التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

وقال ـ سبحانه ـ : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).

ثم وصف ـ سبحانه ـ هؤلاء المؤمنين بثلاث صفات جامعة بين خيرى الدنيا والآخرة فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أى : يؤدونهما في أوقاتها المقدرة لها ، مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها.

(وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) التي كلفهم الله ـ تعالى ـ بإيتائها ، بإخلاص وطيب نفس.

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) والآخرة تأنيث الآخر. والمراد بها الدار الآخرة ، وسميت بذلك لأنها تأتى بعد الدنيا التي هي الدار الأولى.

وقوله : (يُوقِنُونَ) من الإيقان. وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، أو تحوم حوله شبهة. يقال : يقن الماء ، إذا سكن وظهر ما تحته.

ويقال : يقنت من هذا الشيء يقنا ، وأيقنت ، وتيقنت ، واستيقنت ، اعتقدت اعتقادا جازما من وجوده أو صحته.

أى : وهم بالدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب ، يوقنون إيقانا قطعيّا ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة.

قال الجمل : ولما كان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما ، أتى بهما فعلين ، ولما كان الإيقان بالآخرة أمرا ثابتا مطلوبا دوامه ، أتى به جملة اسمية.

وجعل خبرها مضارعا ، للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد» (٢).

وبعد أن مدح ـ سبحانه ـ المؤمنين بتلك الصفات الطيبة ، أتبع ذلك ببيان ما عليه غيرهم من ضلال وحيرة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ).

وقوله : (زَيَّنَّا) من التزيين ، بمعنى التحسين والتجميل.

و (يَعْمَهُونَ) من العمه بمعنى التحير والتردد. يقال : عمه فلان ـ كفرح ومنع ـ إذا تحير وتردد في أمره.

والمعنى : إن الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أى : حسناها لهم ، وحببناها إليهم ، بسبب استحبابهم العمى على الهدى ، والغي

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١٢٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٩٨.

٣٠١

على الرشد (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) أى : فهم يتحيرون ويتخبطون ويرتكبون ما يرتكبون من قبائح ، ظنا منهم أنها محاسن.

وصدق الله إذ يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ، فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ..). (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ قبح عاقبتهم فقال : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ).

أى : أولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة ، لهم أشد أنواع العذاب الذي يذلهم ويؤلمهم في الدنيا (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أى : وهم في الآخرة أشد خسارة منهم في الدنيا إذ عذاب الدنيا له نهاية. أما عذاب الآخرة فلا نهاية له.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض صفات القرآن الكريم ، تمهيدا لما سيأتى بعد ذلك من قصص وآداب وأحكام وهدايات.

وقوله (لَتُلَقَّى) من التلقي بمعنى الأخذ عن الغير ، والمراد به جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

أى : وإنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لتتلقى القرآن الكريم بواسطة جبريل ـ عليه‌السلام ـ من لدن ربك الذي يفعل كل شيء بحكمة ليس بعدها حكمة ، ويدبر كل أمر بعلم شامل لكل شيء.

وصدرت هذه الآية الكريمة بحرفى التأكيد ـ وهما إن ولام القسم ـ للدلالة على كمال العناية بمضمونه.

والتعبير بقوله (لَتُلَقَّى) يشعر بمباشرة الأخذ عن جبريل ـ عليه‌السلام ـ بأمر الله ـ تعالى ـ الحكيم العليم ، كما يشعر بقوته وشدته ، كما في قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).

وجاء الأسلوب بالبناء للمفعول في قوله : «تلقى» وحذف الفاعل وهو جبريل للتصريح به في آيات أخرى منها قوله ـ تعالى ـ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢).

وجمع ـ سبحانه ـ في وصفه لذاته بين الحكمة والعلم ، للدلالة على أن هذا القرآن تتجلى فيه كل صفات الإتقان والإحكام ، لأنه كلام الحكيم في أفعاله ، العليم بكل شيء.

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٨.

(٢) سورة الشعراء الآية ١٩٣ ـ ١٩٤.

٣٠٢

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن هذا القرآن ، قد تلقاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لدن حكيم عليم أتبع ذلك بجانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ لتكون بمثابة التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن موقف كفار مكة منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٤)

هذا جانب من قصّة موسى ـ عليه‌السلام ـ كما جاءت في هذه السورة ، وقد جاءت في سور أخرى بصورة أوسع ، كسور : البقرة ، والأعراف ، ويونس ، والشعراء ، والقصص ...

وقد افتتحت هنا بقوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً).

والظرف «إذ» متعلق بمحذوف تقديره : اذكر.

و «موسى» ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وكانت بعثته ـ على الراجح ـ في القرن الحادي عشر أو الثاني عشر قبل الميلاد.

٣٠٣

والمراد بأهله : زوجته. وهي ابنة الشيخ الكبير الذي قال له ـ بعد أن سقى لابنتيه غنمهما ـ : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ..). (١).

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : «وكان ذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي بينه وبين صهره ، في رعاية الغنم ، وسار بأهله ، قيل : قاصدا بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال ... فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا ...» (٢).

وقوله : (آنَسْتُ) من الإيناس ، بمعنى الإبصار الواضح الجلى يقال : آنس فلان الشيء إذا أبصره وعلمه وأحس به.

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وذكر أتباعك ليعتبروا ويتعظوا ، وقت أن قال موسى لأهله ، وهو في طريقه من جهة مدين إلى مصر.

إنى أبصرت ـ إبصارا لا شبهة فيه ـ نارا. فامكثوا في مكانكم ، فإنى (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أى : سآتيكم من جهتها بخبر ينفعنا في رحلتنا هذه ، ونسترشد به في الوصول إلى أهدى الطرق التي توصلنا إلى المكان الذي نريده.

و (أَوْ) في قوله ـ سبحانه ـ : (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) مانعة خلو.

قال القرطبي : ما ملخصه : «قرأ عاصم وحمزة والكسائي : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) بتنوين (بِشِهابٍ) وقرأ الباقون بدون تنوين على الإضافة ، أى : بشعلة نار ، من إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة. والشهاب : كل ذي نور ، نحو الكواكب ، والعود الموقد. والقبس : اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ، فالمعنى بشهاب من قبس ... ومن قرأ (بِشِهابٍ قَبَسٍ) ، بالتنوين جعله بدلا منه ، أو صفة له. على تأويله بمعنى المقبوس ...» (٣).

وقوله : (تَصْطَلُونَ) أى : تستدفئون ، والاصطلاء : الدنو من النار لتدفئة البدن عند الشعور بالبرد. قال الشاعر.

النار فاكهة الشتاء فمن يرد

أكل الفواكه شاتيا فليصطل

والمعنى : قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لأهله عند ما شاهد النار : امكثوا في مكانكم ، فإنى

__________________

(١) سورة القصص الآية ٢٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٧٠.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٥٧.

٣٠٤

ذاهب إليها ، لكي آتيكم من جهتها بخبر في رحلتنا فإن لم يكن ذلك ، فإنى آتيكم بشعلة مقتطعة منها ومقتبسة من أصلها ، لعلكم تستدفئون بها في تلك الليلة الشديدة البرودة.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : ـ قوله ـ تعالى ـ : هنا (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) مع قوله ـ تعالى ـ في سورة القصص (١) (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) كالمتدافعين. لأن أحدهما ترج ، والآخر تيقن. قلت : قد يقول الراجي إذا قوى رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا ، مع تجويزه الخيبة.

فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف ـ هنا ـ؟ قلت : عدة لأهله أنه يأتيهم وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة.

فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت : بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم واحدة منهما : إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ...» (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما حدث لموسى عند ما اقترب من النار فقال : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ..). و (أَنْ) هنا مفسرة ، لما في النداء من معنى القول.

وقوله : (بُورِكَ) من البركة ، بمعنى ثبوت الخير وكثرته. والخير هنا يتمثل في تكليم الله ـ تعالى ـ لنبيه موسى. وفي ندائه له. وتشريفه برسالته ، وتأييده بالمعجزات.

والمراد بمن في النار : من هو قريب منها ، وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والمراد بمن حولها : الملائكة الحاضرون لهذا النداء ، أو الأماكن المجاورة لها.

أى : فلما وصل موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى القرب من مكان النار ، نودي موسى من قبل الله ـ عزوجل ـ على سبيل التكريم والتحية : أن قدس وطهر واختير للرسالة من هو بالقرب منها وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ ومن حولها من الملائكة ، أو الأماكن القريبة منها.

قال الآلوسى : «قوله : (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين. أى : من في مكان النار ، ومن حول مكانها قالوا : ومكانها البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقعة المباركة ، المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا أَتاها) أى النار ـ (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ..). (٣).

__________________

(١) الآية ٢٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٤٩.

(٣) سورة القصص الآية ٣٠.

٣٠٥

وقيل : من في النار : موسى ـ عليه‌السلام ـ ، ومن حولها : الملائكة الحاضرون ... وقيل الأول الملائكة ، والثاني موسى ، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام ... وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى ـ عليه‌السلام ـ» (١).

وقال الشوكانى : «ومذهب المفسرين أن المراد بالنار ـ هنا ـ النور» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من تتمة النداء ، وخبر منه ـ تعالى ـ لموسى بالتنزيه. لئلا يتوهم من سماع كلامه ـ تعالى ـ التشبيه بما للبشر من كلام.

أى : وتنزه الله ـ عزوجل ـ وتقدس رب العالمين عن كل سوء ونقص ومماثلة للحوادث.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إعلام منه ـ عزوجل ـ لعبده موسى بأن المخاطب له ، إنما هو الله ـ تعالى ـ الذي عز كل شيء وقهره وغلبه. والذي أحكم كل شيء خلقه.

والضمير في قوله (إِنَّهُ) للشأن. وجملة (أَنَا اللهُ) مبتدأ وخبر والعزيز الحكيم صفتان لذاته ـ عزوجل ـ.

أى : يا موسى إن الحال والشأن إنى أنا الله العزيز الحكيم ، الذي أخاطبك وأناجيك. فتنبه لما سآمرك به. ونفذ ما سأكلفك بفعله.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض ما أمر به موسى ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَأَلْقِ عَصاكَ).

والجملة الكريمة معطوفة على ما تضمنه النداء.

أى : نودي أن بورك من في النار ومن حولها ... ونودي أن ألق عصاك التي بيدك.

وقوله : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ.). معطوف على كلام مقدر.

أى : فاستجاب موسى ـ عليه‌السلام ـ لأمر ربه فألقى عصاه فصارت حية ، فلما رآها تهتز. أى : تضطرب وتتحرك بسرعة شديدة حتى لكأنها (جَانٌ) في شدة حركتها وسرعة تقلبها (وَلَّى مُدْبِراً) عنها من الخوف (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أى : ولم يرجع على عقبه. بل استمر في إدباره عنها دون أن يفكر في الرجوع إليها. يقال : عقب المقاتل. إذا كر على عدوه بعد الفرار منه.

والجان : الحية الصغيرة السريعة الحركة. أو الحية الكبيرة ، والمراد هنا : التشبيه بها في

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٦٠.

(٢) تفسير فتح القدير ج ٤ ص ١٢٧.

٣٠٦

شدة الحركة وسرعتها مع عظم حجمها.

وإنما ولى موسى مدبرا عنها ، لأنه لم يخطر بباله أن عصاه التي بيده ، يحصل منها ما رآه بعينه ، من تحولها إلى حية تسعى وتضطرب وتتحرك بسرعة كأنها جان ، ومن طبيعة الإنسان أنه إذا رأى أمرا غريبا اعتراه الخوف منه ، فما بالك بعصا تتحول إلى حية تسعى.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما نادى به موسى على سبيل التثبيت وإدخال الطمأنينة على قلبه ، فقال : (يا مُوسى لا تَخَفْ).

أى : فلما ولى موسى ولم يعقب عند ما ألقى عصاه فانقلبت حية ، ناداه ربه ـ تعالى ـ بقوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ) مما رأيت ؛ أو من شيء غيرى ما دمت في حضرتى.

وجملة (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) تعليل للنهى عن الخوف ، أى إنى لا يخاف عندي من اخترته لحمل رسالتي ، وتبليغ دعوتي.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء منقطع مما قبله.

أى : إنى يا موسى لا يخاف لدى المرسلون ، لكن من ظلم وارتكب فعلا سيئا من عبادي ، ثم تاب إلى توبة صادقة ، بأن ترك الظلم إلى العدل والشر إلى الخير. والمعصية إلى الطاعة ، فإنى أغفر له ما فرط منه ، لأنى أنا وحدي الواسع المغفرة والرحمة.

قال ابن كثير : هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على شيء ثم أقلع عنه وتاب وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال ـ تعالى ـ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) وقال ـ تعالى ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١) وقيل : إن الاستثناء متصل ، فيكون المعنى : لا يخاف لدى المرسلون ، إلا من ظلم منهم بأن وقع في الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، ثم تاب منها وأقلع عنها ، فإنى غفور رحيم.

قال الآلوسى : «والظاهر ـ هنا ـ انقطاع الاستثناء ، والأوفق بشأن المرسلين ، أن يراد بمن ظلم : من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم. و (ثُمَ) يحتمل أن تكون للتراخي الزمانى فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى. ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبى ، وهو ظاهر بين الظلم والتبديل ...» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٩١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٦٦.

٣٠٧

وعبر ـ سبحانه ـ عن ترك الظلم بالتبديل ، للإشارة إلى الإقلاع التام عن هذا الظلم ، وإلى أن هذا الظلم قد حل محله العدل والطاعة والانقياد لأمره ـ تعالى ـ.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى معجزة أخرى. لتكون دليلا على صدقه في رسالته إلى من سيرسله إليهم فقال : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ).

والمراد بجيبه : فتحة ثوبه أو قميصه عند مدخل رأسه ، أو عند جانبه الأيمن ، وأصل الجيب : القطع. يقال : جاب الشيء إذا قطعه.

والمعنى : وأدخل يا موسى يدك اليمنى في فتحة ثوبك ، ثم أخرجها تراها تخرج بيضاء من غير سوء. أى : تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يكون بها أى سوء من مرض أو برص أو غيرهما ، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا مصحوبا بالسلامة بقدرة الله ـ تعالى ـ وإرادته.

قال الحسن البصري : أخرجها ـ والله ـ كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقى ربه.

وقوله : (تَخْرُجْ) جواب الأمر في قوله : (وَأَدْخِلْ) ، و (بَيْضاءَ) حال من فاعل تخرج ، و (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يجوز أن يكون حالا أخرى. أو صفة لبيضاء.

والمراد باليد هنا : كف يده اليمنى. والسوء : الرديء والقبيح من كل شيء ، وهو هنا كناية عن البرص لشدة قبحه.

وقوله ـ تعالى ـ : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) يصح أن يكون حالا ثالثة من فاعل (تَخْرُجْ) فيكون المعنى : وأدخل يا موسى يدك في جيبك تخرج حالة كونها بيضاء. وحالة كونها من غير سوء ، وحالة كونها مندرجة أو معدودة في ضمن تسع آيات زودناك بها ، لتكون معجزات لك أمام فرعون وقومه ، على أنك صادق فيما تبلغه عن ربك.

قال الجمل «وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ) فيه وجوه : أحدها : أنه حال ثالثة يعنى من فاعل تخرج ، أى : آية في تسع آيات. الثاني : أنه متعلق بمحذوف أى : اذهب في تسع آيات ...» (١).

والمراد بالآيات التسع التي أعطاها الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم. كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٣٠١.

٣٠٨

وقد جاء الحديث عن هذه الآيات في مواضع أخرى من القرآن الكريم منها قوله ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢). وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٣).

وقال ـ تعالى ـ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ، وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ ، وَالضَّفادِعَ ، وَالدَّمَ.). (٤).

وتحديد الآيات بالتسع ، لا ينفى أن هناك معجزات أخرى ، أعطاها الله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه‌السلام ـ إذ من المعروف عند علماء الأصول أن تحديد العدد بالذكر ، لا يدل على نفى الزائد عنه.

قال ابن كثير : «ولقد أوتى موسى ـ عليه‌السلام ـ آيات أخرى كثيرة ، منها ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه .. وغير ذلك. مما أوتوه بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر. ولكن ذكر هنا هذه الآيات التسع التي شاهدها فرعون وقومه ، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا» (٥).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) استئناف مسوق لبيان سبب إرسال موسى إلى فرعون وقومه.

أى : هذه الآيات التسع أرسلناك بها يا موسى إلى فرعون وقومه ، لأنهم كانوا قوما فاسقين عن أمرنا ، وخارجين على شرعنا ، وعابدين لغيرنا من مخلوقاتنا.

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف فرعون وقومه من هذه المعجزات الدالة على صدق موسى فقال :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

وقوله (مُبْصِرَةً) من الإبصار والظهور. وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول ، للإشعار

__________________

(١) سورة الشعراء الآيتان ٣٢ ، ٣٣.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٣٠.

(٣) سورة الشعراء الآية ٦٣.

(٤) سورة الأعراف الآية ١٣٣.

(٥) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٢٢١.

٣٠٩

بشدة وضوحها وإنارتها ، حتى لكأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر ، كما يقال : ماء دافق بمعنى مدفوق.

وقوله : (وَجَحَدُوا بِها) من الجحود. وهو إنكار الحق مع العلم بأنه حق ، يقال : جحد فلان حق غيره ، إذا أنكره مع علمه به.

وقوله : (وَاسْتَيْقَنَتْها) من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم الذي لا يطرأ عليه شك وجيء بالسين لزيادة التأكيد.

والمعنى : وذهب موسى ـ عليه‌السلام ـ ومعه المعجزات الدالة على صدقه ، إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، فلما جاءهم موسى بتلك المعجزات المضيئة الواضحة للدلالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والغرور ، هذا الذي نراه منك يا موسى ، سحر بين وظاهر في كونه سحرا.

وجحد فرعون وقومه هذه المعجزات التي جاء بها موسى من عند ربه ـ تعالى ـ ، مع أن أنفسهم قد علمت علما لا شك معه أنها معجزات وليست سحرا ، ولكنهم خالفوا علمهم ويقينهم (ظُلْماً) للآيات حيث أنزلوها عن منزلتها الرفيعة وسموها سحرا (وَعُلُوًّا) أى : ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها.

(فَانْظُرْ) أيها العاقل (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)؟ لقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله جميعا ، بسبب كفرهم وظلمهم وجحودهم وفسادهم في الأرض.

وفي التعبير بقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا.). إشعار بأن هذه الآيات الدالة على صدق موسى ـ عليه‌السلام ـ قد وصلت إليهم بدون أن يتعبوا أنفسهم في الذهاب إليها ، فهي جاءتهم إلى بيوتهم لكي تهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفر والجحود.

وأسند ـ سبحانه ـ المجيء إلى الآيات وأضافها إلى ذاته ـ تعالى ـ للإشارة إلى أنها خارجة عن أن تكون من صنع موسى ، وإنما هي من صنع الله ـ تعالى ـ ومن فعله ، وموسى ما هو إلا منفذ لما أمره ربه ، ومؤيد بما منحه إياه من معجزات دالة على صدقه فيما يبلغه عنه.

وقوله : (ظُلْماً وَعُلُوًّا) منصوبان على أنهما مفعولان لأجله ، أو على أنهما حالان من فاعل جحدوا.

أى : جحدوا الآيات مع تيقنهم أنها من عند الله ، من أجل الظلم لها والتعالي على من جاء بها ، أو : جحدوا بها حالة كونهم ظالمين لها ، ومستكبرين عنها.

وفي قوله ـ سبحانه ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) تسلية عظمى للرسول

٣١٠

صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من الكافرين.

فهم كانوا كفرعون وقومه في جحود الحق الذي جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع يقينهم بأنه حق ، ولكن حال بينهم وبين الدخول أسباب متعددة ، على رأسها العناد ، والحسد ، والعكوف على ما كان عليه الآباء ، والكراهية لتغيير الأوضاع التي تهواها نفوسهم ، وزينتها لهم شهواتهم ...

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ هذا الجانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ ، أتبع ذلك بالحديث عن جانب من النعم التي أنعم بها على نبيين كريمين من أنبيائه ، وهما داود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) كلام مستأنف مسوق لتقرير قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) إذ القرآن الكريم هو الذي قص

٣١١

الله ـ تعالى ـ فيه أخبار السابقين ، بالصدق والحق.

وداود هو ابن يسى ، من سبط يهوذا من بنى إسرائيل ، وكانت ولادته في بيت لحم سنة ١٠٨٥ ق. م ـ تقريبا ـ ، وهو الذي قتل جالوت ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ ..). (١). وكانت وفاته سنة ١٠٠٠ ق م تقريبا.

وسليمان هو ابن داود ـ عليهما‌السلام ـ ولد بأورشليم حوالى سنة ١٠٤٣ ق م وتوفى سنة ٩٧٥ ق م.

وقد جاء ذكرهما في سورتي الأنبياء وسبأ وغيرهما.

ويعتبر عهدهما أزهى عهود بنى إسرائيل ، فقد أعطاهما الله ـ تعالى ـ نعما جليلة.

والمعنى : والله لقد أعطينا داود وابنه سليمان علما واسعا من عندنا ، ومنحناهما بفضلنا وإحساننا معرفة غزيرة بعلوم الدين والدنيا.

أما داود فقد أعطاه ـ سبحانه ـ علم الزبور ، فكان يقرؤه بصوت جميل ، كما علمه صناعة الدروع .. قال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً ، يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٢).

وأما سليمان فقد آتاه ـ سبحانه ـ ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمه منطق الطير ، ورزق الحكم السديد بين الناس. قال ـ تعالى ـ : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) بيان لموقفهما من نعم الله ـ تعالى ـ عليهما ، وهو موقف يدل على حسن شكرهما لخالقهما.

والواو في قوله (وَقالا) للعطف على محذوف ، أى : آتيناهما علما غزيرا فعملا بمقتضاه وشكرا الله عليه ، وقالا : الحمد لله الذي فضلنا بسبب ما آتانا من علم ونعم ، على كثير من عباده المؤمنين ، الذين لم ينالوا ما نلنا من خيره وبره ـ سبحانه ـ.

قال صاحب الكشاف : «وفي الآية دليل على شرف العلم ، وإنافة محله. وتقدم حملته

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٥١.

(٢) سورة سبأ الآية ١٠.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٧٩.

٣١٢

وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتى فضلا على كثير من عباد الله ..» (١).

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ (فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ ..). دلالة على حسن أدبهما ، وتواضعهما ، حيث لم يقولا فضلنا على جميع عباده.

والمراد بالوراثة في قوله ـ تعالى ـ : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ..). وراثة العلم والنبوة والملك. أى : وورث سليمان داود في نبوته وعلمه وملكه.

قال ابن كثير : «وقوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ). أى : في الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال ، إذ لو كان كذلك ، لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود .. ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله سليمان على سبيل التحدث بنعم الله عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ..).

أى : وقال سليمان ـ عليه‌السلام ـ على سبيل الشكر لله ـ تعالى ـ : يا أيها الناس : علمنا الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه فهم ما يريده كل طائر إذا صوت أو صاح ، وأعطانا ـ سبحانه ـ من كل شيء نحتاجه وننتفع به في ديننا أو دنيانا.

وقدم نعمة تعليمه منطق الطير ، لأنها نعمة خاصة لا يشاركه فيها غيره ، وتعتبر من معجزاته ـ عليه‌السلام ـ.

وقيل : إنه علم منطق جميع الحيوانات. وإنما ذكر الطير لأنه أظهر في النعمة ، ولأن الطير كان جندا من جنده ، يسير معه لتظليله من الشمس.

قال الآلوسى : «والجملتان ـ علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء ـ كالشرح للميراث.

وعن مقاتل : أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح.

وعن ابن عباس : هو ما يريده من أمر الدنيا والآخرة» (٣).

وعبر عن نعم الله ـ تعالى ـ عليه بنون العظمة فقال (أُوتِينا) ولم يقل أوتيت ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٩٢.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٦٤.

٣١٣

للإشعار بأنه عبد من عباد الله المطاعين ، الذين سخر لهم جنودا من الجن والإنس والطير ، ليكونوا في خدمته ، وليستعملهم في وجوه الخير لا في وجوه الشر ، فهو لم يقل ذلك على سبيل التباهي والتعالي ، وإنما قاله على سبيل التحدث بنعمة الله.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) يعود إلى ما أعطاه الله ـ تعالى ـ إياه من العلم والملك وغيرهما.

أى : إن هذا الذي أعطانا إياه من العلم والملك ، وكل شيء تدعو إليه الحاجة ، لهو الفضل الواضح ، والإحسان الظاهر منه ـ عزوجل ـ ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن مظاهر ملك سليمان ـ عليه‌السلام ـ فتقول : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).

والحشر : الجمع. يقال : حشر القائد جنده إذا جمعهم لأمر من الأمور التي تهمه.

وقوله : (يُوزَعُونَ) من الوزع بمعنى الكف والمنع. يقال : وزعه عن الظلم وزعا ، إذا كفه عنه.

ومنه قول عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

ومنه قول الشاعر :

ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى

من الناس ، إلا وافر العقل كامله

والمعنى : وجمع لسليمان ـ عليه‌السلام ـ عساكره وجنوده من الجن والإنس والطير (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أى : فهم محبوسون ومجموعون بنظام وترتيب ، بحيث لا يتجاوز أحدهم مكانه أو منزلته أو وظيفته المسئول عنها.

فالتعبير بقوله (يُوزَعُونَ) يشعر بأن هؤلاء الجنود مع كثرتهم ، لهم من يزعهم عن الفوضى والاضطراب ، إذ الوازع في الحرب ، هو من يدير أمور الجيش ، وينظم صفوفه ، ويرد من شذ من أفراده إلى جادة الصواب.

ولقد ذكر بعض المفسرين هنا أقوالا في عدد جيش سليمان ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ، لضعفها ويكفينا أن نعلم أن الله ـ تعالى ـ قد سخر لسليمان جندا من الجن والإنس والطير ، إلا أن عدد هؤلاء الجنود مرد علمه إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، وإن كان التعبير القرآنى يشعر بأن هؤلاء الجند المجموعين ، يمثلون موكبا عظيما ، وحشدا كبيرا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاتله نملة عند ما رأت هذا الجيش العظيم المنظم ، فقال

٣١٤

ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ ، قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

و (حَتَّى) هنا ابتدائية. أى : يبتدأ بها الكلام ، وقوله (قالَتْ نَمْلَةٌ) جواب إذا.

وقوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) من الحطم ، وأصله : كسر الشيء .. يقال : حطم فلان الشيء إذا كسره ، والمراد به هنا : الإهلاك والقتل.

والمعنى : وحشر لسليمان جنوده ، فسار هؤلاء الجنود في قوة ونظام ، (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أى : على مكان يعيش فيه النمل في مملكة سليمان (قالَتْ نَمْلَةٌ) على سبيل النصح والتحذير بعد أن رأت سليمان وجنوده : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) أى : ادخلوا أماكن سكناكم ، وابتعدوا عن طريق هذا الجيش الكبير ، وانجوا بأنفسكم ، كي لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون بكم.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم عدى (أَتَوْا) بعلى؟ قلت : يتوجه على معنين : أحدهما : أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ... والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره ..

فإن قلت : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) ما هو؟ قلت : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر. والذي جوز أن يكون بدلا منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك هاهنا» (١).

أى : لا تحضر ها هنا بحيث أراك.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما فعله سليمان بعد أن أدرك ما قالته النملة لأفراد جنسها ، فقال ـ تعالى ـ : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أى : فسمع قولها السابق فاهتزت نفسه ، وتبسم ضاحكا من قولها ، لفطنتها إلى تحذير أبناء جنسها ، ولسروره بما قالته عنه وعن جيشه ، حيث وصفتهم بأنهم لا يقدمون على إهلاك النمل ، إلا بسبب عدم شعورهم بهم.

وقوله (ضاحِكاً) حال مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم. وقيل : هو حال مقدرة ؛ لأن التبسم أول الضحك.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما نطق به سليمان بعد ذلك فقال : (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ...).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٥٦.

٣١٥

أى : وقال سليمان : يا رب ألهمنى المداومة على شكرك والامتناع عن جحود نعمك ، والكف عن كل ما يؤدى إلى كفران مننك التي أفضتها على وعلى والدي.

ووفقني كذلك لأن (أَعْمَلَ) عملا (صالِحاً تَرْضاهُ) عنى وتقبله منى (وَأَدْخِلْنِي) يا إلهى (بِرَحْمَتِكَ) وإحسانك (فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.

وهكذا جمع سليمان ـ عليه‌السلام ـ في هذا الدعاء البليغ المؤثر ، أسمى ألوان الخشية من الله ـ تعالى ـ والشكر له ـ سبحانه ـ على نعمه ، والرجاء في رضاه وعطائه الجزيل.

ثم تحكى السورة الكريمة بعد ذلك ما دار بين سليمان ـ عليه‌السلام ـ وبين جندي من جنود مملكته وهو الهدهد ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٢٦)

والتفقد : تطلب الشيء ومعرفة أحواله ، ومنه قولهم : تفقد القائد جنوده ، أى : تطلب أحوالهم ليعرف حاضرهم من غائبهم.

٣١٦

والطير : اسم جنس لكل ما يطير ، ومفردة طائر ، والمراد بالهدهد هنا : طائر معين وليس الجنس.

و (أَمْ) منقطعة بمعنى بل.

أى : وأشرف سليمان ـ عليه‌السلام ـ على أفراد مملكته ليعرف أحوالها ، فقال بعد أن نظر في أحوال الطير : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أى : ما الذي حال بيني وبين رؤية الهدهد ثم تأكد من غيابه فقال بل هو من الغائبين.

قال الآلوسى : «والظاهر أن قوله ـ عليه‌السلام ـ ذلك ، مبنى على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته ، أى : عدم رؤيتي إياه مع حضوره ، لأى سبب؟ الساتر أم لغيره. ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. فأم هي المنقطعة ، كما في قولهم : إنها لإبل أم شاء ... (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) بيان للحكم الذي أصدره سليمان ـ عليه‌السلام ـ على الهدهد بسبب غيابه بدون إذن.

أى : لأعذبن الهدهد عذابا شديدا يؤلمه ، أو لأذبحنه ، أو ليأتينى بحجة قوية توضح سبب غيابه. وتقنعنى بالصفح عنه ، وبترك تعذيبه ، أو ذبحه.

فأنت ترى أن سليمان ـ عليه‌السلام ـ وهو النبي الملك الحكيم العادل ـ يقيد تعذيب الهدهد أو ذبحه. بعدم إتيانه بالعذر المقبول عن سبب غيابه ، أما إذا أتى بهذا العذر فإنه سيعفو عنه ، ويترك عقابه.

فكأنه ـ عليه‌السلام ـ يقول : هذا الهدهد الغائب إما أن أعذبه عذابا شديدا وإما أن أذبحه بعد حضوره ، وإما أن يأتينى بعذر مقبول عن سبب غيابه ، وفي هذه الحالة فأنا سأعفو عنه.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما كان من الهدهد ، فقال : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أى فمكث الهدهد زمانا غير بعيد من تهديد سليمان له ، ثم أتاه فقال له : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أى : علمت أشياء أنت لم تعلمها. وابتدأ كلامه بهذه الجملة التي فيها ما فيها من المفاجآت لترغيبه في الإصغاء إليه ، ولاستمالة قلبه لقبول عذره بعد ذلك.

قال صاحب الكشاف : «ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتى من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة ، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ،

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٨٢.

٣١٧

وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحافر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ...» (١).

وقوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) تفسير وتوضيح لقوله قبل ذلك : أحطت بما لم تحط به ، وسبأ في الأصل : اسم لسبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم صار بعد ذلك اسما لحى من الناس سموا باسم أبيهم ، أو صار اسما للقبيلة ، أو لمدينة تعرف بمأرب باليمن. بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال.

وقد قرأ بعضهم هذا اللفظ بالتنوين باعتباره اسم رجل ، وقرأه آخرون بغير تنوين لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.

أى : قال الهدهد لسليمان بادئا حديثه بما يشير إلى قبول عذره : علمت شيئا أنت لم تعلمه ، وجئتك من جهة قبيلة سبأ بنبإ عظيم خطير ، أنا متيقن من صدقه.

ثم قص عليه ما رآه فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) والمراد بهذه المرأة : بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان ... ورثت الملك عن أبيها.

أى : إنى وجدت قبيلة سبأ تحكمها امرأة ، وتتصرف في أمورهم دون أن يعترض عليها معترض ، أو ينافسها منافس.

وقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) معطوف على ما قبله. أى : وبين يديها جميع الأشياء التي تحتاجها لتصريف شئون مملكتها ، والمحافظة على قوتها واستقرارها ...

وفضلا عن كل ذلك (لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أى : لها سرير ملك فخم ضخم يدل على غناها وترفها ، ورقى مملكتها في الصناعة وغيرها.

والمراد أن لها عرشا عظيما بالنسبة إلى أمثالها من الدنيا.

ثم أضاف إلى ذلك قوله : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ...).

أى : والأهم من كل ذلك أنى وجدت هذه المرأة ومعها قومها يتركون عبادة الله ـ تعالى ـ ، ويعبدون الشمس التي هي من مخلوقاته ـ عزوجل ـ.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي هي عبادتهم للشمس ، وما يشبهها من ألوان الكفر والفسوق عن أمر الله ـ تعالى ـ.

(فَصَدَّهُمْ) أى فمنعهم الشيطان (عَنِ السَّبِيلِ) الحق (فَهُمْ) بسبب ذلك

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٥٩.

٣١٨

(لا يَهْتَدُونَ) إلى عبادة الله ـ تعالى ـ الذي لا معبود بحق سواه.

وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيان لما ترتب على إغواء الشيطان لهم. وقد قرأ عامة القراء (أَلَّا) ـ بتشديد اللام ـ و (يَسْجُدُوا) فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظه لا ، وهو مع ناصبه في تأويل مصدر ، في محل نصب على أنه مفعول لأجله.

والمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم من أجل أن يتركوا السجود لله ـ تعالى ـ (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) أى : الذي يظهر الشيء المخبوء في السموات والأرض ، كائنا ما كان هذا الشيء ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء فيهما.

قال الآلوسى : وقوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أى : لئلا يسجدوا لله واللام للتعليل ، وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء في (فَصَدَّهُمْ) لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية ، أى : فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله ـ عزوجل ـ. أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له ـ تعالى ـ.

ثم قال : وقرأ الكسائي : (أَلَّا) ـ بتخفيف اللام ـ على أنها حرف استفتاح وتنبيه (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) معطوف على ما قبله.

والمعنى : زين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله الذي يعلم المخبوء والمستور في السموات والأرض ، ويعلم ما تخفون من أسرار ، وما تعلنون من أقوال.

قال بعض العلماء : «واعلم أن التحقيق أن آية النمل هذه ، محل سجدة على كلتا القراءتين ، لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود ، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود وتوبيخه» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) في معنى التعليل لحقيقة السجود لله ـ تعالى ـ وحده.

أى : اجعلوا سجودكم لله ـ تعالى ـ وحده ، واتركوا السجود لغيره ، لأنه ـ سبحانه ـ لا إله بحق سواه ، وهو ـ سبحانه ـ صاحب العرش العظيم ، الذي لا يدانيه ولا يشبهه شيء مما يطلق عليه هذا اللفظ.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ، ص ١٩٠.

(٢) تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ج ٦ ص ٤٠٥.

٣١٩

ثم تحكى السور بعد ذلك ما كان من سليمان ـ عليه‌السلام ـ وما كان من ملكة سبأ بعد أن وصلها كتابه ، فقال ـ تعالى ـ :

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٣٥)

وقوله ـ سبحانه ـ : (قالَ سَنَنْظُرُ ..). حكاية لما قاله سليمان ـ عليه‌السلام ـ في رده على الهدهد ، الذي قال له في تبرير عذره : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ.). إلخ.

والفعل «ننظر» من النظر بمعنى التأمل في الأمور ، والتدبر في أحوالها ، والسين للتأكيد.

أى : قال سليمان للهدهد بعد أن استمع إلى حجته : سننظر ـ أيها الهدهد ـ في أقوالك ، ونرى أكنت صادقا فيها ، أم أنت من الكاذبين.

وهكذا نرى نبي الله سليمان ـ وهو العاقل الحكيم ـ لا يتسرع في تصديق الهدهد أو تكذيبه ، ولا يخرجه النبأ العظيم الذي جاءه به الهدهد ، عن اتزانه ووقاره ، وإنما يبنى أحكامه على ما سيسفر عنه تحققه من صدق خبره أو كذبه.

٣٢٠