التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، بل يجب عليكم متى دعاكم لأمر أن تلبوا أمره بدون تقاعس أو تباطؤ.

وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة تدل على وجوب توقير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيمه. وشبيه بها قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (١).

ثم حذر ـ سبحانه ـ المنافقين من سوء عاقبة أفعالهم فقال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقد هنا للتحقيق. ويتسللون من التسلل ، وهو الخروج في خفاء مع تمهل وتلصص.

وقوله (لِواذاً) مصدر في موضع الحال أى : ملاوذين. والملاوذة معناها : الاستتار بشيء مخافة من يراك ، أو هي الروغان من شيء إلى شيء على سبيل الخفاء.

أى : إن الله ـ تعالى ـ عليم بحال هؤلاء المنافقين الذين يخرجون من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خفاء واستتار : بحيث يخرجون من الجماعة قليلا قليلا ، يستتر بعضهم ببعض حتى يخرجوا جميعا.

قالوا : وكان المنافقون تارة يخرجون إذا ارتقى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر. ينظرون يمينا وشمالا. ثم يخرجون واحدا واحدا. وتارة يخرجون من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتارة يفرون من الجهاد يعتذرون بالمعاذير الباطلة.

وعلى أية حال فالآية الكريمة تصور خبث نفوسهم ، والتواء طباعهم ، وجبن قلوبهم ، أبلغ تصوير ، حيث ترسم أحوالهم وهم يخرجون في خفاء متسللين ، حتى لا يراهم المسلمون.

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَحْذَرِ ..). لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والضمير في قوله : (عَنْ أَمْرِهِ) يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى الله ـ تعالى ـ والمعنى واحد ، لأن الرسول مبلغ عن الله ـ تعالى ـ.

والمخالفة معناها : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله.

والمعنى : فليحذر هؤلاء المنافقون الذين يخالفون أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصدون الناس عن دعوته. ويتباعدون عن هديه ، فليحذروا من أن تصيبهم فتنة ، أى : بلاء وكرب يترتب عليه

__________________

(١) سورة الحجرات الآيتان ٢ ، ٣.

١٦١

افتضاح أمرهم ، وانكشاف سرهم ، (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يستأصلهم عن آخرهم ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

قال القرطبي : وبهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب ، ووجهها أن اللَّه ـ تعالى ـ قد حذر من مخالفة أمره ، وتوعد بالعقاب عليها بقوله : (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فتحرم مخالفته ، ويجب امتثال أمره» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (أَلا إِنَّ لِلَّه ما فِي السَّماواتِ والأَرْضِ).

أي : له ـ سبحانه ـ ما في السماوات والأرض من موجودات خلقا وملكا وتصرفا وإيجادا (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْه) أيها المكلفون من طاعة أو معصية ، ومن استجابة لأمره أو عدم استجابة.

(ويَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْه فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي : ويعلم ـ سبحانه ـ أحوال خلقه جميعا يوم يرجعون إليه يوم القيامة. فيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

(واللَّه) ـ تعالى ـ (بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بحيث لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وبعد : فهذه هي سورة «النور» وهذا تفسير محرر لها.

نسأل اللَّه ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

القاهرة ـ مدينة نصر

ظهر السبت ٢٠ من ربيع الآخر ١٤٠٥ ه

الموافق ١١ / ١ / سنة ١٩٨٥ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوي

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٣٢٢.

١٦٢

تفسير

سورة الفرقان

١٦٣
١٦٤

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة الفرقان من السور المكية ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية ، وكان نزولها بعد سورة «يس». أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والعشرون.

ومن المفسرين الذين لم يذكروا خلافا في كونها مكية ، الإمام ابن كثير والإمام الرازي.

وقال القرطبي : هي مكية كلها في قول الجمهور. وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي : (والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلهاً آخَرَ) إلى قوله ـ تعالى ـ : (وكانَ اللَّه غَفُوراً رَحِيماً).

٢ ـ وقد افتتحت هذه السورة الكريمة بالثناء على اللَّه ـ تعالى ـ الذي نزل الفرقان على عبده محمد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم والذي له ملك السماوات والأرض ... والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.

قال ـ تعالى ـ : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِه لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). (الَّذِي لَه مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ. ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً. ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيراً).

٣ ـ ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى حكاية بعض أقوال المشركين الذين أثاروا الشبهات حول الرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، وقارنت بين مصيرهم السيئ ، وبين ما أعده اللَّه ـ تعالى ـ للمؤمنين من جنات.

قال ـ تعالى ـ : (وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْه مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْه كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَه جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ، وقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً).

٤ ـ وبعد أن يصور القرآن حسراتهم يوم الحشر ، وعجزهم عن التناصر ، يعود فيحكى جانبا من تطاولهم وعنادهم ، ويرد عليهم بما يكبتهم ، وبما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم.

قال ـ تعالى ـ : (وقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ، لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى

١٦٥

رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ويَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناه هَباءً مَنْثُوراً أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وأَحْسَنُ مَقِيلًا).

٥ ـ ثم تحكى السورة جانبا من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فيقول : (ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وجَعَلْنا مَعَه أَخاه هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً وقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ، وأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً ..).

٦ ـ ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن تطاول هؤلاء الجاحدين على رسولهم صلى اللَّه عليه وسلَّم وتعقب على ذلك بتسليته صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عما أصابه منهم فتقول : (وإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّه رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ، وسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَه هَواه أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْه وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).

٧ ـ ثم تنتقل السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة اللَّه ـ تعالى ـ فتسوق لنا مظاهر قدرته في مد الظل ، وفي تعاقب الليل والنهار ، وفي الرياح التي يرسلها ـ سبحانه ـ لتكون بشارة لنزول المطر ، وفي وجود برزخ بين البحرين ، وفي خلق البشر من الماء ... ثم يعقب على ذلك بالتعجب من حال الكافرين ، الذين يعبدون من دونه ـ سبحانه ـ ما لا ينفعهم ولا يضرهم ..

قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ولَوْ شاءَ لَجَعَلَه ساكِناً ، ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناه إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً والنَّوْمَ سُباتاً وجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً).

٨ ـ ثم تسوق السورة في أواخرها صورة مشرقة لعباد الرحمن ، الذين من صفاتهم التواضع ، والعفو عن الجاهل. وكثرة العبادة للَّه ـ تعالى ـ والتضرع إليه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم ، وسلوكهم المسلك الوسط في إنفاقهم ، وإخلاصهم الطاعة للَّه ـ تعالى ـ وحده. واجتنابهم للرذائل التي نهى اللَّه ـ عز وجل ـ عنها.

قال ـ تعالى ـ : (وعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً ، وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقِياماً والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقاماً).

١٦٦

٩ ـ ومن هذا العرض المختصر لأبرز القضايا التي اهتمت بالحديث عنها السورة الكريمة ، نرى ما يأتي.

(أ) أن السورة الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة اللَّه ـ تعالى ـ وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى الثناء عليه ـ سبحانه ـ بما هو أهله.

نرى ذلك في مثل قوله ـ تعالى ـ : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِه ...) (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً ...) (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ ...) وفي مثل قوله ـ تعالى ـ : (وهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحْجُوراً وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَه نَسَباً وصِهْراً وكانَ رَبُّكَ قَدِيراً ويَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه ما لا يَنْفَعُهُمْ ولا يَضُرُّهُمْ ، وكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّه ظَهِيراً).

(ب) أن السورة الكريمة زاخرة بالآيات التي تدخل الأنس والتسرية والتسلية والتثبيت على قلب النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بعد أن اتهمه المشركون بما هو برئ منه ، وسخروا منه ومن دعوته ، ووصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، واستنكروا أن يكون النبي من البشر.

نرى هذه التهم الباطلة فيما حكاه اللَّه عنهم في قوله ـ تعالى ـ : (وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراه وأَعانَه عَلَيْه قَوْمٌ آخَرُونَ ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وزُوراً وقالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْه بُكْرَةً وأَصِيلًا. وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْه مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيراً. وإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا ومَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وزادَهُمْ نُفُوراً).

وترى التسلية والتسرية والتثبيت في قوله ـ تعالى ـ : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

(وما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأَسْواقِ وجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ، أَتَصْبِرُونَ ، وكانَ رَبُّكَ بَصِيراً).

(وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْه الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِه فُؤادَكَ ورَتَّلْناه تَرْتِيلًا ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً).

وهكذا نرى السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ودعوته ، وزاخرة ـ أيضا ـ بالرد عليها ردا يبطلها. ويزهقها. ويسلى النبي

١٦٧

صلى اللَّه عليه وسلَّم عما أصابه منهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم.

(ج) أن السورة الكريمة مشتملة على آيات كثيرة ، تبين ما سيكون عليه المشركون يوم القيامة من هم وغم وكرب وحسرة وندامة وسوء مصير ، كما تبين ما أعده اللَّه ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين من عاقبة حسنة ، ومن جنات تجرى من تحتها الأنهار.

فبالنسبة لسوء عاقبة المشركين نرى قوله ـ تعالى ـ : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وزَفِيراً وإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً).

ونرى قوله ـ تعالى ـ : (ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْه يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ، وكانَ الشَّيْطانُ لِلإِنْسانِ خَذُولًا).

وبالنسبة للمؤمنين نرى قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً ومَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا).

ونرى قوله ـ سبحانه ـ : (وعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً. إلى قوله ـ تعالى ـ : خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقاماً).

وهكذا نرى السورة تسوق آيات كثيرة في المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين .. وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ...

هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة الكريمة بتفصيل الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى سنتحدث عنها ـ بإذن اللَّه ـ عند تفسيرنا لآياتها.

وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

القاهرة ـ مدينة نصر

٢١ من شهر ربيع الآخر ١٤٠٥ ه

١٣ من يناير ١٩٨٥ م.

المؤلف

د. محمد سيد طنطاوي

١٦٨

تفسير

قال اللَّه ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللَّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِه لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَه مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيراً (٢) واتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ ولا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا ولا نَفْعاً ولا يَمْلِكُونَ مَوْتاً ولا حَياةً ولا نُشُوراً) (٣)

افتتحت السورة الكريمة بالثناء على اللَّه ـ تعالى ـ ثناء يليق بجلاله وكماله.

ولفظ «تبارك» فعل ماض لا يتصرف. أي : لم يجئ منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل : وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير. وأصلها النماء والزيادة. أي : كثر خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته.

أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت. يقال : برك البعير ، إذا أناخ في موضعه فلزمه وثبت فيه. وكل شيء ثبت ودام فقد برك. أي : ثبت ودام خيره على خلقه.

والفرقان : القرآن. وسمى بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل.

ونذيرا : من الإنذار ، وهو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف.

أي : جل شأن اللَّه ـ تعالى ـ وتكاثرت ودامت خيراته وبركاته ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي نزل القرآن الكريم على عبده محمد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ليكون «للعالمين» أي : للإنس وللجن «نذيرا» أي : منذرا إياهم بسوء المصير إن هم استمروا على كفرهم وشركهم.

وفي التعبير بقوله ـ تعالى ـ (تَبارَكَ) إشعار بكثرة ما يفيضه ـ سبحانه ـ من

١٦٩

خيرات وبركات على عباده ، وأن هذا العطاء ثابت مستقر ، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله ـ عز وجل ـ.

ولم يذكر ـ سبحانه ـ لفظ الجلالة ، واكتفى بالاسم الموصول الذي نزل الفرقان ، لإبراز صلته ـ سبحانه ـ وإظهارها في هذا المقام ، الذي هو مقام إثبات صدق رسالته التي أوحاها إلى نبيه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم.

وعبر ـ سبحانه ـ بـ (نَزَّلَ) بالتضعيف ، لنزول القرآن الكريم مفرقا في أوقات متعددة ، لتثبيت فؤاد النبي صلى اللَّه عليه وسلَّم.

ووصف اللَّه ـ تعالى ـ رسوله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بالعبودية ، وأضافها لذاته ، للتشريف والتكريم والتعظيم. وأن هذه العبودية للَّه ـ تعالى ـ هي ما يتطلع إليه البشر.

واختير الإنذار على التبشير. لأن المقام يقتضى ذلك ، إذ أن المشركين قد لجوا في طغيانهم وتمادوا في كفرهم وضلالهم ، فكان من المناسب تخويفهم من سوء عاقبة ما هم عليه من عناد.

وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلَّى اللَّه عليه وسلَّم للناس جميعا. حيث قال ـ سبحانه ـ : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي : لعالم الإنس وعالم الجن ، وشبيه بها قوله ـ تعالى ـ : (وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١). وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) (٢).

ثم وصف ـ سبحانه ـ ذاته بجملة من الصفات التي توجب له العبادة والطاعة فقال : (الَّذِي لَه مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ) فهو الخالق لهما. وهو المالك لأمرهما ، لا يشاركه في ذلك مشارك.

والجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف. أو بدل من قوله : (الَّذِي نَزَّلَ).

(ولَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) فهو ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك وعن كل ما من شأنه أن يشبه الحوادث.

(ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) بل هو المالك وحده لكل شيء في هذا الوجود.

(وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيراً) أي : وهو ـ سبحانه ـ الذي خلق كل شيء في هذا الوجود خلقا متقنا حكيما بديعا في هيئته ، وفي زمانه ، وفي مكانه ، وفي وظيفته ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته. وصدق اللَّه إذ يقول : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناه بِقَدَرٍ) (٣).

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ١٠٧.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٥٨.

(٣) سورة القمر الآية ٤٩.

١٧٠

فجملة «فقدره تقديرا» بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان وإتقان فهو ـ سبحانه ـ لم يكتف بمجرد إيجاد الشيء من العدم ، وإنما أوجده في تلك الصورة البديعة التي عبر عنها في آية أخرى بقوله : (... صُنْعَ اللَّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...) (١).

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : في الخلق معنى التقدير. فما معنى قوله : (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيراً).

قلت : معناه أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له. مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد ، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير .. (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن المشركين لم يفطنوا إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من تنظيم دقيق ، ومن صنع حكيم يدل على وحدانية اللَّه ـ تعالى ـ وقدرته ، بل إنهم ـ لانطماس بصائرهم ـ عبدوا مخلوقا مثلهم فقال ـ تعالى ـ : (واتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ ...).

والضمير في قوله (واتَّخَذُوا ..) يعود على المشركين المفهوم من قوله (ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أو من المقام.

أي : واتخذ هؤلاء المشركون معبودات باطلة يعبدونها من دون اللَّه ـ عز وجل ـ ، وهذه المعبودات لا تقدر على خلق شيء من الأشياء ، بل هي من مخلوقات اللَّه ـ تعالى ـ.

وعبر عن هذه الآية بضمير العقلاء في قوله (لا يَخْلُقُونَ) جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع ، أو لأن من بين من اتخذوهم آلهة بعض العقلاء كالمسيح والعزير والملائكة ..

وأيضا هؤلاء الذين اتخذهم المشركون آلهة : (لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن غيرهم (ضَرًّا ولا نَفْعاً) فهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، ولا جلب النفع لذواتهم (ولا يَمْلِكُونَ مَوْتاً ولا حَياةً ولا نُشُوراً) أي : ولا يقدرون على إماتة الأحياء. ولا على إحياء الموتى في الدنيا ، ولا على بعثهم ونشرهم في الآخرة.

فأنت ترى أن اللَّه ـ تعالى ـ قد وصف تلك الآلهة المزعومة بسبع صفات ، كل صفة منها كفيلة بسلب صفة الألوهية عنها ، فكيف وقد اجتمعت هذه الصفات السبع فيها؟!!.

__________________

(١) سورة النمل الآية ٨٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٣.

١٧١

إن كل من يشرك مع اللَّه ـ تعالى ـ أحدا في العبادة. لو تدبر هذه الآية وأمثالها من آيات القرآن الكريم لأيقن واعتقد أن المستحق للعبادة والطاعة إنما هو اللَّه رب العالمين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعض الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فقال :

(وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراه وأَعانَه عَلَيْه قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وزُوراً (٤) وقالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْه بُكْرَةً وأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَه الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ إِنَّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦)

والإفك : أسوأ الكذب. يقال : أفك فلان ـ كضرب وعلم ـ أفكا ، إذا قال أشنع الكذب وأقبحه.

والزور في الأصل : تحسين الباطل. مأخوذ من الزور وهو الميل وأطلق على الباطل زور لما فيه من الميل عن الصدق إلى الكذب ، ومن الحق إلى ما يخالفه.

أي : وقال الذين كفروا في شأن القرآن الكريم الذي أنزله اللَّه ـ تعالى ـ على نبيه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم ، ما هذا القرآن إلا كذب وبهتان (افْتَراه) واختلقه محمد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم من عند نفسه ، (وأَعانَه عَلَيْه) أي وأعانه وساعده على هذا الاختلاق (قَوْمٌ آخَرُونَ) من اليهود أو غيرهم ، كعداس ـ مولى حويطب بن عبد العزى ـ ويسار ـ مولى العلاء بن الحضرمي ـ وأبى فكيهة الرومي. وكان هؤلاء من أهل الكتاب الذين أسلموا.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وزُوراً) رد على أقوال الكافرين الفاسدة وجاؤا بمعنى فعلوا ، وقوله : (ظُلْماً) منصوب به. والتنوين للتهويل.

أي : فقد فعل هؤلاء الكافرون بقولهم هذا ظلما عظيما وزورا كبيرا ، حيث وضعوا الباطل موضع الحق ، والكذب موضع الصدق.

ويصح أن يكون قوله : (ظُلْماً) منصوبا بنزع الخافض أي : فقد جاؤوا بظلم عظيم ، وكذب فظيع ، انحرفوا به عن جادة الحق والصواب.

١٧٢

ثم حكى ـ سبحانه ـ مقولة أخرى من مقولاتهم الفاسدة فقال : (وقالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْه بُكْرَةً وأَصِيلًا).

والأساطير : جمع أسطورة بمعنى أكذوبة واكتتبها : أي : أمر غيره بكتابتها له. أو جمعها من بطون كتب السابقين.

أي : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بقولهم السابق في شأن القرآن ، بل أضافوا إلى ذلك قولا آخر أشد شناعة وقبحا ، وهو زعمهم أن هذا القرآن أكاذيب الأولين وخرافاتهم ، أمر الرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم غيره بكتابتها له ، وبجمعها من كتب السابقين (فَهِيَ) أي : هذه الأساطير (تُمْلى عَلَيْه) أي : تلقى عليه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بعد اكتتابها ليحفظها ويقرأها على أصحابه (بُكْرَةً وأَصِيلًا) أي : في الصباح والمساء أي : تملى عليه خفية في الأوقات التي يكون الناس فيها نائمين أو غافلين عن رؤيتهم.

وقد أمر اللَّه ـ تعالى ـ رسوله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بالرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال : (قُلْ أَنْزَلَه الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ ...).

أي : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الذين زعموا أن القرآن أساطير الأولين ، وأنك افتريته من عند نفسك ، وأعانك على هذا الافتراء قوم آخرون ... قل لهم : كذبتم أشنع الكذب وأقبحه ، فأنتم أول من يعلم بأن هذا القرآن له من الحلاوة والطلاوة ، وله من حسن التأثير ما يجعله ـ باعتراف ـ زعمائكم ليس من كلام البشر وإنما الذي أنزله علىّ هو اللَّه ـ تعالى ـ الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : يعلم ما خفى فيهما ويعلم الأسرار جميعها فضلا عن الظواهر.

قال الآلوسي : «قل» لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق : أنزله اللَّه ـ تعالى ـ الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء ، وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بمغيبات مستقبلة ، وأمور مكنونة ، لا يهتدى إليها ولا يوقف ـ إلا بتوفيق اللَّه ـ تعالى ـ العليم الخبير ـ عليها .. (١)

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بما يفتح باب التوبة للتائبين ، وبما يحرضهم على الإيمان والطاعة للَّه رب العالمين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

أي : إنه ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والرحمة ، لمن ترك الكفر وعاد إلى الإيمان ، وترك العصيان وعاد إلى الطاعة.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٨ ص ٢٣٦.

١٧٣

قال الإمام ابن كثير : وقوله : (إِنَّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً) دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن رحمته واسعة ، وأن حمله عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم. وافترائهم. وفجورهم. وبهتهم. وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم ـ سبحانه ـ إلى التوبة والإقلاع عما هم عليه من كفر إلى الإسلام والهدى. كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّه ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وما مِنْ إِله إِلَّا إِله واحِدٌ ، وإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّه ويَسْتَغْفِرُونَه ، واللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ ..) قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود. قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة .. (١)

ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك شبهة ثالثة ، تتعلق بشخصية النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم حيث أنكروا أن يكون الرسول من البشر وأن يكون آكلا للطعام وماشيا في الأسواق ، فقال ـ تعالى ـ :

(وقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ويَمْشِي فِي الأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْه مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَه نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْه كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَه جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) (١١)

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٠٢.

١٧٤

ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآيات أن جماعة من قريش قالوا للنبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إن كنت تريد بما جئت به مالا جمعنا لك المال حتى تكون أغنانا ، وإن كنت تريد ملكا ، جعلناك ملكا علينا ..

فقال صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : «ما أريد شيئا مما تقولون ، ولكن اللَّه تعالى بعثني إليكم رسولا ، وأنزل على كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم. فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر لأمر اللَّه ـ تعالى ـ حتى يحكم بيني وبينكم».

فقالوا : فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك ، فسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا ..

فقال لهم صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : «ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن اللَّه ـ تعالى ـ بعثني بشيرا ونذيرا» فأنزل اللَّه تعالى في قولهم ذلك .. (١).

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وقالُوا) يعود إلى مشركي قريش و «ما» استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه ، وهي مبتدأ ، والجار والمجرور بعدها الخبر. وجملة «يأكل الطعام» حال من الرسول.

أي : أن مشركي قريش لم يكتفوا بقولهم إن محمد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قد افترى القرآن ، وإن القرآن أساطير الأولين. بل أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل السخرية والتهكم والإنكار لرسالته : كيف يكون محمدا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم رسولا ، وشأنه الذين نشاهده بأعيننا. أنه «يأكل الطعام» كما يأكل سائر الناس «ويمشى في الأسواق» أي : ويتردد فيها كما نتردد طلبا للرزق. «لولا أنزل إليه ملك» أي : هلا أنزل إليه ملك يعضده ويساعده ويشهد له بالرسالة «فيكون» هذا الملك «معه نذيرا» أي : منذرا من يخالفه بسوء المصير.

«أو يلقى إليه» أي : إلى الرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم «كنز» أي : مال عظيم يغنيه عن التماس الرزق بالأسواق كسائر الناس ، وأصل الكنز ، جعل المال بعضه على بعض وحفظه. من كنز التمر في الوعاء ، إذا حفظه. «أو تكون له» صلَّى اللَّه عليه وسلَّم «جنة يأكل منها» أي : حديقة مليئة بالأشجار المثمرة ، لكي يأكل منها ونأكل معه من خيرها.

«وقال الظالمون» فضلا عن كل ذلك «إن تتبعون» أي : ما تتبعون «إلا رجلا مسحورا» أي : مغلوبا على عقله ، ومصابا بمرض قد أثر في تصرفاته.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ١٨ ص ٢٣٧.

١٧٥

فأنت ترى أن هؤلاء الظالمين قد اشتمل قولهم الذي حكاه القرآن عنهم ـ على ست قبائح ـ قصدهم من التفوه بها صرف الناس عن اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات : أى : إن صح أنه رسول الله فما باله حاله كحالنا «يأكل الطعام» كما نأكل ، ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى ، اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا ـ أيضا ـ فقالوا : وإن لم يكن مرفودا بملك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق ... وأراد بالظالمين : إياهم بأعيانهم. وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا .. (١).

وقد رد الله ـ تعالى ـ على مقترحاتهم الفاسدة ، بالتهوين من شأنهم وبالتعجيب من تفاهة تفكيرهم ، وبالتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أصابه منهم فقال : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).

أى : انظر ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى هؤلاء الظالمين ، وتعجب من تعنتهم ، وضحالة عقولهم. وسوء أقاويلهم. حيث وصفوك تارة بالسحر. وتارة بالشعر. وتارة بالكهانة. وقد ضلوا عن الطريق المستقيم في كل ما وصفوك به. وبقوا متحيرين في باطلهم ، دون أن يستطيعوا الوصول إلى السبيل الحق. وإلى الصراط المستقيم.

فالآية الكريمة تعجيب من شأنهم ، واستعظام لما نطقوا به. وحكم عليهم بالخيبة والضلال ، وتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالوه في شأنه.

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى هذه التسلية. تسلية أخرى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً).

أى : جل شأن الله تعالى ، وتكاثرت خيراته ، فهو ـ سبحانه ـ الذي ـ إن شاء ـ جعل لك في هذه الدنيا ـ أيها الرسول الكريم ـ خيرا من ذلك الذي اقترحوه من الكنوز والبساتين ، بأن يهبك جنات عظيمة تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، ويهبك قصورا فخمة ضخمة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٥.

١٧٦

ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، لأن ما ادخره لك من عطاء كريم خير وأبقى.

فقوله ـ تعالى ـ : (إِنْ شاءَ) كلام معترض لتقييد عطاء الدنيا ، أى : إن شاء أعطاك في الدنيا أكثر مما اقترحوه ، أما عطاء الآخرة فهو محقق ولا قيد عليه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تفسير لقوله : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) فهو بدل أو عطف بيان.

ثم انتقل ـ سبحانه ـ من الحديث عن قبائحهم المتعلقة بوحدانية الله تعالى ، وبشخصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديث عن رذيلة أخرى من رذائلهم المتكاثرة ، ألا وهي إنكارهم للبعث والحساب ، فقال ـ تعالى ـ : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً). أى ؛ إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا باتخاذ آلهة من دون الله ـ تعالى ـ ، ولم يكتفوا بالسخرية من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل أضافوا إلى ذلك أنهم كذبوا بيوم القيامة وما فيه من بعث وحشر وثواب وعقاب. والحال أننا بقدرتنا وإرادتنا قد أعددنا وهيأنا لمن كذب بهذا اليوم سعيرا. أى : نارا عظيمة شديدة الاشتعال.

وقال ـ سبحانه ـ : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ) ولم يقل : لمن كذب بها. للمبالغة في التشنيع عليهم ، والزجر لهم ، إذ أن التكذيب بها كفر يستحق صاحبه الخلود في النار المستعرة.

ثم صور ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يعرضون على النار ، وهلعهم عند ما يلقون فيها ، كما بين ـ سبحانه ـ حال المتقين وما أعد لهم من نعيم مقيم ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

١٧٧

وقوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ ..). الضمير فيه يعود إلى «سعيرا» والتغيظ في الأصل : إظهار الغيظ ، وهو شدة الغضب الكامن في القلب.

والزفير : ترديد النفس من شدة الغم والتعب حتى تنتفخ منه الضلوع ، فإذا ما اشتد كان له صوت مسموع.

والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الذين كذبوا بالساعة ، قد اعتدنا لهم بسبب هذا التكذيب نارا مستعرة ، إذا رأتهم هذه النار من مكان بعيد عنها. سمعوا لها غليانا كصوت من اشتد غضبه ، وسمعوا لها زفيرا. أى : صوتا مترددا كأنها تناديهم به.

فالآية الكريمة تصور غيظ النار من هؤلاء المكذبين تصويرا مرعبا ، يزلزل النفوس ويخيف القلوب.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يزيد هذه الصورة رعبا وخوفا ، لأنها لم تنتظرهم إلى أن يصلوا إليها ، بل هي بمجرد أن تراهم من مكان بعيد ـ والعياذ بالله ـ يسمعون تغيظها وزفيرها وغضبها عليهم ، وفرحها بإلقائهم فيها.

قال الآلوسى : وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر ، وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد ، إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار ، فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية ، وكقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (١). وقوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري : «شكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضى بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف ..» (٢).

ثم حكى ـ سبحانه ـ حالهم عند ما يستقرون فيها فقال : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً).

أى : أن النار إن رأت هؤلاء المجرمين سمعوا لها ما يزعجهم ويفزعهم ، (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) أى : وإذا ما طرحوا فيها في مكان ضيق منها ، حالة كونهم (مُقَرَّنِينَ) أى : مقيدين بالأغلال بعضهم مع بعض أو مع الشياطين الذين أضلوهم.

(دَعَوْا هُنالِكَ) أى : تنادوا هنالك في ذلك المكان بقولهم (ثُبُوراً) أى : هلاكا وخسرانا يقال فلان ثبره الله ـ تعالى ـ أى : أهلكه إهلاكا لا قيام له منه.

__________________

(١) سورة ق الآية ٣٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢٤٢.

١٧٨

أى : يقولون عند ما يلقون فيها ، يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ، فإنك أرحم بنا مما نحن فيه.

ووصف ـ سبحانه ـ المكان الذي يلقون فيه بالضيق ، للإشارة إلى زيادة كربهم ، فإن ضيق المكان يعجزهم عن التفلت والتململ. وهنا يسمعون من يقول لهم على سبيل الزجر والسخرية المريرة ، (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً). أى : اتركوا اليوم طلب الهلاك الواحد. واطلبوا هلاكا كثيرا لا غاية لكثرته ، ولا منتهى لنهايته.

قال صاحب الكشاف : قوله : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أى : أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم (١).

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبين لهم ما أعده ـ سبحانه ـ لعباده المتقين ، فقال : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً ، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ. كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً).

واسم الإشارة. ذلك يعود إلى ما ذكر من العذاب المهين لهم والاستفهام للتقريع والتهكم.

والعائد إلى الموصول محذوف ، أى : وعدها الله ـ تعالى ـ للمتقين ، وإضافته الجنة إلى الخلد للمدح وزيادة السرور للذين وعدهم الله ـ تعالى ـ بها.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين ، أذلك العذاب المهين الذي أعد لكم خير ، أم جنة الخلد التي وعدها الله ـ تعالى ـ للمتقين ، والتي (كانَتْ لَهُمْ) بفضل الله وكرمه (جَزاءً) على أعمالهم الصالحة (وَمَصِيراً) طيبا يصيرون إليه.

(لَهُمْ فِيها) في تلك الجنة (ما يَشاؤُنَ) أى : ما يشاءونه من خيرات وملذات حالة كونهم (خالِدِينَ) فيها خلودا أبديا.

(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أى : كان ذلك العطاء الكريم الذي تفضلنا به على عبادنا المتقين ووعدناهم به ، من حقهم أن يسألونا تحقيقه لعظمه وسمو منزلته ، كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنهم في آية أخرى (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٧.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٩٤.

١٧٩

وعلى هذا المعنى يكون قوله (مَسْؤُلاً) بمعنى جديرا أن يسأل عنه المؤمنون لعظم شأنه.

ويجوز أن يكون السائلون عنه الملائكة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.). (١).

ويرى بعضهم أن المعنى. كان ذلك العطاء للمؤمنين وعدا منا لهم ، ونحن بفضلنا وكرمنا سننفذ هذا الوعد ، قال ـ تعالى ـ : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ.). (٢).

هذا ، وقد تكلم العلماء هنا عن المراد بلفظ «خير» في قوله ـ تعالى ـ (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) وقالوا : إن هذا اللفظ صيغة تفضيل ، والمفضل عليه هنا وهو العذاب لا خير فيه البته ، فكيف عبر ـ سبحانه ـ بلفظ خير؟

وقد أجابوا عن ذلك بأن المفاضلة هنا غير مقصودة ، وإنما المقصود هو التهكم بهؤلاء الكافرين الذين آثروا الضلالة على الهداية ، واستحبوا الكفر على الإيمان.

قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ : و «خير» هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابلة. كقول الشاعر : فشر كما لخير كما الفداء .. وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة. وكقوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (٣).

ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن حالهم عند ما يعرضون هم وآلهتهم للحشر والحساب يوم القيامة ، وقد وقفوا جميعا أمام ربهم للسؤال والجواب ، قال ـ تعالى ـ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ

__________________

(١) سورة غافر الآية ٨.

(٢) سورة الروم الآية ٦.

(٣) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٤٨٦.

١٨٠