التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى شروط التوبة الصادقة فقال : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً).

أى : ومن تاب عن المعاصي تركا تاما ، وداوم على العمل الصالح ليستدرك ما فاته منه ، فإنه في هذه الحالة يكون قد تاب ورجع إلى الله ـ تعالى ـ رجوعا صحيحا ، مقبولا منه ـ سبحانه ـ بحيث يترتب عليه محو العقاب وإثبات الثواب.

وهكذا نجد رحمة الله ـ تعالى ـ تحيط بالعبد من كل جوانبه ، لكي تحمله على ولوج باب التوبة والطاعة ، وتوصد في وجهه باب الفسوق والعصيان.

ثم واصلت السورة حديثها عن عباد الرحمن ، فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً).

وأصل الزور : تحسين الشيء ووصفه بغير صفته ، ووضعه في غير موضعه ، مأخوذ من الزّور بمعنى الميل والانحراف عن الطريق المستقيم إلى غيره.

واللغو : هو ما لا خير فيه من الأقوال أو الأفعال.

أى : إن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يرتكبون شهادة الزور ، ولا يحضرون المجالس التي توجد فيها هذه الشهادة ، لأنها من أمهات الكبائر التي حاربها الإسلام.

وفضلا عن ذلك فإنهم «إذا مروا باللغو» أى : بالمجالس التي فيها لغو من القول أو الفعل «مروا كراما» أى : أعرضوا عنها إكراما لأنفسهم ، وصونا لكرامتهم ، وحفاظا على دينهم ومروءتهم.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَرُّوا ..). فيه إشعار بأن مرورهم على تلك المجالس كان من باب المصادفة والاتفاق ، لأنهم أكبر من أن يقصدوا حضورها قصدا.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ سرعة تأثرهم وتذكرهم ، وقوة عاطفتهم نحو دينهم فقال : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً).

والمراد بآيات ربهم ، القرآن الكريم وما اشتمل عليه من عظات وهدايات ..

أى : أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم ، إذا ذكرهم مذكر بآيات الله ـ تعالى ـ المشتملة

__________________

(١) سورة القصص الآية ٥٥.

٢٢١

على المواعظ والثواب والعقاب ، أكبوا عليها ، وأقبلوا على المذكّر بها بآذان واعية ، وبعيون مبصرة ، وليس كأولئك الكفار أو المنافقين الذين ينكبون على عقائدهم الباطلة انكباب الصم العمى الذين لا يعقلون ، وينكرون ما جاءهم به رسول ربهم بدون فهم أو وعى أو تدبر.

فالآية الكريمة مدح للمؤمنين على حسن تذكرهم وتأثرهم ووعيهم ، وتعريض بالكافرين والمنافقين الذين يسقطون على باطلهم سقوط الأنعام على ما يقدم لها من طعام وغيره.

قال صاحب الكشاف : قوله : (لَمْ يَخِرُّوا.). ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفى للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقاني زيد مسلّما هو نفى للسلام لا للقاء.

والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها ، وهم في إكبابهم عليها ، سامعون بآذان واعية. مبصرون بعيون راعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها .. وهم كالصم العميان حيث لا يعونها كالمنافقين وأشباههم (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ في نهاية الحديث عنهم أنهم لا يكتفون بهذه المناقب الحميدة التي وهبهم الله إياها ، وإنما هم يتضرعون إليه ـ سبحانه ـ أن يجعل منهم الذرية الصالحة ، وأن يرزقهم الزوجات الصالحات. فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً).

أى : يقولون في دعائهم وتضرعهم يا (رَبَّنا هَبْ لَنا) بفضلك وجودك (مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أى : ما يجعل عيوننا تسر بهم ، ونفوسنا تنشرح برؤيتهم ، وقلوبنا تسكن وتطمئن وجودهم ، لأنهم أتقياء صالحون مهتدون ..

(وَاجْعَلْنا) يا ربنا (لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أى : اجعلنا قدوة وأسوة للمتقين. يقتدون بنا في أقوالنا الطيبة ، وأعمالنا الصالحة ، فأنت تعلم ـ يا مولانا ـ أننا نعمل على قدر ما نستطيع في سبيل إرضائك وفي السير على هدى رسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذه هي صفات عباد الرحمن ذكرها القرآن في هذه الآيات الكريمة ، وهي تدل على قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم .. فماذا أعد الله ـ تعالى ـ لهم؟

لقد بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهم فقال : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً* خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

والغرفة في الأصل : كل بناء مرتفع ، والجمع غرف وغرفات كما في قوله ـ تعالى ـ : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٩٥.

(٢) سورة الزمر ، آية ٢٠.

٢٢٢

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (١).

والمراد بها هنا : أعلى منازل الجنة أو الجنة نفسها أو جنسها الصادق بغرف كثيرة.

أى : أولئك المتقون المتصفون. بالصفات السابقة ، يجازيهم الله ـ تعالى ـ بأعلى المنازل والدرجات في الجنة ، بسبب صبرهم على طاعته ، وبعدهم عن معصيته ويلقون في تلك المنازل الرفيعة (تَحِيَّةً وَسَلاماً) عن ربهم ـ عزوجل ـ ومن ملائكته الكرام ، ومن بعضهم لبعض.

(خالِدِينَ فِيها) أى : في تلك المنازل الرفيعة ، والجنات العالية ، خلودا أبديا.

(حَسُنَتْ) تلك الغرفة والمنزلة (مُسْتَقَرًّا) يستقرون فيه (وَمُقاماً) يقيمون فيه وذلك في مقابل ما أعد للكافرين من نار ساءت مستقرا ومقاما.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله :

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

قال القرطبي : يقال : ما عبأت بفلان ، أى : ما باليت به. أى : ما كان له عندي وزن ولا قدر. وأصل يعبأ : من العبء وهو الثقل .. فالعبء : الحمل الثقيل ، والجمع أعباء. و «ما» استفهامية ، وليس يبعد أن تكون نافية ، لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفى خرج مخرج الاستفهام ، وحقيقة القول عندي أن موضع «ما» نصب والتقدير أى عبء يعبأ بكم ربي؟ أى : أى مبالاة يبالى بكم ربي لو لا دعاؤكم .. (٢).

هذا ، وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال منها : أن قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) خطاب للمؤمنين أو للناس جميعا ، وأن المصدر وهو. دعاؤكم مضاف لفاعله ، وأن بقية الآية وهي قوله : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ.). خطاب للكافرين ، والمعنى على هذا القول :

__________________

(١) سورة سبأ آية ٣٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٨٤.

٢٢٣

قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للمؤمنين أو للناس جميعا ، أى اعتداد لكم عند ربكم لو لا دعاؤكم ، أى : لو لا عبادتكم له ـ عزوجل ـ أى : لو لا إخلاصكم العبادة له لما اعتد بكم.

ثم أفرد الكافرين بالخطاب فقال : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أيها الكافرون (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً).

أى : فسوف يكون جزاء التكذيب «لزاما» أى : عذابا دائما ملازما لكم. فلزاما مصدر لازم ، كقاتل قتالا ، والمراد به هنا اسم الفاعل.

وقد وضح صاحب الكشاف هذا القول فقال : لما وصف الله ـ تعالى ـ عبادة العباد ، وعدد صالحاتهم وحسناتهم .. أتبع ذلك ببيان أنه إنما اكترث لأولئك وعبأ بهم وأعلى ذكرهم ، لأجل عبادتهم فأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصرح للناس ، ويجزم لهم القول ، بأن الاكتراث لهم عند ربهم ، إنما هو للعبادة وحدها لا لمعنى آخر ...

وقوله (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) يقول : إذا أعلمتكم أن حكمى ، أنى لا أعتد بعبادي إلا من أجل عبادتهم ، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى ، فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصاه : «إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ، ويتبع أمرى ، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك ...» (١).

ومن العلماء من يرى أن الخطاب في الآية للكافرين ، وأن المصدر مضاف لمفعوله ، فيكون المعنى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين ، ما يعبأ بكم ربي ، ولا يكترث لوجودكم ، لو لا دعاؤه إياكم على لساني ، إلى توحيده وإخلاص العبادة له ، وبما أنى قد دعوتكم فكذبتم دعوتي. فسوف يكون عاقبة ذلك ملازمة العذاب لكم.

وهذا قول جيد ولا إشكال فيه وقد تركنا بعض الأقوال لضعفها ، وغناء هذين القولين عنها.

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الفرقان» تلك السورة التي حكت شبهات المشركين وأبطلتها. وساقت ما ساقت من تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته ، وبشرت عباد الرحمن بأرفع المنازل.

ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا منهم ، وأن يحشرنا في زمرتهم.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٩٧.

٢٢٤

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الجمعة ٤ من جمادى الأولى سنة ١٤٠٥ ه‍.

الموافق ٢٥ من يناير سنة ١٩٨٥ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٢٢٥
٢٢٦

تفسير

سورة الشّعراء

٢٢٧
٢٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة الشعراء هي السورة السادسة والعشرون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان نزولها بعد سورة الواقعة. كما يقول صاحب الإتقان ، أى : هي السادسة والأربعون في ترتيب النزول.

٢ ـ قال القرطبي : هي مكية في قول الجمهور. وقال مقاتل : منها مدني ؛ الآية التي يذكر فيها الشعراء ، وقوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ). وقال ابن عباس وقتادة : مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله ـ تعالى ـ : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى آخر السورة. وهي مائتان وسبع وعشرون آية. وفي رواية : وست وعشرون (١).

٣ ـ وسورة الشعراء تسمى ـ أيضا ـ بسورة «الجامعة» ، ويغلب على هذه السورة الكريمة ، الحديث عن قصص الأنبياء مع أقوامهم.

فبعد أن تحدثت في مطلعها عن سمو منزلة القرآن الكريم ، وعن موقف المشركين من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبعت ذلك بالحديث عن قصة موسى مع فرعون ومع بنى إسرائيل ، ثم عن قصة إبراهيم مع قومه ثم عن قصة نوح مع قومه ، ثم عن قصة هود مع قومه ، ثم عن قصة صالح مع قومه ، ثم عن قصة لوط مع قومه ، ثم عن قصة شعيب مع قومه ..

٤ ـ ثم تحدثت في أواخرها عن نزول الروح الأمين بالقرآن الكريم على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وساقت ألوانا من التسلية والتعزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب تكذيب الكافرين له ، وأرشدته إلى ما يجب عليه نحو عشيرته الأقربين ، ونحو المؤمنين ، وبشرت أتباعه بالنصر وأنذرت أعداءه بسوء المصير ، فقد ختمت بقوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

٥ ـ والسورة الكريمة بعد ذلك تمتاز بقصر آياتها ، وبجمعها لموضوعات السور الملكية ، من إقامة الأدلة على وحدانية الله ـ تعالى ـ ، وعلى أن البعث حق ، وعلى صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٨٧.

٢٢٩

فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، كما نرى أسلوبها يمتاز بالترغيب والترهيب ، الترغيب للمؤمنين في العمل الصالح ، والترهيب للمشركين بسوء المصير إذا ما استمروا على شركهم.

وقد ختمت كل قصة من قصص هذه السورة الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وقد تكرر ذلك فيها ثماني مرات ...

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، ، ،

القاهرة مدينة نصر ، الأحد ٥ من جمادى الأولى ١٤٠٥ ه‍

٢٧ / ١ / ١٩٨٥ م

د. محمد سيد طنطاوى

٢٣٠

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٩)

سورة الشعراء من السور التي افتتحت بحرف من الحروف المقطعة وهو قوله ـ تعالى ـ : (طسم).

وقد ذكرنا آراء العلماء في الحروف المقطعة بشيء من التفصيل عند تفسيرنا لسور : «البقرة ، آل عمران. والأعراف ، ويونس ..» إلخ.

وقلنا ما خلاصته : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور ، على سبيل الإيقاظ والتنبيه ، للذين تحداهم القرآن.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لهؤلاء المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله : هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك في أنه من عند الله ـ

٢٣١

تعالى ـ فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله ، فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله ـ تعالى ـ.

واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى الآيات القرآنية التي تضمنتها هذه السورة الكريمة أو إلى جميع آيات القرآن التي نزلت قبل ذلك.

والمراد بالكتاب القرآن الكريم الذي تكفل ـ سبحانه ـ بإنزاله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمبين : اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، مبالغة في الوضوح والظهور.

قال صاحب الصحاح : «يقال : بان الشيء يبين بيانا ، أى : اتضح ، فهو بين ، وكذا أبان الشيء فهو مبين» (١).

أى : تلك الآيات القرآنية التي أنزلناها عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ والتي سننزلها عليك تباعا حسب حكمتنا وإرادتنا ، هي آيات الكتاب الواضح إعجازه ، والظاهرة هداياته ودلالاته على أنه من عند الله ـ تعالى ـ ، ولو كان من عند غيره ـ سبحانه ـ لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

ثم خاطب ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يسليه عن تكذيب المشركين له ، وبما يهون عليه أمرهم فقال ـ تعالى ـ (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم أن لفظة لعل تكون للترجى في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور.

واستظهر أبو حيان في تفسيره ، أن لعل هنا للاشفاق عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم.

وقال بعضهم : إن لعل هنا للنهى ، أى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم وهو الأظهر ، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك. قال ـ تعالى ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (٢).

والمعنى : لعلك ـ أيها الرسول الكريم ـ قاتل نفسك هما وغما. بسبب تكذيب الكافرين لك ، وعدم إيمانهم بدعوتك وإعراضهم عن رسالتك التي أرسلناك بها إليهم ..

لا ـ أيها الرسول الكريم ـ لا تفعل ذلك ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، وإنك لا تستطيع هداية أحد ولكن الله ـ تعالى ـ يهدى من يشاء ، وإننا (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).

ومفعول المشيئة محذوف ، والمراد بالآية هنا المعجزة القاهرة التي تجعلهم لا يملكون انصرافا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٣.

(٢) تفسير أضواء البيان ج ٤ ص ١٤ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

٢٣٢

معها عن الإيمان ، والأعناق جمع عنق. وقد تطلق على وجوه الناس وزعمائهم تقول : جاءني عنق من الناس : أى جماعة منهم أو من رؤسائهم والمقدمين فيهم.

والمعنى : لا تحزن يا محمد لعدم إيمان كفار مكة بك ، فإننا إن نشأ إيمانهم ، ننزل عليهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان. تجعلهم ينقادون له ، ويدخلون فيه دخولا ملزما لهم ، ولكنا لا نفعل ذلك ، لأن حكمتنا قد اقتضت أن يكون دخول الناس في الإيمان عن طريق الاختيار والرغبة ، وليس عن طريق الإلجاء والقسر.

وصور ـ سبحانه ـ هذه الآية بتلك الصورة الحسية (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) ، للإشعار بأن هذه الآية لو أراد ـ سبحانه ـ إنزالها لجعلتهم يخضعون خضوعا تاما لها ، حتى لكأن أعناقهم على هيئة من الخضوع والذلة لا تملك معها الارتفاع أو الحركة.

قال صاحب الكشاف : «فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق؟ قلت : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين. فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله. كقوله : ذهبت أهل اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور. أو لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء ، قيل : خاضعين .. وقيل أعناق الناس : رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما قيل لهم : هم الرءوس والنواصي والصدور ... وقيل : جماعات الناس ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما عليه هؤلاء الكافرون من صلف وجحود فقال : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ).

أى : ولقد بلغ الجحود والجهل بهؤلاء الكافرين ، أنهم كلما جاءهم قرآن محدث تنزيله على نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومتجدد نزوله عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرضوا عنه إعراضا تاما.

وعبر عن إعراضهم بصيغة النفي والاستثناء التي هي أقوى أدوات القصر ، للإشارة إلى عتوهم في الكفر والضلال ، وإصرارهم على العناد والتكذيب.

وفي ذكر اسم الرحمن هنا : إشارة إلى عظيم رحمته ـ سبحانه ـ بإنزال هذا الذكر ، وتسجيل لأقصى دركات الجهالة عليهم ، لأنهم أعرضوا عن الهداية التي أنزلها الرحمن الرحيم لسعادتهم ، وحرموا أنفسهم منها وهم أحوج الناس إليها.

و (مِنَ) الأولى لتأكيد عموم إعراضهم ، والثانية لابتداء الغاية ، وجملة (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) حالية.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبتهم فقال : (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٩٩.

٢٣٣

أى : فقد كذب هؤلاء الجاحدون بالذكر الذي أتيتهم به ـ أيها الرسول الكريم ـ دون أن يكتفوا بالإعراض عنه ، فاصبر فسيأتيهم أنباء العذاب الذي كانوا يستهزئون به عند ما تحدثهم عنه ، وهو واقع بهم لا محالة ولكن في الوقت الذي يشاؤه ـ سبحانه ـ.

وفي التعبير عن وقوع العذاب بهم ، بإتيان أنبائه وأخباره ، تهويل من شأن هذا العذاب ، وتحقيق لنزوله. أى : فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا به يستهزئون ويصيرون هم أحاديث الناس يتحدثون بها ويتناقلون أنباءها.

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على غفلتهم وعلى عدم التفاتهم إلى ما في هذا الكون من عظات وعبر. فقال ـ تعالى ـ : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).

والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام.

أى : أعمى هؤلاء الجاحدون عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ورحمته بهم ، ولم يروا بأعينهم كيف أخرجنا النبات من الأرض ، وجعلنا فيها أصنافا وأنواعا لا تحصى من النباتات الكريمة الجميلة المشتملة على الذكر والأنثى.

فالآية الكريمة توبيخ لهم على إعراضهم عن الآيات التكوينية ، بعد توبيخهم على إعراضهم عن الآيات التنزيلية ، وتحريض لهم على التأمل فيما فوق الأرض من نبات مختلف الأنواع والأشكال والثمار. لعل هذا التأمل ينبه حسهم الخامد وذهنهم البليد وقلبهم المطموس.

قال صاحب الكشاف : «وصف الزوج ـ وهو الصنف من النبات ـ بالكرم ، والكريم : صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه. يقال : وجه كريم إذا رضى في حسنه وجماله ، وكتاب كريم. أى : مرضى في معانيه وفوائده ... والنبات الكريم : المرضى فيما يتعلق به من المنافع.

فإن قلت : ما معنى الجمع بين كم وكل؟ قلت : قد دل (كُلِ) على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل. و (كَمْ) على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، فهذا معنى الجمع بينهما ، وبه نبه على كمال قدرته ..» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات بآيتين تكررتا في السورة الكريمة ثماني مرات. ألا وهما قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

أى : إن في ذلك الذي ذكرناه عن إنباتنا لكل زوج كريم في الأرض (لَآيَةً) عظيمة الدلالة على كمال قدرتنا ، وسعة رحمتنا ، وما كان أكثر هؤلاء الكافرين مؤمنين ، لإيثارهم العمى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٠٠.

٢٣٤

على الهدى ، والغي على الرشد (وَإِنَّ رَبَّكَ) ـ أيها الرسول الكريم ـ (لَهُوَ الْعَزِيزُ) أى : صاحب العزة والغلبة والقهر (الرَّحِيمُ) أى : الواسع الرحمة بعباده ، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم لعلهم يتوبون أو يعقلون.

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بأسلوب يتناسب مع ما اشتملت عليه السورة الكريمة من إنذار وتخويف ، وبطريقة أحاطت بجوانب هذه القصة منذ أن ذهب موسى ـ عليه‌السلام ـ لفرعون وقومه إلى أن انتهت بهلاكهم وإغراقهم.

لقد بدأ ـ سبحانه ـ هذه القصة بقوله ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)(١٧)

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، وينتهى نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم‌السلام ـ ويرجح المؤرخون أن ولادته كانت في القرن الثالث عشر قبل ميلاد عيسى ـ عليه‌السلام ـ وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني.

وقد وردت قصة موسى مع فرعون وقومه ، ومع إسرائيل في كثير من سور القرآن الكريم تارة بصورة فيها شيء من التفصيل ، وتارة بصورة فيها شيء من الاختصار والتركيز ، تبعا لمقتضى الحال الذي وردت من أجله.

وقد وردت هنا في سورة الأعراف وفي سورة طه. وفي سورة القصص بأسلوب فيه بسطة وتفصيل.

لقد افتتحت هنا بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

٢٣٥

وهذا النداء كان بالوادي المقدس طوى ، كما جاء في سورة طه (١) وفي سورة النازعات (٢).

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وقت أن نادى ربك نبيه موسى قائلا له : اذهب إلى القوم الظالمين لتبلغهم رسالتي ، وتأمرهم بإخلاص العبادة لي.

وقوله : (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل أو عطف بيان ، ووصفهم ـ سبحانه ـ بالظلم لعبادتهم لغيره ، ولعدوانهم على بنى إسرائيل بقتل الذكور ، واستبقاء النساء.

وقوله : ـ تعالى ـ (أَلا يَتَّقُونَ) تعجيب من حالهم. أى : ائتهم يا موسى وقل لهم : ألا يتقون الله ـ تعالى ـ ويخشون عقابه. ويكفون عن كفرهم وظلمهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ رد موسى فقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ).

أى : قال موسى في الإجابة على ربه ـ عزوجل ـ : يا رب إنى أعرف هؤلاء القوم ، وأعرف ما هم عليه من ظلم وطغيان ، وإنى أخاف تكذيبهم لي عند ما أذهب إليهم لتبليغ وحيك (وَيَضِيقُ صَدْرِي) أى : وينتابنى الغم والهم بسبب تكذيبهم لي ..

(وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أى : وليس عندي فصاحة اللسان التي تجعلني أظهر ما في نفسي من تفنيد لأباطيلهم ، ومن إزهاق لشبهاتهم ، خصوصا عند اشتداد غضبى عليهم.

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أى : فأرسل وحيك الأمين إلى أخى هارون ، ليكون معينا لي على تبليغ ما تكلفني بتبليغه.

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) حيث إنى قتلت منهم نفسا (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) عند ما أذهب إليهم ، على سبيل القصاص منى.

فأنت ترى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قد شكا إلى ربه خوفه من تكذيبهم وضيق صدره من طغيانهم ، وعقدة في لسانه ، وخشيته من قتلهم له عند ما يرونه.

وليس هذا من باب الامتناع عن أداء الرسالة ، أو الاعتذار عن تبليغها. وإنما هو من باب طلب العون من الله ـ تعالى ـ والاستعانة به ـ عزوجل ـ على تحمل هذا الأمر والتماس الإذن منه ـ في إرسال هارون معه. ليكون عونا له في مهمته ، وليخلفه في تبليغ الرسالة في حال قتلهم له ..

وشبيه بهذا الجواب ما حكاه عنه ـ سبحانه ـ في سورة طه في قوله ـ تعالى ـ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي

__________________

(١) سورة طه الآية ١٢.

(٢) سورة النازعات الآية ١٦.

٢٣٦

يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً).

وقد رد الله ـ تعالى ـ على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ ردا حاسما لإزالة الخوف ، ومزهقا لكل ما يحتمل أى يساور نفسه من عدوان عليه ، فقال ـ تعالى ـ : (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لموسى على سبيل الإرشاد والتعليم : كلا ، لا تخف أن يكذبوك أو أن يضيق صدرك ، أو أن لا ينطلق لسانك ، أو أن يقتلوك. كلا لا تخف من شيء من ذلك ، فأنا معكما برعايتي ومادام الأمر كذلك فاذهب أنت وأخوك بآياتنا الدالة على وحدانيتنا فإننا معكم سامعون لما تقولانه لهم ولما سيقولونه لكما.

وعبر ـ سبحانه ـ بكلا المفيدة للزجر ، لزيادة إدخال الطمأنينة على قلب موسى ـ عليه‌السلام ـ.

والمراد بالآيات هنا : المعجزات التي أعطاها ـ سبحانه ـ لموسى وعلى رأسها العصا ..

وقال ـ سبحانه ـ (إِنَّا مَعَكُمْ) مع أنهما اثنان ، تعظيما لشأنهما أو لكون الاثنين أقل الجمع. أو المراد هما ومن أرسلا إليه.

والتعبير بقوله (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) بصيغة التأكيد والمعية والاستماع ، فيه ما فيه من العناية بشأنهما ، والرعاية لهما ، والتأييد لأمرهما.

والفاء في قوله : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد برعايتهما.

و «أن» في قوله (أَنْ أَرْسِلْ) مفسرة. لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول.

أى : اذهبا وأنتما متسلحان بآياتنا الدالة على صدقكما ، فنحن معكم برعايتنا وقدرتنا. فأتيا فرعون بدون خوف أو وجل منه (فَقُولا) له بكل شجاعة وجراءة (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أى : رب جميع العوالم التي من بينها عالم الجن. وعالم الملائكة.

وقد أرسلنا ـ سبحانه ـ إليك ، لكي تطلق سراح بنى إسرائيل من ظلمك وبغيك ، وتتركهم يذهبون معنا إلى أرض الله الواسعة لكي يعبدوا الله ـ تعالى ـ وحده.

قال الآلوسى : «وإفراد الرسول في قوله (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لأنه مصدر بحسب الأصل ، وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة ، كرجل عدل .. أو لوحدة المرسل أو

٢٣٧

المرسل به ـ أى : لأنهما ذهبا برسالة واحدة وفي مهمة واحدة» (١).

وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد قصت علينا ، ما أمر الله ـ تعالى ـ به نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ وما زوده به ـ سبحانه ـ من إرشاد وتعليم ، بعد أن التمس منه ـ سبحانه ـ العون والتأييد.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما دار بين موسى وفرعون من محاورات فقال ـ تعالى ـ

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(٣٣)

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٦٦.

٢٣٨

أى : قال فرعون لموسى بعد أن عرفه ، وبعد أن طلب منه موسى أن يرسل معه بنو إسرائيل. قال له يا موسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) أى : ألم يسبق لك أنك عشت في منزلنا ، ورعيناك وأنت طفل صغير عند ما قالت امرأتى (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً.) ..

(وَلَبِثْتَ فِينا) أى : في كنفنا وتحت سقف بيتنا (مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) عددا.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) وهي قتلك لرجل من شيعتي (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ).

أى : وأنت من الجاحدين بعد ذلك لنعمتي التي أنعمتها عليك ، في حال طفولتك ، وفي حال صباك ، وفي حال شبابك.

لأنك جئتني أنت وأخوك بما يخالف ديننا ، وطلبتما منا أن نرسل معكما بنى إسرائيل. فهل هذا جزاء إحسانى إليك؟.

وهكذا نرى فرعون يوجه إلى موسى ـ عليه‌السلام ـ تلك الأسئلة على سبيل الإنكار عليه لما جاء به ، متوهما أنه قد قطع عليه طريق الإجابة.

ولكن موسى ـ عليه‌السلام ـ وقد استجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه ، وأزال عقدة لسانه ، رد عليه ردا حكيما ، فقال ـ كما حكى القرآن عنه : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

أى قال موسى في جوابه على فرعون : أنا لا أنكر أنى قد فعلت هذه الفعلة التي تذكرني بها ، ولكني فعلتها وأنا في ذلك الوقت من الضالين ، أى : فعلت ذلك قبل أن يشرفنى الله بوحيه ، ويكلفني بحمل رسالته ، وفضلا عن ذلك فأنا كنت أجهل أن هذه الوكزة تؤدى إلى قتل ذلك الرجل من شيعتك ، لأنى ما قصدت قتله ، وإنما قصدت تأديبه ومنعه من الظلم لغيره.

فالمراد بالضلال هنا : الجهل بالشيء ، والذهاب عن معرفة حقيقيته.

وقوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) بيان لما ترتب على فعلته التي فعلها.

أى : وبعد هذه الفعلة التي فعلتها وأنا من الضالين ، توقعت الشر منكم ، ففررت من وجوهكم حين خشيت منكم على نفسي فكانت النتيجة أن وهبنى (رَبِّي حُكْماً) أى : علما نافعا (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الذين اصطفاهم الله ـ تعالى ـ لحمل رسالته والتشرف بنبوته.

ثم أضاف موسى ـ عليه‌السلام ـ إلى هذا الرد الملزم لفرعون. ردا آخر أشد إلزاما وتوبيخا فقال : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

٢٣٩

واسم الإشارة (تِلْكَ) يعود إلى التربية المفهومة من قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ..). إلخ.

وقوله (تَمُنُّها) من المن بمعنى الإنعام يقال : منّ فلان على فلان منة إذا أنعم عليه بنعمة. وعبدت : أى : اتخذتهم عبيدا لك تسخرهم لخدمتك.

قال الجمل : و (تِلْكَ) مبتدأ ، و (نِعْمَةٌ) خبر. و (تَمُنُّها) صفة للخير و (أَنْ عَبَّدْتَ) عطف بيان للمبتدأ موضح له.

وهذا الكلام من موسى ـ عليه‌السلام ـ يرى بعضهم أنه قاله على وجهة الاعتراف له بالنعمة ، فكأنه يقول له : تلك التربية التي ربيتها لي نعمة منك على ، ولكن ذلك لا يمنع من أن أكون رسولا من الله ـ تعالى ـ إليك ، لكي تقلع عن كفرك ، ولكي ترسل معنا بنى إسرائيل.

ويرى آخرون أن هذا الكلام من موسى لفرعون ، إنما قاله على سبيل التهكم به ، والإنكار عليه فيما امتن به عليه ، فكأنه يقول له : إن ما تمنّ به على هو في الحقيقة نقمة ، وإلا فأية منة لك علىّ في استعبادك لقومي وأنا واحد منهم ، إن خوف أمى من قتلك لي هو الذي حملها على أن تلقى بي في البحر ، وتربيتي في بيتك كانت لأسباب خارجة عن قدرتك ...

ويبدو لنا أن هذا الرأى أقرب إلى الصواب ، لأنه هو المناسب لسياق القصة ، ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآية : «ثم كر موسى على امتنان فرعون عليه بالتربية فأبطله من أصله ، واستأصله من سنخه ـ أى : من أساسه ـ ، وأبى أن يسمى نعمته إلا نقمة. حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بنى إسرائيل ، لأن تعبيدهم وقصدهم بالذبح لأبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه ، وتذليلهم واتخاذهم خدما له ...» (١).

وبهذا الجواب التوبيخي أفحم موسى ـ عليه‌السلام ـ فرعون. وجعله يحول الحديث عن هذه المسألة التي تتعلق بتربيته لموسى إلى الحديث عن شيء آخر حكاه القرآن في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أى قال فرعون لموسى : أى شيء رب العالمين الذي أنت وأخوك جئتما لتبلغا رسالته لي ، وما صفته؟

وهذا السؤال يدل على طغيان فرعون ـ قبحه الله ـ وتجاوزه كل حد في الفجور ، فإن هذا السؤال يحمل في طياته استنكار أن يكون هناك إله سواه ، كما حكى عنه القرآن في آية أخرى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٣٠٦.

٢٤٠