكم ولا يهمني إلا إيمانكم.

ثم أتبع سليمان ـ عليه‌السلام ـ هذا الاستنكار بالتهديد فقال : ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ).

أى : قال سليمان لمن أرسلته بلقيس بالهدية : عد من حيث أتيت ومعك هديتك.

(فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أى : فو الله لنأتينهم بجنود لا قدرة لهم على مقاومتهم ، ولا طاقة لهم على قتالهم.

(وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أى : وو الله لنخرجن هذه الملكة وقومها من بلاد سبأ ، حالة كونهم أذلة ، وحالة كونهم مهزومين مقهورين ، بعد أن كانوا في عزة وقوة.

وعاد الرسل بهديتهم إلى الملكة ، دون أن يهتم القرآن بما جرى لهم بعد ذلك ، لأن القرآن لا يهتم إلا بالجوهر واللباب فيما يقصه من أحداث.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما طلبه سليمان ـ عليه‌السلام ـ من جنوده فيقول :

٣٢٤

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٤٠)

قال ابن كثير ما ملخصه : فلما رجعت الرسل إلى ملكة سبأ بما قاله سليمان ، قالت : قد ـ والله ـ عرفت ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة .. وبعثت اليه : إنى قادمة إليك بملوك قومي ، لأنظر في أمرك وما تدعونا إليه من دينك .. ثم شخصت إليه في اثنى عشر ألف رجل من أشراف قومها ـ بعد أن أقفلت الأبواب على عرشها ـ فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة ، حتى إذا دنت جمع من عنده من الإنس والجن ممن تحت يده فقال : (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

أى : قال سليمان لجنوده : أى واحد منكم يستطيع أن يحضر لي عرش هذه الملكة قبل أن تحضر إلى هي وقومها مسلمين ، أى : منقادين طائعين مستسلمين لما أمرتهم به.

ولعل سليمان ـ عليه‌السلام ـ قد طلب إحضار عرشها ـ من بلاد اليمن إلى بيت المقدس حيث مقر مملكته ، ليطلعها على عظيم قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعلى ما أعطاه ـ سبحانه ـ له من ملك عريض ، ومن نعم جليلة ، ومن قوة خارقة ، حيث سخر له من يحضر له عرشها من مكان بعيد في زمن يسير.

ولعل كل ذلك يقودها هي وقومها إلى الإيمان بالله رب العالمين ..

وبعد أن قال سليمان لجنده أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين ، رد عليه عفريت من الجن بقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ).

والعفريت : هو المارد القوى من الشياطين ، الذين سخرهم الله ـ تعالى ـ لخدمة سليمان ،

٣٢٥

وللقيام بأداء ما يكلفهم به. ويقال له : عفريت ، وعفريتة ـ بكسر العين وسكون الفاء ـ.

أى : قال عفريت من الجن لسليمان : أنا آتيك بعرش هذه الملكة ، قبل أن تقوم من مقامك ، أى : قبل أن تقوم من مجلسك هذا الذي تجلس فيه للقضاء بين الناس. أو قبل أن تقف من جلوسك.

(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أى : وإنى على حمله وإحضاره من تلك الأماكن البعيدة إليك ، لقوى على ذلك ، بحيث لا يثقل على حمله ، ولأمين على إحضاره دون أن يضيع منه شيء.

وكأن سليمان قد استبطأ إحضاره عرش تلك المملكة في هذه الفترة التي حددها ذلك العفريت القوى ، فنهض جندي آخر من جنوده ، ذكره القرآن بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ، أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). قالوا : والمراد بهذا الذي عنده علم من الكتاب : آصف بن برخيا ، وهو رجل من صلحاء بنى إسرائيل ، آتاه الله ـ تعالى ـ من لدنه علما ، وكان وزيرا لسليمان.

قالوا : وكان يعلم اسم الله الأعظم ، الذي إذا دعى به ـ سبحانه ـ أجاب الداعي ، وإذا سئل به ـ تعالى ـ أجاب السائل.

قيل : المراد به سليمان نفسه ، ويكون الخطاب على هذا العفريت ، فكأنه استبطأ ما قاله العفريت فقال له : ـ على سبيل التحقير ـ أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.

وقيل : المراد به جبريل. والأول هو المشهور عند المفسرين.

أى : قال الرجل الذي عنده علم من كتاب الله ـ تعالى ـ يا سليمان أنا آتيك بعرش بلقيس ، قبل أن تغمض عينك وتفتحها ، وهو كناية عن السرعة الفائقة في إحضاره.

وفي ذلك ما فيه من الدلالة على شرف العلم وفضله وشرف حامليه وفضلهم وأن هذه الكرامة التي وهبها الله ـ تعالى ـ لهذا الرجل ، كانت بسبب ما آتاه ـ سبحانه ـ من علم.

وجاء عرش الملكة لسليمان من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، بتلك السرعة الفائقة (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أى : فلما رأى سليمان العرش المذكور حاضرا لديه ، وكائنا بين يديه ... لم يغتر ولم يتكبر ، ولم يأخذه الزهو والعجب. بل قال ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ).

أى : قال سليمان : هذا الذي أراه من إحضار العرش بتلك السرعة من فضل ربي وعطائه ، لكي يمتحننى أأشكره على نعمه أم أجحد هذه النعم.

٣٢٦

(وَمَنْ شَكَرَ) الله ـ تعالى ـ على نعمه (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) حيث يزيده ـ سبحانه ـ منها.

(وَمَنْ كَفَرَ) نعم الله ـ تعالى ـ وجحدها (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن خلقه (كَرِيمٌ) في معاملته لهم ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، بل يعفو ويصفح عن كثير من ذنوبهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة البديعة ، ببيان ما فعله سليمان بالعرش ، وبما قاله لملكة سبأ بعد أن قدمت إليه ، وبما انتهى إليه أمرها ، فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٤)

وقوله : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) من التنكير الذي هو ضد التعريف ، وهو جعل الشيء على هيئة تخالف هيئته السابقة حتى لا يعرف.

أى : قال سليمان لجنوده ، بعد أن استقر عنده عرش بلقيس : غيروا لهذه الملكة عرشها ، كأن تجعلوا مؤخرته في مقدمته ، وأعلاه أسفله ..

وافعلوا ذلك لكي (نَنْظُرْ) ونعرف (أَتَهْتَدِي) إليه بعد هذا التغيير ، أو إلى الجواب اللائق بالمقام عند ما تسأل (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفة الشيء بعد تغيير معالمه المميزة له. أو إلى الجواب الصحيح عند ما تسأل عنه.

فالمقصود بتغيير هيئة عرشها : اختبار ذكائها وفطنتها ، وحسن تصرفها ، عند مفاجأتها

٣٢٧

باطلاعها على عرشها الذي خلفته وراءها في بلادها. وإيقافها على مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى ما وهبه لسليمان ـ عليه‌السلام ـ من معجزات.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا جاءَتْ ..). شروع في بيان ما قالته عند ما عرض عليها سليمان عرشها.

أى : فلما وصلت بلقيس إلى سليمان ـ عليه‌السلام ـ عرض عليها عرشها بعد تغيير معالمه. ثم قيل لها من جهته ـ عليه‌السلام ـ : (أَهكَذا عَرْشُكِ) أى : أمثل هذا العرش الذي ترينه الآن ، عرشك الذي خلفته وراءك في بلادك.

فالهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه ـ والكاف حرف جر ، وذا اسم إشارة مجرور بها ، والجار والمجرور خبر مقدم ، وعرشك مبتدأ مؤخر.

ولم يقل لها : أهذا عرشك ، لئلا يكون إرشادا لها إلى الجواب ، فيفوت المقصود من اختبار ذكائها وحسن تصرفها.

ولا شك أن هذا القول يدعوها للدهشة والمفاجأة بما لم يكن في حسبانها ، وإلا فأين هي من عرشها الذي تركته خلفها على مسافة بعيدة ، بينها وبين مملكة سليمان عشرات الآلاف من الأميال.

ولكن الملكة الأريبة العاقلة ، هداها تفكيرها إلى جواب ذكى ، فقالت ـ كما حكى القرآن عنها ـ : (كَأَنَّهُ هُوَ) أى : هذا العرش ـ الذي غيرت هيئته ـ كأنه عرشي الذي تركته في بلادي ، فهي لم تثبت أنه هو ، ولم تنف أنه غيره ، وإنما تركت الأمر مبنيا على الظن والتشبيه ، لكي يناسب الجواب السؤال.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) يرى بعض المفسرين أنه من تتمة كلام بلقيس ، وكأنها عند ما استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها قالت : وأوتينا العلم من قبلها ، أى : من قبل تلك الحالة التي شاهدناها ، بصحة نبوة سليمان وكنا مسلمين ، طائعين لأمره.

ومنهم من يرى أنه من سليمان ، وتكون الجملة معطوفة على كلام مقدر وجيء بها من قبيل التحدث بنعمة الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : قال سليمان : لقد أصابت بلقيس في الجواب ، وعرفت الحق ، ولكننا نحن الذين أوتينا العلم من قبلها ـ أى من قبل حضور ملكة سبأ ـ وكنا مسلمين لله ـ تعالى ـ وجوهنا.

ويبدو لنا أن كون هذه الجملة ، حكاها القرآن على أنها من تتمة كلامها أقرب إلى

٣٢٨

الصواب ، لأنه هو الظاهر من سياق الكلام.

قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين. كأنها استشعرت مما شاهدته اختبارها ، وإظهار معجزة لها. ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول ، سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال عقلها ، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ، ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) وفيه دلالة على كمال عقلها ـ أيضا ـ.

والمعنى : وأوتينا العلم بكمال قدرة الله ، وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة ، بما شاهدناه من أمر الهدهد. وما سمعناه من رسلنا إليك ، وكنا مؤمنين من ذلك الوقت ، فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ ..). بيان للأسباب التي منعتها من الدخول في الإسلام قبل ذلك. و (ما) موصولة على أنها فاعل «صد».

أى : وصدها ومنعها الذي كانت تعبده من دون الله ـ تعالى ـ وهو الشمس ـ عن عبادة الله ـ تعالى ـ وحده ، وعن المسارعة إلى الدخول في الإسلام.

ويصح أن تكون (ما) مصدرية ، والمصدر هو الفاعل. أى. وصدها عبادة الشمس ، عن المسارعة إلى الدخول في الإسلام.

وجملة (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) تعليل لسببية عبادتها لغير الله ـ تعالى ـ.

أى : إن هذه المرأة كانت من قوم كافرين بالله ـ تعالى ـ ، جاحدين لنعمه ، عابدين لغيره ، منذ أزمان متطاولة ، فلم يكن في مقدورها إظهار إسلامها بسرعة وهي بينهم.

فالجملة الكريمة كأنها اعتذار لها عن سبب تأخرها في الدخول في الإسلام.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان ، لتزداد يقينا بوحدانية الله ـ تعالى ـ ، وبعظم النعم التي أعطاها ـ سبحانه ـ له فقال : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها).

والصرح : القصر ويطلق على كل بناء مرتفع. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ١٩ ، ص ٢٠٧.

(٢) سورة غافر الآية ٣٦.

٣٢٩

ويطلق ـ أيضا ـ على صحن الدار وساحته. يقال : هذه صرحة الدار. أى : ساحتها وعرصتها.

وكان سليمان ـ عليه‌السلام ـ قد بنى هذا الصرح ، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور. بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء.

أى : قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها : أهكذا عرشك ، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه. قال لها : ادخلى هذا القصر ، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة ، حسبته لجة. أى : ظنته ماء غزيرا كالبحر.

(وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها.

وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة : (إِنَّهُ) أى : ما حسبته لجة (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) أى : قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه.

فقوله (مُمَرَّدٌ) بمعنى مملس ، مأخوذ من قولهم : شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق ، وغلام أمرد ، إذا لم يكن في وجهه شعر والتمريد في البناء ، معناه : التمليس والتسوية والنعومة.

والقوارير : جمع قارورة ، وهي إناء من زجاج ، وتطلق القارورة على المرأة ، لأن الولد يقر في رحمها ، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها ، ومنه الحديث الشريف : «رفقا بالقوارير». والمراد بالقوارير هنا. المعنى الأول.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عجائب صنع الله فقال : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أى : بسبب عبادتي لغيرك قبل هذا الوقت .. (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) طائعة مختارة ، وإسلامى إنما هو (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وليس لأحد سواه.

وبعد ، فهذا تفسير محرر لتلك القصة ، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التي حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم ، عند حديثهم عن الآيات التي وردت في هذه القصة ، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان ـ عليه‌السلام ـ وبجنوده من الطير. وبمحاورة النملة له ، وبالهدية التي أرسلتها ملكة سبأ إليه ، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة .. إلخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب ، من أهمها ما يأتى :

١ ـ أن الله ـ تعالى ـ قد أعطى ـ بفضله وإحسانه ـ داود وسليمان عليهما‌السلام ـ نعما عظيمة ، على رأسها نعمة النبوة ، والملك ، والعلم النافع.

وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله ـ تعالى ـ واستعمالها فيما خلقت له.

٣٣٠

ونرى ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ، وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

وفي قوله ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ).

وفي قوله ـ سبحانه ـ : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).

٢ ـ أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ قد أقام دولته على الإيمان بالله ـ تعالى ـ وعلى العلم النافع ، وعلى القوة العادلة.

أما الإيمان بالله ـ تعالى ـ وإخلاص العبادة له ـ سبحانه ـ ، فهو كائن له ـ عليه‌السلام ـ بمقتضى نبوته التي اختاره الله لها ، وبمقتضى دعوته غيره إلى وحدانية الله ـ عزوجل ـ فقد حكى القرآن عنه أنه قال في رسالته إلى ملكة سبأ : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

وأما العلم النافع ، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ..).

واشتملت على قوله ـ سبحانه ـ : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ...).

وعلى قوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

وأما القوة ، فنراها في قوله ـ تعالى ـ : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).

وفي قوله ـ سبحانه ـ (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ).

٣ ـ أن سليمان عليه‌السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله ـ تعالى ـ في الأرض ، وتطهيرها من كل معبود سواه.

والدليل على ذلك أن الهدهد عند ما أخبره بحال الملكة التي كانت هي وقومها يعبدون الشمس من دون الله ..

ما كان من سليمان ـ عليه‌السلام ـ إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر

٣٣١

والغرور ، وبإسلام وجوههم لله وحده : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

٤ ـ أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته ، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة ، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب ، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا ، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته.

ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان ـ عليه‌السلام ـ من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال : وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين.

قال الإمام القرطبي ـ رحمه‌الله ـ : في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ، والمحافظة عليهم ، فانظر إلى الهدهد مع صغره ، كيف لم يخف على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك ..

ثم يقول ـ رحمه‌الله ـ على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة في عهده : فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان .. ورحم الله القائل :

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها (١)

٥ ـ أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ كان بجانب تعهده لشئون رعيته ، يمثل الحاكم الحازم العادل ، الذي يحاسب المهمل ، ويتوعد المقصر ، ويعاقب من يستحق العقاب ، وفي الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا.

انظر إليه وهو يقول ـ كما حكى القرآن عنه ـ عند ما تفقد الهدهد فلم يجده : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ).

إن الجيوش الجرارة التي تحت قيادة سليمان ـ عليه‌السلام ـ لا تؤثر فيها غياب هدهد منها .. ولكن سليمان القائد الحازم ، كأنه يريد أن يعلم جنوده ، أن لكل جندي رسالته التي يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندي صغيرا أم كبيرا ، وأن من فرط في الأمور الصغيرة ، لا يستبعد منه أن يفرط في الأمور الكبيرة.

٦ ـ أن الجندي الصغير في الأمة التي يظلها العدل والحرية والأمان .. لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير ، بشجاعة وقوة ..

انظر إلى الهدهد ـ مع صغره ـ يحكى عنه القرآن ، أنه رد على نبي الله سليمان الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده بقوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ..).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٧٨.

٣٣٢

ونجد سليمان ـ عليه‌السلام ـ لا يؤاخذه على هذا القول ، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة ، لا يهان فيها الصغير ، ولا يظلم فيها الكبير.

٧ ـ أن حكمة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين ، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات ، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها ، ويحق الحق ويبطل الباطل.

قال القرطبي عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) : في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة ـ أى ولاة ، أو قضاة ـ يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ...

قال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة (١).

ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن».

٨ ـ أن الحاكم العاقل هو الذي يستشير من هو أهل للاستشارة في الأمور التي تهم الأمة.

فها هي ذي ملكة سبأ عند ما جاءها كتاب سليمان ـ عليه‌السلام ـ جمعت وجوه قومها ، وقالت لهم ـ كما حكى القرآن عنها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ...).

قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على صحة المشاورة .. وقد قال الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وقد مدح الله الفضلاء بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب ، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ..). لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم. وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها ، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ.). (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٦٨.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٩٤.

٣٣٣

٩ ـ أن الهدية إذا لمس المهدى إليه من ورائها ، عدم الإخلاص في إهدائها. وأن المقصد منها صرفه عن حق يقيمه ، أو عن باطل يزيله .. فإن الواجب عليه أن يرد هذه الهدية لصاحبها. وأن يمتنع عن قبولها ..

ألا ترى إلى سليمان ـ عليه‌السلام ـ قد رد الهدية الثمينة التي أهدتها بلقيس إليه ، حين أحس أن من وراء هذه الهدية شيئا. يتنافى مع تبليغ وتنفيذ رسالة الله ـ تعالى ـ التي أمره بتبليغها وتنفيذها ، ألا وهي : الأمر بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ والنهى عن الإشراك به ، وبلقيس إنما كانت تقصد بهديتها ، اختبار سليمان ، أنبى هو أم ملك ، كما سبق أن أشرنا ..

لذا وجدنا القرآن يحكى عن سليمان ـ عليه‌السلام ـ أنه رد هذه الهدية مع من جاءوا بها ، وقال : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ، فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ).

١٠ ـ أن ملكة سبأ دل تصرفها على أنها كانت ملكة عاقلة رشيدة ، حكيمة ، فقد استشارت خاصتها في كتاب سليمان ـ عليه‌السلام ـ ، ولوحت لهم بقوته وبما سيترتب على حربه ، وآثرت أن تقدم له هدية على سبيل الامتحان ، واستحبت المسالمة على المحاربة .. وكان عندها الاستعداد لقبول الحق والدخول فيه ، وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين ..

وعند ما التقت بسليمان ، وانكشفت لها الحقائق سارعت إلى الدخول في الدين الحق ، وقالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

هذه بعض العبر والعظات التي تؤخذ من هذه القصة .. ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة صالح ـ عليه السلام ـ مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا

٣٣٤

تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٣)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ..). معطوف على قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً).

واللام في قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا ..). جواب لقسم محذوف ، و (ثَمُودَ) اسم للقبيلة التي منها صالح ـ عليه‌السلام ـ ، سميت باسم جدها ثمود. وقيل : سميت بذلك لقلة مائها ، لأن الثمد هو الماء القليل ..

وكانت مساكنهم بالحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ ، وهو مكان بين الحجاز والشام ، وما زلت مساكنهم تعرف بمدائن صالح إلى اليوم. وقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديارهم ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع بعد الهجرة.

وصالح ـ عليه‌السلام ـ هو نبيهم ، وكان واحدا منهم ، وينتهى نسبه إلى نوح ـ عليه‌السلام ـ وقبيلة ثمود تسمى عادا الثانية ، أما قبيلة عاد فتسمى عادا الأولى ، ونبيهم هود ـ عليه‌السلام ـ قالوا : وكان بين القبيلتين زهاء مائة عام.

والمعنى : وبالله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود ، أخاهم صالحا ـ عليه‌السلام ـ ، فقال لهم ما قاله كل نبي لقومه : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ـ تعالى ـ وحده ، ولا تشركوا معه آلهة أخرى.

و «إذا» في قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) هي الفجائية و (يَخْتَصِمُونَ) من المخاصمة بمعنى المجادلة والمنازعة.

٣٣٥

أى : أرسلنا نبينا صالحا إلى قومه ، فكانت المفاجأة أن انقسم قومه إلى قسمين : قسم آمن به ـ وهم الأقلون ـ ، وقسم كفر به ـ وهم الأكثرون.

وهذه الخصومة بين الفريقين ، قد أشار إليها القرآن في قوله ـ تعالى ـ : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ، لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ..). بيان لما وجهه صالح إلى الكافرين من قومه ، من نصائح حكيمة ..

أى : قال صالح ـ عليه‌السلام ـ للمكذبين لرسالته من قومه بأسلوب رقيق حكيم : يا قوم لما ذا كلما دعوتكم إلى الحق أعرضتم عن دعوتي ، وآثرتم الكفر على الإيمان ، واستعجلتم عقوبة الله ـ تعالى ـ التي حذرتكم منها ، قبل أن تتضرعوا إليه ـ سبحانه ـ بطلب الهداية والرحمة.

وقوله : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) حض منه على الإقلاع عما هم فيه من عناد وضلال.

أى : هلا استغفرتم الله ـ تعالى ـ وأخلصتم له العبادة ، واتبعتمونى فيما أدعوكم إليه ، لكي يرحمكم ربكم ويعفو عنكم.

فالمراد بالسيئة : العذاب الذي تعجلوه ، والذي أشار إليه ـ سبحانه ـ في قوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما رد به هؤلاء المتكبرون على نبيهم فقال ـ تعالى ـ (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ..).

وقوله : (اطَّيَّرْنا) أصله تطيرنا ، فأدغمت التاء في الطاء ، وزيدت همزة الوصل ، ليتأتى الابتداء بالكلمة. والتطير : التشاؤم.

قال الآلوسى : وعبر عنه بذلك ، لأنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا ـ بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره ـ تيمنوا ، وإن مر بارحا ـ بأن مر

__________________

(١) سورة الأعراف الآيتان ٧٥ ، ٧٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ٧٧.

٣٣٦

من المياسر إلى الميامن ـ تشاءموا. فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير لما كان سببا لهما من قدر الله ـ تعالى ـ وقسمته ـ عزوجل ـ أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة (١).

أى قال المكذبون من قوم صالح في الرد عليه : أصابنا الشؤم والنحس بسبب وجودك فينا ، وبسبب المؤمنين الذين استجابوا لدعوتك. حيث أصبنا بالقحط بعد الرخاء والضراء بعد السراء.

ولا شك أن قولهم هذا يدل على جهلهم المطبق ، وعلى سوء تفكيرهم ، لأن السراء والضراء من عند الله ـ تعالى ـ وحده. ولا صلة لهما بوجود صالح والذين آمنوا معه بينهم ولذا رد عليهم صالح ـ عليه‌السلام ـ بقوله (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ..).

أى : قال لهم موبخا وزاجرا : ليس الأمر كما زعمتم أن وجودنا بينكم هو السبب فيما أصابكم من شر ، بل الحق أن ما يصيبكم من شر وقحط هو من عند الله ، بسبب أعمالكم السيئة ، وإصراركم على الكفر ، واستحبابكم المعصية على الطاعة. والعقوبة على المغفرة.

ثم زاد صالح ـ عليه‌السلام ـ الأمر توضيحا وتبيانا فقال لهم : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ).

أى قال لهم : ليس ما أصابكم بسببنا. بل أنتم قوم «تفتنون» أى تختبرون وتمتحنون بما يقع عليكم من شر ، حتى تتوبوا إلى خالقكم ، قبل أن ينزل بكم العذاب الماحق ، إذا ما بقيتم على كفركم.

فأنت ترى أن صالحا ـ عليه‌السلام ـ قد رد على جهالتهم بأسلوب قوى رصين ، بين لهم فيه ، أن تشاؤمهم في غير محله ، وأن حظهم ومستقبلهم ومصيرهم بيد الله ـ تعالى ـ وحده ، وأن ما أصابهم من بلاء وقحط ، إنما هو لون من امتحان الله ـ تعالى ـ لهم ، لكي يتنبهوا ويستجيبوا لدعوة الحق ، قبل أن يفاجئهم الله ـ تعالى ـ بالعذاب الذي يهلكهم.

ولكن هذا النصح الحكيم الذي وجهه صالح إلى المكذبين من قومه ، لم يجد أذنا صاغية منهم ، بل قابله زعماؤهم بالتكبر وبالإصرار على التخلص من صالح ـ عليه‌السلام ـ ومن أهله ، وقد حكى القرآن ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ ، يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ. قالُوا : تَقاسَمُوا بِاللهِ ، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ. ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٤٩ ، ص ٢١١.

٣٣٧

والمراد بالمدينة : مدينة قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ وهي الحجر ـ بكسر الحاء وإسكان الجيم ـ.

قال الجمل : قوله : «تسعة رهط» أى تسعة أشخاص ، وبهذا الاعتبار وقع تمييزا للتسعة ، لا باعتبار لفظه ، وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وباشره منهم قدار بن سالف ، وكانوا من أبناء أشراف قوم صالح ، والإضافة بيانية. أى : تسعة رهط. وفي المصباح : الرهط دون العشرة من الرجال ، ليس فيهم امرأة (١).

ووصفهم بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون. للإشارة إلى أن نفوسهم قد تمحضت للفساد وللإفساد ، ولا مكان فيها للصلاح وللإصلاح.

وقوله : (تَقاسَمُوا) فعل أمر محكي بالقول ، بمعنى : احلفوا بالله ، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا مفسرا لقالوا ، فكأنه قيل : ما الذي قالوه؟ فكان الجواب : تقاسموا أى : أقسموا.

وقوله : (لَنُبَيِّتَنَّهُ) من البيات وهو مباغتة العدو ليلا لقتله. يقال بيت القوم العدو ، إذا أوقعوا به ليلا.

والمراد بوليه : المطالبون بدمه من أقاربه ، وفي ذلك إشارة إلى أن هؤلاء الظالمين لم يكونوا ليستطيعوا قتل صالح ـ عليه‌السلام ـ علانية ، خوفا من مناصرة أقاربه له.

و (مَهْلِكَ) بفتح الميم وكسر اللام بزنة مرجع ـ مصدر ميمى ، من هلك الثلاثي ، وقرأ بعضهم (مَهْلِكَ) بضم الميم وفتح اللام ـ من أهلك الرباعي ، فهو أيضا مصدر ميمى من أهلك ، ويجوز أن يكونا اسم زمان أو مكان.

والمعنى : وكان في المدينة التي يسكنها صالح ـ عليه‌السلام ـ وقومه ، تسعة أشخاص ، دأبهم وديدنهم ، الإفساد في الأرض ، وعدم الإصلاح فيها ، بأى حال من الأحوال.

وقد تعاهد هؤلاء التسعة. وأكدوا ما تعاهدوا عليه بالأيمان المغلظة. على أن يباغتوا نبيهم وأهله ليلا ، فيقتلوهم جميعا ، ثم ليقولن بعد جريمتهم الشنعاء لأقارب صالح ـ عليه‌السلام ـ : ما حضرنا هلاك أهله وهلاك صالح معهم ، ولا علم عندنا بما حل بهم وبه من قتل ، وإنا لصادقون في كل ما قلناه.

وهكذا المفسدون في الأرض ، يرتكبون أبشع الجرائم وأشنعها ، ثم يبررونها بالحيل الساذجة الذميمة ثم بعد ذلك يحلفون بأغلظ الأيمان أنهم يريئون من تلك الجرائم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣١٩.

٣٣٨

ومن العجيب أن هؤلاء المجرمين الغادرين يقولون فيما بينهم : (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أى : احلفوا بالله ، على أن تنفذوا ما اتفقنا عليه من قتل صالح وأهله ليلا غيلة وغدرا. فهم يؤكدون إصرارهم على الإجرام بالحلف بالله ، مع أن الله ـ تعالى ـ برىء منهم ومن غدرهم.

وقولهم : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) نفى منهم لحضور قتلهم ، فضلا عن مباشرة قتلهم ، كأنهم أرادوا بهذه الجملة الإتيان بحيلة يبررون بها كذبهم ، أى : أننا قتلناهم في الظلام ، فلم نشاهد أشخاصهم ، وإنا لصادقون في ذلك.

ولكن هذا المكر السيئ ، والتحايل القبيح قد أبطله الله ـ تعالى ـ وجعله يحيق بهم وبأشياعهم ، فقد قال ـ تعالى ـ (وَمَكَرُوا مَكْراً) أى بهذا الحلف فيما بينهم على قتل صالح وأهله غدرا (وَمَكَرْنا مَكْراً) أى : ودبرنا لصالح ـ عليه‌السلام ـ ولمن آمن به ، تدبيرا محمودا محكما (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى : وهم لا يشعرون بتدبيرنا الحكيم ، حيث أنجينا صالحا ومن معه من المؤمنين ، وأهلكنا أعداءه أجمعين.

ثم بين ـ سبحانه ـ الآثار التي ترتبت على مكرهم السيئ ، وعلى تدبيره المحكم فقال ـ تعالى ـ :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ، أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أى : فانظر ـ أيها العاقل ـ وتأمل واعتبر فيما آل إليه أمر هؤلاء المفسدين ، لقد دمرناهم وأبدناهم ، وأبدنا معهم جميع الذين كفروا بنبينا صالح ـ عليه‌السلام ـ.

قال بعض العلماء ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) قرأه الجمهور بكسر همزة (أَنَّا) على الاستئناف ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) بفتح الهمزة وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها أوجه منها : أنه بدل من (عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) ومنها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره : هي أى : عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا.). مقرر ومؤكد لما قبله من تدمير المفسدين وإهلاكهم.

أى : إن كنت ـ أيها المخاطب ـ تريد دليلا على تدميرهم جميعا ، فتلك هي بيوتهم خاوية وساقطة ومتهدمة على عروشها ، بسبب ظلمهم وكفرهم ومكرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي فعلناه بهم من تدمير وإهلاك (لَآيَةً) بينة ، وعبرة واضحة ،

__________________

(١) أضواء البيان ج ٦ ص ٤١٢ للشيخ محمد أمين الشنقيطى.

٣٣٩

(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أى : يتصفون بالعلم النافع الذي يتبعه العمل الصالح.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة بتأكيد سنته التي لا تتخلف فقال : (وَأَنْجَيْنَا) أى : بفضلنا وإحساننا ، (الَّذِينَ آمَنُوا) وهم نبينا صالح وأتباعه (وَكانُوا يَتَّقُونَ) أى : وكانوا يتقون الله ـ تعالى ـ ويخافون عذابه.

وبذلك تكون السورة الكريمة قد ساقت لنا جانبا من قصة صالح مع قومه هذا الجانب فيه ما فيه من عظات وعبر لقوم يعقلون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك طرفا من قصة لوط مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(٥٨)

وقصة لوط ـ عليه‌السلام ـ قد ذكرت في سور متعددة منها الأعراف ، وهود ، والحجر ..

وهنا تتعرض السورة الكريمة ، لإبراز ما كان عليه أولئك القوم من فجور ، وما هددوا به نبيهم.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : ولوط هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وكان لوط قد آمن مع ابراهيم ، وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله ـ تعالى ـ إلى أهل «سدوم» ، وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وينهاهم عما يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها ، دون أن يسبقهم إليها

٣٤٠