التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

قوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي.). (١).

فهو ينكر رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ من أساسها ..

وهنا يرد موسى. بقوله : (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ).

أى : قال موسى : ربنا ـ يا فرعون ـ هو رب السموات ورب الأرض ، ورب ما بينهما من أجرام وهواء. وإن كنتم موقنين بشيء من الأشياء ، فإيمانكم بهذا الخالق العظيم وإخلاصكم العبادة له أولى من كل يقين سواه.

وفي هذا الجواب استصغار لشأن فرعون. وتحقير لمزاعمه ، فكأنه يقول له : إن ربنا هو رب هذا الكون الهائل العظيم ، أما ربوبيتك أنت ـ فمع بطلانها ـ هي ربوبية لقوم معينين خدعتهم بدعواك الألوهية ، فأطاعوك لسفاهتهم وفسقهم ..

وهنا يلتفت فرعون إلى من حوله ليشاركوه التعجيب مما قاله موسى وليصرفهم عن التأثر بما سمعوه منه ، فيقول لهم : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) أى : ألا تستمعون إلى هذا القول الغريب الذي يقوله موسى. والذي لا عهد لنا به ، ولا قبول عندنا له ولا صبر لنا عليه ...

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يمهلهم حتى يردوا على فرعون بل أكد لهم وحدانية الله ـ تعالى ـ وهيمنته على هذا الكون (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

أى : ربنا الذي هو رب السموات والأرض وما بينهما ، هو ربكم أنتم ـ أيضا ـ وهو رب آبائكم الأولين ، فكيف تتركون عبادته ، وتعبدون عبدا من عباده ومخلوقا من مخلوقاته هو فرعون؟

وهنا لم يملك فرعون إلا الرد الدال على إفلاسه وعجزه ، فقال ملتفتا إلى من حوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

أى : قال فرعون ـ على سبيل السخرية بموسى ـ مخاطبا أشراف قومه : إن رسولكم الذي أرسل إليكم بما سمعتم (لَمَجْنُونٌ) لأنه يتكلم بكلام لا تقبله عقولنا ، ولا تصدقه آذاننا وسماه رسولا على سبيل الاستهزاء ، وجعل رسالته إليهم لا إليه ، لأنه ـ في زعم نفسه ـ أكبر من أن يرسل إليه رسول ، ولكي يهيجهم حتى ينكروا على موسى قوله ..

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يؤثر ما قاله فرعون في نفسه ، بل رد عليه وعليهم بكل شجاعة وحزم فقال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

أى : قال موسى : ربنا رب السموات والأرض وما بينهما. وربكم ورب آبائكم الأولين.

__________________

(١) سورة القصص الآية ٣٨.

٢٤١

ورب المشرق الذي هو جهة طلوع الشمس وطلوع النهار. ورب المغرب الذي هو غروب الشمس وغروب النهار.

وخصهما بالذكر. لأنهما من أوضح الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته ولأن فرعون أو غيره من الطغاة لا يجرأ ولا يملك ادعاء تصريفهما أو التحكم فيهما على تلك الصورة البديعة المطردة. والتي لا اختلال فيها ولا اضطراب ..

كما قال إبراهيم للذي حاجه في ربه : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.) ..

وجملة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) حض لهم على التعقل والتدبر ، وتحذير لهم من التمادي في الجحود والعناد.

أى : ربنا وربكم هو رب هذه الكائنات كلها ، فأخلصوا العبادة له ، إن كانت لكم عقول تعقل ما قلته لكم ، وتفهم ما أرشدتكم إليه.

وهكذا انتقل بهم موسى من دليل إلى دليل على وحدانية الله وقدرته ، ومن حجة إلى حجة ، ومن أسلوب إلى أسلوب لكي لا يترك مجالا في عقولهم للتردد في قبول دعوته ..

ولكن فرعون ـ وقد شعر بأن حجة موسى قد ألقمته حجرا انتقل من أسلوب المحاورة في شأن رسالة موسى إلى التهديد والوعيد ـ شأن الطغاة عند ما يعجزون عن دفع الحجة بالحجة ـ فقال لموسى عليه‌السلام ـ : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

أى : قال فرعون لموسى بثورة وغضب : لئن اتخذت إلها غيرى يا موسى ليكون معبودا لك من دوني ، لأجعلنك واحدا من جملة المسجونين في سجنى فهذا شأنى مع كل من يتمرد على عبادتي ، ويخالف أمرى ..

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤديا مؤداه؟

قلت : أما كونه أخصر فنعم. وأما كونه مؤديا مؤداه فلا ، لأن معناه : «لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجونى وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض ، بعيدة العمق. لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل» (١) ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٠٨.

٢٤٢

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يخفه هذا التهديد والوعيد. بل رد عليه ردا حكيما فقال له : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ).

والاستفهام للإنكار ، والواو للعطف على كلام مقدر يستدعيه المقام ، والمعنى. أتفعل ذلك بي بأن تجعلني من المسجونين ، ولو جئتك بشيء مبين ، يدل دلالة واضحة على صدقى في رسالتي وعلى أنى رسول من رب العالمين؟

وعبر عن المعجزة التي أيده الله بها بأنها (بِشَيْءٍ مُبِينٍ) للتهويل من شأنها ، والتفخيم من أمرها ، ولعل مقصد موسى ـ عليه‌السلام ـ بهذا الكلام ، أن يجر فرعون مرة أخرى إلى الحديث في شأن الرسالة التي جاءه من أجلها بعد أن رآه يريد أن يحول مجرى الحديث عنها إلى التهديد والوعيد ، وأن يسد منافذ الهروب عليه أمام قومه. ولذا نجد فرعون لا يملك أمام موسى إلا أن يقول له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

أى : فأت بهذا الشيء المبين ، إن كنت ـ يا موسى ـ من الصادقين في كلامك السابق ..

وهنا كشف موسى ـ عليه‌السلام ـ عما أيده الله ـ تعالى ـ به من معجزات حسية خارقة (فَأَلْقى عَصاهُ) على الأرض أمام فرعون وقومه (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ).

أى : فإذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح على أنها حية حقيقية ، لا شائبة معها للتخييل أو التمويه كما يفعل السحرة ..

ولم يكتف موسى بذلك في الدلالة على صدقه. (وَنَزَعَ يَدَهُ) أى : من جيبه (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أى : فإذا هي بيضاء بياضا يخالف لون جسمه ـ عليه‌السلام ـ ، فهي تتلألأ كأنها قطعة من القمر ، ولها شعاع يكاد يغشى الأبصار ، وليس فيها ما يشير إلى أن بها سوءا أو مرضا.

وهنا أحس فرعون بالرعب يسرى في أوصاله ، وبأن ألوهيته المزعومة قد أوشكت على الانكشاف. وبأن معجزة موسى توشك أن تجعل الناس يؤمنون به ، فالتفت إليهم وكأنه يحاول جذبهم إليه ، واستطلاع رأيهم فيما شاهدوه ، ويحكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فيقول :

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦)

٢٤٣

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢)

أى : قال فرعون للملأ المحيطين به ـ بعد أن زلزلته معجزة موسى ـ (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

أى : لساحر بارع في فن السحر ، فهو مع اعترافه بضخامة ما أتى به موسى ، يسميه سحرا.

ثم يضيف إلى ذلك قوله لهم : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) هذا الساحر (مِنْ أَرْضِكُمْ) التي نشأتم عليها (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أى : فبأى شيء تشيرون على وأنتم حاشيتى ومحل ثقتي؟

وفي هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لنفس هذا الطاغية وأمثاله ..

إنه منذ قليل كان يرغى ويزبد. وإذا به بعد أن فاجأه موسى بمعجزته ، يصاب بالذعر ويقول لمن زعم أنه ربهم الأعلى (فَما ذا تَأْمُرُونَ).

وهكذا الطغاة عند ما يضيق الخناق حول رقابهم يتذللون ويتباكون .. فإذا ما انفك الخناق من حول رقابهم ، عادوا إلى طغيانهم وفجورهم.

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : «ولقد تحير فرعون لما أبصر الآيتين ، وبقي لا يدرى أى طرفيه أطول ، حتى زل عنه ذكر دعوى الألوهية ، وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية. وارتعدت فرائصه ، وانتفخ سحره ـ أى رئته ـ خوفا وفرقا ، وبلغت به الاستكانة لقومه الذين هم بزعمه عبيده وهو إلههم : أن طفق يؤامرهم ويعترف لهم بما حذر منه وتوقعه وأحس به من جهة موسى ـ عليه‌السلام ـ» (١).

ورد الملأ من قوم فرعون عليه بقولهم : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أى : أخر أمرهما ، يقال :

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣١٠.

٢٤٤

أرجأت هذا الأمر وأرجيته. إذا أخرته. ومنه أخذ لفظ المرجئة لتلك الفرقة التي تؤخر العمل وتقول : لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

(وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أى : وابعث في مدن مملكتك رجالا من شرطتك يحشرون السحرة ، أى : يجمعونهم عندك لتختار منهم من تشاء.

وقوله : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) مجزوم في جواب الأمر. أى : إن تبعثهم يأتوك بكل سحار فائق في سحره ، عليم بفنونه ومداخله.

ولبى فرعون طلب مستشاريه ، فأرسل في المدائن من يجمع له السحرة (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ) أى المعروفون ببراعتهم فيه (لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أى : جمعوا وطلب منهم الاستعداد لمنازلة موسى ـ عليه‌السلام ـ في وقت معين هو «يوم الزينة» أى : يوم العيد. كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما فعله أعوان فرعون من حض الناس على حضور تلك المباراة فقال : (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) أى : في ذلك اليوم المعلوم الذي ينازل فيه السحرة موسى فالمقصود بالاستفهام الحض على الحضور والحث على عدم التخلف.

والترجي في قولهم (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) المقصود به ـ أيضا ـ حض السحرة على بذل أقصى جهدهم ليتغلبوا على موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فكأنهم يقولون لهم : ابذلوا قصارى جهدكم في حسن إعداد سحركم فنحن نرجو أن تكون الغلبة لكم ، فنكون معكم لا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ثم يحكى القرآن بعد ذلك ما قاله السحرة لفرعون عند التقائهم به فيقول : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ) بعد أن التقى بهم ليشجعهم على الفوز ، (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) مجزيا (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

وهنا يرد عليهم فرعون ، فيعدهم. ويمنيهم (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). أى : نعم لكم الأجر العظيم الذي يرضيكم ، وفضلا عن ذلك فستكونون عندي من الرجال المقربين إلى نفسي ، والذين سأخصهم برعايتي ومشورتي.

وهكذا يعد فرعون السحرة ويمنيهم (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما قاله موسى للسحرة ، وما قال فرعون لهم بعد أن أعلنوا إيمانهم ، فقال ـ تعالى ـ :

٢٤٥

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)(٥١)

(قالَ لَهُمْ مُوسى) أى للسحرة بعد أن أعدوا عدتهم لمنازلته ، ومن خلفهم فرعون وقومه يشجعونهم على الفوز قال لهم : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من السحر ، فسوف ترون عاقبة منازلتكم لي.

وأسلوب الآية الكريمة يشعر بعدم مبالاة موسى ـ عليه‌السلام ـ بهم أو بتلك الحشود التي من ورائهم ، فهو مطمئن إلى نصر الله ـ سبحانه ـ له.

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا) أى : عند إلقائهم لتلك الحبال والعصى (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) أى : بقوته وجبروته وسطوته (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) لا موسى ـ عليه‌السلام ـ ولم تفصل السورة هنا ما فصلته سورة الأعراف من أنهم حين ألقوا حبالهم وعصيهم (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أو ما وضحته سورة طه من أنهم حين ألقوا حبالهم : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ...).

ولعل السر في عدم التفصيل هنا ، أن السورة الكريمة تسوق الأحداث متتابعة تتابعا سريعا ، تربط معها قلب القارئ وعقله بما ستسفر عنه هذه الأحداث من ظهور الحق ، ومن دحور الباطل.

٢٤٦

ولذا جاء التعقيب السريع بما فعله موسى ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أى : تبتلع بسرعة ، وتأخذ بقسوة (ما يَأْفِكُونَ) أى : ما فعلوه وما يفعلونه من السحر ، الذي يقلبون به حقائق الأشياء عن طريق التمويه والتخييل. ورأى السحرة بأعينهم ومعهم الحشود من خلفهم ، رأوا ما أجراه الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه‌السلام ـ رأوا كل ذلك فذهلوا وبهروا وأيقنوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو شيء آخر فوق طاقة البشر ، ولو كان سحرا لعرفوه فهم رجاله ، وأيضا لو كان سحرا لبقيت حبالهم وعصيهم على الأرض ، ولكنها ابتلعتها عصا موسى ـ عليه‌السلام ـ عندئذ لم يتمالكوا أنفسهم ، بل فعلوا ما حكاه القرآن عنهم في قوله ـ سبحانه ـ : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أى : فخروا ساجدين على وجوههم بدون تردد ، وهم يقولون : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

وهكذا بعد أن شاهد السحرة الحق يتلألأ أمام أبصارهم. لم يملكوا إلا أن ينطقوا به على رءوس الأشهاد ، وتحولوا من قوم يلتمسون الأجر من فرعون قائلين : (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إلى قوم آخرين هجروا الدنيا. ومغانمها ، واستهانوا بالتهديد والوعيد ، ونطقوا بكلمة الحق في وجه من كانوا يقسمون بعزته إنا لنحن الغالبون.

وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول في حديثه الذي رواه الشيخان : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه».

ثم يحكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك موقف فرعون وقد رأى ما حطمه وزلزلة فقال ـ تعالى ـ : (قالَ) أى فرعون للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ) أى : لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) بالإيمان به ..

(إِنَّهُ) أى : موسى ـ عليه‌السلام ـ (لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أى : فأنتم متواطئون معه على هذه اللعبة (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أنزله بكم من عذاب.

(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أى : لأقطعن من كل واحد منكم يده اليمنى مع رجله اليسرى. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : في جذوع النخل ـ كما جاء في آية أخرى ـ والمتأمل في قول فرعون ـ كما حكاه القرآن عنه يرى فيه الطغيان والكفر ، فهو يستنكر على السحرة إيمانهم بدون إذن.

ويرى فيه الكذب الباطل الذي قصد من ورائه تشكيك قومه في صدق موسى وفي نبوته فهو يقول لهم : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).

ويرى فيه بعد هذا التلبيس على قومه ، التهديد الغليظ ـ شأن الطغاة في كل زمان

٢٤٧

ومكان ـ فهو يقول للسحرة الذين صاروا مؤمنين : (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : بدون استثناء لواحد منهم.

ولم يلتفت السحرة إلى هذا التهديد والوعيد بعد أن استقر الإيمان في قلوبهم ، بل قالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ : (لا ضَيْرَ) مصدر ضاره الأمر يضوره ويضيره ضيرا ، أى : ضره وألحق به الأذى.

أى : قالوا ـ بكل ثبات وعدم مبالاة بوعيده ـ لا ضرر علينا من عقابك فسنتحمله صابرين في سبيل الحق الذي آمنا به.

(إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أى : راجعون إليه ، فيجازينا على صبرنا.

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) التي وقعنا فيها قبل الإيمان ، كعبادة فرعون وكتعاطى السحر (أَنْ كُنَّا) أى : لأن كنا أول المؤمنون بالحق بعد أن جاءنا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ببيان ما أمر به نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ وما حل بفرعون وقومه من هلاك بسبب كفرهم وبغيهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)

٢٤٨

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي.). معطوف على كلام مقدر يفهم من سياق القصة.

والتقدير : وبعد أن انتصر موسى على السحرة نصرا جعلهم يخرون ساجدين لله ـ تعالى ـ وبعد أن مكث موسى في مصر حينا من الدهر ، يدعو فرعون وقومه إلى إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ فلم يستجيبوا له ..

بعد كل ذلك (أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أى : سر ببني إسرائيل ليلا إلى جهة البحر وعبر ـ سبحانه ـ عنهم بعبادي. تلطفا بهم بعد أن ظلوا تحت ظلم فرعون مدة طويلة.

وقوله : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) تعليل للأمر بالإسراء. أى : سر بهم ليلا إلى جهة البحر ، لأن فرعون سيتبعكم بجنوده ، وسأقضى قضائي فيه وفي جنده.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) هي الفصيحة ، والحاشرين جمع حاشر : والمراد بهم الذين يحشرون الناس ويجمعونهم في مكان معين ، لأمر من الأمور الهامة.

قالوا : جمعوا له جيشا كبيرا يتكون من مئات الآلاف من الجنود. أى : وعلم فرعون بخروج موسى ومعه بنو إسرائيل. فأرسل جنوده ليجمعوا له الناس من المدائن المتعددة في مملكته.

وبعد أن اكتمل عددهم ، أخذ في التهوين من شأن موسى ومن معه فقال : (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ).

والشرذمة : الطائفة القليلة من الناس ـ وخصها بعضهم بالأخساء والسفلة منهم.

ومنه قولهم : هذا ثوب شرذام ، وثياب شراذم ، أى : رديئة متقطعة.

أى : إن هؤلاء الذين خرجوا بدون إذنى وإذنكم ، لطائفة قليلة من الناس الذين هم بمنزلة العبيد والخدم لي ولكم.

(وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أى : وإنهم بجانب قلتهم ، وخروجهم بدون إذننا ، يأتون بأقوال وأفعال تغيظنا وتغضبنا ، على رأسها اقتراحهم علينا أن نترك ديننا.

٢٤٩

(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أى : متيقظون لمكايدهم ، ومحتاطون لمكرهم ، وممسكون بزمام الأمور حتى لا يؤثر فينا خداعهم.

يقال : حذر فلان حذرا ـ من باب تعب ـ بمعنى : استعد للأمر وتأهب له بيقظة ..

وكلام فرعون هذا ـ الذي حكاه القرآن عنه ـ يوحى بهلعه وخوفه مما فعله موسى ـ عليه‌السلام ـ إلا أنه أراد أن يستر هذا الهلع والجزع بالتهوين من شأنه ومن شأن الذين خرجوا معه وبتحريض قومه على اللحاق بهم وتأديبهم ، وبالظهور بمظهر المستعد هو وقومه لمجابهة الأخطار والتمرد بكل قوة وحزم.

قال صاحب الكشاف : والمعنى : أنهم ـ أى موسى ومن معه ـ لقلتهم لا يبالى بهم ، ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ، ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظنا ، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه ، وقرئ : حذرون .. والحذر : اليقظ. والحاذر : الذي يجدد حذره .. (١).

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما اقتضته إرادته ومشيئته في فرعون وقومه فقال : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أى : فأخرجناهم بقدرتنا وإرادتنا من (جَنَّاتٍ).

أى : بساتين كانوا يعيشون فيها (وَعُيُونٍ) عذبة الماء كانوا يشربون منها.

(وَكُنُوزٍ) أى : وأموال كانت تحت أيديهم (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أى : ومساكن حسنة جميلة كانوا يقيمون فيها.

أى : أخرجناهم من كل ذلك بقدرتنا ومشيئتنا ، ليلقوا مصيرهم المحتوم وهو الغرق ، بسبب إصرارهم على كفرهم وطغيانهم.

وقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف. أى : الأمر كذلك.

وقوله : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أى : وأورثنا تلك الجنات والعيون والكنوز والمنازل الحسنة لبنى إسرائيل.

قال الجمل : وقوله : (وَأَوْرَثْناها) أى : الجنات والعيون والكنوز لبنى إسرائيل ، وذلك أن الله ـ عزوجل ـ رد بنى إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه ، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن الحسنة ..

والظاهر أن هذه الجملة اعتراضية ، وأن قوله ـ بعد ذلك ـ (فَأَتْبَعُوهُمْ) معطوف على

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣١٥.

٢٥٠

قوله ـ تعالى ـ : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) .. لأن إعطاء البساتين وما بعدها لبنى إسرائيل ، كان بعد هلاك فرعون وقومه (١).

ومن العلماء من يرى أن بنى إسرائيل لم يعودوا لمصر بعد هلاك فرعون وقومه ، وأن الضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثْناها) لا يعود إلى الجنات والعيون التي أخرج الله ـ تعالى ـ منها فرعون وقومه. فيقول : ولا يعرف أن بنى إسرائيل عادوا إلى مصر بعد خروجهم إلى الأرض المقدسة ، وورثوا ملك مصر وكنوز فرعون ومقامه ، لذلك يقول المفسرون إنهم ورثوا مثل ما كان لفرعون وملئه. فهي وراثة لنوع ما كانوا فيه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم» (٢).

وقيل : المراد بالوراثة هنا : وراثة ما استعاره بنو إسرائيل من حلى آل فرعون عند خروجهم من مصر مع موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ويبدو لنا أنه لا مانع من عودة الضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثْناها) إلى الجنات والعيون والكنوز التي أخرج الله ـ تعالى ـ منها فرعون وقومه ، بأن عاد موسى ومن معه إلى مصر ـ لفترة معينة ـ بعد هلاك فرعون وملئه ، ثم خرجوا منها بعد ذلك مواصلين سيرهم إلى الأرض المقدسة ، التي أمرهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بدخولها.

ولعل مما يؤيد ما نرجحه قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (٣).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما حدث من فرعون وقومه ، وما قاله بنو إسرائيل عند ما شاهدوهم ، فقال ـ تعالى ـ (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ).

أى : أخرجنا فرعون وقومه من أموالهم ومساكنهم .. فساروا مسرعين خلف موسى ومن معه ، (فَأَتْبَعُوهُمْ) أى : فلحقوا بهم (مُشْرِقِينَ) أى : في وقت شروق الشمس يقال :

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٨٠.

(٢) في ظلال القرآن ج ١٩ ص ٢١٢.

(٣) سورة الأعراف آية ١٣٧.

(٤) سورة القصص الآيتان ٥ ، ٦.

٢٥١

أشرق فلان إذا دخل في وقت الشروق ، كأصبح إذا دخل في وقت الصباح.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أى : تقاربا بحيث يرى كل فريق خصمه.

(قالَ) بنو إسرائيل لنبيهم موسى ـ عليه‌السلام ـ والخوف يملأ نفوسهم : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أى : سيدركنا بعد قليل فرعون وجنوده ، ولا قدرة لنا .. على قتالهم ..

وهنا رد عليهم موسى ـ عليه‌السلام ـ بثقة وثبات بقوله : (كَلَّا) أى : كلا لن يدركوكم ، فاثبتوا ولا تجزعوا (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).

بهذا الجزم والتأكيد رد موسى على بنى إسرائيل ، وهو رد يدل على قوة إيمانه ، وثبات يقينه ، وثقته التي لا حدود لها في نصر الله ـ تعالى ـ له ، وفي هدايته إياه إلى طريق الفوز والفلاح.

ولم يطل انتظار موسى لنصر الله ـ تعالى ـ بل جاءه سريعا متمثلا في قوله ـ سبحانه ـ (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) أى : البحر الأحمر ـ على أرجح الأقوال ـ وهو الذي كان يسمى ببحر القلزم ..

فضربه (فَانْفَلَقَ) إلى اثنى عشر طريقا (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) أى : قسم منه (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أى : كالجبل الشامخ الكبير.

وسار موسى ومن معه في الطريق اليابس بين أمواج البحر ـ بقدرة الله ـ تعالى ـ ، (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أى : وقربنا ـ بقدرتنا وحكمتنا ـ هنالك القوم الآخرين وهم فرعون وجنوده. أى : قربناهم من موسى وقومه فدخلوا وراءهم في الطريق الذي سلكوه بين أمواج البحر ، فماذا كانت النتيجة؟

كانت النتيجة أن خرج موسى ومن معه سالمين ، أما فرعون وجنوده فقد انطبق عليهم البحر فأغرقهم أجمعين.

وصدق الله إذ يقول : (وَأَنْجَيْنا) ـ أى : بقدرتنا ورحمتنا ـ (مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) من الغرق ومن لحاق فرعون بهم (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) وهم فرعون وجنوده.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه القصة ـ كما ختم غيرها ـ بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

أى : إن في ذلك الذي قصصناه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ من قصة موسى وفرعون ، (لَآيَةً) عظيمة تدعو إلى إخلاص العبادة والطاعة لنا ، ومع ذلك فلم يؤمن بما جاء به نبينا موسى ، إلا عدد قليل ، (وَإِنَّ رَبَّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (لَهُوَ

٢٥٢

الْعَزِيزُ). أى : الغالب المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) أى : الواسع الرحمة بأوليائه ، حيث جعل العاقبة لهم.

وهكذا ساق لنا ـ سبحانه ـ هنا جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بهذا الأسلوب البديع ، لتكون عبرة وعظة لقوم يؤمنون.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقال ـ تعالى ـ :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(٨٩)

٢٥٣

وقصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قد وردت في القرآن في سور متعددة ، وبأساليب متنوعة ، وردت في سورة البقرة ، وكان معظم الحديث فيها ، يدور حول بنائه للبيت الحرام هو وابنه إسماعيل ، وحكاية تلك الدعوات الخاشعات التي تضرع بها إلى ربه.

ووردت في سورة الأنعام ، وكان معظم الحديث فيها يدور حول إقامته الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ عن طريق التأمل في مشاهد هذا الكون.

ووردت في سورة هود ، وكان معظم الحديث فيها يدور حول تبشيره بإسحاق ..

ووردت في سورة إبراهيم ، وكان معظم الحديث فيها بدور حول ما توجه به إلى ربه من دعاء بعد أن ترك بعض ذريته في جوار بيت الله الحرام.

ووردت في سورة الحجر. وكان معظم الحديث فيها يدور حول ما دار بينه وبين الملائكة من مناقشات ..

ووردت في سورة مريم ، وفيها حكى القرآن تلك النصائح الحكيمة التي وجهها لأبيه وهو يدعوه لعبادة الله ـ تعالى ـ وحده.

ووردت في سورة الأنبياء. وفيها عرض القرآن لما دار بينه وبين قومه من مجادلات ومن تحطيم للأصنام ، ومن إلقائهم إياه في النار فصارت بأمر الله ـ تعالى ـ بردا وسلاما عليه.

أما هنا في سورة الشعراء ، فيحكى لنا ـ سبحانه ـ ما دار بينه وبين قومه من مناقشات ، وما توجه به إلى خالقه من دعوات.

لقد افتتحت بقوله ـ تعالى ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أى : واقرأ ـ أيها الرسول الكريم ـ على قومك ـ أيضا ـ نبأ رسولنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ الذي يزعم قومك أنهم ورثته ، وأنهم يتبعونه في ديانته ، مع أن إبراهيم برىء منهم ومن شركهم ، لأنه ما أرسل إلا لنهى أمثالهم عن الإشراك بالله ـ تعالى ـ.

وقوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) منصوب على الظرفية. أى : اقرأ عليهم نبأه وقت أن قال لأبيه وقومه على سيل التبكيت وإلزامهم الحجة : أى شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله ـ عزوجل ـ؟

فأجابوه بقولهم : (نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) وكان يكفيهم في الجواب أن يقولوا : نعبد أصناما ، ولكنهم لغبائهم وجهلهم قصدوا التباهي والتفاخر بهذه العبادة الباطلة أى : نعبد أصناما منحوتة من الحجر أو مما يشبهه ، ونداوم على عبادتها ليلا ونهارا ، ونعكف على التقرب لها كما يتقرب الحبيب إلى حبيبه.

٢٥٤

وهكذا ، عند ما تنحط الأفهام ، تتباهى بما يجب البعد عنه ، وتفتخر بالمرذول من القول والفعل ..

وقد رد عليهم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بما يوقظهم من جهلهم لو كانوا يعقلون ، فقال لهم : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ).

أى : قال لهم إبراهيم على سبيل التنبيه والتبكيت : هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، هل تسمع دعاءكم إذا دعوتموها ، وهل تحس بعبادتكم لها إذا عبدتموها ، وهل تملك أن تنفعكم بشيء من النفع أو تضركم بشيء من الضر؟.

ولم يستطع القوم أن يواجهوا إبراهيم بجواب. بعد أن ألقمهم حجرا بنصاعة حجته ، فلجأوا إلى التمسح بآبائهم فقالوا : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

أى : قالوا له : إن هذه الأصنام هي كما قلت يا إبراهيم لا تسمع دعاءنا ، ولا تنفعنا ولا تضرنا ، ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونها ، فسرنا على طريقتهم في عبادتها ، فهم قالوا ما قاله أمثالهم في الجهالة في كل زمان ومكان (.. إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).

وأمام هذا التقليد الأعمى ، نرى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ يعلن عداوته لهم ولمعبوداتهم الباطلة ، ويجاهرهم بأن عبادته إنما هي لله ـ تعالى ـ وحده فيقول :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ).

أى : قال لهم إبراهيم على سبيل الإنكار والتأنيب : أفرأيتم وشاهدتم هذه الأصنام التي عبدتموها أنتم وآباؤكم الأقدمون من دون الله ـ تعالى ـ إنها عدو لي لأن عبادتها باطلة لكن الله ـ تعالى ـ رب العالمين هو وليي وصاحب الفضل على في الدنيا والآخرة ، فلذا أعبده وحده.

فقوله (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع من ضمير (فَإِنَّهُمْ).

قال صاحب الكشاف : وإنما قال : (عَدُوٌّ لِي) تصويرا للمسألة في نفسه ، على معنى : أنى فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة الذي الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، ليكون أدعى لهم إلى القبول. ولو قال : فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح ، لأنه يتأمل فيه ، فربما قاده التأمل إلى التقبل ومنه ما يحكى عن

٢٥٥

الشافعى ـ رحمه‌الله ـ : أن رجلا واجهه بشيء ، فقال : لو كنت بحيث أنت ، لاحتجت إلى الأدب. وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم .. (١).

ثم حكى القرآن الكريم ، ما وصف به إبراهيم خالقه من صفات كريمة تليق بجلاله ـ سبحانه ـ فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أى : أخلص عبادتي لرب العالمين ، الذي أوجدنى بقدرته ، والذي يهديني وحده إلى ما يصلح شأنى في دنياى وفي آخرتي.

قال الجمل وقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي) يجوز فيه أوجه : النصب على النعت لرب العالمين أو البدل أو عطف البيان .. أو الرفع على الابتداء. وقوله (فَهُوَ يَهْدِينِ) جملة اسمية في محل رفع خبر له (٢).

وقوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) معطوف على ما قبله. أى : وهو ـ سبحانه ـ وحده الذي يطعمنى ويسقيني من فضله ، ولو شاء لأمسك عنى ذلك.

وأضاف المرض إلى نفسه في قوله (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وإن كان الكل من الله ـ تعالى ـ تأدبا مع خالقه ـ عزوجل ـ وشكرا له ـ سبحانه ـ على نعمة الخلق والهداية. والإطعام والإسقاء والشفاء ..

والمراد بالإحياء في قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) إعادة الحياة إلى الميت يوم القيامة أى : ومن صفات رب العالمين الذي أخلص له العبادة ، أنه ـ سبحانه ـ الذي بقدرته وحده أن يميتني عند حضور أجلى ، ثم يعيدني إلى الحياة مرة أخرى يوم البعث والحساب.

وجاء العطف ب (ثُمَ) في قوله (ثُمَّ يُحْيِينِ) لاتساع الأمر بين الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة.

ثم ختم إبراهيم هذه الصفات الكريمة بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أى : وهو وحده الذي أطمع أن يغفر لي ذنوبي يوم ألقاه لأنه لا يقدر على ذلك أحد سواه ـ عزوجل ـ.

وفي هذه الآية أسمى درجات الأدب من إبراهيم مع ربه ـ سبحانه ـ ، لأنه يوجه طمعه في المغفرة إليه وحده ، ويستعظم ـ عليه‌السلام ـ ما صدر منه من أمور قد تكون خلاف الأولى ، ويعتبرها خطايا ، هضما لنفسه ، وتعليما للأمة أن تجتنب المعاصي ، وأن تكون منها على حذر وأن تفوض رجاءها إلى الله ـ تعالى ـ وحده.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣١٨.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٨٢.

٢٥٦

وبعد أن أثنى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على ربه بهذا الثناء الجميل ، أتبع ذلك بتلك الدعوات الخاشعات فقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أى : علما واسعا مصحوبا بعمل نافع.

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من عبادك الذين رضيت عنهم ـ ورضوا عنك ، بحيث ترافقنى بهم في جنتك.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أى : واجعل لي ذكرا حسنا ، وسمعة طيبة ، وأثرا كريما في الأمم الأخرى التي ستأتى من بعدي.

وقد أجاب ـ سبحانه ـ له هذه الدعوة ، فجعل أثره خالدا ، وجعل من ذريته الأنبياء والصالحين ، وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أى : واجعلنى في الآخرة عند ما ألقاك ـ يا ربي ـ للحساب ، من عبادك الذين أكرمتهم بدخول جنتك وبوراثتها فضلا منك وكرما.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) عن طريق الحق ، فإنى قد وعدته بأن استغفر له عندك ـ يا إلهى ـ.

قال ابن كثير : وهذا مما رجع عنه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كما قال ـ تعالى ـ : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١).

وقد قطع ـ تعالى ـ الإلحاق في استغفاره لأبيه ، فقال : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ : إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، كَفَرْنا بِكُمْ ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ..). (٢)

(وَلا تُخْزِنِي) أى : ولا تفضحني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أى : يوم تبعث عبادك في الآخرة للحساب ، بل استرني واجبرني وتجاوز عن تقصيرى.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) من أحد لديك.

(إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أى : واسترني ـ يا إلهى ـ ولا تفضحني يوم القيامة ، يوم لا ينتفع الناس بشيء من أموالهم ولا من أولادهم ، ولكنهم ينتفعون بإخلاص قلوبهم

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١١٤.

(٢) سورة الممتحنة الآية ٤.

٢٥٧

لعبادتك. وبسلامتها من كل شرك أو نفاق ، وبصيانتها من الشهوات المرذولة. والأفعال القبيحة.

وهكذا نرى في قصة إبراهيم : الشجاعة في النطق بكلمة الحق ، حيث جابه قومه وأباه ببطلان عبادتهم للأصنام.

ونرى الحجة الدامغة التي جعلت قومه لا يجدون عذرا يعتذرون به عن عبادة الأصنام سوى قولهم : (وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ).

ونرى الثناء الحسن الجميل منه على ربه ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).

ونرى الدعاء الخاشع الخالص الذي يتضرع به إلى خالقه ـ عزوجل ـ ، لكي يرزقه العلم والعمل ، وبأن يحشره مع الصالحين ، وأن يجعل له أثرا طيبا بعد وفاته بين الأمم الأخرى ، وبأن يجعله من الوارثين لجنة النعيم ، وبأن يستره بستره الجميل يوم القيامة ، يوم لا ينفع الناس شيء سوى إخلاص قلوبهم وعملهم الصالح ، وهي دعوات يرى المتأمل فيها شدة خوف إبراهيم ـ وهو الحليم الأواه المنيب ـ من أهوال يوم الحساب.

نسأل الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه ، أن يجنبنا إياها ، وأن يسترنا بستره الجميل.

ثم يبين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، ويحكى أقوال الغاوين وحسراتهم .. فيقول :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)

٢٥٨

فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(١٠٤)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ ..). من الإزلاف بمعنى القرب والدنو.

أى : وقربت الجنة يوم القيامة للمتقين ، الذين صانوا أنفسهم عن كل ما لا يرضاه الله ـ تعالى ـ ، وصارت بحيث يشاهدونها ويتلذذون برؤيتها.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أى : أما الغاوون الذين استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغواية على الهداية ، فقد برزت الجحيم لهم بأهوالها وسعيرها ثم قيل لهؤلاء الكافرين على سبيل التقريع والتأنيب : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أى : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا من دون الله ـ تعالى ـ وتزعمون أنها شفعاؤكم عنده؟!

(هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) الآن من هذا العذاب المعد لكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) هم من العذاب الذي سيحل بهم معكم؟.

كلا ثم كلا ، إنكم وهم حصب جهنم ، وستدخلونها جميعا خاسئين.

وليس المقصود بالسؤال الاستفهام ، وإنما المقصود به التقريع والتوبيخ ، ولذا لا يحتاج إلى جواب.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما حل بهؤلاء الأشقياء من عذاب في أعقاب هذا التأنيب فقال : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ).

والكبكبة : تكرير الكب ، وهو الإلقاء على الوجه مرة بعد أخرى ، وضمير الجمع للآلهة التي عبدها الكافرون من دون الله ـ تعالى ـ : وجيء بضمير العقلاء على سبيل التهكم بهم ، أى : فألقى المعبودون والعابدون في جهنم ، ومعهم جنود إبليس كلهم سواء أكانوا من الشياطين أم من أتباعه من الجن والإنس.

وفي التعبير بكبكبوا تصوير صادق مؤثر لحالة هؤلاء الضالين ، وهم يتساقطون ـ والعياذ بالله ـ في جهنم ، بلا رحمة ، ولا عناية ، ولا نظام ، بل بعضهم فوق بعض وقد تناثرت أشلاؤهم ..

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله الغاوون لآلهتهم فقال : (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٢٥٩

أى : قال العابدون لمعبوديهم على سبيل المخاصمة لهم ، والتبرؤ منهم : تالله ما كنا إلا في ضلال مبين ، وقت أن كنا في الدنيا نسويكم برب العالمين في العبادة مع أنكم خلق من خلقه لا تضرون ولا تنفعون.

(وَما أَضَلَّنا) عن اتباع طريق الحق (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) من شياطين الإنس والجن. الذين زينوا لنا الكفر والفسوق والعصيان ، وصدونا عن الإيمان والطاعة والهداية.

(فَما لَنا) اليوم (مِنْ شافِعِينَ) يشفعون لنا عند ربنا. وما لنا ـ أيضا ـ من (صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أى : مخلص في صداقته ، يدافع عنا عند ربنا ، ويهتم بأمرنا في هذا الموقف العصيب.

قال الآلوسى ، والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه ، أو صديق شفيق يهمه ذلك. وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف ، حيث نفوا ـ أولا ـ أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ، ونفوا ـ ثانيا ـ أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ، ويتوجع لهم ، أو يخلصهم ..

و (فَلَوْ) في قوله ـ تعالى ـ (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ..). للتمني الدال على كمال التحسر. والكرة : الرجعة إلى الدنيا مرة أخرى لتدارك ما فاتهم من الإيمان.

أى : فيا ليت لنا عودة إلى الدنيا مرة أخرى ، فنستدرك ما فاتنا من طاعة الله ـ تعالى ـ. (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين أزلفت الجنة لهم ، وأبعدت عنهم النار التي نحن مخلدون فيها.

ثم ختم ـ سبحانه ـ قصة إبراهيم بما ختم به قصة موسى ـ عليهما‌السلام ـ فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ..).

إن في ذلك الذي ذكرناه لك ـ أيها الرسول الكريم ـ عن حال إبراهيم مع قومه ومع أبيه ، وعن أهوال يوم القيامة ، إن ذلك كله لحجة وعظة لمن أراد أن يؤمن ويعتبر ، ومع ذلك فإن أكثر قوم إبراهيم ما كانوا مؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من قصة نوح مع قومه ، فقال ـ تعالى ـ :

٢٦٠