التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ. وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.). (١).

والاستفهام في قوله (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً.). للإنكار والتوبيخ. والواو للعطف على مقدر ، والتقدير : أغفلوا عن ذلك وجهلوه ، ولم يكفهم للدلالة على صدقه وحقيقته أن يعلم ذلك علماء بنى إسرائيل ، ويتحدث عنه عدولهم ، وينتظرون مبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزول القرآن عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ـ تعالى ـ : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

وقال ـ سبحانه ـ : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ طرفا من جحود الكافرين وعنادهم فقال : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ).

والأعجمين : جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح وفي لسانه عجمة وإن كان عربي النسب ، أو جمع أعجمى ، إلا أنه حذف منه ياء النسب تخفيفا ، كأشعر جمع أشعرى.

أى : ولو نزلنا هذا القرآن على رجل من الأعجمين ، الذين لا يحسنون النطق بالعربية ، فقرأ هذا القرآن على قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ قراءة صحيحة لكفروا به عنادا ومكابرة مع أنهم في قرارة أنفسهم يعرفون صدقه ، وأنه ليس من كلام البشر.

فالآيتان الكريمتان المقصود بهما تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يراه من إنكار المشركين لدعوته ، ومن وصفهم للقرآن تارة بأنه سحر ، وتارة بأنه أساطير الأولين ، تصوير صادق لما وصل إليه أولئك المشركون من جحود وعناد ومكابرة.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ.). (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم مع علمهم بأن هذا القرآن من عند الله ، وتأثرهم به سيستمرون على كفرهم حتى يروا العذاب الأليم ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧٣.

(٢) سورة البقرة الآية ٨٩.

(٣) سورة الأعراف الآية ١٥٧.

(٤) سورة الأنعام الآية ١١١.

٢٨١

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)(٢١٢)

وقوله ـ تعالى ـ : (سَلَكْناهُ) من السّلك بمعنى إدخال الشيء في الشيء تقول : سلكت الطريق إذا دخلت فيه. والضمير يعود إلى القرآن الكريم وقوله : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) : نعت لمصدر محذوف.

أى : مثل ذلك الإدخال العجيب ، أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ، حيث جعلناهم ـ بسبب جحودهم وعنادهم ـ مع تأثرهم به واعترافهم بفصاحته ، لا يؤمنون به ، حتى يروا بأعينهم العذاب الأليم.

ومنهم من يرى أن الضمير في (سَلَكْناهُ) يعود إلى كفر الكافرين وتكذيبهم. والمعنى ـ كما يقول ابن كثير ـ : كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد. أى : أدخلناه في قلوب المجرمين ، لا يؤمنون به. أى : بالحق (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. (١).

والرأيان متقاربان في المعنى ، لأن المراد بالتكذيب على الرأى الثاني تكذيبهم بالقرآن ، إلا

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧٣.

٢٨٢

أن الرأى الأول أنسب بسياق الآيات ، وبانتظام الضمائر ..

ثم بين ـ سبحانه ـ أن نزول العذاب بالمجرمين سيكون مباغتا لهم فقال : (فَيَأْتِيَهُمْ) أى : العذاب (بَغْتَةً) فجأة وعلى غير توقع (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أى : بإتيانه بعد أن يحيط بهم.

وعندئذ يقولون على سبيل التمني والتحسر (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أى : ليتنا نمهل قليلا لكي نصلح ما أفسدناه من أقوال وأعمال.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى التعقيب في قوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا.) ..

قلت : ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته ، وسؤال النظرة فيه في الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب ، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة ، فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة.

ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه : إذا أسأت مقتك الصالحون ، فمقتك الله ، فإنك ، لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين ، فما هو أشد من مقتهم وهو مقت الله .. (١).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) للتوبيخ والتهكم بهؤلاء المجرمين. أبلغ الحمق والجهل بهؤلاء المجرمين أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم ، وقالوا لنا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

أى : إن من يستعجل هلاك نفسه ، ويسعى إلى حتفه بظلفه ، لا يكون من العقلاء أبدا.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن ما فيه هؤلاء المجرمون من متاع ونعمة ، سينسونه نسيانا تاما عند ما يمسهم العذاب المعد لهم ، فقال ـ تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ. ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ).

وقوله : (أَفَرَأَيْتَ) معطوف على قوله : (فَيَقُولُوا ..). والاستفهام للتعجب من أحوالهم.

والمعنى : إن شأن هؤلاء المجرمين لموجب للعجب : إنهم قبل نزول العذاب بهم يستعجلونه ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٣٧.

٢٨٣

فإذا ما نزل بساحتهم قالوا ـ على سبيل التحسر والندم ـ : هل نحن منظرون.

اعلم ـ أيها الرسول الكريم ـ أننا حتى لو أمهلناهم وأخرناهم ، ثم جاءهم عذابنا بعد ذلك ، فإن هذا التمتع الذي عاشوا فيه. وذلك التأخير الذي لو شئنا لأجبناهم إليه .. كل ذلك لن ينفعهم بشيء عند حلول عذابنا ، بل عند حلول عذابنا بهم سينسون ما كانوا فيه من متاع ومن نعيم ومن غيره.

قال الإمام ابن كثير : وفي الحديث الصحيح : يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول : لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول : لا والله يا رب.

ولهذا كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يتمثل بهذا البيت :

كأنك لم تؤتر من الدهر ليلة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب (١)

ثم بين ـ سبحانه ـ سنته التي لا تتخلف فقال : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ).

وقوله : (ذِكْرى) مفعول لأجله ، فيكون المعنى : لقد اقتضت سنتنا وعدالتنا. أننا لا نهلك قرية من القرى الظالم أهلها ، إلا بعد أن نرسل في أهل تلك القرى رسلا منذرين ، لكي يذكروهم بالدين الحق .. وليس من شأننا أن نكون ظالمين لأحد ، بل من شأننا العدالة والإنصاف ، وتقديم النصيحة والإرشاد والإنذار للفاسقين عن أمرنا ، قبل أن ننزل بهم عذابنا.

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا. وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٣).

ثم عادت السورة الكريمة إلى تأكيد أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ وردت شبهات المشركين بأسلوب منطقي رصين ، قال ـ تعالى ـ : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ).

أى : إن هذا القرآن الكريم ، ما تنزلت به الشياطين ـ كما يزعم مشركو قريش ، حيث

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧٤.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٥.

(٣) سورة القصص الآية ٥٩.

٢٨٤

قالوا : إن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تابعا من الجن يخبره بهذا القرآن ويلقيه عليه ـ وإنما هذا القرآن نزل به الروح الأمين ، على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإن الشياطين (ما يَنْبَغِي لَهُمْ) ذلك إذ هم يدعون إلى الضلالة والقرآن يدعو إلى الهداية (وَما يَسْتَطِيعُونَ) أن ينزلوا به ولا يقدرون على ذلك أصلا (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أى : إن هؤلاء الشياطين عن سماع القرآن الكريم لمعزولون عزلا تاما. فالشهب تحرقهم إذا ما حاولوا الاستماع إليه. كما قال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) (١).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد صان كتابه عن الشياطين ، بأن بيّن بأنهم ما نزلوا به ، ثم بيّن ـ ثانيا أنهم ما يستقيم لهم النزول به لأن ما اشتمل عليه من هدايات يخالف طبيعتهم الشريرة ، ثم بين ثالثا ـ بأنهم حتى لو حاولوا ما يخالف طبيعتهم لما استطاعوا ، ثم بين ـ رابعا ـ بأنه حتى لو انبغى واستطاعوا حمله ، لما وصلوا إلى ذلك ، لأنهم بمعزل عن الاستماع إليه ، إذ ما يوحى به ـ سبحانه ـ إلى أنبيائه ، فالشياطين محجوبون عن سماعه ، وهكذا صان الله ـ تعالى ـ كتابه صيانة تامة. وحفظه حفظا جعله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ثم نهى ـ سبحانه ـ عن الشرك بأبلغ وجه ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجهر بدعوته ، وبأن يتوكل عليه وحده ـ سبحانه ـ فقال :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)

__________________

(١) سورة الجن الآيتان ٨ ، ٩.

٢٨٥

والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَلا تَدْعُ.). فصيحة ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل طلب الازدياد من إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

أى : إذا علمت ـ أيها الرسول الكريم ـ ما أخبرناك به ، فأخلص العبادة لنا ، واحذر أن تعبد مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر ، فتكون من المعذبين.

وخوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية وأمثالها ، مع أنه أخلص الناس في عبادته لله ـ تعالى ـ ، لبيان أن الشرك أقبح الذنوب وأكبرها وأنه لو انحرف إليه ـ على سبيل الفرض ـ أشرف الخلق وأكرمهم عند الله ـ تعالى ـ لعذبه ـ سبحانه ـ على ذلك ، فكيف يكون حال غيره ممن هم ليسوا في شرفه ومنزلته.

لا شك أن عذابهم سيكون أشد ، وعقابهم سيكون أكبر.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينذر أقرب الناس إليه ، ليكونوا قدوة لغيرهم. وليعلموا أن قرابتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن تنجيهم من عذاب الله ، ما استمروا على شركهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

والعشيرة : أهل الرجل الذين يتكثر بهم ، و (الْأَقْرَبِينَ) هم أصحاب القرابة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات ، والأعمام والعمات وما يشبه ذلك.

وقد ذكر المفسرون أحاديث متعددة ، فيما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية ، منها : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ، وهي كلمة يقولها المستغيث أو المنذر لقومه ـ فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم. قال : «فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ، وأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١).

قال الآلوسى : ووجه تخصيص عشيرته الأقربين بالذكر مع عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دفع توهم المحاباة ، وأن الاهتمام بشأنهم أهم ، وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده .. (٢).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧٦. فقد ساق جملة من الأحاديث في هذا المعنى.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٣٤.

٢٨٦

أى : أن هذه الآية الكريمة ، لا تتعارض مع عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس جميعا ، لأن المقصود بها : البدء بإنذار عشيرته الأقربين ، ليكونوا أسوة لغيرهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إرشاد منه ـ سبحانه ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كيفية معاملته لأتباعه.

وخفض الجناح : كناية عن التواضع. واللين ، والرفق ، في صورة حسية مجسمة ، إذ من شأن الطائر حين يهبط أو حين يضم صغاره إليه أن يخفض جناحه ، كما أن رفع الجناح يطلق على التكبر والتعالي ، ومنه قول الشاعر :

وأنت الشهير بخفض الجنا

ح فلا تك في رفعه أجدلا (١)

أى : وكن ـ أيها الرسول الكريم ـ متواضعا لين الجانب ، لمن اتبعك من المؤمنين ، ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد المتواضعين مع أصحابه ، إلا أن الآية الكريمة تعلم المسلمين في كل زمان ومكان ـ وخصوصا الرؤساء منهم ـ كيف يعامل بعضهم بعضا.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : المتبعون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما معنى قوله : (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟

قلت : فيه وجهان : أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك ، وأن يراد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم ، وهم صنفان : صنف صدق الرسول واتبعه فيما جاء به : وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب. ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق لا يخفض لهما الجناح .. (٢).

ويبدو لنا أنه لا داعي إلى هذه التقسيمات التي ذهب إليها صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ ، وأن المقصود بقوله : (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) تأكيد الأمر بخفض الجناح ، وللإشعار بأن جميع أتباعه من المؤمنين ، ومثل هذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ.). ومن المعلوم أن الأقوال لا تكون إلا بالأفواه ، وقوله ـ تعالى ـ (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ.). ومن المعروف أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه.

ثم بين ـ سبحانه ـ لنبيه كيف يعامل العصاة فقال : (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

قال الآلوسى : الظاهر أن الضمير المرفوع في (عَصَوْكَ) عائد على من أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) والأجدل : هو الصقر. أى. فلا تكن شبيها به في القسوة والغلظة.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٤١.

٢٨٧

بإنذارهم ، وهم العشيرة. أى : فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم ، فقل إنى برىء من عملكم ، أو من دعائكم مع الله إلها آخر. وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق.

وقيل : هو عائد على من اتبع من المؤمنين. أى : فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم ، فقل إنى برىء مما تعملون من المعاصي .. (١).

وكان هذا في مكة ، قبل أن يؤمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال المشركين.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بالتوكل عليه وحده فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أى : اخفض جناحك لأتباعك المؤمنين ، وقل لمن عصاك بعد إنذاره إنى برىء من أعمالكم ، واجعل توكلك واعتمادك على ربك وحده ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب العزة والغلبة ، والقهر ، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء.

وهو ـ عزوجل ـ (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) إلى عبادته وإلى صلاته دون أن يكون معك أحد.

وهو ـ سبحانه ـ الذي يرى (تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أى : يراك وأنت تصلى مع المصلين ، فتؤمهم وتنتقل بهم من ركن إلى ركن ، ومن سنة إلى سنة حال صلاتك ، والتعبير بقوله (تَقَلُّبَكَ) يشعر بحرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تعهد أصحابه ، وعلى تنظيم صفوفهم في الصلاة ، وعلى غير ذلك مما هم في حاجة إليه من إرشاد وتعليم.

وعبر عن المصلين بالساجدين ، لأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ، فهذا التعبير من باب التشريف والتكريم لهم.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (هُوَ السَّمِيعُ) لكل ما يصح تعلق السمع به (الْعَلِيمُ) بكل الظواهر والبواطن ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريم ببيان أن الشياطين من المحال أن تتنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادق الأمين .. وإنما تتنزل على الكاذبين الخائنين ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٣٦.

٢٨٨

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(٢٢٧)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ..). للتقرير ، والخطاب للمشركين الذين اتهموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة بأنه كاهن ، وتارة بأنه ساحر أو شاعر.

أى : ألا تريدون أن تعرفوا ـ أيها المشركون ـ على من تتنزل الشياطين؟! إنهم لا يتنزلون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن طبعه يتباين مع طبائعهم ، ومنهجه يتعارض مع مسالكهم ، فهو يدعو إلى الحق وهم يدعون إلى الباطل.

إنما تتنزل الشياطين (عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) أى : كثير الإفك والكذب (أَثِيمٍ) أى : كثير الارتكاب للآثام والسيئات ، كأولئك الكهنة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل.

والضمير في قوله (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يجوز أن يعود إلى كل أفاك أثيم ، وهم الكهان وأشباههم ، والجملة صفة لهم ، أو مستأنفة.

والمراد بإلقائهم السمع : شدة الإنصات ، وقوة الإصغاء للتلقي.

والمعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم. وهؤلاء الأفاكون الآثمون ، منصتون إنصاتا شديدا إلى الشياطين ليسمعوا منهم ، وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيا يقولونه للناس ، وفيما يخبرون به عن الشياطين.

روى البخاري عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : سأل الناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان ، فقال : إنهم ليسوا بشيء ، قالوا : يا رسول الله ، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرقرها ـ أى : فيرددها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة ـ فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة» (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٨٣.

٢٨٩

ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين. وتكون الجملة حالية أو مستأنفة ، ومعنى إلقائهم السمع : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى ليسترقوا شيئا من السماء.

فيكون المعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم ، حالة كون الشياطين ينصتون إلى الملأ الأعلى. ليسترقوا شيئا من السماء ، وأكثر هؤلاء الشياطين كاذبون فيما ينقلونه إلى الأفاكين والآثمين من الكهان.

ويصح أن يكون السمع بمعنى المسموع. أى : يلقى كل من الشياطين والكهنة ما يسمعونه إلى غيرهم.

قال الجمل : قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) الأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم ، على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجنى. أو المعنى : وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقا على الإطلاق .. فالكثرة في المسموع لا في ذوات القائلين.

وقال بعضهم. المراد بالأكثر الكل ... (١).

والمقصود من هذه الآيات الكريمة إبطال ما زعمه المشركون من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تلقى هذا القرآن عن الشياطين أو عن غيرهم ، وإثبات أن هذا القرآن ما نزل إلا من عند الله ـ تعالى ـ بواسطة الروح الأمين.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إبطال لشبهة أخرى من شبهاتهم وهي زعمهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاعر.

والشعراء : جمع شاعر كعالم وعلماء. والغاوون : جمع غاو وهو الضال عن طريق الحق.

أى : ومن شأن الشعراء أن الذين يتبعونهم من البشر ، هم الضالون عن الصراط المستقيم ، وعن جادة الحق والصواب.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) تأكيد لما قبله ، من كون الشعراء يتبعهم الغاوون. والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية والمعرفة.

والوادي : هو المكان المتسع. والمراد به هنا : فنون القول وطرقه.

ويهيمون : من الهيام وهو أن يذهب المرء على وجهه دون أن يعرف له جهة معينة يقصدها.

يقال : هام فلان على وجهه ، إذا لم يكن له مكان معين يقصده. والهيام داء يستولى على

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين.

٢٩٠

الإبل فيجعلها تشرد عن صاحبها بدون وقوف في مكان معين ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أى : الجمال العطاش الشاردة.

والمعنى : ألم تر ـ أيها العاقل ـ أن هؤلاء الشعراء في كل فن من فنون الكذب في الأقوال يخوضون ، وفي كل فج من فجاج الباطل والعبث والفحش يتكلمون ، وأنهم فوق ذلك يقولون ما لا يفعلون ، فهم يحضون غيرهم على الشيء ولا يفعلونه ، وهم يقولون فعلنا كذا وفعلنا كذا ـ على سبيل التباهي والتفاخر ـ مع أنهم لم يفعلوا.

قال صاحب الكشاف : ذكر الوادي والهيوم : فيه تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البريء ، ويفسقوا التقى (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ..). استثناء من الشعراء المذمومين الذين يتبعهم الغاوون ، والذين هم في كل واد يهيمون.

أى : إلا الشعراء الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ وعملوا الأعمال الصالحات وذكروا الله كثيرا بحيث لم يشغلهم شعرهم عن طاعة الله ، وانتصروا من بعد ما ظلموا من أعدائهم الكافرين ، بأن ردوا على أباطيلهم ، ودافعوا عن الدين الحق.

إلا هؤلاء ، فإنهم لا يكونون من الشعراء المذمومين ، بل هم من الشعراء الممدوحين.

قال ابن كثير : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يبكون وقالوا. قد علم الله ـ تعالى ـ أنا شعراء ، فتلا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : أنتم. (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) قال : أنتم (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال : أنتم» (٢).

فالشعراء : منهم المذمومون وهم الذين في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون ..

ومنهم الممدوحون وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا.

والشعر في ذاته كلام : حسنه حسن ، وقبيحه قبيح ، فخذ الحسن ، واترك القبيح.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٤٤.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٨٦.

٢٩١

وقد تكلم العلماء هنا كلاما طويلا يتعلق بتفسير هذه الآيات التي تحدثت عن الشعراء فارجع إليه إن شئت (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

والمنقلب : المرجع والمصير ، وهو مفعول مطلق. أى : ينقلبون أى انقلاب والجملة الكريمة مشتملة على أشد ألوان التهديد والوعيد للظالمين.

قال القرطبي : ومعنى : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أى مصير يصيرون ، وأى مرجع يرجعون ، لأن مصيرهم إلى النار ، وهو أقبح مصير ، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع والفرق بين المنقلب والمرجع : أن المنقلب : الانتقال إلى ضد ما هو فيه ، والمرجع : العود من حال هو فيها ، إلى حال كان عليها ، فصار كل مرجع منقلبا ، وليس كل منقلب مرجعا (٢).

وقال الإمام ابن كثير : والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم .. وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : كتب أبى وصيته من سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبى قحافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر. وينتهى الفاجر ، ويصدق الكاذب. إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن يظلم ويبدل فلا أعلم الغيب (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

وبعد : فهذه سورة الشعراء ، وهذا تفسير محرر لها ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

ظهر الأحد ١٩ من جمادى الأولى ١٤٠٥ ه‍

الموافق ١٠ / ٢ / ١٩٨٥ م

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) راجع الآلوسى ج ١٩ ص ١٤٥.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٥٣.

٢٩٢

تفسير

سورة النّمل

٢٩٣
٢٩٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة النمل ، من السور المكية : وهي السورة السابعة والعشرون في ترتيب المصحف ، وكان نزولها بعد سورة الشعراء.

قال القرطبي : سورة النمل ، مكية كلها في قول الجميع (١).

٢ ـ وسميت بسورة النمل ، لقوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ).

قال الآلوسى : «وتسمى أيضا ـ كما في الدر المنثور ـ سورة سليمان ، وعدد آياتها خمس وتسعون آية ـ عند الحجازيين ـ ، وأربع وتسعون ـ عند البصريين ـ وثلاث وتسعون ـ عند الكوفيين ـ» (٢).

٣ ـ وقد افتتحت سورة النمل بالثناء على القرآن الكريم ، وعلى المؤمنين الذين يحافظون على فرائض الله ـ تعالى ـ ، ويوقنون بالآخرة وما فيها من ثواب أو عقاب ...

أما الذين لا يؤمنون بالآخرة ، فقد أنذرتهم بسوء المصير (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

٤ ـ ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن جانب من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ فذكرت لنا ما قاله موسى لأهله عند ما آنس من جانب الطور نارا ، وما قاله الله ـ تعالى ـ له عند ما جاءها ، وما أمره ـ سبحانه ـ به ، في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ. يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

٥ ـ ثم تحدثت السورة بعد ذلك عما منحه الله ـ تعالى ـ لداود وسليمان ـ عليهما‌السلام ـ من علم واسع ، ومن عطاء كبير ، وحكت ما قالته نملة عند ما رأت سليمان وجنوده ، كما حكت ما دار بين سليمان ـ عليه‌السلام ـ وبين الهدهد ، وما دار بينه ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٥٤.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٥٤.

٢٩٥

وبين ملكة سبأ من كتب ومحاورات انتهت بإسلام ملكة سبأ ، حيث قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ثم ساقت السورة جانبا من قصة صالح ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، فتحدثت عن الرهط التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، والذين بيتوا السوء لنبيهم صالح وللمؤمنين معه ، فكانت نتيجة مكر هؤلاء المفسدين الخسار والهلاك. كما قال ـ تعالى ـ : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ، أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ..).

٧ ـ وبعد أن ساقت السورة جانبا من قصة لوط ـ عليه‌السلام ـ مع قومه. أتبعت ذلك بالحديث عن وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، فذكرت ألوانا من الأدلة على ذلك ، وقد قال ـ سبحانه ـ في أعقاب كل دليل (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ، وكرر ذلك خمس مرات ، في خمس آيات.

٨ ـ وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر وحدانية الله وقدرته ـ سبحانه ـ ، أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تثبيت فؤاده ، وفي بيان أن هذا القرآن هداية ورحمة.

قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).

٩ ـ ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحديث عن علامات الساعة وأهوالها ، وعن عاقبة المؤمنين ، وعاقبة الكافرين ، وعن المنهج الذي اتبعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر غيره باتباعه ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها ، وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

١٠ ـ وبعد : فهذا عرض مجمل لسورة النمل. ومنه نرى أن السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أدلة وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ، وعن مظاهر فضله ـ تعالى ـ على عباده. وعن علمه ـ سبحانه ـ المحيط بكل شيء ، وعن آياته الكونية التي يكشف منها للناس ما يشاء كشفه وبيانه.

كما نرى أن السورة الكريمة قد اشتمل القصص على جانب كبير منها ، خصوصا قصص

٢٩٦

بعض أنبياء بنى إسرائيل ، فقد حدثتنا عن جانب من قصة موسى ، وداود ، وسليمان. ثم بينت أن على بنى إسرائيل المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعودوا إلى القرآن ، ليعرفوا منه الأمر الحق في كل ما اختلفوا فيه ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

كما نراها تجمع في توجيهاتها وإرشاداتها بين الترغيب والترهيب ، وبين التذكير بنعم الله التي نشاهدها في هذا الكون ، وبين التحذير من أهوال يوم القيامة ، وتختم بهذه الآية الجامعة : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د / محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

٢٦ من جمادى الأولى ١٤٠٥ ه‍

الموافق : ١٦ / ٢ / ١٩٨٥ م

٢٩٧
٢٩٨

التفسير

قال الله تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)(٦)

سورة النمل : من السور التي افتتحت ببعض الحروف المقطعة ، وهو قوله ـ تعالى ـ (طس).

وقد ذكرنا آراء العلماء في هذه الحروف المقطعة بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، ويوسف ... إلخ.

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة. قد وردت في افتتاح بعض السور ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه ، للذين تحداهم القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك الكافرين الذين زعموا أن هذا القرآن ليس من عنده ـ تعالى ـ : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية ، التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في

٢٩٩

شك في أنه من عند الله ـ تعالى ـ فهاتوا مثله ، أو هاتوا عشر سور من مثله ، أو هاتوا سورة واحدة من مثله.

فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ عزوجل ـ واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى الآيات القرآنية التي تضمنتها هذه السورة الكريمة. أو إلى جميع آيات القرآن التي نزلت قبل ذلك.

وهو ـ أى لفظ (تِلْكَ) ـ مبتدأ وخبره قوله ـ سبحانه ـ (آياتُ الْقُرْآنِ). أى : تلك الآيات الحكيمة التي أنزلناها إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ هي آيات القرآن ، الذي أنزلناه إليك لتخرج الناس به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

فإضافة الآيات إلى القرآن لتعظيم شأنها ، وسمو منزلتها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) معطوف على القرآن من باب عطف إحدى الصفتين على الأخرى ، كقولهم هذا فعل فلان السخي والجواد الكريم.

قال الآلوسى : «والمبين : إما من أبان المتعدى ، أى : مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى ... وإما من أبان اللازم ، بمعنى بان. أى : ظاهر الإعجاز ... وهو على الاحتمالين ، صفة مادحة لكتاب ، مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة ...» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) في حيز النصب على الحالية من قوله (آياتُ) ولفظ (هُدىً) مصدر هداه هدى وهداية ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى البغية.

و (بُشْرى) : الخبر السار. فهي أخص من مجرد الخبر ، وسمى الخبر السار بشرى ، لأن أثره يظهر على البشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان.

أى : أنزلنا إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ هذه الآيات القرآنية ، حالة كونها هداية للمؤمنين إلى طريق السعادة والفلاح ، وبشارة لهم بما يشرح صدورهم ، ويدخل الفرح والسرور على نفوسهم.

وخص ـ سبحانه ـ المؤمنين بذلك ، لأنهم المنتفعون بهذه الهداية والبشارة ، دون سواهم من الكافرين والمنافقين.

قال ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٥٥.

(٢) سورة فصلت الآية ٤٤.

٣٠٠