التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٢٢)

تلك هي قصة نوح مع قومه ، كما وردت في هذه السورة ، وقد ذكرت في سور أخرى منها سور : الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، ونوح .. ولكن بأساليب أخرى.

وينتهى نسب نوح ـ عليه‌السلام ـ إلى شيث بن آدم ، وقد ذكر نوح في القرآن في ثلاث وأربعين موضعا.

وكان قوم نوح يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ إليهم نوحا ، ليدلهم على طريق الرشاد.

وقوم الرجل : أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا لمجاورته لهم.

٢٦١

قال الآلوسى : والقوم ـ كما في المصباح ـ يذكر ويؤنث ، وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ، ولذا يصغر على قويمة ، وقيل : هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه .. (١).

والمراد بالمرسلين في قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) نبيهم نوحا ـ عليه‌السلام ـ وعبر عنه بذلك ، لأن تكذيبهم له ، بمثابة التكذيب لجميع الرسل ، لأنهم قد جاءوا جميعا برسالة واحدة في أصولها التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.

و (إِذْ) في قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) أى : كذبوا نبيهم نوحا وقت أن قال لهم ناصحا ومنذرا (أَلا تَتَّقُونَ) أى : ألا تتقون الله ـ تعالى ـ الذي خلقكم ورزقكم ، فتخلصوا له العبادة وتتركوا عبادة غيره.

ووصفه ـ سبحانه ـ بالأخوة لهم ، لأنه كان واحدا منهم يعرفون حسبه ونسبه ونشأته بينهم.

ثم علل نصحه لهم بقوله ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) آمركم بتقوى الله ـ تعالى ـ لأنى رسول معروف بينكم بالأمانة وعدم الخيانة أو الغش أو المخادعة.

وما دام أمرى كذلك : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أى على هذا النصح (مِنْ أَجْرٍ) دنيوى (إِنْ أَجْرِيَ) فيما أدعوكم إليه (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فهو الذي أرسلنى إليكم ، وهو الذي يتفضل بمنحى أجرى لا أنتم.

ولقد بينت لكم حقيقة أمرى (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

وهكذا نرى أن نوحا قد سلك مع قومه أحكم الطرق في دعوتهم إلى الله ، فهو يحضهم ثلاث مرات على تقوى الله بعد أن يبين لهم أخوته لهم ، وأمانته عندهم ، وتعففه عن أخذ أجر منهم في مقابل ما يدعوهم إليه من حق وخير ، ومصارحته إياهم بأن أجره إنما هو من الله رب العالمين ، وليس من أحد سواه.

فماذا كان ردهم على هذا القول الحكيم لنبيهم؟ لقد حكى القرآن ردهم فقال : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).

والأرذلون : جمع الأرذل. وهو الأقل من غيره في المال والجاه والنسب.

أى : قال قوم نوح له عند ما دعاهم إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ : يا نوح أنؤمن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٠٦

٢٦٢

لك ، والحال أن الذين اتبعوك من سفلة الناس وفقرائهم ، وأصحاب الحرف الدنيئة فينا ..؟.

وهذا المنطق المرذول قد حكاه القرآن في كثير من آياته ، على ألسنة المترفين ، وهم يردون على أنبيائهم عند ما يدعونهم إلى الدين الحق ..

وهنا يرد عليهم نوح ردا حكيما (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) ..

أى : قال لهم على سبيل الاستنكار لما واجهوه به : وأى علم لي بأعمال أتباعى ، إن الذي يعلم حقيقة نواياهم وأعمالهم هو الله ـ تعالى ـ أما أنا فوظيفتى قبول أعمال الناس على حسب ظواهرها.

وهؤلاء الضعفاء ـ الأرذلون في زعمكم ـ ليس حسابهم إلا على الله ـ تعالى ـ وحده ، فهو أعلم ببواطنهم وبأحوالهم منى ومنكم (لَوْ تَشْعُرُونَ) أى : لو كنتم من أهل الفهم والشعور بحقائق الأمور لا بزيفها ، لعلمتم سلامة ردى عليكم ولكنكم قوم تزنون الناس بميزان غير عادل ، لذا قلتم ما قلتم.

ثم يحسم الأمر معهم في هذه القضية فيقول : (وَما أَنَا) بحال من الأحوال (بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) الذين اتبعونى وصدقونى وآمنوا بدعوتي سواء أكانوا من الأرذلين ـ في زعمكم ـ أم من غيرهم ، (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أى : ليست وظيفتي إلا الإنذار الواضح للناس بسوء المصير ، إذا ما استمروا على كفرهم ، سواء أكانوا من الأغنياء أم من الفقراء.

فأنت ترى أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ قد جمع في رده عليهم ، بين المنطق الرصين الحكيم ، وبين الحزم والشجاعة والزجر الذي يخرس ألسنتهم.

لذا نراهم وقد أخرسهم المنطق المستقيم الذي سلكه نوح معهم ، يلجئون إلى التهديد والوعيد لنبيهم ـ عليه‌السلام ـ : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ).

أى : إذا لم تكف يا نوح عن مجادلتك لنا ، ومن دعوتك إيانا إلى ترك عبادة آلهتنا ، لتكونن من المرجومين منا بالحجارة حتى تموت.

وهكذا الطغاة يلجئون إلى القوة والتهديد والوعيد ، عند ما يجدون أنفسهم وقد حاصرهم أصحاب الحق من كل جوانبهم ، بالحجة الواضحة ، وبالرأى السديد ..

ويئس نوح ـ عليه‌السلام ـ من إيمان قومه ، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبعد أن سمع منهم ما يدل على رسوخهم في الكفر والضلال ، تضرع إلى ربه (قالَ

٢٦٣

رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) واستمروا على هذا التكذيب تلك القرون المتطاولة (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أى فاحكم بقدرتك العادلة بيني وبينهم حكما من عندك ، تنجي به أهل الحق ، وتمحق به أهل الباطل.

وسمى الحكم فتحا ، لما فيه من إزالة الإشكال في الأمر ، كما أن فتح الشيء المغلق يؤدى إلى إزالة هذا الإغلاق. ولذا قيل للحاكم فاتح لفتحه أغلاق الحق.

ثم حكى ـ سبحانه ـ أنه قد استجاب لنوح دعاءه فقال : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ).

والفلك ـ كما يقول الآلوسى ـ : يستعمل للواحد وللجمع. وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا. وحيث أتى غير فاصلة استعمل جمعا.

والمشحون : المملوء بهم وبكل ما يحتاجون إليه من وسائل المعيشة.

أى : فاستجبنا لعبدنا نوح دعاءه. فأنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بهم. وبما هم في حاجة إليه ، ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه على كفرهم وضلالهم ..

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرناه لك ـ أيها الرسول الكريم ـ عن نوح وقومه (لَآيَةً) كبرى على وحدانيتنا وقدرتنا (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك ، جانبا من قصة هود ـ عليه‌السلام ـ مع قومه فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١)

٢٦٤

وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٤٠)

وقد وردت قصة هود مع قومه في سور شتى منها : سورة الأعراف ، وهود ، والأحقاف ..

وينتهى نسب هود ـ عليه‌السلام ـ إلى نوح ـ عليهما‌السلام ـ.

وقومه هم قبيلة عاد ـ نسبة إلى أبيهم الذي كان يسمى بهذا الاسم ـ وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن ـ والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل ـ.

وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ نبيهم هودا لينهاهم عن ذلك ، وليأمرهم بعبادة الله وحده. وبشكره ـ سبحانه ـ على ما وهبهم من قوة وغنى.

وقد افتتح هود نصحه لقومه ، بحضهم على تقوى الله وإخلاص العبادة له وبيان أنه أمين في تبليغ رسالة الله ـ تعالى ـ إليهم ، فهو لا يكذب عليهم ولا يخدعهم ، وببيان أنه لا يسألهم أجرا على نصحه لهم ، وإنما يلتمس الأجر من الله ـ تعالى ـ وحده.

وقد سلك في ذلك المسلك الذي اتبعه جده ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، وسار عليه الأنبياء من بعده.

ثم استنكر هود ـ عليه‌السلام ـ ما كان عليه قومه من ترف وطغيان فقال لهم : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ).

والريع بكسر الراء ـ جمع ريعة. وهو المكان المرتفع من الأرض أو الجبل المرتفع .. وقيل : المراد به أبراج الحمام كانوا يبنونها للهو واللعب والأكثرون على أن المراد به : المكان المرتفع ومنه : ريع النبات ، وهو ارتفاعه بالزيادة.

أى : أتبنون ـ على سبيل اللهو واللعب ـ في كل مكان مرتفع ، بناء يعتبر آية وعلامة على

٢٦٥

عبثكم وترفكم ، وغروركم.

(وَتَتَّخِذُونَ) أى : وتعملون (مَصانِعَ) أى : قصورا ضخمة متينة ، أو حياضا تجمعون فيها مياه الأمطار .. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أى : عاملين عمل من يرجو الخلود في هذه الحياة الفانية (وَإِذا بَطَشْتُمْ) أى : وإذا أردتم السطو والظلم والبغي على غيركم (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ).

أى : أخذتموه بعنف وقهر وتسلط دون أن تعرف الرحمة إلى قلوبكم سبيلا.

فأنت ترى أن هودا ـ عليه‌السلام ـ قد استنكر على قومه تطاولهم في البنيان بقصد التباهي والعبث والتفاخر ، لا بقصد النفع العام لهم ولغيرهم. كما استنكر عليهم انصرافهم عن العمل الصالح الذي ينفعهم في آخرتهم وانهماكهم في التكاثر من شئون دنياهم حتى لكأنهم مخلدون فيها ، كما استنكر عليهم ـ كذلك ـ قسوة قلوبهم ، وتحجر مشاعرهم ، وإنزالهم الضربات القاصمة بغيرهم بدون رأفة أو شفقة.

وبعد نهيه إياهم عن تلك الرذائل ، أمرهم بتقوى الله وطاعته وشكره على نعمه فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

أى : اتركوا هذه الرذائل ، واتقوا الله وأطيعون في كل ما آمركم به. أو أنهاكم عنه ، واتقوا الله ـ تعالى ـ الذي أمدكم بألوان لا تحصى من النعم ، فقد أمدكم بالأنعام ـ وهي الإبل والبقر والغنم ـ التي هي أعز أموالكم ، وأمدكم بالأولاد ليكونوا قوة لكم ، وأمدكم بالبساتين العامرة بالثمار ، وبالعيون التي تنتفعون بمائها العذب.

ثم ختم إرشاده لهم ، ببيان أنه حريص على مصلحتهم ، وأنه يخشى عليهم إذا لم يستجيبوا لدعوته أن ينزل بهم عذاب عظيم في يوم تشتد أهواله ولا تنفعهم فيه أموالهم ولا أولادهم.

وبذلك نرى أن هودا ـ عليه‌السلام ـ قد جمع في نصحه لقومه بين الترهيب والترغيب ، وبين الإنذار والتبشير ، وبين التعفف عن دنياهم ، والحرص على مصلحتهم.

ولكن هذه النصائح الحكيمة ، لم يستقبلها قومه استقبالا حسنا ، ولم تجد منهم قبولا ، بل كان ردهم عليه ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ ..).

أى : قال قوم هود له بعد أن وعظهم ونصحهم : قالوا له بكل استهتار وسوء أدب : يا هود يستوي عندنا وعظك وعدمه ، ولا يعنينا أن تكون ممن يجيدون الوعظ أو من غيرهم ممن لا يحسنون الوعظ والإرشاد.

٢٦٦

قال صاحب الكشاف : فإن قيل : «أوعظت أو لم تعظ» كان أخصر. والمعنى واحد.

قلت : ليس المعنى بواحد وبينهما فرق ، لأن المراد : سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه ، من قولك : أم لم تعظ. (١).

ثم أضافوا إلى قولهم هذا قولا آخر لا يقل عن سابقه في الغرور وانطماس البصيرة فقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) أى : ما هذا الذي تنهانا عنه من التطاول في البنيان ، ومن اتخاذ المصانع .. إلا خلق آبائنا الأولين ، ومنهجهم في الحياة ، ونحن على آثارهم نسير وعلى منهجهم نمشي.

قال القرطبي ما ملخصه : قرأ أكثر القراء (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) ـ بضم الخاء واللام ـ أى : عادتهم ودينهم ومذهبهم وما جرى عليه أمرهم ..

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي إلا خلق الأولين ـ بفتح الخاء وإسكان اللام ـ أى : ما هذا الذي جئتنا به يا هود إلا اختلاق الأولين وكذبهم ، والعرب تقول : حدثنا فلان بأحاديث الخلق ، أى : بالخرافات والأحاديث المفتعلة .. (٢).

وعلى كلتا القراءتين فالآية الكريمة تصور ما كانوا عليه من تحجر وجهالة تصويرا بليغا.

ثم انتقلوا بعد ذلك إلى غرور أشد وأشنع فقالوا : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

أى : هذه : حالنا التي ارتضيناها لحياتنا ، وما نحن بمعذبين على هذه الأعمال التي نعملها.

وهكذا رد قوم هود على نبيهم ـ عليه‌السلام ـ بهذا الرد السيئ الذي يدل على استهتارهم وجفائهم وجمودهم على باطلهم.

ولذا جاءت نهايتهم الأليمة بسرعة وحسم ، قال ـ تعالى ـ : (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ).

أى : أصر قوم هود على باطلهم وغرورهم فأهلكناهم (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٣) أهلكهم الله ـ تعالى ـ دون أن تنفعهم أموالهم ، أو قوتهم التي كانوا يدلون بها ويقولون : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). (٤)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٢٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٢٥.

(٣) سورة الحاقة الآية ٦ ، ٧.

(٤) سورة فصلت الآية ١٥.

٢٦٧

وختم ـ سبحانه ـ قصتهم بما ختم به قصة نوح مع قومه من قبلهم ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك قصة صالح مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٥٩)

وقد وردت قصة صالح مع قومه في سور أخرى منها الأعراف ، وهود ، والنمل ، والقمر .. وثمود اسم للقبيلة التي أرسل إليها صالح ـ عليه‌السلام ـ والثمد : الماء القليل ... وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله ـ تعالى ـ واحدا منهم ـ هو صالح ـ لكي يأمرهم بعبادة الله وحده.

٢٦٨

وما زالت مساكنهم تعرف إلى الآن بمدائن صالح ، في المنطقة التي بين المدينة المنورة والشام ، وقد مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ديارهم وهو متوجه إلى غزوة تبوك ..

وقد نصح صالح قومه ، بما نصح به هود ونوح قومهما من قبله ، فقد أمرهم بتقوى الله وصارحهم بصدقه معهم ، وبتعففه عن تعاطى الأجر على نصحه لهم.

ثم وعظهم بما يرقق القلوب ، وبما يحمل العقلاء على شكر الله ـ تعالى ـ على نعمه فقال لهم : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ..).

والاستفهام للإنكار. والطلع : اسم من الطلوع وهو الظهور ، وأصله ثمر النخل في أول ما يطلع ، وهو بعد التلقيح يسمى خلالا ـ بفتح الخاء ـ ثم يصير بسرا ، فرطبا ، فتمرا.

والهضيم : اليانع والنضيج ، أو الرطب اللين اللذيذ الذي تداخل بعضه في بعض وهو وصف للطلع الذي قصد به الثمار الناضجة الطيبة لصيرورته إليها.

والمعنى : أتظنون أنكم متروكون بدون حساب أو سؤال من خالقكم ـ عزوجل ـ وأنتم تتقلبون في نعمه التي منها ما أنتم فيه من بساتين وأنهار وزروع كثيرة متنوعة.

إن كنتم تظنون ذلك ، فأقلعوا عن هذا الظن ، واعتقدوا بأنكم أنتم وما بين أيديكم من نعم ، إلى زوال ، وعليكم أن تخلصوا لخالقكم العبادة والشكر لكي يزيدكم من فضله ..

فأنت ترى أن ـ صالحا ـ عليه‌السلام قد استعمل مع قومه أرق ألوان الوعظ ، لكي يوقظ قلوبهم الغافلة ، نحو طاعة الله ـ تعالى ـ وشكره ، وقد استعمل في وعظه لفت أنظارهم إلى ما يتقلبون فيه من نعم تشمل البساتين والعيون ، والزروع المتعددة ، والنخيل الجيدة الطلع ، اللذيذة الطعم ، حتى لكأن ثمرها لجودته ولينه ، لا يحتاج إلى هضم في البطون.

ثم ذكرهم بنعمة أخرى ، وكرر عليهم الأمر بتقوى الله فقال : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

وقوله : (وَتَنْحِتُونَ) معطوف على (تُتْرَكُونَ) فهو داخل في حيز الإنكار عليهم ، لعدم شكرهم لله ـ تعالى ـ والنحت : البرى. يقال : نحت فلان الحجر نحتا إذا براه وأعده للبناء.

و (فارِهِينَ) أى : ماهرين حاذقين في نحتها. من فره ـ ككرم ـ فراهة. إذا برع في فعل الشيء ، وعرف غوامضه ودقائقه.

قال القرطبي : وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فرهين بغير ألف في الفاء. وهي بمعنى واحد .. وفرق بينهما قوم فقالوا : (فارِهِينَ) أى حاذقين في تحتها ... وفرهين ـ بغير

٢٦٩

ألف ـ. أى : أشرين بطرين فرهين .. (١).

أى : وأنهاكم ـ أيضا ـ عن انهماككم في نحت الحجارة من الجبال بمهارة وبراعة ، لكي تبنوا بها بيوتا وقصورا بقصد الأشر والبطر ، لا يقصد الإصلاح والشكر لله ـ فمحل النهى إنما هو قصد الأشر والبطر في البناء وفي النحت.

ثم نهاهم عن طاعة المفسدين في الأرض بعد أن أمرهم بتقوى الله فقال : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ).

أى : اجعلوا طاعتكم لله ـ تعالى ـ وحده ، ولى بصفتى رسوله إليكم ، واتركوا طاعة زعمائكم وكبرائكم المسرفين في إصرارهم على الكفر والجحود والذين من صفاتهم أنهم يفسدون في الأرض فسادا لا يخالطه إصلاح.

قال الآلوسى : قوله : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ.). كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه. وبالمسرفين كبراءهم في الكفر والإضلال. وكانوا تسعة رهط .. والإسراف : تجاوز الحد في كل أمر .. والمراد به هنا : زيادة الفساد .. والمراد بالأرض : أرض ثمود. وقيل : الأرض كلها. ولما كان قوله (يُفْسِدُونَ) لا ينافي إصلاحهم أحيانا ، أردفه بقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُصْلِحُونَ) لبيان كمال إفسادهم. وأنه لم يخالطه إصلاح أصلا (٢).

ولكن هذا النصح الحكيم من صالح لقومه ، لم يقابل منهم بأذن صاغية ، بل قابلوه بالتطاول والاستهتار وإنكار رسالته (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

أى : قال قوم صالح له : أنت لست إلا من الذين غلب عليهم السحر ، وأثر في عقولهم ، فصاروا يتكلمون بكلام المجانين. وما أنت ـ أيضا ـ إلا بشر مثلنا تأكل الطعام كما نأكل. وتشرب الشراب كما نشرب .. فإن كنت رسولا حقا فأتنا بعلامة ومعجزة تدل على صدقك في دعواك الرسالة وكأنهم ـ لجهلهم وانطماس بصائرهم ـ يرون أن البشرية تتنافى مع النبوة والرسالة ، وتضرع صالح ـ عليه‌السلام ـ إلى ربه ـ عزوجل ـ أن يمنحه معجزة لعلها تكون سببا في هداية قومه ، وأجاب الله ـ تعالى ـ تضرعه ، فقال ـ سبحانه ـ : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ ، وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

قال ابن كثير : ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ، ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم ، فطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من صخرة عندهم ناقة عشراء من صفتها كذا وكذا. فعند ذلك

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٢٩.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١١٣.

٢٧٠

أخذ عليهم صالح العهود والمواثيق ، لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به ، فأنعموا بذلك ـ أى : قالوا نعم ـ فقام نبي الله صالح فصلى ، ثم دعا ربه أن يجيبهم على سؤالهم ، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها. عن ناقة عشراء. على الصفة التي وصفوها. فآمن بعضهم وكفر أكثرهم» (١).

والمعنى : قال لهم صالح ـ عليه‌السلام ـ بعد أن طلبوا منه معجزة تدل على صدقه : هذه ناقة (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أى : لها نصيب معين من الماء ، ولكم نصيب آخر منه ، وليس لكم أن تشربوا منه في يوم شربها. وليس لها أن تشرب منه في يوم شربكم ، واحذروا أن تمسوها بسوء ـ كضرب أو قتل ـ فيأخذكم عذاب يوم عظيم.

ووصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه من عذاب ينزل بهم إذا مسوها بسوء ولكن قومه لم يفوا بعهودهم (فَعَقَرُوها) أى : فعقروا الناقة التي هي معجزة نبيهم. وأسند العقر إليهم جميعا. مع أن الذي عقرها بعضهم ، لأن العقر كان برضاهم جميعا ، كما يرشد إليه قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) (٢).

وقوله (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) بيان لما ترتب على عقرهم لها. وندمهم إنما كان بسبب خوفهم من وقوع العذاب عليهم بسبب ذلك ، ولم يكن بسبب إيمانهم وتوبتهم. أو أن ندمهم جاء في غير أوانه ، كما يشعر بذلك قوله ـ تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) أى أن العذاب نزل بهم في أعقاب عقرهم لها ، بدون تراخ أو إمهال ، وكان عذابهم أن أخذتهم الرجفة وتبعتها الصيحة التي صاحها بهم جبريل فأصبحوا في ديارهم جائمين ، ثم يجيء التعقيب السابق : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم جاءت بعد ذلك قصة لوط. مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٦٦.

(٢) سورة القمر الآية ٢٩.

٢٧١

مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٧٥)

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : ولوط هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخى إبراهيم ، وكان قد آمن مع إبراهيم ، وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله ـ تعالى ـ وبأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنع ذلك أهل سدوم ـ وهي قرية بوادي الأردن ـ عليهم لعائن الله. (١).

ولقد بدأ لوط ـ عليه‌السلام ـ دعوته لقومه يأمرهم بتقوى الله ، وبإخبارهم بأنه رسول أمين من الله ـ تعالى ـ إليهم ، وبأنه لا يسألهم أجرا على دعوته لهم إلى الحق والفضيلة.

ثم نهاهم عن أبرز الرذائل التي ، كانت متفشية فيهم فقال : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ. وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ).

والاستفهام للإنكار والتقريع والذكران : جمع ذكر وهو ضد الأنثى.

والعادون : جمع عاد. يقال : عدا فلان في الأمر يعدو ، إذا تجاوز الحد في الظلم.

أى : قال لوط لقومه : أبلغ بكم انحطاط الفطرة ، وانتكاس الطبيعة ، أنكم تأتون الذكور الفاحشة ، وتتركون نساءكم اللائي أحلهن الله ـ تعالى ـ لكم ، وجعلهن الطريق الطبيعي للنسل وعمارة الكون.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٢٣٠.

٢٧٢

إنكم بهذا الفعل القبيح الذميم ، تكونون قد تعديتم حدود الله ـ تعالى ـ وتجاوزتم ما أحله الله لكم ، إلى ما حرمه عليكم.

وقد ردوا عليه بما يدل على شذوذهم وعلى انتكاس فطرتهم ، فقد قالوا له على سبيل التهديد والوعيد : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ).

أى : قالوا له متوعدين : لئن لم تسكت يا لوط عن نهيك إيانا عما نحن فيه ، لتكونن من المخرجين من قريتنا إخراجا تاما ، ولنطردنك خارج ديارنا.

وهكذا النفوس عند ما تنحدر في الرذيلة وتنغمس في المنكر ، تعادى من يدعوها إلى الفضيلة وإلى الطهر والعفاف.

وقد رد لوط ـ عليه‌السلام ـ على سفاهتهم وسوء أدبهم (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ).

والقالين : جمع قال. يقال : قليت فلانا أقليه ـ كرميته أرميه ـ إذا كرهته كرها شديدا.

أى : قال لهم لوط موبخا ومؤنبا : إنى لعملكم القبيح الذي ترتكبونه مع الذكور ، من المبغضين له أشد البغض ، المنكرين له أشد الإنكار.

ثم توجه إلى ربه ـ تعالى ـ بقوله. (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أى : نجنى يا رب ، ونج أهلى المؤمنين معى ، مما يعمل هؤلاء الأشرار من منكر لم يسبقهم إليه أحد فأجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه فقال : (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ).

والمراد بهذه العجوز ، امرأته وكانت كافرة وراضية عن فعل قومها.

والغابرين : جمع غابر وهو الباقي بعد غيره. يقال غبر الشيء يغبر غبورا. إذا بقي.

وقوله : (إِلَّا عَجُوزاً) استثناء من أهله.

أى : فاستجبنا للوط دعاءه ، فأنجيناه وأهله المؤمنين جميعا ، إلا امرأته العجوز فإننا لم ننجها بل بقيت مع المهلكين لخبثها وعدم إيمانها.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أى : ثم أهلكنا قوم لوط المصرين على كفرهم وعلى إتيانهم المنكر ، تدميرا شديدا ، فإنا جعلنا أعلى قريتهم سافلها ، وأبدناهم عن آخرهم.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) بعد ذلك الإهلاك (مَطَراً) عجيبا أمره فقد كان نوعا من الحجارة ، كما جاء في آية أخرى في قوله : تعالى ـ : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ).

٢٧٣

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) بيان لسوء مصيرهم.

أى : دمرنا هؤلاء القوم ، وأمطرنا عليهم مطرا من الحجارة زيادة في إهانتهم ، فساءت عاقبتهم ، وتحقق ما أنذرناهم به من دمار.

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة لوط ـ عليه‌السلام ـ مع قومه ، بمثل ما ختم به القصص السابقة فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم جاءت في نهاية هذه القصص ، قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ مع قومه. فقال ـ تعالى :

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٩١)

٢٧٤

والأيكة : منطقة مليئة بالأشجار ، كانت ـ في الغالب ـ بين الحجاز وفلسطين حول خليج العقبة ، ولعلها المنطقة التي تسمى بمعان.

وشعيب ينتهى نسبه إلى إبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ذكر شعيبا قال : «ذلك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته.

وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان ، وقطع الطريق ، فدعاهم إلى وحدانية الله ـ تعالى ـ وإلى مكارم الأخلاق.

قال ابن كثير : «هؤلاء ـ أعنى أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح ، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ها هنا : أخوهم شعيب ، لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة وهي شجرة. وقيل شجر ملتف كالغيضة. كانوا يعبدونها ، فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين ، لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب ، وإنما قال : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) فقطع نسبة الأخوة بينهم ، للمعنى الذي نسبوا إليه ، وإن كان أخاهم نسبا ، ومن الناس من لم يتفطن لهذه النكتة ، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين ، فزعم أن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ بعثه الله إلى أمتين ... والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ، ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان ، كما في قصة مدين سواء بسواء ..» (١).

وقد افتتح شعيب ـ عليه‌السلام ـ دعوته لقومه. بأمرهم بتقوى الله ـ تعالى ـ وببيان أنه أمين في تبليغهم ما أمره الله بتبليغه إليهم ، وبمصارحتهم بأنه لا يسألهم أجرا على دعوته إياهم إلى ما يسعدهم.

ثم نهاهم عن أفحش الرذائل التي كانت منتشرة فيهم فقال لهم : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ..).

والجبلة : الجماعة الكثيرة من الناس الذين كانوا من قبل قوم شعيب. والمقصود بهم أولئك الذين كانوا ذوى قوة كأنها الجبال في صلابتها ، كقوم هود وأمثالهم ممن اغتروا بقوتهم ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

قال القرطبي : وقوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ).

الجبلة : هي الخليقة. ويقال : جبل فلان على كذا ، أى : خلق ، فالخلق جبلة وجبلة ـ

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٦٨.

٢٧٥

بكسر الجيم والباء وضمهما ـ والجبلة : هو الجمع ذو العدد الكثير من الناس ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ..). (١).

والمعنى : قال شعيب ـ عليه‌السلام ـ لقومه ناصحا ومرشدا : يا قوم. أوفوا الكيل أى : أتموه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الذين يأكلون حقوق غيرهم عن طريق التطفيف في الكيل والميزان.

ثم أكد نصحه هذا بنصح آخر فقال : (وَزِنُوا) للناس الذين تتعاملون معهم (بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أى : بالعدل الذي لا جور معه ولا ظلم.

ثم أتبع هذا الأمر بالنهى فقال : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أى : ولا تنقصوا للناس شيئا من حقوقهم ، أيا كان مقدار هذا الشيء.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) والعثو : أشد أنواع الفساد. يقال : عثا فلان في الأرض يعثو ، إذا اشتد فساده.

أى : ولا تنتشروا في الأرض حالة كونكم مفسدين فيها بالقتل وقطع الطريق ، وتهديد الآمنين.

فقوله (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة لضمير الجمع في قوله (تَعْثَوْا).

ثم ذكرهم بأحوال السابقين ، وبأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهم وخلق أولئك السابقين فقال : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ) من ماء مهين. وخلق ـ أيضا ـ الأقوام السابقين ، الذين كانوا أشد منكم قوة وأكثر جمعا. والذين أهلكهم ـ سبحانه ـ بقدرته بسبب إصرارهم على كفرهم وبغيهم.

واستمع قوم شعيب إلى تلك النصائح الحكيمة. ولكن لم يتأثروا بها ، بل اتهموا نبيهم في عقله وفي صدقه ، وتحدوه في رسالته فقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا. وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

قالوا له بسفاهة وغرور : إنما أنت يا شعيب من الذين أصيبوا بسحر عظيم جعلهم لا يعقلون ما يقولون ، أو إنما أنت من الناس الذين يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب ، ولا مزية لك برسالة أو بنبوة علينا ، فأنت بشر مثلنا ، وما نظنك إلا من الكاذبين فيما تدعيه ، فإن كنت صادقا في دعوى الرسالة فأسقط علينا (كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أى : قطعا من العذاب

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٣٦.

٢٧٦

الكائن من جهة السماء.

وجاء التعبير بالواو هنا في قوله (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) للإشارة إلى أنه جمع بين أمرين منافيين لدعواه الرسالة ، وهما : كونه من المسحرين وكونه بشرا وقصدوا بذلك المبالغة في تكذيبه ، فكأنهم يقولون له : إن وصفا واحدا كاف في تجريدك من نبوتك فكيف إذا اجتمع فيك الوصفان ، ولم يكتفوا بهذا بل أكدوا عدم تصديقهم له فقالوا : وما نظنك إلا من الكاذبين.

ثم أضافوا إلى كل تلك السفاهات. الغرور والتحدي حيث تعجلوا العذاب.

ولكن شعيبا ـ عليه‌السلام ـ قابل استهتارهم واستهزاءهم بقوله : (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ).

أى : ربي وحده هو العليم بأقوالكم وأعمالكم ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من عذاب أليم.

ثم يعجل ـ سبحانه ـ ببيان عاقبتهم السيئة فيقول : (فَكَذَّبُوهُ ، فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

قال الآلوسى : وذلك على ما أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، والحاكم عن ابن عباس : أن الله ـ تعالى ـ بعث عليهم حرا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم ، فخرجوا منها هرابا إلى البرية. فبعث الله ـ تعالى ـ عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس ، وهي الظلة ، فوجدوا لها بردا ولذة ، فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها ، أسقطها الله عليهم نارا. فأهلكتهم جميعا .. (١).

ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وذلك لأنهم قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا.). فلما أرجفوا بنبي الله ومن تبعه. ـ أى : حاولوا زلزلتهم وتخويفهم ـ أخذتهم الرجفة.

وفي سورة هود قال : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا.). فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم .. وها هنا قالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ..). على وجه التعنت والعناد فناسب أن ينزل بهم ما استبعدوا ووقوعه فقال : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٢٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧٠.

٢٧٧

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة شعيب مع قومه بمثل ما ختم به قصص الرسل السابقين مع أقوامهم فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وإلى هنا ترى سورة الشعراء قد ساقت لنا سبع قصص من قصص الأنبياء مع أقوامهم.

ساقت لنا قصة موسى ، فإبراهيم ، فنوح. فهود ، فصالح ، فلوط ، فشعيب ـ عليهم جميعا الصلاة والسلام ـ.

ويلاحظ في قصص هذه السورة ، أنها لم تجئ على حسب الترتيب الزمنى ـ كما هو الشأن في سورة الأعراف ـ وذلك لأن المقصود الأعظم هنا هو الاعتبار والاتعاظ ، فأما في سورة الأعراف ، فكان التسلسل الزمنى مقصودا لعرض أحوال الناس منذ آدم ـ عليه‌السلام ـ.

كما يلاحظ أن معظم القصص هنا ، قد افتتح بافتتاح متشابه ، وهو أمر كل نبي قومه بتقوى الله ، وببيان أنه رسول أمين. وببيان أنه لا يطلب من قومه أجرا على دعوته ، نرى ذلك واضحا في قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط مع أقوامهم.

ولعل السر في ذلك التأكيد على أن الرسل جميعا قد جاءوا برسالة واحدة في أصولها وأسسها ، ألا وهي الدعوة إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ ، وإلى مكارم الأخلاق.

كما يلاحظ ـ أيضا ـ أن كل قصة من تلك القصص قد اختتمت بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ولعل السر في ذلك تكرار التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيت فؤاده. وبيان أن ما أصابه من قومه ، قد أصاب الرسل السابقين ، فعليه أن يصبر كما صبروا ، وقد قالوا : «المصيبة إذا عمت خفت».

كما يلاحظ ـ كذلك ـ على قصص هذه السورة التركيز على أهم الأحداث وبيان الرذائل التي انغمس فيها أولئك الأقوام ، باستثناء قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون فقد جاءت بشيء من التفصيل.

وكما بدأت السورة بالحديث عن القرآن ، وعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عادت مرة أخرى بعد الحديث عن قصص بعض الأنبياء ـ إلى متابعة الحديث عن القرآن الكريم ، وعن نزوله ، وعن تأثيره ، وعن مصدره. فقال ـ تعالى ـ :

٢٧٨

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)(١٩٩)

والضمير في قوله (وَإِنَّهُ) يعود إلى القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من قصص وهدايات ..

أى : وإن هذا القرآن لتنزيل رب العالمين ، لا تنزيل غيره ، والتعبير عن إنزاله بالتنزيل ، للمبالغة في إنزاله من عند الله ـ تعالى ـ وحده.

ووصف ـ سبحانه ـ ذاته بالربوبية للعالمين ، للإيذان بأن إنزاله بهذه الطريقة ، من مظاهر رحمته بعباده ، وإحكام تربيته لهم جميعا.

قال ـ تعالى ـ : (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقال ـ سبحانه ـ : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى).

ثم وصف ـ سبحانه ـ من نزل به بالأمانة فقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ وعبر عنه بالروح ، لأن الأرواح تحيا بما نزل به كما تحيا الأجسام بالغذاء.

أى : نزل جبريل الأمين ـ بأمرنا ـ بهذا القرآن كاملا غير منقوص ، (عَلى قَلْبِكَ) أيها الرسول الكريم (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أى : من أجل أن تنذر به الناس ، وتخوفهم بسوء المصير إذا ما استمروا على كفرهم وفسوقهم عن أمر الله ـ تعالى ـ.

قال الجمل : قال الكرخي : وقوله (عَلى قَلْبِكَ) خصه بالذكر وهو إنما أنزل عليه ليؤكد أن ذلك المنزل محفوظ ، والرسول متمكن من قلبه لا يجوز عليه التغير. ولأن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار ، وأما سائر الأعضاء فمسخرة له ، ويدل على ذلك القرآن والحديث والمعقول.

٢٧٩

أما القرآن فقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وأما الحديث فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

وأما المعقول : فإن القلب إذا غشى عليه ، لم يحصل له شعور ، وإذا أفاق القلب شعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات. (١).

وقال الآلوسى ما ملخصه : وخص القلب بالإنزال ، قيل للإشارة إلى كمال تعقله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمه ذلك المنزل ، حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب ..

وقيل للإشارة إلى صلاح قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان منزلا لكلام الله ـ تعالى ـ .. (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) متعلق بقوله ـ تعالى ـ (نَزَلَ). أى : نزل هذا القرآن باللسان العربي ليكون أوضح في البلاغ والبيان لقومك لأننا لو نزلناه بلسان أعجمى أو بلغة أعجمية لتعللوا بعدم فهمه وقلة إدراكهم لمعناه.

وبذلك نرى أن الله ـ تعالى ـ قد بين لنا مصدر القرآن ، والنازل به ، والنازل عليه ، وكيفية النزول ، وحكمة الإنزال ، واللغة التي نزل بها ، وكل ذلك أدلة من القرآن ذاته على أنه من عند الله ـ تعالى ـ وأنه من كلامه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الكتب السماوية السابقة قد ذكرت ما يدل على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل الله ـ تعالى ـ عليه هذا القرآن فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ).

والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب المقصور على الحكم والمواعظ ، كزبور داود. مأخوذ من الزبر بمعنى الزجر. لزجره الناس عن اتباع الباطل.

والمعنى : وإن نعت هذا القرآن الكريم ، ونعت الرسول الذي سينزل عليه هذا القرآن. لموجود في كتب السابقين.

قال الإمام ابن كثير : أخبر ـ تعالى ـ : بأن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم ، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه ، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك ، حتى قام آخرهم خطيبا في ملئه بالبشارة بأحمد : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٩٢.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ١٢١.

٢٨٠