التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً)(١٩)

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ) منصوب على المفعولية بفعل مقدر ، والمقصود من ذكر اليوم : تذكيرهم بما سيحدث فيه من أهوال حتى يعتبروا ويتعظوا ، والضمير في «يحشرهم» للكافرين الذين عبدوا غير الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) معطوف على مفعول «يحشرهم» والمراد بهؤلاء الذين عبدوهم من دون الله : الملائكة وعزير وعيسى وغيرهم من كل معبود سوى الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : واذكر لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ حالهم لعلهم أن يعتبروا يوم نحشرهم جميعا للحساب والجزاء يوم القيامة ، ونحشر ونجمع معهم جميع الذين كانوا يعبدونهم غيرى.

ثم نوجه كلامنا لهؤلاء المعبودين من دوني فأقول لهم : أأنتم ـ أيها المعبودون ـ كنتم السبب في ضلال عبادي عن إخلاص العبادة لي ، بسبب إغرائكم لهم بذلك أم هم الذين من تلقاء أنفسهم قد ضلوا السبيل ، بسبب إيثارهم الغي على الرشد ، والكفر على الإيمان؟.

والسؤال للمعبودين إنما هو من باب التقريع للعابدين ، وإلزامهم الحجة وزيادة حسرتهم ، وتبرئة ساحة المعبودين.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ، قالَ سُبْحانَكَ) (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا : سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.). (٢).

قال الإمام الرازي ما ملخصه : فإن قيل : إنه ـ سبحانه ـ عالم في الأزل بحال المسئول عنه فما فائدة السؤال؟.

__________________

(١) سورة آل المائدة الآية ١١٦.

(٢) سورة سبأ الآيتان ٤٠ ، ٤١.

١٨١

والجواب : هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين ، كما قال ـ سبحانه ـ لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ولأن أولئك المعبودين لما برءوا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم ، صار تبرّؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم (١).

وقال ـ سبحانه ـ (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ولم يقل. ضلوا عن السبيل ، للإشعار بأنهم قد بلغوا في الضلال أقصاه ومنتهاه.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما أجاب به المعبودون فقال : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً).

أى قال المعبودون لخالقهم ـ عزوجل ـ : «سبحانك» أى : ننزهك تنزيها تاما عن الشركاء وعن كل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، وليس للخلائق جميعا أن يعبدوا أحدا سواك. ولا يليق بنا نحن أو هم أن نعبد غيرك ، وأنت يا مولانا الذي أسبغت عليهم وعلى آبائهم الكثير من نعمك. «حتى نسوا الذكر» أى : حتى تركوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك «وكانوا» بسبب ذلك «قوما بورا» أى : هلكى ، جمع بائر من البوار وهو الهلاك.

قال القرطبي : وقوله (بُوراً) أى : هلكى قاله ابن عباس .. وقال الحسن «بورا» أى : لا خير فيهم ، مأخوذ من بوار الأرض ، وهو تعطيلها عن الزرع فلا يكون فيها خير. وقال شهر بن حوشب : البوار : الفساد والكساد ، من قولهم : بارت السلعة إذا كسدت كساد الفساد .. وهو اسم مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث (٢).

وهكذا ، يتبرأ المعبودون من ضلال عابديهم ، ويوبخونهم على جحودهم لنعم الله ـ تعالى ـ وعلى عبادتهم لغيره. ويعترفون لخالقهم ـ عزوجل ـ بأنه لا معبود بحق سواه.

وهنا يوجه ـ سبحانه ـ خطابه إلى هؤلاء العابدين الجهلاء الكاذبين فيقول : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً ..).

أى : قال الله ـ تعالى ـ لهؤلاء الكافرين على سبيل التقريع والتبكيت : والآن لقد رأيتم تكذيب من عبدتموهم لكم ، وقد حق عليكم العذاب بسبب كفركم وكذبكم ، وصرتم لا تملكون له «صرفا» أى : دفعا بأية صورة من الصور. وأصل الصرف : رد الشيء من حالة إلى حالة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٣٢٥.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١١.

١٨٢

أخرى ، ولا تملكون له ـ أيضا ـ «نصرا» أى فردا من أفراد النصر لا من جهة أنفسكم ، ولا من جهة غيركم ، بل لقد حل بكم العذاب حلولا لا فكاك لكم منه بأى وسيلة من الوسائل.

«ومن يظلم منكم» أى : ومن يكفر بالله ـ تعالى ـ منكم أيها المكلفون بالإيمان «نذقه عذابا كبيرا» لا يقادر قدره في الخزي والهوان.

قال صاحب الكشاف : هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام ـ في قوله : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) حسنة رائعة ، خاصة إذا انضم إليها الالتفات ، وحذف القول ، ونحوها قوله ـ تعالى ـ : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ..). (١) وقول القائل :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا (٢) وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت الحجة على الكافرين بطريقة تخرس ألسنتهم ، وتجعلهم أهلا لكل ما يقع عليهم من عذاب أليم.

ثم تعود السورة مرة أخرى إلى تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى الرد على شبهات أعدائه فتقول :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

أى : وما أرسلنا قبلك ـ أيها الرسول الكريم ـ أحدا من رسلنا ، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذي يأكله غيرهم من البشر. ويمشون في الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس ، طلبا للرزق.

وإذا فقول المشركين في شأنك «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به ، ولا تلتفت إليه ، فأنت على الحق وهم على الباطل.

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ١٧١.

١٨٣

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) بيان لسنة من سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، اقتضتها حكمته ومشيئته.

أى : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه ، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله ـ تعالى ـ به ، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله ـ تعالى ـ من فضله. كما حسد المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على منصب النبوة الذي أعطاه الله ـ تعالى ـ إياه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١).

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أى : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد ـ سبحانه ـ أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس ، فالصحيح : فتنة للمريض. والغنى : فتنة للفقير .. ومعنى هذا ، أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنى ، فعليه أن لا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق .. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره ... فالفتنة : أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر وذاك عن الضجر .. (٢).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَتَصْبِرُونَ) للتقرير. أى : أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله ـ تعالى ـ الأجر ، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم؟

ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر. أى : اصبروا على هذا الابتلاء كما في قوله ـ تعالى ـ : (... وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.). (٣) أى : أسلموا .. وكما في قوله ـ سبحانه ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أى : انتهوا عن الخمر والميسر.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أى : وكان ربك أيها الرسول الكريم ـ بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية ، وبتقلبات القلوب وخلجاتها. فاصبر على أذى قومك ، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين.

فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم ، وردت عليهم بما يخزيهم ، وبينت ما أعد لهم من عذاب في يوم لا ينفعهم فيه الندم.

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٣١.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٨.

(٣) سورة آل عمران الآية ٢٠.

١٨٤

قال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

قال الفخر الرازي : اعلم أن قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحاصلها : لما ذا لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق في دعواه ، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا .. (١).

والرجاء : الأمل والتوقع لما فيه خير ونفع. وفسره بعضهم بمجرد التوقع الذي يشمل ما يسر وما يسوء ، وفسره بعضهم هنا بأن المراد به : الخوف.

والمراد بلقائه ـ سبحانه ـ : الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.

أى : وقال الكافرون الذين لا أمل عندهم في لقائنا يوم القيامة للحساب والجزاء لأنهم ينكرون ذلك ، ولا يبالون به ، ولا يخافون أهواله. قالوا ـ على سبيل التعنت والعناد ـ :

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٣٢٨.

١٨٥

هلا أنزل علينا الملائكة لكي يخبرونا بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هلا نرى ربنا جهرة ومعاينة ليقول لنا إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول من عندي! وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (... أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (١). أى : ليشهدوا بصدقك ، وقد رد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً).

والعتو : تجاوز الحد في الظلم والعدوان. يقال عتا فلان يعتو عتوا ، إذا تجاوز حده في الطغيان.

أى : والله لقد أضمر هؤلاء الكافرون الاستكبار عن الحق في أنفسهم المغرورة ، وتجاوزوا كل حد في الطغيان تجاوزا كبيرا ، حيث طلبوا مطالب هي أبعد من أن ينالوها بعد الأرض عن السماء. وصدق الله إذ يقول : (... إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ.). (٢).

ووصف ـ سبحانه ـ عتوهم بالكبر للدلالة على إفراطهم فيه ، وأنهم قد وصلوا في عتوهم إلى الغاية القصوى منه.

ثم بين ـ سبحانه ـ الحالة التي يرون فيها الملائكة فقال : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ).

أى : لقد طلب هؤلاء الظالمون نزول الملائكة عليهم ، ورؤيتهم لهم. ونحن سنجيبهم إلى ما طلبوه ولكن بصورة أخرى تختلف اختلافا كليا عما يتوقعونه ، إننا سنريهم الملائكة عند قبض أرواحهم وعند الحساب بصورة تجعل هؤلاء الكافرين يفزعون ويهلعون. بصورة لا تبشرهم بخير ولا تسرهم رؤيتهم معها ، بل تسوؤهم وتحزنهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ..). (٣) وكما قال ـ سبحانه ـ : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٤).

فالآية الكريمة مسوقة على سبيل الاستئناف. لبيان حالهم الشنيعة عند ما تنزل عليهم الملائكة. بعد بيان تجاوزهم الحد في الطغيان وفي طلب ما ليس من حقهم.

والمراد بالملائكة هنا : ملائكة العذاب الذين يقبضون أرواحهم ، والذين يقودونهم إلى النار يوم القيامة.

وقال ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ..). ولم يقل : يوم تنزل الملائكة ، للإيذان

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٩٢.

(٢) سورة غافر الآية ٥٦.

(٣) سورة الأنفال الآية ٥٠.

(٤) سورة محمد الآية ٢٧.

١٨٦

من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على الطريقة التي طلبوها ، بل على وجه آخر فيه ما فيه من العذاب المهين لهؤلاء الكافرين.

وجاء نفى البشرى لهم بلا النافية للجنس للمبالغة في نفى أى بارقة تجعلهم يأملون في أن ما نزل بهم من سوء ، قد يتزحزح عنهم في الحال أو الاستقبال.

قال الجمل في حاشيته : وقوله (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) هذه الجملة معمولة لقول مضمر. أى : يرون الملائكة يقولون لا بشرى. فالقول حال من الملائكة وهو نظير التقدير في قوله ـ تعالى ـ : (... وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ.). (١) وكل من الظرف والجار والمجرور خبر عن لا النافية للجنس (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) تأكيد لما قبله من أنه لا خير لهؤلاء الكافرين من وراء رؤيتهم للملائكة.

والحجر ـ بكسر الحاء وفتحها ـ الحرام ، وأصله المنع. ومحجورا صفة مؤكدة للمعنى ، كما في قولهم : موت مائت. وليل أليل ، وحرام محرم.

قال الآلوسى : وهي ـ أى : حجرا محجورا ـ كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور ، وهجوم نازلة هائلة ، يضعونها موضع الاستعاذة ، حيث يطلبون من الله ـ تعالى ـ أن يمنع المكروه فلا يلحقهم ، فكأن المعنى ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يمنع ذلك منعا ، ويحجره حجرا.

وقال الخليل : كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول : حجرا محجورا. أى : حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدأ بشر (٣).

والقائلون لهذا القول يرى بعضهم أنهم الملائكة ، فيكون المعنى : تقول الملائكة للكفار حجرا محجورا. أى : حراما محرما أن تكون لكم اليوم بشرى. أو أن يغفر الله لكم ، أو أن يدخلكم جنته.

وقد رجح ابن جرير ذلك فقال ما ملخصه : وإنما اخترنا أن القائلين هم الملائكة من أجل أن الحجر هو الحرام. فمعلوم أن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر ، أن البشرى عليهم حرام .. (٤).

ويبدو لنا أنه لا مانع من أن يكون هذا القول من الكفار ، فيكون المعنى : أن هؤلاء الكفار

__________________

(١) سورة الرعد من الآيتين ٢٣ ، ٢٤.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٥٢.

(٣) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٦.

(٤) تفسير ابن جرير ج ١٩ ص ٣.

١٨٧

الذين طلبوا نزول الملائكة عليهم ليشهدوا لهم بصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما يرونهم عند الموت أو عند الحساب يقولون لهم بفزع وهلع : «حجرا محجورا» أى : حراما محرما عليكم أن تنزلوا بنا العذاب ، فنحن لم نرتكب ما نستحق بسببه هذا العذاب المهين ، ولعل مما يشهد لهذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ، بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (١).

وعلى كلا الرأيين فالجملة الكريمة تؤكد سوء عاقبة الكافرين.

ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك وعيدا آخر لهؤلاء الكافرين فقال : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

والهباء : الشيء الدقيق الذي يخرج من النافذة مع ضوء الشمس شبيها بالغبار.

والمنثور : المتفرق في الجو بحيث لا يتأتى جمعه أو حصره.

أى : وقدمنا وقصدنا وعمدنا ـ بإرادتنا وحكمتنا إلى ما عمله هؤلاء الكافرون من عمل صالح في الدنيا ـ كالإحسان إلى الفقراء ، والإنفاق في وجوه الخير ـ فجعلناه باطلا ضائعا ، ممزقا كل ممزق ، لأنهم فقدوا شرط قبوله عندنا ، وهو إخلاص العبادة لنا.

فقد شبه ـ سبحانه ـ أعمالهم الصالحة في الدنيا في عدم انتفاعهم بها يوم القيامة ـ بالهباء المنثور ، الذي تفرق وتبدد وصار لا يرجى خير من ورائه لحقارته وتفاهته.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما سيكون عليه أصحاب الجنة من نعيم مقيم يوم القيامة فقال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

والمستقر : المكان الذي يستقر فيه الإنسان في أغلب وقته. والمقيل : المكان الذي يؤوى إليه في وقت القيلولة للاستراحة من عناء الحر.

أى : «أصحاب الجنة يومئذ» أى : يوم القيامة «خير مستقرا» أى : خير مكانا ومنزلا في الجنة ، مما كان عليه الكافرون في الدنيا من متاع زائل ، ونعيم حائل «وأحسن مقيلا» أى : وأحسن راحة وهناء ومأوى ، مما فيه الكافرون من عذاب مقيم.

وقد استنبط بعض العلماء. من هذه الآية أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهى في وقت قصير ، لا يتجاوز نصف النهار. قالوا : لأن قوله ـ تعالى ـ (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) يدل على

__________________

(١) سورة النحل الآيتان ٢٨ ، ٢٩.

١٨٨

أنهم في وقت القيلولة ، يكونون في راحة ونعيم ، ويشير إلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً* وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (١).

وأما أهل النار ـ والعياذ بالله ـ فهم ليسوا كذلك لأن حسابهم غير يسير.

وقد ساق ابن كثير في هذا المعنى آثارا منها أن سعيد الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم ليقيلون في رياض الجنة (٢).

ثم وصف ـ سبحانه ـ بعض الأهوال التي تحدث في هذا اليوم فقال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).

وقوله (تَشَقَّقُ) أصله تتشقق بمعنى تتفتح. والباء يصح أن تكون بمعنى عن ، وأن تكون للسببية أى : بسبب طلوعه منها ، وأن تكون للحال ، أى : ملتبسة بالغمام.

والغمام : اسم جنس جمعى لغمامة. وهي السحاب الأبيض الرقيق سمى بذلك لأنه يغم ما تحته ، أى : يستره ويخفيه.

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل لتعتبر وتتعظ ـ أهوال يوم القيامة. يوم تتفتح السماء وتتشقق بسبب طلوع الغمام منها. ونزول الملائكة منها تنزيلا عجيبا غير معهود.

قال صاحب الكشاف : ولما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء ، كما تقول : شق السنام بالشفرة وانشق بها ، ونظيره قوله ـ تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ..). (٣).

فإن قلت : أى فرق بين قولك : انشقت الأرض بالنبات ، وانشقت عنه؟ قلت : معنى انشقت به ، أن الله شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى انشقت عنه : أن التربة ارتفعت عند طلوعه.

والمعنى : أن السماء تتفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحف أعمال العباد (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً).

لفظ «الملك» مبتدأ ، و «يومئذ» ظرف للمبتدأ و «الحق» نعت له «للرحمن» خبره.

__________________

(١) سورة الانشقاق الآيتان ٧ ـ ٩.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١١٣.

(٣) سورة المزمل الآية ١٨.

(٤) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٧٥.

١٨٩

أى : الملك الثابت الذي لا يزول ، ولا يشاركه فيه أحد للرحمن يومئذ ، وكان هذا اليوم عسيرا على الكافرين ، لشدة الهول والعذاب الذي يقع عليهم فيه.

وخص ـ سبحانه ـ ثبوت الملك له في هذا اليوم بالذكر ، مع أنه ـ تعالى ـ هو المالك لهذا الكون في هذا اليوم وفي غيره ، للرد على الكافرين الذين زعموا أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة ، ولبيان أن ملك غيره ـ سبحانه ـ في الدنيا. إنما هو ملك صورى زائل ، أما الملك الثابت الحقيقي فهو لله الواحد القهار.

قال ابن كثير : وفي الصحيح «أن الله يطوى السموات بيمينه ، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول : أنا الملك. أنا الديان. أين ملوك الأرض أين الجبارون. أين المتكبرون» (١).

ثم صور ـ سبحانه ـ ما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة من حسرة وندامة ، تصويرا بليغا ، مؤثرا فقال : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً).

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أن عقبة بن أبى معيط دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحضور طعام عنده ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا آكل من طعامك حتى تنطق بالشهادتين. فنطق بهما. فبلغ ذلك صديقه أمية بن خلف أو أخاه أبى بن خلف ، فقال له : يا عقبة بلغني أنك أسلمت. فقال له : لا. ولكن قلت ما قلت تطييبا لقلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يأكل من طعامي. فقال له : كلامك على حرام حتى تفعل كذا وكذا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل الشقي ما أمره به صديقه الذي لا يقل شقاوة عنه.

أما عقبة فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله في غزوة بدر وأما أبى بن خلف فقد طعنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة أحد طعنة لم يبق بعدها سوى زمن يسير ثم هلك.

وعلى أية حال فإن الآيات وإن كانت قد نزلت في هذين الشقيين. فإنها تشمل كل من كان على شاكلتهما في الكفر والعناد ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وعض اليدين كناية عن شدة الحسرة والندامة والغيظ ، لأن النادم ندما شديدا ، يعض يديه. وليس أحد أشد ندما يوم القيامة من الكافرين.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١١٥.

١٩٠

قال ـ تعالى ـ : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ. وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ..).

والمعنى : واذكر ـ أيها العاقل ـ يوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء ، يوم يعض الظالم على يديه من شدة غيظه وندمه وحسرته.

ويقول في هذا اليوم (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً).

أى : يا ليتني سلكت معه طريق الحق الذي جاء به ، واتبعته في كل ما جاء به من عند ربه.

(يا وَيْلَتى) أى : ثم يقول هذا الظالم يا هلاكي أقبل فهذا أوان إقبالك ، فهذه الكلمة تستعمل عند وقوع داهية دهياء لا نجاة منها ، وكأن المتحسر ينادى ويلته ويطلب حضورها بعد تنزيلها منزلة من يفهم نداءه.

(لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) أى : ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلنى في الدنيا صديقا وخليلا لي. والمراد بفلان : كل من أضل غيره وصرفه عن طريق الحق ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا أبى بن خلف.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أى : والله لقد أضلنى هذا الصديق المشئوم عن الذكر أى : عن الهدى بعد إذ جاءني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالجملة الكريمة تعليل لتمنيه المذكور ، وتوضيح لتملله. وأكده بلام القسم للمبالغة في بيان شدة ندمه وحسرته.

والمراد بالذكر هنا : ما يشمل القرآن الكريم ، وما يشمل غيره من توجيهات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي التعبير بقوله : (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) إشعار بأن هدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وصل إلى هذا الشقي ، وكان في إمكانه أن ينتفع به.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أى : وكان الشيطان دائما وأبدا. خذولا للإنسان. أى : صارفا إياه عن الحق ، محرضا له على الباطل ، فإذا ما احتاج الإنسان إليه خذله وتركه وفر عنه وهو يقول : إنى برىء منك.

يقال : خذل فلان فلانا ، إذا ترك نصرته بعد أن وعده بها.

وهكذا تكون عاقبة الذين يتبعون أصدقاء السوء ، وصدق الله إذ يقول : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (١).

ومن الأحاديث التي وردت في الأمر باتخاذ الصديق الصالح ، وبالنهى عن الصديق الطالح ،

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٦٧.

١٩١

ما رواه الشيخان عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل الجليس الصالح وجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك. وإمّا أن تبتاع منه. وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير ، إما أن يحرق ثوبك. وإما أن تجد منه ريحا خبيثة».

ثم بين ـ سبحانه ـ ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن هؤلاء المشركين ، وما قالوه في شأن القرآن الكريم ، وما رد به ـ سبحانه ـ عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالَ الرَّسُولُ ..). معطوف على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ ...).

وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام قبح ما قالوه ولبيان ما يحل بهم بسببه من عذاب.

أى : وقال الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم متضرعا وشاكيا لربه «يا رب إن قومي» الذين أرسلتنى إليهم قد «اتخذوا هذا القرآن» المشتمل على ما يهديهم إلى الرشد وعلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم ، قد اتخذوه «مهجورا» أى : متروكا فقد تركوا تصديقه ، وتركوا العمل به وتركوا ، التأثر بوعيده .. من الهجر ـ بفتح الهاء بمعنى الترك ، أو المعنى : قد اتخذوا هذا

١٩٢

القرآن مادة لسخريتهم وتهكمهم ، من الهجر ـ بضم الهاء ـ بمعنى الهذيان والقول الباطل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (١).

وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على التخويف العظيم لمن يهجر القرآن الكريم. فلم يحفظه أو لم يحفظ شيئا منه ، ولم يعمل بما فيه من حلال وحرام ، وأوامر ونواه ..

قال بعض العلماء هجر القرآن أنواع : أحدها : هجر سماعه وقراءته. وثانيها : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه .. وثالثها : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه .. ورابعها : هجر تدبره وتفهمه .. وكل هذا دخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ.). تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه من قومه ، وتصريح بأن ما أصابه قد أصاب الرسل من قبله ، والبلية إذا عمت هانت. أى : كما جعلنا قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ يعادونك ويكذبونك ، جعلنا لكل نبي سابق عليك عدوا من المجرمين ، فاصبر ـ أيها الرسول ـ كما صبر إخوانك السابقون.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (٣).

ثم شفع ـ سبحانه ـ هذه التسلية بوعد كريم منه ـ عزوجل ـ لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

أى : وكفى ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هاديا يهدى عباده إلى ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، وكفى به ـ سبحانه ـ نصيرا لمن يريد أن ينصره على كل من عاداه.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ـ وللمرة الخامسة ـ بعض شبهاتهم وأباطيلهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...).

أى : وقال الذين كفروا بالحق الذي جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلا نزل هذا القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة واحدة ، دون أن ينزل مفرقا كما نراه ونسمعه.

وقولهم هذا دليل على سوء أدبهم فقد طلبوا ما لا يعنيهم. واقترحوا شيئا لا مدخل لهم فيه ،

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٦٧.

(٢) تفسير القاسمى ج ١٩ ص ٤٥٧٥ ، نقلا عن بدائع الفوائد للإمام ابن القيم.

(٣) سورة الأنعام الآية ١١٢.

١٩٣

ولا علم عندهم بحكمته ، ولذا رد سبحانه عليهم بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) والكاف بمعنى مثل ، والجار والمجرور نعت لمصدر محذوف مع عامله. وقوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) تعليل للعامل المحذوف.

فالجملة الكريمة استئناف مسوق للرد عليهم ، ولبيان بعض الحكم في نزول القرآن مفرقا.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) معطوف على الفعل المحذوف. والتنكير في «ترتيلا» للتفخيم والتعظيم. وأصل الترتيل ، عدم التلاصق. يقال ، ثغر مرتل. أى مفلج الأسنان غير متلاصقها.

أى : نزلناه مفرقا ، ورتلناه ترتيلا بديعا ، بأن قرأناه عليك بلسان جبريل شيئا فشيئا ، على تؤدة وتمهل ، وجعلنا بعضه ينزل في إثر بعض.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله «كذلك» جواب لهم ، أى : كذلك أنزلناه مفرقا ، والحكمة فيه : أن نقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ..

فإن قلت : ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزاله جملة واحدة فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقا؟.

قلت : لأن قولهم : لو لا أنزل عليه القرآن جملة ، معناه : لما ذا أنزل مفرقا ، والدليل على فساد هذا الاعتراض أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه .. فكأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أى : سر أيها الرسول الكريم في طريقك ، وبلغ ما أنزلناه إليك ، ولا تلتفت إلى مقترحات المشركين وأباطيلهم ، فإنهم لا يأتونك بمثل ، أى : بكلام عجيب هو مثل في التهافت والفساد للطعن في نبوتك «إلا جئناك» في مقابلته بالجواب «الحق» الثابت الصادق الذي يزهق باطلهم ، وبما هو أحسن تفسيرا وبيانا من مثلهم وشبهاتهم.

والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. أى : ولا يأتونك في حال من الأحوال بمثل للطعن في نبوتك ، إلا جئناك وسلحناك بما يزهق أمثالهم وشبههم ، فسر في طريقك ـ أيها الرسول الكريم ـ فإنك على الحق المبين.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة من أعظم الآيات لتشجيع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تبليغ دعوته ، بدون اكتراث بما يثيره المشركون حوله من شبهات.

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم بسبب أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة ، فقال

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٧٦.

١٩٤

ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أى : يحشرون ماشين على وجوههم أو يسحبون عليها إلى جهنم ، بسبب كفرهم وعنادهم.

(أُوْلئِكَ) الذين نفعل بهم ذلك (شَرٌّ مَكاناً) اى : منزلا ومكانا ومصيرا لهم هو جهنم وأولئك ـ أيضا ـ هم أضل الناس طريقا عن طريق الحق والرشاد ، ولذا كانت طريقهم لا توصلهم إلا إلى النار وبئس القرار.

قال الإمام ابن كثير : وفي الصحيح عن أنس : أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال : إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال الأقوام السابقين الذين كذبوا أنبياءهم ، فكانت عاقبتهم الإهلاك والتدمير فقال ـ تعالى ـ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١١٨.

١٩٥

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ..). كلام مستأنف لزيادة تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولترهيب المشركين وحضهم على الاتعاظ والاعتبار واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يعرضوا أنفسهم للهلاك والدمار الذي نزل بأمثالهم من السابقين.

أى : وبالله لقد آتينا موسى ـ عليه‌السلام ـ «الكتاب» أى : التوراة لتكون هداية لقومه (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً). أى : وجعلنا معه ـ بفضلنا وحكمتنا ـ أخاه هارون لكي يكون عونا له وعضدا في تبليغ ما أمرناه بتبليغه.

(فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) والتدمير : أشد الإهلاك.

وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه ، وفي الكلام حذف يعرف من السياق.

والمعنى : فقلنا لهما اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، وهم فرعون وقومه ، فذهبا إليهم ودعواهم إلى الإيمان ، فأعرضوا عنهما وكذبوهما ، وتمادوا في طغيانهم ، فكانت عاقبة ذلك أن دمرناهم تدميرا عجيبا ، بأن أغرقهم الله جميعا ، أمام موسى ومن معه.

فقوله ـ تعالى ـ (فَدَمَّرْناهُمْ ..). معطوف على مقدر ، أى : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.

ثم حكى ـ سبحانه ـ ما جرى لقوم نوح فقال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ ...).

والمراد بالرسل : نوح ومن قبله ، أو نوح وحده ، وعبر عنه بالرسل ، لأن تكذيبهم له يعتبر تكذيبا لجميع الرسل ، لأن رسالتهم واحدة في أصولها.

(وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أى : بعد أن أغرقناهم بسبب كفرهم ، جعلنا إغراقهم أو قصتهم عبرة وعظة للناس الذين يعتبرون ويتعظون.

والتعبير ب «آية» بصيغة التنكير ، يشير إلى عظم هذه الآية وشهرتها ، ولا شك أن الطوفان الذي أغرق الله ـ تعالى ـ به قوم نوح من الآيات التي لا تنسى.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) بيان لسوء مصير كل ظالم يضع الأمور في غير مواضعها.

أى : وهيأنا وأعددنا للظالمين عذابا أليما موجعا ، بسبب ظلمهم وكفرهم ، وعلى رأس هؤلاء الظالمين قوم نوح ، الذين كفروا به وسخروا منه ..

١٩٦

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعض من جاء بعد قوم نوح فقال : (وَعاداً وَثَمُودَ) أى : ودمرنا وأهلكنا قوم عاد بسبب تكذيبهم لنبيهم هود ـ عليه‌السلام ـ ، كما أهلكنا قوم ثمود بسبب تكذيبهم لنبيهم صالح ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَصْحابَ الرَّسِ) معطوف على ما قبله. أى : وأهلكنا أصحاب الرس. كما أهلكنا من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود.

والرس في لغة العرب : البئر التي لم تبن بالحجارة ، وقيل : البئر مطلقا ، ومنه قول الشاعر :

وهم سائرون إلى أرضهم

فيا ليتهم يحفرون الرساسا

أى : فيا ليتهم يحفرون الآبار.

وللمفسرين في حقيقة أصحاب الرس أقوال : فمنهم من قال إنهم من بقايا قبيلة ثمود ، بعث الله إليهم نبيا فكذبوه ورسّوه في تلك البئر أى : ألقوا به فيها ، فأهلكهم الله ـ تعالى ـ.

وقيل : هم قومه كانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيبا ـ عليه‌السلام ـ فكذبوه فبينما هم حول الرس ـ أى البئر ـ فانهارت بهم ، وخسف الله ـ تعالى ـ بهم الأرض. وقيل : الرس بئر بأنطاكية ، قتل أهلها حبيبا النجار وألقوه فيها ..

واختار ابن جرير ـ رحمه‌الله ـ أن أصحاب الرس هم أصحاب الأخدود ، الذين ذكروا في سورة البروج.

وقد ذكر بعض المفسرين في شأنهم روايات ، رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها ونكارتها.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) يعود إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ، والقرون : جمع قرن.

والمراد به هنا : الجيل من الناس الذين اقترنوا في الوجود في زمان واحد من الأزمنة.

أى : وأهلكنا قرونا كثيرة بين قوم عاد وثمود وأصحاب الرس. لأن تلك القرون سارت على شاكلة أمثالهم من الكافرين والفاسقين.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ..). بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ : حيث إنه ـ سبحانه ـ لا يهلك الأمم إلا بعد أن يسوق لها ما يرشدها ، فتأبى إلا السير في طريق الغي والعصيان. و «كلا» منصوب بفعل مضمر يدل عليه ما بعده. فإن ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير ، والتنوين عوض عن المضاف إليه.

١٩٧

أى : وأنذرنا كل فريق من القرون الماضية المكذبة ، وضربنا له الأمثال الحكيمة الكفيلة بإرشاده إلى طريق الحق ، ولكنه استحب العمى على الهدى ، والضلالة على الهداية ، فكانت عاقبته كما قال ـ تعالى ـ بعد ذلك (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً).

أى : وكل قرن من هؤلاء المكذبين أهلكناه إهلاكا لا قيام له منه ، وأصل التتبير : التفتيت. وكل شيء فتته وكسرته فقد تبرته. ومنه التبر لفتات الذهب والفضة.

والمراد به هنا التمزيق والإهلاك الشديد الذي يستأصل من نزل به.

ثم وبخ ـ سبحانه ـ مشركي مكة على عدم اعتبارهم واتعاظهم بما يرون من آثار فقال ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً).

والمراد بالقرية هنا : قرية سدوم التي هي أكبر قرى قوم لوط ، والتي جعل الله ـ تعالى ـ عاليها سافلها. والمراد بما أمطرت به : الحجارة التي أنزلها الله ـ تعالى ـ عليها ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١).

والسوء ـ بفتح السين وتشديدها ـ مصدر ساءه. أى : فعل به ما يكره. والسوء ـ بالضم والتشديد ـ اسم منه.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) للتقريع والتوبيخ على عدم الاعتبار بما يرونه من أمور تدعو كل عاقل إلى التدبر والتفكر والاتعاظ.

أى : أقسم لك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا القرآن مهجورا ، كانوا وما زالوا يمرون مصبحين وبالليل على قرية قوم لوط ، التي دمرناها تدميرا ، بسبب فسوق أهلها وفجورهم ، وكانوا يرون ما حل بها من خراب ..

ولكنهم لكفرهم بك والبعث والحساب ، لم يتأثروا بما رأوا ، ولم يعتبروا بما شاهدوا ، وسيندمون يوم القيامة على كفرهم ولكن لن ينفعهم الندم.

وصدر ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بلام القسم وقد ، لتأكيد رؤيتهم لتلك القرية التي أمطرت مطر السوء.

والمراد برؤيتها ، رؤية ما حل بها من خراب ودمار كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٧٤.

١٩٨

عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) بيان للسبب الذي جعلهم لا يعتبرون ولا يتعظون.

أى : أنهم كانوا يرون عاقبة أهل تلك القرية التي جعلنا عاليها سافلها ، ولكن تكذيبهم بالبعث والنشور ، والثواب والعقاب يوم القيامة ، حال بينهم وبين الاعتبار والاتعاظ والإيمان بالحق ، وجعلهم يمرون بما يدعو إلى التدبر والتفكر ، ولكنهم لعدم توقعهم للقاء الله ، ولعدم إيمانهم بالجزاء يوم القيامة قست قلوبهم وانطمست بصائرهم ، وصاروا كما قال ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ* وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢).

وبعد هذا العرض لأحوال بعض الأمم الماضية ، عادت السورة الكريمة إلى بيان ما كان المشركون يقولونه عند رؤيتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى بيان سوء عاقبتهم ، وفرط جهالاتهم ، قال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

__________________

(١) سورة الصافات الآيتان ١٣٧ ، ١٣٨.

(٢) سورة يوسف الآيتان ١٠٥ ، ١٠٦.

١٩٩

قال الإمام ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : يخبر ـ تعالى ـ عن استهزاء المشركين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأوه ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ..). يعنونه بالعيب والنقص .. (١).

ومن عجب أن هؤلاء المشركين الذين كانوا يستهزئون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بعثته إليهم ، هم أنفسهم الذين كانوا يلقبونه قبل بعثته بالصادق الأمين ، وما حملهم على هذا الكذب والجحود إلا الحسد والعناد.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) مقول لقول محذوف وعائد الموصول محذوف ـ أيضا ـ. أى : كلما وقعت أبصار أعدائك عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ سخروا منك ، واستنكروا نبوتك ، وقالوا على سبيل الاستبعاد والتهكم : أهذا هو الإنسان الذي بعثه الله ـ تعالى ـ ليكون رسولا إلينا. وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم ، يدل على أنهم بلغوا أقصى درجات الجهالة وسوء الأدب.

ثم يشير القرآن إلى كذبهم فيما قالوه ، لأنهم مع إظهارهم للسخرية منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا في واقع أمرهم ، وحقيقة حالهم يعترفون له بقوة الحجة ، وهذا ما حكاه القرآن عنهم في قوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها).

أى : أنهم كانوا يقولون فيما بينهم : إن هذا الرسول كاد أن يصرفنا بقوة حجته عن عبادة آلهتنا. لو لا أننا قاومنا هذا الشعور وثبتنا على عبادة أصنامنا.

قال الآلوسى : قوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) أى : يصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط. لو لا أن صبرنا عليها واستمسكنا بعبادتها ... وهذا اعتراف منهم بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد .. ما شارفوا معه أن يتركوا دينهم لو لا فرط جهالاتهم ولجاجهم وغاية عنادهم (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) تهديد لهم على سوء أدبهم ، وعلى جحودهم للحق بعد أن تبين لهم.

أى : وسوف يعلم هؤلاء الكافرون حين يرون العذاب ماثلا أمام أعينهم ، من أبعد طريقا عن الحق ، أهم أم المؤمنون.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٢١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٩ ص ٢٢.

٢٠٠