التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

تعالى ـ وقدرته ، أتبعت ذلك بالحديث عن طائفة المنافقين ، الذين لم ينتفعوا بآيات الله ، ولم يتأدبوا بأدب المؤمنين .. فقال ـ تعالى ـ :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

وقوله ـ سبحانه ـ : (مُبَيِّناتٍ) قرأها بعض القراء السبعة ، بفتح الياء المشددة ـ

١٤١

بصيغة اسم المفعول ـ فيكون المعنى : بالله لقد أنزلنا على عبدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات بيناها ووضحناها ، وجعلناها خالية من اللبس والغموض.

وقرأها الباقون بكسر الياء المشددة ـ بصيغة اسم الفاعل ـ فيكون المعنى : لقد أنزلنا آيات مبينات للأحكام والحدود والآداب التي شرعها الله ـ تعالى ـ فعلى هذه القراءة يكون المفعول محذوفا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أى : والله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه يهدى من يشاء هدايته إلى الصراط المستقيم ، الذي هو طريق الإسلام. وسبيل الحق والرشاد.

والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) يعود على طائفة من الذين لم يهدهم ـ سبحانه ـ إلى الصراط المستقيم ، وهم المنافقون.

أى : أن هؤلاء المنافقين يقولون بألسنتهم فقط : آمنا بالله وبالرسول ، وأطعنا الله والرسول في كل أمر أو نهى.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم كاذبون في دعواهم الإيمان والطاعة فقال : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

أى : يدعون أنهم يؤمنون بالله وبالرسول ، ويطيعون أحكامهما ، وحالهم أن عددا كبيرا منهم يعرضون عما يقتضيه الإيمان والطاعة ، من أدب مع الله ـ تعالى ـ ومع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن انقياد لأحكام الإسلام.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) نفى لدعواهم الإيمان ، وتوبيخ لهم على أقوالهم التي يكذبها واقعهم ، أى : وما أولئك المنافقون الذي يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ، بالمؤمنين على الحقيقة ، لأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ولأنهم لو كانوا يؤمنون حقا. لما أعرضوا عن أحكام الله ـ تعالى ـ ، وعن طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة أخرى من أحوالهم الذميمة فقال : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

أى : أن هؤلاء المنافقين من صفاتهم ـ أيضا ـ أنهم إذا ما دعاهم داع إلى أن يجعلوا شريعة الله ـ تعالى ـ هي الحكم بينهم وبين خصومهم ، إذا فريق كبير منهم يعرض عن هذا الداعي ، ويسرع إلى التحاكم إلى الطاغوت. كما في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ

١٤٢

يَكْفُرُوا بِهِ ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً.). (١).

والتعبير عنهم بقوله «إذا فريق منهم معرضون» إشعار بأنهم بمجرد دعوتهم إلى الحق ، ينفرون من الداعي نفورا شديدا بدون تدبر أو تمهل ، لأنهم يعلمون علم اليقين أن الحق عليهم لا لهم ، أما إن لاح لهم أن الحق لهم لا عليهم ، فإنهم يهرولون نحو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلبون حكمه ، ولذا قال ـ تعالى ـ (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ ، يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ).

والإذعان : الانقياد والطاعة ، يقال : أذعن فلان لفلان ، إذا انقاد له وخضع لأمره.

أى : وإن يكن لهؤلاء المنافقين الحق على غيرهم ، يأتوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منقادين طائعين راضين بحكمه ، لأنهم واثقون من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن يبخسهم شيئا من حقوقهم لا يأتون إليه مذعنين في كل الأحوال ، وإنما يأتون إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذعنين لحكمه عند ما يكونون أصحاب حق في قضية من القضايا الدنيوية التي تحصل بينهم وبين غيرهم.

ثم يعقب القرآن الكريم على تصرفاتهم القبيحة بإثبات نفاقهم ، وبالتعجيب من ترددهم وريبهم ، وباستنكار ما هم عليه من خلق ذميم فيقول : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أَمِ ارْتابُوا ، أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ.).؟!

وقوله : (يَحِيفَ) من الحيف ، وهو الميل إلى أحد الجانبين ، يقال : حاف فلان في قضائه ، إذا جار وظلم.

أى : ما بال هؤلاء المنافقين يعرضون عن أحكام الإسلام ولا يقبلون على حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إذا كانت لهم حقوق عند غيرهم أسبب ذلك أنهم مرضى القلوب بالنفاق وضعف الإيمان؟ أم سبب ذلك أنهم يشكون في صدق نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ أم سببه أنهم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟

لا شك أن هذه الأسباب كلها قد امتلأت بها قلوبهم الفاسدة ، وفضلا عن ذلك فهناك سبب أشد وأعظم ، وهو حرصهم على الظلم ووضع الأمور في غير مواضعها ، ولذا ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

أى : بل أولئك المنافقون هم الظالمون لأنفسهم ولغيرهم ، حيث وضعوا الأمور في غير موضعها ، وآثروا الغي على الرشد ، والكفر على الإيمان.

قال الجمل : وقوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.). إلخ استنكار واستقباح لإعراضهم المذكور ، وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم ، والاستفهام للإنكار لكن

__________________

(١) سورة النساء الآية ٦٠.

١٤٣

النفي المستفاد به لا يتسلط على هذه الأمور الثلاثة ، لأنها واقعة لهم ، وقائمة بهم ، والواقع لا ينفى ، وإنما هو متسلط على منشئتها وسببيتها لإعراضهم .. (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما هو واجب على المؤمنين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، أن يقولوا سمعنا وأطعنا.

ولفظ «قول» منصوب على أنه خبر «كان» واسمها أن المصدرية مع ما في حيزها ، وهو : أن يقولوا سمعنا وأطعنا.

والمعنى : أن من صفات المؤمنين الصادقين ، أنهم إذا ما دعوا إلى حكم شريعة الله ـ تعالى ـ التي أوحاها إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقولوا عند ما يدعون لذلك : سمعنا وأطعنا ، بدون تردد أو تباطؤ ..

«وأولئك» الذين يفعلون ذلك «هم المفلحون» فلاحا تاما في الدنيا والآخرة.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يترتب على طاعة الله ورسوله فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ) ـ تعالى ـ في السر والعلن (وَيَتَّقْهِ) في كل الأحوال (فَأُولئِكَ) الذين يفعلون ذلك (هُمُ الْفائِزُونَ) بالنعيم المقيم ، والرضوان العظيم.

ثم عادت السورة الكريمة إلى استكمال الحديث عن المنافقين ، فقال ـ تعالى ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ).

والجهد : الوسع والطاقة ، من جهد نفسه يجهدها ـ بفتح الهاء فيهما ـ إذا اجتهد في الشيء ، وبذل فيه أقصى وسعه.

أى : وأقسم هؤلاء المنافقون بالأيمان الموثقة بأشد وسائل التوثيق ، بأنهم متى أمرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج معه للجهاد ليخرجن سراعا تلبية لأمره.

وهنا يأمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم ردا كله تهكم وسخرية بهم ، بسبب كذبهم فيقول : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل السخرية والزجر ، لا تقسموا على ما تقولون ، فإن طاعتكم معروف أمرها ، ومفروغ منها ، فهي طاعة باللسان فقط. أما الفعل فيكذبها.

وذلك كما تقول لمن اشتهر بالكذب : لا تحلف لي على صدقك ، فأمرك معروف لا يحتاج إلى قسم أو دليل.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٣ ص ٢٣٣.

١٤٤

ثم عقب ـ سبحانه ـ على هذه السخرية منهم بقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أى : إن الله ـ تعالى ـ مطلع اطلاعا تاما على ظواهركم وبواطنكم فلا يحتاج منكم إلى قسم أو توكيد لأقوالكم ، وقد علم ـ سبحانه ـ أنكم كاذبون في حلفكم.

ثم يأمر ـ سبحانه ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرشدهم إلى الطاعة الصادقة. لا طاعتهم الكاذبة فيقول : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) طاعة ظاهرة وباطنة ، طاعة مصحوبة بصدق الاعتقاد ، وكمال الإخلاص ، فإن هذه الطاعة هي المقبولة منكم.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) تحذير لهم من التمادي في نفاقهم وكذبهم.

أى : مرهم ـ أيها الرسول الكريم ـ بالطاعة الصادقة ، فإن توليتم ـ أيها المنافقون ـ عن دعوة الحق وأعرضتم عن الصراط المستقيم ، فإن الرسول الكريم ليس عليه سوى ما حملناه إياه. وهو التبليغ والإنذار والتبشير ، وأما أنتم فعليكم ما حملتم ، أى : ما أمرتم به من الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قد فعل ما كلفناه به ، أما أنتم فحذار أن تستمروا في نفاقكم.

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى طريق الفوز والفلاح فقال : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا). أى : وإن تطيعوا أيها المنافقون ـ رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه ، تهتدوا إلى الحق ، وتظفروا بالسعادة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) تذييل مقرر لما قبله. من أن مغبة الإعراض عائدة عليهم. كما أن فائدة الطاعة راجعة لهم.

أى : وما على الرسول الذي أرسلناه لإرشادكم إلى ما ينفعكم إلا التبليغ الواضح ، والنصح الخالص ، والتوجيه الحكيم.

وبذلك ترى هذه الآيات الكريمة قد كشفت عن رذائل المنافقين ، وحذرتهم من التمادي في نفاقهم ، وأرشدتهم إلى ما يفيدهم ويسعدهم ، كما وضحت ما يجب أن يكون عليه المؤمنون الصادقون من طاعة لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

ثم تركت السورة الكريمة الحديث عن المنافقين ، لتسوق وعد الله الذي لا يتخلف للمؤمنين الصادقين ، قال ـ تعالى ـ :

١٤٥

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٥٧)

قال الإمام ابن كثير : «هذا وعد من الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أى : أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك .. فإنه لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى فتح عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب ، ولهذا ثبت في الصحيح عن رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها ...» (١).

وفي تصدير الآية الكريمة بقوله ـ تعالى ـ : (وَعَدَ اللهُ.). بشارة عظيمة للمؤمنين ، بتحقيق وعده ـ تعالى ـ ، إذ وعد الله لا يتخلف. كما قال ـ تعالى ـ : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، ومن بيانية ، والآية الكريمة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ..).

أى : وعد الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه ، الذين صدقوا في إيمانهم من عباده ، والذين

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٨٣.

(٢) سورة الروم الآية ٦.

١٤٦

جمعوا مع الإيمان الصادق ، العمل الصالح ، وعدهم ليستخلفهم في الأرض ، أى : ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف أصحاب العزة والسلطان والغلبة ، بدلا من أعدائهم الكفار.

قال الآلوسى : واللام في قوله «ليستخلفنهم» واقعة في جواب القسم المحذوف. ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب. أى : وعد الله الذين آمنوا استخلافهم ، وأقسم ليستخلفنهم .. و «ما» في قوله «كما استخلف» مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف. وقع صفة لمصدر محذوف ، أى : ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه «الذين من قبلهم» من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله ـ تعالى ـ في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين (١).

هذا هو الوعد الأول للمؤمنين : أن يجعلهم ـ سبحانه ـ خلفاءه في الأرض. كما جعل عباده الصالحين من قبلهم خلفاءه ، وأورثهم أرض الكفار وديارهم.

وأما الوعد الثاني فيتجلى في قوله ـ تعالى ـ (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ).

والتمكين : التثبيت والتوطيد والتمليك. يقال : تمكن فلان من الشيء ، إذا حازه وقدر عليه.

أى : وعد الله المؤمنين بأن يجعلهم خلفاءه في أرضه ، وبأن يجعل دينهم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لهم. ثابتا في القلوب ، راسخا في النفوس. باسطا سلطانه على أعدائه ، له الكلمة العليا في هذه الحياة ، ولمخالفيه الكلمة السفلى.

وأما الوعد الثالث فهو قوله ـ سبحانه ـ : «وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا».

أى : وعدهم الله ـ تعالى ـ بالاستخلاف في الأرض ، وبتمكين دينهم. وبأن يجعل لهم بدلا من الخوف الذي كانوا يعيشون فيه ، أمنا واطمئنانا ، وراحة في البال ، وهدوءا في الحال.

قال الربيع بن أنس عن أبى العالية في هذه الآية : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين. يدعون إلى الله وحده .. وهم خائفون ، فلما قدموا المدينة أمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين ، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح. فصبروا على ذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله : «أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن تغبروا ـ أى : لن تمكثوا ـ إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢٠٣.

١٤٧

وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح .. (١).

ولكن هذا الاستخلاف والتمكين والأمان متى يتحقق منه ـ سبحانه ـ لعباده؟

لقد بين الله ـ تعالى ـ الطريق إلى تحققه فقال (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) فهذه الجملة الكريمة يصح أن تكون مستأنفة ، أى : جوابا لسؤال تقديره متى يتحقق هذا الاستخلاف والتمكين والأمان بعد الخوف للمؤمنين؟ فكان الجواب : يعبدونني عبادة خالصة تامة مستكملة لكل شروطها وآدابها وأركانها ، دون أن يشركوا معى في هذه العبادة أحدا كائنا من كان.

كما يصح أن تكون حالا من الذين آمنوا ، فيكون المعنى : وعد الله ـ تعالى ـ عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بالاستخلاف في الأرض ، وبتمكين دينهم فيها. وبتبديل خوفهم أمنا ، في حال عبادتهم له ـ سبحانه ـ عبادة لا يشوبها شرك أو رياء أو نقص.

وروى الإمام أحمد عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب» (٢).

ذلك هو وعد الله ـ تعالى ـ لعباده الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ، وأدوا ما أمرهم به ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، أما الذين انحرفوا عن طريق الحق. وجحدوا نعمه ـ سبحانه ـ عليهم ، فقد بين عاقبتهم فقال : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

أى : ومن كفر بعد كل هذه النعم التي وعدت بها عبادي الصالحين ، واستعمل هذه النعم في غير ما خلقت له ، فأولئك الكافرون الجاحدون هم الفاسقون عن أمرى ، الخارجون عن وعدى ، الناكبون عن صراطي.

وهكذا نرى الآية الكريمة قد جمعت أطراف الحكمة من كل جوانبها ، فقد رغبت المؤمنين في إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ بأسمى ألوان الترغيب ، حيث بينت لهم أن هذه العبادة سيترتب عليها الاستخلاف والتمكين والأمان. ثم رهبت من الكفر والجحود ، وبينت أن عاقبتهما الفسوق والحرمان من نعم الله ـ تعالى ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أهم أركان هذه العبادة فقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٨٥.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٨٧.

١٤٨

أى : واظبوا ـ أيها المؤمنون ـ على إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وأدوا الصلاة في أوقاتها بخشوع وإحسان ، وقدموا الزكاة للمستحقين لها ، وأطيعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة تامة ، لعلكم بسبب هذه العبادة والطاعة ، تنالون رحمة الله ـ تعالى ـ ورضوانه.

ثم ثبت الله ـ تعالى ـ المؤمنين ، وهون من شأن أعدائهم لكي لا يرهبهم قوتهم فقال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

أى : لا تظنن ـ أيها الرسول الكريم أنت ومن معك من المؤمنين ـ أن الذين كفروا مهما أوتوا من قوة وبسطة في المال ، في إمكانهم أن يعجزونا عن إهلاكهم واستئصالهم وقطع دابرهم ، فإن قوتنا لا يعجزها شيء وهم في قبضتنا سواء أكانوا في الأرض التي يعيشون عليها أم في غيرها ، واعلم أن «مأواهم» في الآخرة «النار ولبئس المصير» هذه النار التي هي مستقرهم ومسكنهم.

فالآية الكريمة بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة ، بعد بيان ما أعده الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة من استخلاف وتمكين وأمان ورحمة للمؤمنين.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول الأول ، لتحسبن ، وقوله (مُعْجِزِينَ) هو المفعول الثاني.

قال القرطبي : «وقرأ ابن عامر وحمزة «يحسبن» بالياء ، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين ..» (١).

أى : أن «الذين كفروا» في محل رفع فاعل يحسبن ، والمفعول الأول محذوف تقديره : أنفسهم. وقوله (مُعْجِزِينَ) هو المفعول الثاني.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جواب لقسم مقدر. والمخصوص بالذم محذوف ، أى : وبالله «لبئس المصير» هي. أى : النار التي يستقرون فيها.

* * *

وبعد هذه التوجيهات الحكيمة التي تتعلق ببيان أعمال المؤمنين ، وأعمال الكافرين ، وببيان جانب من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، وببيان أقوال المنافقين التي تخالف أفعالهم ، وببيان ما وعد الله ـ تعالى ـ به المؤمنين من خيرات ..

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٣٠١.

١٤٩

بعد كل ذلك ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عما افتتحت به من الحديث عن الأحكام والآداب التي شرعها الله ـ تعالى ـ ، وأمر المؤمنين بالتمسك بها فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٦٠)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ..). روايات منها : أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد ، دخل عليها غلام كبير لها ، في وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :

ومنها ما روى من أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث في وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له

١٥٠

مدلج ، إلى عمر بن الخطاب ، فدق الغلام الباب على عمر ـ وكان نائما ـ فاستيقظ ، وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر : لوددت أن الله ـ تعالى ـ نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله ـ تعالى ـ (١).

وقد صدرت الآية الكريمة بندائهم بصفة الإيمان. لحضهم على الامتثال لما اشتملت عليه من آداب قويمة. وتوجيهات حكيمة.

واللام في قوله (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) هي لام الأمر والمراد بما ملكت أيمانهم : الأرقاء سواء أكانوا ذكورا أم إناثا ، ويدخل فيهم الخدم ومن على شاكلتهم.

والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم. الأطفال الذين في سن الصبا ولم يصلوا إلى سن البلوغ إلا أنهم يعرفون معنى العورة ويميزون بين ما يصح الاطلاع عليه وما لا يصح.

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال ، والنساء ، عليكم أن تمنعوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ ، من الدخول عليكم في مضاجعكم بغير إذن في هذه الأوقات الثلاثة ، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه.

فقوله ـ تعالى ـ : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) تحديد للأوقات المنهي عن الدخول فيها بدون استئذان ، أى : ثلاث أوقات في اليوم والليلة.

ثم بين ـ سبحانه ـ هذه الأوقات فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وذلك لأن هذا الوقت يقوم فيه الإنسان من النوم عادة ، وقد يكون متخففا من ثيابه. ولا يجب أن يراه أحد وهو على تلك الحالة.

(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أى : وحين تخلعون ثيابكم وتطرحونها في وقت الظهيرة ، عند شدة الحر ، لأجل التخفيف منها وارتداء ثياب أخرى أرق من تلك الثياب ، طلبا للراحة واستعدادا للنوم.

(وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأن هذا الوقت يتجرد فيه الإنسان من ثياب اليقظة ، ليتخذ ثيابا أخرى للنوم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) خبر مبتدأ محذوف ، والعورات : جمع عورة.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢١٠.

١٥١

وتطلق على ما يجب ستره من الإنسان ، وهي ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة من العار ، وذلك لأن المظهر لها يلحقه العار والذم بسبب ذلك.

أى : هذه الأوقات من ثلاث عورات كائنة لكم ـ فعليكم أن تعودوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم. على الاستئذان عند إرادة الدخول عليكم فيها ، لأنها أوقات يغلب فيها اختلاء الرجل بأهله ، كما يغلب فيها التخفف من الثياب ، وانكشاف ما يجب ستره.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) بيان لمظهر من مظاهر التيسير في شريعة الإسلام.

أى : وليس عليكم أيها المؤمنون والمؤمنات ، ولا عليهم ، أى : أرقائكم وصبيانكم «جناح» أى : حرج أو إثم في الدخول بدون استئذان «بعدهن» أى : بعد كل وقت من تلك الأوقات الثلاثة.

وقوله ـ تعالى ـ (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) تعليل لبيان العذر المرخص في ترك الاستئذان في غير الأوقات التي حددها الله ـ تعالى ـ.

أى : لا حرج في دخول مماليككم وصبيانكم عليكم في غير هذه الأوقات بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم في التردد عليكم ، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح في كثير من الأوقات.

وبذلك يجمع الإسلام في تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة ، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أى : مثل هذا البيان الحكيم يبين الله ـ تعالى ـ لكم الآيات التي توصلكم متى تمسكتم بها ، إلى طريق الخير والسعادة ، والله ـ عزوجل ـ عليم بما يصلح عباده ، حكيم في كل ما يأمر به ، أو ينهى عنه.

وهكذا تسوق لنا الآية الكريمة ألوانا من الأدب السامي ، الذي يجعل الكبار والصغار يعيشون عيشة فاضلة ، عامرة بالطهر والعفاف والحياء ، والنقاء من كل ما يجرح الشعور ، ومن كل تصور يتنافى مع الخلق الكريم.

ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن حكم البالغين بالنسبة للاستئذان ، بعد حديثها عن حكم غير البالغين بالنسبة لذلك فقال ـ تعالى ـ (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...).

١٥٢

أى : وإذا بلغ الأطفال منكم ـ أيها المؤمنون والمؤمنات ـ سن الاحتلام والبلوغ الذي يصلح معه الزواج ، فعليهم أن يستأذنوا في الدخول عليكم في كل الأوقات ، كما استأذن الذين هم أكبر منهم في السن عند ما بلغوا سن الاحتلام ، فقد أمر ـ سبحانه ـ أمرا عاما بذلك فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ...). قال صاحب الكشاف : «والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حد الطفولة ، بأن يحتلموا ، أو يبلغوا السن التي يحكم عليهم فيها بالبلوغ ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما هو الحال بالنسبة للرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.

وهذا مما الناس منه في غفلة ، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة. وعن ابن مسعود : «عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم ..» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ عليم بأحوال النفوس وبما يصلحها من آداب ، حكيم في كل ما يشرعه من أحكام.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء اللاتي بلغن سن اليأس ، فقال : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ..).

والقواعد : جمع قاعد ـ بغير تاء ـ لاختصاص هذه الكلمة بالنساء كحائض وطامث.

وقالوا : سميت المرأة العجوز بذلك ، لأنها تكثر القعود لكبر سنها.

أى : والنساء العجائز اللاتي قعدن عن الولد أو عن الحيض ، ولا يطمعن في الزواج لكبرهن ، فليس على هؤلاء النساء حرج أن ينزعن عنهن ثيابهن الظاهرة ، والتي لا يفضى نزعها إلى كشف عورة ، أو إظهار زينة أمر الله ـ تعالى ـ بسترها.

فقوله ـ سبحانه ـ : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) بيان لمظهر من مظاهر التيسير في شريعة الإسلام ، لأن المرأة العجوز إذا تخففت من بعض ثيابها التي لا يفضى التخفف منها إلى فتنة أو إلى كشف عورة .. فلا بأس بذلك ، لأنها ـ في العادة ـ لا تتطلع النفوس إليها ، وذلك بأن تخلع القناع الذي يكون فوق الخمار ، والرداء الذي يكون فوق الثياب.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٥٤.

١٥٣

وقوله ـ تعالى ـ (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) حال. وأصل التبرج : التكلف والتصنع في إظهار ما يخفى ، من قولهم سفينة بارجة أى : لا غطاء عليها.

والمراد به هنا : إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال الذين لا يصح لهم الاطلاع عليها.

أى : لا حرج على النساء القواعد من خلع ثيابهن الظاهرة ، حال كونهن غير مظهرات للزينة التي أمرهن الله ـ تعالى ـ بإخفائها ، وغير قاصدات بهذا الخلع لثيابهن الظاهرة التبرج وكشف ما أمر الله ـ تعالى ـ بستره.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أى : وأن يبقين ثيابهن الظاهرة عليهن بدون خلع ، خير لهن ، وأطهر لقلوبهن ، وأبعد عن التهمة ، وأنفى لسوء الظن بهن.

وسمى الله ـ تعالى ـ إبقاء ثيابهن عليهن استعفافا. أى : طلبا للعفة ، للإشعار بأن الاحتشام والتستر .. خير للمرأة حتى ولو كانت من القواعد.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أى : سميع لكل ما من شأنه أن يسمع ، عليم بأحوال النفوس وحركاتها وسكناتها.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد بينت للناس أقوم المناهج ، وأسمى الآداب ، وأفضل الأحكام التي باتباعها يسعد الأفراد والجماعات.

* * *

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن أحكام أخرى فيها ما فيها من حسن للتنظيم في العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ، وفيها ما فيها من اليسر والسماحة ، فقال ـ تعالى ـ :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ

١٥٤

أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٦١)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما روى عن ابن عباس أنه قال : لما أنزل الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ..). تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والعمى والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة ، والمريض يضعف عن التناول ولا يستوفى من الطعام حقه ، فأنزل الله هذه الآية.

وقيل نزلت ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام ، فإذا لم يكن عنده شيء ذهب بهم إلى بيت أبيه ، أو بيت أمه ، أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك ، ويقولون ذهب بنا إلى غير بيته ، فأنزل الله هذه الآية.

وقيل نزلت رخصة للأعمى والأعرج والمريض عن التخلف عن الجهاد ..

ويبدو لنا أن الآية الكريمة نزلت لتعليم المؤمنين ألوانا متعددة من الآداب التي شرعها الله ـ تعالى ـ لهم ، ويسرها لهم بفضله وإحسانه ، حتى يعلموا أن شريعته ـ سبحانه ـ مبنية على اليسر لا على العسر ، وعلى التخفيف ورفع الحرج ، لا على التشديد والتضييق.

والحرج : الضيق ومنه الحرجة للشجر الملتف المتكاثف بعضه ببعض ، حتى ليصعب على الشخص أن يمشى فيه. والمراد به هنا : الإثم.

والمعنى : ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج أو إثم في الأكل من بيوت هؤلاء الذين سماهم الله ـ تعالى ـ.

كذلك ليس عليكم حرج أو إثم ـ أيها المؤمنون ـ في أن تأكلوا أنتم ومن معكم (مِنْ بُيُوتِكُمْ) التي هي ملك لكم.

١٥٥

وذكر ـ سبحانه ـ بيوتهم هنا مع أنه من المعروف أنه لا حرج في أن يأكل الإنسان من بيته ، للإشعار بأن أكلهم من بيوت الذين سيذكرهم ـ سبحانه ـ بعد ذلك من الآباء والأمهات والأقارب ، يتساوى في نفى الحرج مع أكلهم من بيوتهم أى أن أكل الناس من بيوتهم لم يذكر هنا لنفى حرج كان متوهما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وأصدقائهم ، وبين أكلهم من بيوتهم.

وبعضهم يرى أن المراد بقوله (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أى : من بيوت زوجاتهم وأولادهم.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بيوتا أخرى لا حرج عليهم في الأكل منها فقال : (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ ، أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أى : أو البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أصحابها ، كأن تكونوا وكلاء عنهم في التصرف في أموالهم. ومفاتح : جمع مفتح ـ بكسر الميم ـ وهو آلة الفتح وملك هذه المفاتح : كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه.

وقوله (أَوْ صَدِيقِكُمْ) معطوف على ما قبله والصديق هو من يصدق في مودتك ، وتصدق أنت في مودته ، وهو اسم جنس يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا : الجمع. أى : ولا حرج عليكم ـ أيضا ـ في الأكل من بيوت أصدقائكم.

فالآية الكريمة قد أجازت الأكل من هذه البيوت المذكورة ، وهي أحد عشر بيتا ـ وإن لم يكن فيها أصحابها ، مادام الآكل قد علم رضا صاحب البيت بذلك ، وأن صاحب البيت ، لا يكره هذا ولا يتضرر منه ، استنادا إلى القواعد العامة في الشريعة ، والتي منها : «لا ضرر ولا ضرار» وأنه «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما معنى (أَوْ صَدِيقِكُمْ) قلت : معناه : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحدا وجمعا ، وكذلك الخليط والقطين والعدو.

ويحكى عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا جماعة من أصدقائه قد استلوا سلالا من تحت سريره فيها أطايب الأطعمة. وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، هكذا وجدناهم. يريد أكابر الصحابة ومن لقيهم من البدريين.

وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه. فيأخذ منه ما شاء ، فإذا حضر مولاها فأخبرته ، أعتقها سرورا بذلك (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٥٧.

١٥٦

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) بيان لنوع آخر من أنواع السماحة في شريعة الإسلام.

والأشتات : جمع شتّ ـ بفتح الشين ـ يقال : شت الأمر يشت شتا وشتاتا ، إذا تفرق. ويقال : هذا أمر شت ، أى : متفرق.

أى : ليس عليكم ـ أيها المؤمنون ـ حرج أو إثم في أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين ، وقد كان بعضهم من عاداته أن لا يأكل منفردا ، فإن لم يجد من يأكل معه عاف الطعام ، فرفع الله ـ تعالى ـ هذا الحرج المتكلف ، ورد الأمر إلى ما تقتضيه شريعة الإسلام من بساطة ويسر وعدم تكلف ، فأباح لهم أن يأكلوا فرادى ومجتمعين.

فالجملة الكريمة بيان للحالة التي يجوز عليها الأكل ، بعد بيان البيوت التي يجوز الأكل منها والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على أحكم الأداء للترتيب اللفظي والموضوعى ، فقد بدأت ببيت الإنسان نفسه ، ثم بيوت الآباء ، فالأمهات ، فالإخوة ، فالأخوات ، فالأقارب ، فالبيوت التي يملكون التصرف فيها ؛ فبيوت الأصدقاء ...

ثم لم تكتف بذلك ، وإنما بينت الحالة التي يباح الأكل منها ...

ثم بعد ذلك علمتنا آداب دخول البيوت التي ندخلها للأكل أو لغيره ، فقال ـ تعالى ـ : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً).

والمراد بأنفسكم هنا : أهل تلك البيوت التي يدخلونها ، لأنهم بمنزلة أنفسهم في شدة المودة والمحبة والألفة ، و «تحية» منصوب بفعل مقدر أى : فحيوا تحية.

أى : فإذا دخلتم أيها المؤمنون والمؤمنات بيوتا فسلموا على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم ، وحيوهم تحية ثابتة من عند الله ، مباركة طيبة ، أى مستتبعة لزيادة البركات والخيرات ولزيادة المحبة والمودة.

ووصف ـ سبحانه ـ هذه التحية بالبركة والطيب ، لأنها دعوة مؤمن لمؤمن وكلاهما يرجو بها من الله ـ تعالى ـ زيادة الخير وطيب الرزق.

وتحية الإسلام أن يقول المسلم لأخيه المسلم : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

أى : مثل هذا البيان القويم ، يبين الله ـ تعالى ـ لكم الآيات المحكمة ، والإرشادات

١٥٧

النافعة ، لكي تعقلوا ما اشتملت عليه من هدايات ، توصلكم متى انتفعتم بها إلى السعادة والفلاح.

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من أحكام وآداب منها ما يتعلق بالحدود ، ومنها ما يتعلق بالاستئذان ، ومنها ما يتعلق بالتستر والاحتشام ، ومنها ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء ... بعد كل ذلك اختتمت ببيان ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أدب مع رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

روى ابن إسحاق في سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه : أنه لما كان تجمع قريش وغطفان في غزوة الأحزاب ، ضرب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك ، رجال من المنافقين ، وجعلوا يورّون ـ أى يستترون ـ بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إذن. وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة

١٥٨

التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستأذن في اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله هذه الآيات في المؤمنين وفي المنافقين (١).

والمراد بالأمر الجامع في قوله : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) : الأمر الهام الذي يستلزم اشتراك الجماعة في شأنه ، كالجهاد في سبيل الله ، وكالإعداد لعمل من الأعمال العامة التي تهم المسلمين جميعا.

والمعنى : إن من شأن المؤمنين الصادقين ، الذين آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر جامع من الأمور التي تقتضي اشتراكهم فيه ، لم يفارقوه ولم يذهبوا عنه ، حتى يستأذنوه في المفارقة أو في الذهاب ، لأن هذا الاستئذان دليل على قوة الإيمان ، وعلى حسن أدبهم مع نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الآلوسى : وقوله : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ ..). معطوف على (آمَنُوا) داخل معه في حيز الصلة ، والحصر باعتبار الكمال. أى : إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ ، وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صميم قلوبهم ، وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل. وإذا كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر مهم يجب إجماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ... لم يذهبوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) في الذهاب فيأذن لهم ... (٢).

وخص ـ سبحانه ـ الأمر الجامع بالذكر ، للإشعار بأهميته ووجوب البقاء معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يعطيهم الإذن بالانصراف ، إذ وجودهم معه يؤدى إلى مظاهرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعاونته في الوصول إلى أفضل الحلول لهذا الأمر الهام.

ثم مدح ـ سبحانه ـ الذين لا يغادرون مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كانوا معه على أمر جامع حتى يستأذنوه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

أى : إن الذين يستأذنونك في تلك الأحوال الهامة ، والتي تستلزم وجودهم معك ، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حق الإيمان ، لأن هذا الاستئذان في تلك الأوقات دليل على طهارة نفوسهم ، وصدق يقينهم ، وصفاء قلوبهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ وظيفته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) السيرة النبوية لابن إسحاق ج ٣ ص ٢٣٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ٢٢٣.

١٥٩

أى : فإذا استأذنك هؤلاء المؤمنون في الانصراف ، لقضاء بعض الأمور والشئون التي هم في حاجة إليها ، فأنت مفوض ومخير في إعطاء الإذن لبعضهم وفي منعه عن البعض الآخر ، إذ الأمر في هذه المسألة متروك لتقديرك ـ أيها الرسول الكريم ـ.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) فيه إشارة إلى أنه كان الأولى بهؤلاء المؤمنين ، أن يبقوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينتهوا من حل هذا الأمر الجامع الذي اجتمعوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجله ، وحتى يأذن لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الانصراف دون أن يطلبوا منه ذلك ، فإن الاستئذان قبل البت في الأمر الهام الذي يتعلق بمصالح المسلمين جميعا ، غير مناسب للمؤمنين الصادقين ، ويجب أن يكون في أضيق الحدود ، وأشد الظروف ، ومع كل ذلك ، فالله ـ تعالى ـ واسع المغفرة لعباده عظيم الرحمة بهم.

ثم أكد الله ـ تعالى ـ وجوب التوقير والتعظيم لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...).

ولأهل العلم في تفسير هذه الآية أقوال من أهمها : أن المصدر هنا وهو لفظ «دعاء» مضاف إلى مفعوله ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه مدعو ، فيكون المعنى :

لا تجعلوا ـ أيها المؤمنون ـ دعاءكم الرسول إذا دعوتموه ، ونداءكم له إذا ما ناديتموه ، كدعاء أو نداء بعضكم لبعض ، وإنما عليكم إذا ما ناديتموه أن تنادوه بقولكم ، يا نبي الله ، أو يا رسول الله ، ولا يليق بكم أن تنادوه باسمه مجردا ، بأن تقولوا يا محمد.

كما أن من الواجب عليكم أن تخفضوا أصواتكم عند ندائه توقيرا واحتراما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمتتبع للقرآن الكريم ، يرى أن الله ـ تعالى ـ لم يناد رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه مجردا ، وإنما ناداه بقوله : يا أيها المدثر ، يا أيها الرسول ، يا أيها النبي ...

وإذا كان اسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع ، فإن وروده لم يكن في معرض النداء ، وإنما كان في غيره كما في قوله ـ تعالى ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ..). (١).

فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن أن ينادوا أو يخاطبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه مجردا ، كما يخاطب بعضهم بعضا.

ومن العلماء من يرى أن المصدر هنا مضاف إلى فاعله ، فيكون المعنى : لا تقيسوا دعاءه

__________________

(١) سورة الفتح الآية ٢٩.

١٦٠