التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

فالجملة الكريمة وعيد شديد لهم على استهزائهم بالرسول الكريم الذي جاءهم ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

ثم يهملهم القرآن ويتركهم في طغيانهم يعمهون ، ويلتفت بالخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسرى عن نفسه ، وليسليه عما لحقه منهم ، وليبين له حقيقة حالهم فيقول : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ..).

والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ (أَرَأَيْتَ) للتعجب من شناعة أحوالهم ، ومن قبح تفكيرهم.

والمراد ب (هَواهُ) ما يستحسنه من تصرفات حتى ولو كانت في نهاية القبح والسخف.

قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول.

والمعنى : انظر وتأمل ـ أيها الرسول الكريم ـ في أحوال هؤلاء الكافرين فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم ، لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئا اتخذوه إلها لهم. مهما كان قبح تصرفهم. وانحطاط تفكيرهم ..

فهل مثل هؤلاء يصلحون لأن تهتم بأمرهم ، أو تحزن لاستهزائهم؟ كلا إنهم لا يصلحون لذلك ، وعليك أن تمضى في طريقك فأنت لا تقدر على حفظهم أو كفالتهم أو هدايتهم ، وإنما نحن الذين نقدر على ذلك ، وسنتصرف معهم بما تقضتيه حكمتنا ومشيئتنا.

فقوله ـ تعالى ـ : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيلا أو حفيظا لهذا الذي اتخذ إلهه هواه ، والاستفهام للنفي والإنكار. أى : إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ لا قدرة لك على حفظه من الوقوع في الكفر والضلال.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى توبيخهم السابق توبيخا أشد وأنكى فقال ـ تعالى ـ : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.).

و «أم» هنا : هي المنقطعة ، وهي تجمع في معناها بين الإضراب الانتقالى ، والاستفهام الإنكارى.

أى : بل أتحسب أن أكثر هؤلاء الكافرين يسمعون ما ترشدهم إليه سماع تدبر وتعقل ، أو يعقلون ما تأمرهم به أو تنهاهم عنه بانفتاح بصيرة ، وباستعداد لقبول الحق ..

كلا إنهم ليسوا كذلك ، لاستيلاء الجحود والحسد على قلوبهم.

٢٠١

وقال ـ سبحانه ـ (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ ..). لأن هناك قلة منهم كانت تعرف الحق معرفة حقيقية ، ولكن المكابرة والمعاندة ومتابعة الهوى .. حالت بينها وبين الدخول فيه ، واتباع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ذم لهم على عدم انتفاعهم بالهداية التي أرسلها الله ـ تعالى ـ إليهم.

أى : هؤلاء المشركون ليسوا إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بما يقرع قلوبهم وأسماعهم من توجيهات حكيمة ، بل هم أضل سبيلا من الأنعام : لأن الأنعام تنقاد لصاحبها الذي يحسن إليها ، أما هؤلاء فقد قابلوا نعم الله بالكفر والجحود.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت : كان فيهم من لا يصده عن الإسلام إلا داء واحد ، وهو حب الرياسة ، وكفى به داء عضالا.

فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتتجنب ما يضرها ، وتهتدى لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك .. (١).

وهكذا نرى الآيات الكريمة تصف هؤلاء المستهزئين برسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصاف تهبط بهم عن درجة الأنعام ، وتتوعدهم بما يستحقونه من عذاب مهين.

* * *

ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعن جانب من الآلاء التي أنعم بها على عباده ، فإن من شأن هذه النعم المبثوثة في هذا الكون ، أن تهدى المتفكر فيها إلى منشئها وواهبها وإلى وجوب إخلاص العبادة له ، قال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٨٢.

٢٠٢

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(٥٤)

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ..). يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين ، ويجوز أن تكون من العلم.

قال الحسن وقتادة وغيرهما : مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤبة أنه قال : «كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل» (١).

والجملة الكريمة شروع في بعض دلائل قدرته ـ سبحانه ـ وواسع رحمته ، إثر بيان جهالات المشركين ، وغفلتهم عما في هذا الكون من آثار تدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٦.

٢٠٣

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستفهام للتقرير.

والمعنى لقد رأيت ـ أيها الرسول الكريم ـ بعينيك ، وتأملت بعقلك وبصيرتك ، في صنع ربك الذي أحسن كل شيء خلقه ، وكيف أنه ـ سبحانه ـ مد الظل ، أى : بسطه وجعله واسعا متحركا مع حركة الأرض في مواجهة الشمس ، وجعله مكانا يستظل فيه الناس من وهج الشمس وحرها ، فيجدون عنده الراحة بعد التعب .. وهذا من عظيم رحمة ربك بعباده.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) جملة معترضة لبيان مظهر من مظاهر قدرته ـ تعالى ـ. أى : «ولو شاء» ـ سبحانه ـ لجعل هذا الظل «ساكنا» أى : ثابتا دائما مستقرا على حالة واحدة بحيث لا تزيله الشمس ، ولا يذهب عن وجه الأرض ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، لأن مصلحة خلقه ومنفعتهم في وجوده على الطريقة التي أوجده عليها بمقتضى حكمته.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) معطوف على قوله (مَدَّ الظِّلَ) داخل في حكمه. أى : ألم تر إلى عجيب صنع ربك كيف مد الظل ، ثم جعلنا بقدرتنا وحكمتنا الشمس دليلا عليه ، إذ هو يزول بتسلطها عليه ويظهر عند احتجابها عنه ، ويستدل بأحوالها على أحواله ، فهو يتبعها كما يتبع الإنسان من يدله على الشيء ، من حيث إنه يزيد كلما احتجبت عنه ، ويتقلص كلما ظهرت عليه.

قال الجمل : قوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أى : جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، ولو لا الشمس ما عرف الظل ، ولو لا النور ما عرفت الظلمة .. ولم يؤنث الدليل ـ وهو صفة للشمس ـ لأنه في معنى الاسم ، كما يقال : الشمس برهان ، والشمس حق (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) معطوف ـ أيضا ـ على «مد» وداخل في حكمه.

والقبض : ضد المد والبسط. واليسير : السهل الذي لا عسر فيه.

أى : ثم قبضنا ذلك الظل الممدود بقدرتنا وحكمتنا ـ قبضا يسيرا وهينا علينا. بأن محوناه بالتدريج عند إيقاعنا الشمس عليه. حتى انتهى أمره إلى الزوال والاضمحلال.

وقال ـ سبحانه ـ : (إِلَيْنا) للتنصيص على أن مد الظل وقبضه مرجعه إليه

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٦١.

٢٠٤

ـ تعالى ـ وحده. فليس في إمكان أحد سواه ـ عزوجل ـ أن يفعل ذلك.

قال صاحب الكشاف : قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أى : على مهل. وفي هذا القبض اليسير شيئا بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصر. ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا.

فإن قلت : «ثم» في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت : موقعها لبيان تفاضل الأمور الثلاثة : كان الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم منهما ، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل ، بتباعد ما بين الحوادث في الوقت ... ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تبقى الظل ، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه (١).

ثم انتقلت السورة من الحديث عن الظل ومده وقبضه. إلى الحديث عن الليل والنوم والنهار. فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ، وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً). ولباسا : أى : ساترا بظلامه كما يستر اللباس ما تحته.

والسبات : الانقطاع عن الحركة مع وجود الروح في البدن ، مأخوذ من السبت بمعنى القطع أو الراحة والسكون ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أى راحة لأبدانكم.

والنشور : بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش. أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل لكم ـ أيها الناس ـ الليل «لباسا» أى : ساترا لكم يستركم كما يستر اللباس عوراتكم ، وجعل لكم النوم «سباتا» أى : راحة لأبدانكم من عناء العمل. وما يصاحبه من مشقة وتعب ، وجعل ـ سبحانه ـ النهار «نشورا» أى : وقتا مناسبا لانتشاركم فيه ، وللسير في مناكب الأرض ، طلبا للرزق والكسب ووسائل المعيشة.

وهكذا تتقلب الحياة بالإنسان وهو تارة تحت جنح الليل الساتر ، وتارة مستغرق في نومه ، وتارة يكدح لطلب معاشه.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (٢).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ نعمته في الرياح ، حيث تكون بشيرا بالأمطار التي تحيى الأرض بعد موتها ، فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٨٣.

(٢) سورة النبأ الآيات من ٩ ـ ١١.

٢٠٥

وبشرا : أى : مبشرات بنزول الغيث المستتبع لمنفعة الخلق.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أرسل ـ بقدرته ـ الرياح لتكون بشيرا لعباده بقرب نزول رحمته المتمثلة في الغيث الذي به حياة الناس والأنعام وغيرهما.

قال الجمل : «الرياح» أى : المبشرات وهي الصبا ـ وتأتى من جهة مطلع الشمس ـ والجنوب والشمال ، والدبور ـ وتأتى من ناحية مغرب الشمس ـ وفي قراءة سبعية : وهو الذي أرسل الريح .. على إرادة الجنس ، و «بشرا» قرئ بسكون الشين وضمها وقرئ ـ أيضا ـ نشرا ، أى : متفرقة قدام المطر (١).

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما ترتب على إرسال الرياح من خير فقال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ..).

أى : وأنزلنا من السماء ماء طاهرا في ذاته ، مطهرا لغيره ، سائغا في شربه ، نافعا للإنسان والحيوان والنبات والطيور وغير ذلك من المخلوقات.

ووصف ـ سبحانه ـ الماء بالطهور زيادة في الإشعار بالنعمة وزيادة في إتمام المنة ، فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما ليس كذلك.

وقوله ـ تعالى ـ : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً).

أى : أنزلنا من السماء ماء طهورا ، لنحيي بهذا الماء بلدة ، أى : أرضا جدباء لا نبات فيها لعدم نزول المطر عليها ، ولكي نسقى بهذا الماء أيضا «أنعاما» أى : إبلا وبقرا وغنما «وأناسى كثيرا» أى : وعددا كثيرا من الناس. فالأناسى : جمع إنسان وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها.

وقدم ـ سبحانه ـ إحياء الأرض ، لأن خروج النبات منها بسبب المطر تتوقف عليه حياة الناس والأنعام وغيرهما.

وخص الأنعام بالذكر ، لأن مدار معاشهم عليها ، ولذا قدم سقيها على سقيهم.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٦٢.

(٢) سورة الشورى الآية ٢٨.

٢٠٦

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب؟.

قلت : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ..

فإن قلت : فما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفها بالكثرة؟

قلت : معنى ذلك أن علية الناس وجلهم منيخون بالقرب من الأودية والأنهار ومنابع الماء ، فيهم غنية عن سقى السماء ، وأعقابهم ـ وهم كثير منهم ـ لا يعيشهم إلا ما ينزل الله من رحمته وسقيا سمائه.

فإن قلت : لم قدم إحياء الأرض وسقى الأنعام على سقى الأناسى؟

قلت : لأن حياة الأناسى بحياة أرضهم وحياة أنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم ، ولأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم (١).

والضمير المنصوب في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ..). يعود إلى الماء الطهور الذي سبق الحديث عنه.

والتصريف : التكرير والتنويع والانتقال من حال إلى حال.

أى : ولقد صرفنا هذا المطر النازل من السماء فأنزلناه بين الناس في البلدان المختلفة ، وفي الأوقات المتفاوتة ، وعلى الصفات المتغايرة ، فنزيده في بعض البلاد وننقصه أخرى ، ونمنعه عن بعض الأماكن .. كل ذلك على حسب حكمتنا ومشيئتنا.

وقد فعلنا ما فعلنا لكي يعتبر الناس ويتعظوا ويخلصوا العبادة لنا.

قال الآلوسى : قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) الضمير للماء المنزل من السماء ، وتصريفه : تحويل أحواله ، وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة.

وقال بعضهم : هو راجع الى القول المفهوم من السياق ، وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال المطر ، وتصريفه : تكريره ، وذكره على وجوه ولغات مختلفة.

والمعنى : ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس ليتفكروا ..

وأخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن. ألا ترى

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ٢٨٥.

٢٠٧

قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) وحكاه في البحر عن ابن عباس. والمشهور عنه ما تقدم ، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته ـ تعالى ـ (١).

ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو القول الأول ، لأن سياق الحديث عن المطر النازل من السماء بقدرة الله ـ تعالى ـ ولأن هذا القول هو المأثور عن جمع من الصحابة والتابعين ، كابن عباس ، وابن مسعود وعكرمة ، ومجاهد وقتادة .. وغيرهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) بيان لموقف أكثر الناس من نعم الله ـ تعالى ـ. أى : أنزلنا المطر ، وصرفناه بين الناس ليعتبروا ويتعظوا ، فأبى أكثرهم إلا الجحود لنعمنا ، ومقابلتها بالكفران ، وإسنادها إلى غيرنا ممن لا يخلقون شيئا وإنما هم عباد لنا ، وخلقنا.

وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه بعد نزول المطر من السماء : «أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال ربكم ، أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكواكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» (٢).

ـ والنوء ـ بتشديد النون وفتحها وسكون الواو : سقوط نجم في المغرب مع الفجر ، وطلوع آخر يقابله من ساعته بالمشرق.

وقال ـ سبحانه ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ..). لمدح القلة المؤمنة منهم ، وهم الذين قابلوا نعم الله ـ تعالى ـ بالشكر والطاعة.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يدل على رفعة منزلة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً). أى : ولو شئنا لبعثنا في زمنك ـ أيها الرسول الكريم ـ في كل قرية من القرى نذيرا ينذر أهلها بسوء عاقبة الكفر والجحود ، ويكون عونا لك على تحمل أعباء الرسالة التي أرسلناك بها ... ولكنّا لم نشأ ذلك تكريما لك وتعظيما لقدرك ، حيث خصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس. وما دام الأمر كذلك «فلا تطع الكافرين» فيما يريدونه منك من أمور باطلة فاسدة «وجاهدهم به» أى : بهذا القرآن ، عن طريق قراءته والعمل بما فيه ، وبيان ما اشتمل عليه من دلائل وبراهين على صحة دعوتك.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٣٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٢٥.

٢٠٨

وقوله ـ تعالى ـ : (جِهاداً كَبِيراً) مؤكد لما قبله. أى : جاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا مصحوبا بالإغلاظ عليهم تارة ، وبإبطال شبهاتهم وأراجيفهم تارة أخرى.

قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ عزوجل ـ.

و «مرج» من المرج بمعنى الإرسال والتخلية ، ومنه قولهم. مرج فلان دابته إذا أرسلها إلى المرج وهو المكان الذي ترعى فيه الدواب ، ويصح أن يكون من المرج بمعنى الخلط ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أى : مختلط. ومنه قيل للمرعى : مرج ، لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.

والعذب الفرات : هو الماء السائغ للشرب ، الذي يشعر الإنسان عند شربه باللذة ، وهو ماء الأنهار وسمى فراتا لأنه يفرت العطش ، أى يقطعه ويكسره ويزيله.

والملح الأجاج : هو الشديد الملوحة والمرارة وهو ماء البحار. سمى أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار ، لأن شربه يزيد العطش.

والبرزخ. الحاجز الذي يحجز بين الشيئين.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي أرسل البحرين. العذب والمالح في مجاريهما متجاورين ، كما ترسل الدواب في المراعى. أو جعلهما ـ بقدرته ـ في مجرى واحد ومع ذلك لا يختلط أحدهما بالآخر : بل جعل ـ سبحانه ـ بينهما «برزخا» أى : حاجزا عظيما ، وحجرا محجورا.

أى : وجعل كل واحد منهما حراما محرما على الآخر أن يفسده.

والمراد : لزوم كل واحد منهما صفته التي أوجده الله عليها ، فلا ينقلب العذب في مكانه ملحا ، ولا الملح في مكانه عذبا.

قال ـ تعالى ـ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

__________________

(١) سورة الرحمن الآيتان ١٩ ، ٢٠.

(٢) سورة النمل الآية ٦١.

٢٠٩

وهذا الحاجز الذي جعله ـ سبحانه ـ بين البحرين : العذب والملح ، من أكبر الأدلة وأعظمها على قدرة الله ـ تعالى ـ ، وعلى أن لهذا الكون إلها صانعا حكيما مدبرا وأن كل شيء في هذا الكون يسير بنظام معلوم ، وبنسق مرسوم.

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ في الظل وفي الرياح وفي الماء ..

جاء الحديث عن خلق الإنسان. فقال ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ...).

والمراد بالماء : ماء النطفة ، وبالبشر الإنسان. أو المراد بالماء : الماء المطلق الذي أشار إليه سبحانه في قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي خلق من ماء النطفة إنسانا «فجعله نسبا وصهرا» أى : فجعل من جنس هذا الإنسان ذوى نسب : وهم الذكور الذين ينتسب إليهم بأن يقال فلان بن فلان ، كما جعل من جنسه ـ أيضا ذوات صهر وهن الإناث ، لأنهن موضع المصاهرة.

والصهر يطلق على أهل بيت المرأة وأقاربها ، كالأبوين والإخوة والأعمام والأخوال ، فهؤلاء يعتبرون أصهارا لزوج المرأة.

قال صاحب الكشاف : قسم ـ سبحانه ـ البشر قسمين : ذوى نسب ، أى : ذكورا ينسب إليهم فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر : أى : إناثا يصاهر بهن ونحوه قوله ـ تعالى ـ : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١).

(وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) حيث خلق ـ سبحانه ـ من النطفة الواحدة بشرا نوعين : ذكرا وأنثى (٢).

وإلى هنا نرى هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ستة أدلة محسوسة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته. وهذه الأدلة الستة هي. الظلال قبضا وبسطا ، والليل والنهار راحة ونشورا ، والرياح بشرا بين يدي رحمته ، والأمطار حياة للناس والأنعام وغيرهما ، ومرج البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج ، وخلق الإنسان من نطفة منها الذكر ومنها الأنثى.

* * *

ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك موقف المشركين من هذه النعم العظيمة كما بينت وظيفة

__________________

(١) سورة القيامة الآية ٣٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٨٧.

٢١٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرته بالمضي في دعوته متوكلا على الله ـ تعالى ـ وحده الذي خلق فسوى. وقدر فهدى .. قال ـ تعالى ـ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَعْبُدُونَ ..). يعود على الكافرين ، الذين عموا وصموا عن الحق.

أى : أن هؤلاء الكافرين يتركون عبادة الله ـ تعالى ـ الواحد القهار ، ويعبدون من دونه آلهة لا تنفعهم عبادتها إن عبدوها ، ولا تضرهم شيئا من الضرر إن تركوا عبادتها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) بيان لما وصل إليه هؤلاء الكافرون من حمق وجهالة وجحود. فالمراد بالكافر : جنسه

٢١١

والظهير : المعين. يقال : ظاهر فلان فلانا إذا أعانه وساعده. وظهير بمعنى مظاهر. أى : وكان هؤلاء الكافرون مظاهرين ومعاونين للشيطان وحزبه ، على الإشراك بالله ـ تعالى ـ الذي خلقهم ، وعلى عبادة غيره ـ سبحانه ـ.

ويصح أن يكون الكلام على حذف مضاف. أى : وكان الكافر على حرب دين ربه ، ورسول ربه ، مظاهرا للشيطان على ذلك.

وقال ـ سبحانه ـ (عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) لتفظيع جريمة هذا الكافر وتبشيعها ، حيث صوره ـ سبحانه ـ بصورة من يعاون على محاربة خالقه ورازقه ومربيه وواهبه الحياة.

ثم بين ـ سبحانه ـ الوظيفة التي من أجلها أرسل رسوله فقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً).

أى : وما أرسلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى الناس جميعا ، إلا لتبشرهم بثواب الله ـ تعالى ـ ورضوانه إذا أخلصوا له العبادة والطاعة ، ولتنذرهم بعقابه وغضبه ، إن هم استمروا على كفرهم وشركهم ، فبلغ رسالتنا ـ أيها الرسول ـ ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر.

و (قُلْ) لهم على سبيل النصح والإرشاد ودفع التهمة عن نفسك (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ). أى : ما أسألكم على هذا التبليغ والتبشير والإنذار من أجر ، إن أجرى إلا على الله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) استثناء منقطع.

أى : لا أسألكم على تبليغى لرسالة ربي أجرا منكم ، لكن من شاء منكم أن يتخذ إلى مرضاة ربه سبيلا ، عن طريق الصدقة والإحسان إلى الغير ، فأنا لا أمنعه من ذلك.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ) أى : إلى رحمته ورضوانه (سَبِيلاً) أى طريقا. والاستثناء عند الجمهور منقطع ، أى : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه ـ سبحانه ـ سبيلا ، أى : بالإنفاق القائم مقام الأجر ، كالصدقة في سبيل الله ، فليفعل.

وذهب البعض إلى أنه متصل. وفي الكلام مضاف مقدر ، أى : إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان والطاعة حسبما أدعو إليهما ، أى : فهذا أجرى.

وفي ذلك قلع كلى لشائبة الطمع ، وإظهار لغاية الشفقة عليهم ، حيث جعل ذلك ـ مع كون

٢١٢

نفعه عائدا عليهم ـ عائدا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الأجر (١).

وعلى كلا الرأيين فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطلب أجرا من الناس على دعوته ، ولا يمنعهم من إنفاق جزء من أموالهم في وجه الخير ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتبر إيمانهم بالحق الذي جاء به ، هو بمثابة الأجر له ، حيث إن الدال على الخير كفاعله.

ولقد حكى القرآن الكريم في كثير من آياته ، أن جميع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ما سألوا الناس أجرا على دعوتهم إياهم إلى عبادة الله ـ تعالى ـ وطاعته. ومن هذه الآيات قوله ـ سبحانه ـ حكاية عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ـ : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

ثم أمر ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاجتهاد في تبليغ رسالته وبالتوكل عليه وحده ، فقال ـ تعالى ـ : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ..).

أى : سر في طريقك ـ أيها الرسول الكريم ـ لتبليغ دعوتنا ، ولا تلتفت إلى دنيا الناس وأموالهم. وتوكل توكلا تاما على الله ـ تعالى ـ فهو الحي الباقي الذي لا يموت ، أما غيره فإنه ميت وزائل.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أى : ونزه ربك عن كل نقص ، وأكثر من التقرب إليه بصالح الأعمال. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ) ما ظهر منها وما بطن ، وما بدا منها وما استتر (خَبِيراً) أى عليما بها علما تاما ، لا يعزب عنه ـ سبحانه ـ مثقال ذرة منها.

(الَّذِي خَلَقَ) بقدرته التي لا يعجزها شيء (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من هواء وأجرام لا يعلمها إلا هو ـ سبحانه ـ.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيامه التي لا يعلم مقدار زمانها إلا هو ـ عزوجل ـ (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء واستعلاء يليق بذاته ، بلا كيف أو تشبيه أو تمثيل ، كما قال الإمام مالك ـ رحمه‌الله ـ : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنده بدعة. ولفظ «ثم» في قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) لا يدل على الترتيب الزمنى وإنما يدل على بعد الرتبة ، رتبة الاستواء والاستعلاء والتملك.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٣٧.

(٢) سورة الشعراء الآيتان ١٠٩ ، ١٢٧.

٢١٣

وقوله : (الرَّحْمنُ) أى : هو الرحمن. أى : صاحب الرحمة العظيمة الدائمة بعباده. والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) هي الفصيحة. والجار والمجرور صلة «اسأل» وعدى الفعل «اسأل» بالباء لتضمنه معنى الاعتناء ، والضمير يعود إلى ما سبق ذكره من صفات الله ـ تعالى ـ ، ومن عظيم قدرته ورحمته.

والمعنى : لقد بينا لك مظاهر قدرتنا ووحدانيتنا ، فإن شئت الزيادة في هذا الشأن أو غيره ، فاسأل قاصدا بسؤالك ربك الخبير بأحوال كل شيء خبرة مطلقة ، يستوي معها ما ظهر من أمور الناس وما خفى منها.

قال الإمام ابن جرير : وقوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) يقول : فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كل شيء ولا يخفى عليه ما خلق ، فعن ابن جريج : قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً). قال : يقول ـ سبحانه ـ لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أخبرتك شيئا فاعلم أنه كما أخبرتك فأنا الخبير. والخبير في قوله (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) منصوب على الحال من الهاء التي في قوله (بِهِ) (١).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن جهالات المشركين وسخافاتهم فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ، قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً).

أى : وإذا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون معه لهؤلاء المشركين : اجعلوا سجودكم وخضوعكم للرحمن وحده ، (قالُوا) على سبيل التجاهل وسوء الأدب والجحود : (وَمَا الرَّحْمنُ). أى : وما الرحمن الذي تأمروننا بالسجود له (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أى : أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه ، ومن غير أن نؤمن به.

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) أى : وزادهم الأمر بالسجود نفورا عن الإيمان وعن السجود لله الواحد القهار.

فالآية الكريمة تحكى ما جبل عليه أولئك المشركون من استهتار وتطاول وسوء أدب ، عند ما يدعوهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ، وإلى السجود للرحمن الذي تعاظمت رحماته ، وتكاثرت آلاؤه.

ولقد بلغ من تطاول بعضهم أنهم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا ذاك الذي باليمامة ، يعنون به مسيلمة الكذاب.

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٩ ص ١٩.

٢١٤

ثم رد ـ سبحانه ـ على تطاولهم وجهلهم بما يدل على عظيم قدرته ـ عزوجل ـ وعلى جلال شأنه ـ تعالى ـ فقال : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً).

والبروج : جمع برج ، وهي في اللغة : القصور العالية الشامخة ، ويدل لذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (١).

والمراد بها هنا : المنازل الخاصة بالكواكب السيارة ، ومداراتها الفلكية الهائلة ، وعددها اثنا عشر منزلا ، هي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت.

وسميت بالبروج ، لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها.

والسراج : الشمس ، كما قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٢).

أى : جل شأن الله ـ تعالى ـ وتكاثرت آلاؤه ونعمه ، فهو ـ سبحانه ـ الذي جعل في السماء «بروجا» أى : منازل للكواكب السيارة و «وجعل فيها» أى : في السماء «سراجا» وهو الشمس «وجعل فيها» ـ أيضا ـ «قمرا منيرا» أى : قمرا يسطع نوره على الأرض المظلمة ، فيبعث فيها النور الهادي اللطيف.

ثم تنتقل السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة أخرى فتقول : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً).

والخلفة. كل شيء يجيء بعد شيء آخر غيره. ومنه خلفة النبات. أى : الورق الذي يخرج منه بعد أن تساقط الورق السابق عليه.

أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل الليل والنهار متعاقبين. بحيث يخلف كل واحد منهما الآخر بنظام دقيق ، ليكونا مناسبين «لمن أراد أن يذكر». أى : يتعظ ويعتبر ويتذكر أن الله ـ تعالى ـ لم يجعلهما على هذه الهيئة عبثا فيتدارك ما فاته من تقصير وتفريط في حقوق الله ـ عزوجل ـ «أو أراد شكورا».

أى : وجعلهما كذلك لمن أراد أن يزداد من شكر الله على نعمه التي لا تحصى ، والتي من

__________________

(١) سورة النساء الآية ٧٨.

(٢) سورة نوح الآيتان ١٥ ، ١٦.

٢١٥

أعظمها وجود الليل والنهار على هذه الهيئة الحكيمة ، التي تدل على وحدانية الله تعالى ـ وعظيم قدرته ، وسعة رحمته.

* * *

وبعد هذا الحديث المتنوع عن شبهات المشركين والرد عليها ، وعن مظاهر قدرة الله ونعمه على عباده ، وعن الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ...

بعد كل ذلك جاء الحديث عن عباد الرحمن ، أصحاب المناقب الحميدة ، والصفات الكريمة ، والمزايا التي جعلتهم يتشرفون بالانتساب إلى خالقهم جاء قوله ـ تعالى ـ :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ

٢١٦

مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٧٦)

هؤلاء هم عباد الرحمن ، وتلك هي صفاتهم التي ميزتهم عن سواهم.

وقد افتتحت هذه الآيات بقوله ـ تعالى ـ : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ..) ..

وهذه الجملة الكريمة مبتدأ. والخبر قوله ـ تعالى ـ : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ..) .. وما بينهما من الموصولات صفات لهم.

وإضافتهم إلى الرحمن من باب التشريف والتكريم والتفضيل.

و «هونا» مصدر بمعنى اللين والرفق .. وهو صفة لموصوف محذوف.

أى : وعباد الرحمن الذين رضى الله عنهم وأرضاهم ، من صفاتهم أنهم يمشون على الأرض مشيا لينا رقيقا ، لا تكلف فيه ولا خيلاء ولا تصنع فيه ولا ضعف ، وإنما مشيهم تكسوه القوة والجد ، والوقار والسكينة.

قال الإمام ابن كثير : أى : يمشون بسكينة ووقار .. كما قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (١). وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع ، تصنعا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب ـ أى : من موضع منحدر ـ وكأنما الأرض تطوى له ، وعند ما رأى عمر ـ رضى الله عنه ـ شابا يمشى رويدا قال له : ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال : لا فعلاه بالدرة ، وأمره أن يسير بقوة .. (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٣٧.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٣١.

٢١٧

هذا هو شأنهم في مشيهم ، أما شأنهم مع غيرهم ، فقد وصفهم. سبحانه ـ بقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

أى : إذا خاطبهم الجاهلون بسفاهة وسوء أدب ، لم يقابلوهم بالمثل ، بل يقابلوهم بالقول الطيب ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (١).

ثم وصف ـ سبحانه ـ حالهم مع خالقهم فقال : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) والبيتوتة أن يدركك الليل سواء كنت نائما أم غير نائم.

أى : أن من صفاتهم أنهم يقضون جانبا من ليلهم ، تارة ساجدين على جباههم لله ـ تعالى ـ وتارة قائمين على أقدامهم بين يديه ـ سبحانه ـ.

وخص وقت الليل بالذكر. لأن العبادة فيه أخشع ، وأبعد عن الرياء ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً.). (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.). (٣).

ثم حكى ـ سبحانه ـ جانبا من دعائهم إياه. وخوفهم من عقابه ، فقال : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) أى : في عامة أحوالهم ، يا (رَبَّنَا) بفضلك وإحسانك (اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) بأن تبعده عنا وتبعدنا عنه.

(إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أى : إن عذابها كان لازما دائما غير مفارق ، منه سمى الغريم غريما لملازمته لغريمه ، ويقال : فلان مغرم بكذا ، إذا كان ملازما لمحبته والتعلق به.

(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) وساءت بمعنى بئست ، والمخصوص بالذم محذوف.

أى : إن جهنم بئست مستقرا لمن استقر بها ، وبئست مقاما لمن أقام بها.

فالجملة الكريمة تعليل آخر ، لدعائهم بأن يصرفها ربهم عنهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم في سلوكهم وفي معاشهم فقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ..) ..

أى : أن من صفاتهم أنهم ملتزمون في إنفاقهم التوسط ، فلا هم مسرفون ومتجاوزون

__________________

(١) سورة القصص الآية ٥٥.

(٢) سورة السجدة آية ١٦.

(٣) سورة الزمر الآية ٩.

٢١٨

للحدود التي شرعها الله ـ تعالى ـ ولا هم بخلاء في نفقتهم إلى درجة التقتير والتضييق ، وإنما هم خيار عدول يعرفون أن خير الأمور أوسطها.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) يعود إلى المذكور من الإسراف والتقتير. والقوام : الشيء بين الشيئين. وقوام الرجل : قامته وحسن طوله وهيئته ، وهو : خبر لكان ، واسمها : مقدر فيها.

أى : وكان إنفاقهم «قواما» أى وسطا بين الإسراف والتقتير والتبذير والبخل ، فهم في حياتهم نموذج يقتدى به في القصد والاعتدال والتوازن. وذلك لأن الإسراف والتقتير كلاهما مفسد لحياة الأفراد والجماعات والأمم ، لأن الإسراف تضييع للمال في غير محله. والتقتير إمساك له عن وجوهه المشروعة ، أما الوسط والاعتدال في انفاق المال ، فهو سمة من سمات العقلاء الذين على أكتافهم تنهض الأمم ، وتسعد الأفراد والجماعات.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ ما هم عليه من طاعات ، أتبع ذلك ببيان اجتنابهم للمعاصي والسيئات فقال : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أى : لا يشركون مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر لا في عبادتهم ولا في عقائدهم. وإنما يخلصون وجوههم لله ـ تعالى ـ وحده.

(وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أى : ولا يقتلون النفس التي حرم الله ـ تعالى ـ قتلها لأى سبب من الأسباب ، إلا بسبب الحق المزيل والمهدر لعصمتها وحرمتها ، ككفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير ذنب يوجب قتلها.

(وَلا يَزْنُونَ) أى : ولا يرتكبون فاحشة الزنا ، بأن يستحلوا فرجا حرمه الله ـ تعالى ـ عليهم.

روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الذنب أكبر؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، قلت : ثم أى : قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، قلت : ثم أى؟ قال : أن تزانى حليلة جارك ..» (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ..). بيان لسوء عاقبة من يرتكب شيئا من تلك الفواحش السابقة.

أى : ومن يفعل ذلك الذي نهينا عنه من الإشراك والقتل والزنا ، يلق عقابا شديدا لا يقادر قدره.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٣٤.

٢١٩

وقوله (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بدل من «يلق» بدل كل من كل. أى : يضاعف العذاب يوم القيامة لمن يرتكب شيئا من ذلك (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أى : ويخلد في ذلك العذاب خلودا مصحوبا بالذلة والهوان والاحتقار.

ثم استثنى ـ سبحانه ـ التائبين من هذا العذاب المهين فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ.) ..

أى : يضاعف العذاب لمن يرتكب شيئا من تلك الكبائر. ويخلد فيه مهانا ، إلا من تاب عنها توبة صادقة نصوحا ، وآمن بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وداوم على إتيان الأعمال الصالحة ، فأولئك التائبون المؤمنون المواظبون على العمل الصالح «يبدل الله ـ تعالى ـ سيئاتهم حسنات» بأن يمحو ـ سبحانه ـ سوابق معاصيهم ـ بفضله وكرمه ـ ويثبت بدلها لواحق طاعاتهم ، أو بأن يجب إليهم الإيمان ، ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، ويجعلهم من الراشدين.

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) في معناه قولان :

أحدهما : أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الصالحات. قال ابن عباس : هم المؤمنون. كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات ..

والثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا أنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار ..

روى الطبراني عن أبى فروة أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ، ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أأسلمت؟ قال : نعم.

قال : فافعل الخيرات ، واترك السيئات. فيجعلها الله لك خيرات كلها.

قال : «وغدراتى وفجراتي؟ قال : نعم.» فما زال يكبر حتى توارى (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله. أى : وكان الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة لمن تاب إليه وأناب.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٣٩.

٢٢٠