التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ.). للأولياء والسادة ، والأيامى : جمع أيم ـ بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة .. وهو كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا أو ثيبا. والمراد بالأيامى هنا الأحرار والحرائر.

وقوله ـ تعالى ـ (مِنْ عِبادِكُمْ) جمع عبد وهو الرقيق ، و «وإمائكم» جمع أمة.

والمراد من الإنكاح هنا : المعاونة والمساعدة في الزواج ، والعمل على إتمامه بدون عوائق لا تؤيدها شريعة الله ـ تعالى ـ.

أى : زوّجوا ـ أيها الأولياء والسادة ـ من لا زوج له من الرجال المسلمين أو النساء المسلمات ، ويسروا لهم هذا الأمر ولا تعسروه ، لأن الزواج هو الطريق المشروع لقضاء الشهوة ، ولحفظ النوع الإنسانى ، ولصيانة الأنساب من الاختلاط ، ولإيجاد مجتمع تفشو فيه الفضيلة ، وتموت فيه الرذيلة.

وزوجوا ـ أيضا الصالحين للزواج من عبيدكم وإمائكم فإن هذا الزواج أكرم لهم وأحفظ لعفتهم.

قال صاحب الكشاف «فإن قلت لم خص الصالحين؟ قلت : ليحصن دينهم ، ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين من الأرقاء. هم الذين مواليهم يشفقون عليهم .. فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم .. وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك» (١).

والأمر في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْكِحُوا) يرى جمهور العلماء أنه للندب ، بدليل أنه قد وجد أيامى في العهد النبوي ولم يجبروا على الزواج ، ولو كان الأمر للوجوب ، لأجبروا عليه .. ويرى بعضهم أنه للوجوب.

قال الإمام ابن كثير : اشتملت هذه الآيات الكريمات على جمل من الأحكام المحكمة ، والأوامر المبرمة ، فقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) هذا أمر بالتزويج ، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه ، على كل من قدر

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٣٥.

١٢١

عليه ، واحتجوا بظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الشباب. من استطاع منكم الباءة» ـ أى القدرة على الزواج ـ فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحفظ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (١) ـ أى : وقاية ـ.

ويبدو لنا أن الزواج يختلف حكمه باختلاف الأحوال ، فمن كان ـ مثلا قادرا على الزواج ، ويخشى إذا ترك الزواج أن يقع في الفاحشة : فإن الزواج بالنسبة له يكون واجبا عليه. بخلاف من أمن الوقوع في الفاحشة ، فإن الزواج بالنسبة له يكون مندوبا أو مستحبا.

ولذا قال الإمام القرطبي : «اختلف العلماء في هذا الأمر ـ أى في قوله ـ تعالى ـ (وَأَنْكِحُوا) ـ على ثلاثة أقوال : فقال علماؤنا يختلف الحكم في ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت ، ومن عدم صبره .. فإذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا فالنكاح حتم.

وإن لم يخش شيئا ، وكانت الحال مطلقة ، فالنكاح مباح.

قال الشافعى : إنه قضاء لذة فكان مباحا كالأكل والشرب.

وقال مالك وأبو حنيفة : هو مستحب (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) حض لمن يملك عقد الزواج على أن لا يجعل الفقر حائلا دون إتمامه. لأن الأرزاق بيد الله ـ تعالى ـ وحده.

أى : زوجوا ـ أيها الأولياء والسادة ـ من كان أهلا للزواج ، وصالحا له وراغبا فيه ، من رجالكم ونسائكم ، ولا يمنعكم فقرهم من إتمامه ، فإنهم إن يكونوا فقراء اليوم ، فالله ـ تعالى ـ قادر على أن يغنيهم في الحال أو في المستقبل متى شاء ذلك ، فإن قدرته ـ عزوجل ـ لا يعجزها شيء ، وكم من أناس كانوا فقراء قبل الزواج ، ثم صاروا أغنياء بعده ، لأنهم قصدوا بزواجهم حفظ فروجهم ، وتنفيذ ما أمرتهم به شريعة الإسلام.

روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله» (٣).

فهذا عهد أخذه الله ـ تعالى ـ على ذاته ـ فضلا منه وكرما ـ ولن يخلف الله ـ عزوجل ـ عهده.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٤.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٣٩.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٥٥.

١٢٢

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ واسع الغنى لا تنفد خزائنه ، ولا ينتهى ما عنده من خير ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ الذين لا يجدون وسائل النكاح ، إلى ما يعينهم على حفظ فروجهم ، فقال : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

والاستعفاف : طلب العفة ، واختيار طريق الفضيلة التي من وسائلها ما أشار إليه ـ سبحانه ـ في قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ).

والمعنى : وعلى المؤمنين والمؤمنات «الذين لا يجدون نكاحا» أى : الذين لا يجدون الوسائل والأسباب التي توصلهم إلى الزواج بسبب ضيق ذات اليد ، أو ما يشبه ذلك ، عليهم أن يتحصنوا بالعفاف وأن يصونوا أنفسهم عن الفواحش ، وأن يستمروا على ذلك حتى يرزقهم الله ـ تعالى ـ من فضله رزقا ، يستعينون به على إتمام الزواج.

فهذه الجملة الحكيمة وعد كريم من الله ـ تعالى ـ للتائقين إلى الزواج ، العاجزين عن تكاليفه بأنه ـ سبحانه ـ سيرزقهم من فضله ما يعينهم على التمكن منه ، متى اعتصموا بطاعته ، وحافظوا على أداء ما أمرهم به.

قال صاحب الكشاف : «وما أحسن ما رتب هذه الأوامر : حيث أمر ـ أولا ـ بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر. ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ، ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء ، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه» (١).

ثم حض ـ سبحانه ـ على إعانة الأرقاء لكي يتخلصوا من رقهم ويصيروا أحرارا. فقال : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ، وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ).

والمراد بالكتاب هنا : المكاتبة التي تكون بين السيد وعبده ، بأن يقول السيد لعبده : إن أديت إلى كذا من المال فأنت حر لوجه الله ، فإذا قبل العبد ذلك وأدى ما طلبه منه سيده ، صار حرا.

أى : والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم ـ أيها الأحرار .. فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، أى : أمانة وقدرة على الكسب ، وأعينوهم على التحرر من رقهم بأن تعطوهم شيئا من

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٣٨.

١٢٣

المال الذي آتاكم الله إياه ، بفضله وإحسانه.

وهكذا نرى الإسلام يأمر أتباعه الذين رزقهم الله نعمة الحرية ، أن يعينوا مماليكهم على ما يمكنهم من الحصول على هذه النعمة.

ومن العلماء من يرى أن الأمر في قوله ـ تعالى ـ : (فَكاتِبُوهُمْ) وفي قوله (وَآتُوهُمْ) للوجوب ، لأنه هو الذي يتناسب مع حرص شريعة الإسلام على تحرير الأرقاء.

ثم نهى ـ سبحانه ـ عن رذيلة كانت موجودة في المجتمع ، لكي يطهره منها ، فقال : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ـ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ـ لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

قال الآلوسى : أخرج مسلم وأبو داود عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبى بن سلول يقال لها «مسيكة» وأخرى يقال لها «أميمة» كان يكرههما على الزنا ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت.

وأخرج ابن مردويه عن على ـ رضى الله عنه ـ أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا ، ويأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك في الإسلام ، ونزلت الآية .. (١).

والفتيات جمع فتاة والمراد بهن هنا الإماء ، وعبر عنهن بقوله «فتياتكم» على سبيل التكريم لهن ، ففي الحديث الشريف : «لا يقولن أحدكم عبدى وأمتى ولكن فتاي وفتأتي».

والبغاء ـ بكسر الباء ـ زنى المرأة خاصة ، مصدر بغت المرأة تبغى بغاء إذا فجرت.

والتحصن : التصون والتعفف عن الزنا.

والمعنى : ولا تكرهوا ـ أيها الأحرار ـ فتياتكم اللائي تملكوهن على الزنا إن كرهنه وأردن العفاف والطهر ، لكي تنالوا من وراء إكراههن على ذلك ، بعض المال الذي يدفع لهن نظير افتراشهن.

وقوله ـ تعالى ـ (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ليس المقصود منه أنهن إن لم يردن التحصن يكرهن على ذلك ، وإنما المراد منه بيان الواقع الذي نزلت من أجله الآية ، وهو إكراههم لإمائهم على الزنا مع نفورهن منه. ولأن الإكراه لا يتصور عند رضاهن بالزنا واختيارهن له ، وإنما يتصور عند كراهتهن له ، وعدم رضاهن عنه ، ولأن في هذا التعبير تعبيرا لهم ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : كيف يقع منكم إكراههن على البغاء وهن إماء يردن العفة ويأبين الفاحشة؟ ألم يكن

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٥٦.

١٢٤

الأولى بكم والأليق بكرامتكم أن تعينوهن على العفاف والطهر ، بدل أن تكرهوهن على ارتكاب الفاحشة من أجل عرض من أعراض الحياة الدنيا؟.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بيان لمظهر من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ ورحمته ـ بعباده.

أى : ومن يكره إماءه على البغاء فإن الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه من بعد إكراهكم لهن ، غفور رحيم لهن ، أما أنتم يا من أكرهتموهن على الزنا فالله وحده هو الذي يتولى حسابكم ، وسيجازيكم بما تستحقون من عقاب.

فمغفرة الله ـ تعالى ـ ورحمته إنما هي للمكرهات على الزنا ، لا للمكرهين لهن على ذلك.

قال بعض العلماء : قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قيل : غفور لهن. وقيل : غفور لهم. وقيل : غفور لهن ولهم.

والأظهر : أن المعنى لهن ، لأن المكره لا يؤاخذ بما يكره عليه ، بل يغفره الله له ، لعذره بالإكراه. فالموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره ـ بكسر الراء ـ لأنه غير معذور بفعله القبيح (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه التشريعات الحكيمة. والتوجيهات السديدة ، بقوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). وقوله (مُبَيِّناتٍ) قرأها بعض القراء السبعة بفتح الياء المشددة ، وقرأها الباقون بكسرها.

فعلى قراءة الفتح يكون المعنى : وبالله لقد أنزلنا إليكم ـ أيها المؤمنون ـ في هذه السورة وغيرها آيات بيّنّا لكم معانيها ، وجعلناها واضحة الدلالة على ما شرعناها لكم من أحكام وآداب وحدود.

وعلى قراءة الكسر يكون المعنى : وبالله لقد أنزلنا إليكم آيات ، هي مبينات موضحات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه ومعرفته من آداب وتشريعات ، فإسناد التبيين هنا إلى الآيات على سبيل المجاز.

وقوله : (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) معطوف على «آيات». والمراد بالمثل : الأخبار العجيبة التي ذكرها ـ سبحانه ـ عن السابقين.

أى ، أنزلنا إليكم آيات واضحات في ذاتها وموضحة لغيرها. وأنزلنا إليكم ـ أيضا ـ

__________________

(١) تفسير أضواء للبيان ج ٦ ص ٢١٩ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

١٢٥

قصصا عجيبة ، من أخبار السابقين الذين خلوا من قبلكم ، لتهتدوا بها فيما يقع بينكم من أحداث.

فمثلا : لا تتعجبوا من كون عائشة ـ رضى الله عنها ـ قد اتهمت بما هي منه بريئة. فقد اتّهمت من قبلها مريم بالفعل الفاضح الذي برأها الله تعالى منه ، واتهم يوسف ـ عليه‌السلام ـ : بما هو منه برىء ، وألقى في السجن بضع سنين مع براءته.

فيوسف ومريم وعائشة ، قد برأهم الله ـ تعالى ـ مما رموا به ، وكفى بشهادة الله شهادة.

وقوله (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أى : وجعلنا هذه الآيات التي أنزلنا إليكم موعظة يتعظ بها المتقون ، الذين صانوا أنفسهم عن محارم الله ، وراقبوه ـ سبحانه ـ في السر والعلن ، فانتفعوا بها دون غيرهم من المفسدين والفاسقين.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد وصف الآيات التي أنزلها على عباده المؤمنين بثلاث صفات. وصفها ـ أولا ـ بأنها بينة في ذاتها أو مبينة لغيرها ، ووصفها ـ ثانيا ـ بأنها مشتملة على الأمثال العجيبة لأحوال السابقين ، ووصفها ـ ثالثا ـ بأنها موعظة للمتقين الذين تستشعر قلوبهم دائما الخوف من الله ـ تعالى ـ.

وما ذكره الله ـ تعالى ـ قبل هذه الآية من آداب وأحكام يتناسق مع التعقيب كل التناسق ، ويتجاوب معه كل التجاوب.

وكيف لا يكون كذلك ، والقرآن هو كلام الله الذي أعجز كل البلغاء والفصحاء ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

* * *

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك ، إلى الحديث عن جلال الله ـ تعالى ـ ونوره وعظمته وعن بيوته التي أذن لها أن ترفع ، وعن الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن طاعته وتقديسه ، وعن الجزاء الحسن الذي أعده الله ـ سبحانه ـ لهؤلاء الأخيار ، فقال :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ

١٢٦

لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : «قوله ـ تعالى ـ : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). النور في كلام العرب : الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح. فيقال : كلام له نور .. وفلان نور البلد.

فيجوز أن يقال : لله ـ تعالى ـ نور ، من جهة المدح ، لأنه أوجد جميع الأشياء ، ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها ، وعنه صدورها ، وهو ـ سبحانه ـ ليس من الأضواء المدركة ، جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية : فقيل : المعنى : به وبقدرته أنارت أضواؤها. واستقامت أمورها ، وقامت مصنوعاتها ، فالكلام على التقريب للذهن ، كما يقال : الملك نور أهل البلد ، أى : به قوام أمرها .. فهو ـ أى النور ـ في الملك مجاز. وهو في صفة الله ـ تعالى ـ حقيقة محضة.

قال ابن عرفة : أى منور السموات والأرض. وقال مجاهد : مدبر الأمور في السموات والأرض.

١٢٧

وقال ابن عباس : المعنى : الله هادي السموات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل (١).

ويبدو لنا أن أقرب الأقوال إلى الصواب هو الذي رجحه الإمام القرطبي فيكون معنى الجملة الكريمة : الله ـ تعالى ـ هو نور العالم كله علويه وسفليه ، بمعنى منوره بالمخلوقات التكوينية ، وبالآيات التنزيلية ، وبالرسالات السماوية ، الدالة دلالة واضحة على وجوده ـ سبحانه ـ وعلى وحدانيته ، وقدرته ، وسائر صفاته الكريمة ، والهادية إلى الحق ، وإلى ما به صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم.

قال ابن كثير : «وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل يقول : «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه يوم آذاه المشركون من أهل الطائف : «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بي غضبك ، أو ينزل بي سخطك ، لك العتبى ـ أى الرجوع عن الذنب ـ حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك» (٢).

وأضاف ـ سبحانه ـ نوره إلى السموات والأرض ، للدلالة على سعة إشراق هذا النور ، وعموم سنائه ، وتمام بهائه في الكون كله.

ثم قرب ـ عزوجل ـ نوره إلى الأذهان فقال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ..).

أى : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة والسطوع ، كصفة مشكاة ـ وهي الفتحة الصغيرة في الجدار دون أن تكون نافذة فيه ـ هذه المشكاة فيها مصباح ، أى : سراج ضخم ثاقب تشع منه الأنوار.

وقال ـ سبحانه ـ : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) لأن وجود المصباح في هذه المشكاة يكون أجمع لنوره ، وأحصر لضيائه ، فيبدو قويا متألقا ، بخلاف ما لو كان المصباح في مكان نافذ فإنه لا يكون كذلك.

(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أى : في قنديل من الزجاج الصافي النقي ، الذي يقيه الريح ، ويزيده توهجا وتألقا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٥٦.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٦١.

١٢٨

هذه (الزُّجاجَةُ) في ذاتها (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أى شديد الإنارة ، نسبة إلى الدر في صفائه وسنائه وإشراقه وحسنه.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أى : هذا المصباح يستمد نوره من زيت شجرة مباركة أى : كثيرة المنافع ، زيتونة أى : هي شجرة الزيتون.

فحرف «من» لابتداء الغاية ، والكلام ، على حذف مضاف ، أى : من زيت شجرة ، مباركة : صفة لشجرة ، وزيتونة : بدل أو عطف بيان من شجرة.

ووصف ـ سبحانه ـ شجرة الزيتون بالبركة ، لطول عمرها. وتعدد فوائدها التي من مظاهرها : الانتفاع بزيتها وخصبها وورقها وثمارها.

قال ـ تعالى ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) صفة أخرى لشجرة الزيتون.

أى : أن هذه الشجرة ليست متميزة إلى مكان معين أو جهة معينة بل هي مستقبلة للشمس طول النهار ، تسطع عليها عند شروقها وعند غروبها وما بين ذلك ، فترتب على تعرضها للشمس طول النهار ، امتداد حياتها ، وعظم نمائها وحسن ثمارها.

وقوله ـ تعالى ـ : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) صفة ثالثة لتلك الشجرة.

أى ، أنها يكاد زيتها من شدة صفائه ونقائه يضيء دون أن تمسه النار ، فهو زيت من نوع خاص ، بلغ من الشفافية أقصاها ، ومن الجودة أعلاها.

قال بعض العلماء : وقد شبّه في الآية نور الله ، بمعنى أدلته ، وآياته ـ سبحانه ـ من حيث دلالتها على الهدى والحق ، وعلى ما ينفع الخلق في الحياتين شبه ذلك بنور المشكاة التي فيها زجاجة صافية ، وفي تلك الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ الغاية في الصفاء والرقة والإشراق ، حتى يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه نار» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (نُورٌ عَلى نُورٍ) أى : هو نور عظيم متضاعف ، كائن على نور عظيم مثله ، إذ أن نور الله ـ تعالى ـ لا حد لتضاعفه ، ولا نهاية لعمقه بخلاف الأنوار الأخرى. فإن لتضاعفها حدا محدودا مهما كان إشراقها وضوؤها.

فقوله : (نُورُ) خبر لمبتدأ محذوف ، أى : هو نور. وقوله (عَلى نُورٍ) متعلق بمحذوف هو صفة له ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة. أى : كائن على نور مثله.

__________________

(١) صفوة البيان لمعانى القرآن لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف ج ٢ ص ٨٤.

١٢٩

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه فقال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أى : يهدى الله ـ تعالى ـ لنوره العظيم من يشاء هدايته من عباده ، بأن يوفقهم للإيمان ، والعمل بتعاليم الإسلام ، وللسير على طريق الحق والرشاد.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

أى : ويضرب الله ـ تعالى ـ الأمثال للناس ، لكي يقرب لهم الأمور وييسر لهم المسائل ، ويبرز لهم المعقول في صورة المحسوس ، والله ـ تعالى ـ بكل شيء عليم ، سواء أكان هذا الشيء ظاهرا أم باطنا ، معقولا أم محسوسا.

قال بعض العلماء ما ملخصه : هذه الآية الكريمة من الآيات التي صنفت فيها مصنفات ، منها «مشكاة الأنوار» للإمام الغزالي ... ومنها ما قاله الإمام ابن القيم عنها في كتابه «الجيوش الإسلامية».

فقد قال ـ رحمه‌الله ـ : سمى الله تعالى ـ نفسه نورا ، وجعل كتابه نورا ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نورا ، ودينه نورا ، واحتجب عن خلقه بالنور وجعل دار أوليائه نورا يتلألأ. قال ـ تعالى ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقد فسر بكونه منور السموات والأرض وهادي أهل السموات والأرض فبنوره اهتدى أهل السموات والأرض. وهذا إنما هو فعله. وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى ..» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أكثر الأماكن والأشخاص انتفاعا بنوره ، فقال ـ تعالى ـ : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ).

وقوله (فِي بُيُوتٍ) متعلق بقوله : (يُسَبِّحُ). والمراد بهذه البيوت : المساجد كلها ، وعلى رأسها المسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى.

و «أذن» بمعنى أمر وقضى ، وفاعل «يسبح» قوله «رجال».

والغدو والغداة : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والآصال جمع أصيل ، وهو ما بين العصر وغروب الشمس.

أى : هذا هو نور الله ـ تعالى ـ الذي يهدى إليه من يشاء من عباده ، وعلى رأس أولئك

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ١٢ ص ٤٥٢٦

.

١٣٠

العباد الذين هداهم الله ـ سبحانه ـ إلى ما يحبه ويرضاه ، هؤلاء الرجال الذين يعبدونه ويقدسونه في تلك المساجد التي أمر ـ سبحانه ـ بتشييدها وتعظيم قدرها ، وصيانتها من كل سوء أو نجس ، إنهم يسبحونه وينزهونه عن كل نقص ، ويتقربون إليه بالصلوات وبالطاعات. في تلك المساجد في أول النهار وفي آخره ، وفي غير ذلك من الأوقات.

وخص ـ سبحانه ـ أوقات الغدو والآصال بالذكر ، لشرفها وكونها أشهر ما تقع فيه العبادات.

وقوله ـ تعالى ـ : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) مدح وتكريم لهؤلاء الرجال.

أى : يسبح لله ـ تعالى ـ في تلك المساجد بالغدو والآصال ، رجال من شأنهم ومن صفاتهم ، أنهم لا يشغلهم ، «تجارة» مهما عظمت ، «ولا بيع» ، مهما اشتدت حاجتهم إليه «عن ذكر الله» أى : عن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده وطاعته.

ولا تشغلهم ـ أيضا ـ هذه التجارات والبيوع عن «إقام الصلاة» في مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وعن «إيتاء الزكاة» للمستحقين لها. وذلك لأنهم «يخافون يوما» هائلا شديدا هو يوم القيامة الذي «تتقلب فيه القلوب والأبصار» أى تضطرب فيه القلوب والأبصار فلا تثبت من شدة الهول والفزع.

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي حملتهم على الإكثار من هذه الطاعات فقال : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

أى : إنهم يكثرون من تسبيح الله بالغدو والآصال ، دون أن يشغلهم عن ذلك أى شاغل ، لأنهم يرجون منه ـ سبحانه ـ أن يجزيهم أحسن الجزاء على أعمالهم ، وأن يزيدهم من فضله وإحسانه ، بما يليق بكرمه وامتنانه.

«والله» ـ تعالى ـ «يرزق من يشاء» أن يرزقه «بغير حساب» أى : بدون حدود ، ولا قيود ، وبدون حصر لما يعطيه ، لأن خزائنه لا تنقص ولا تنفد ، حتى يحتاج إلى عد وحساب لما يخرج منها.

فالجملة الكريمة تذييل قصد به التقرير للزيادة التي يتطلع إليها هؤلاء الرجال الصالحون ، ووعد منه ـ عزوجل ـ بأنه سيرزقهم رزقا يزيد عما يتوقعونه.

وبذلك نرى الآيات قد طوفت بنا مع نور الله ـ عزوجل ـ ومثلت له بما من شأنه أن يجعل النفوس يشتد استمساكها بالحق الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، ومدحت مدحا عظيما أولئك الرجال الأخيار ، الذين يكثرون من طاعة الله ـ تعالى ـ في بيوته

١٣١

التي أمر برفعها ، دون أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وبشرتهم بالعطاء الواسع الذي سيعطيهم الله إياه بفضله وكرمه.

* * *

وبعد تلك الصورة المشرقة التي بينها ـ سبحانه ـ لمن هداهم لنوره ، أتبع ذلك بضرب مثلين لأعمال الكفار ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)(٤٠)

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) عطف على ما قبله ، من باب عطف القصة على القصة ، أو على مقدر ينساق إليه ما قبله ، كأنه قيل : الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة (١).

والمراد بأعمالهم هنا : الأعمال الصالحة التي كانوا يعملونها في الدنيا كالإحسان إلى الفقراء ، وصلة الأرحام وما يشبه ذلك.

والسراب : هو الشعاع الذي يتراءى للناظر من بعيد كأنه ماء. ويكون ذلك في وسط النهار عند اشتداد الحر ، في الأماكن الواسعة ، وسمى سرابا لأنه يرى من بعيد يتسرب فوق الأرض كأنه ماء ، مع أنه ليس بماء ولا غيره.

والباء في قوله (بِقِيعَةٍ) بمعنى في. والقيعة : جمع قاع وهو ما انبسط واتسع من الأرض. دون أن يكون فيه زرع ، وفوقه يتراءى السراب. والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، صفة للسراب.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٧٩.

١٣٢

أى : والذين كفروا بالحق لما جاءهم : أعمالهم الصالحة في الدنيا التي يتوقعون الخير من ورائها ، تكون بالنسبة لهم يوم القيامة ، كسراب كائن في صحراء واسعة ، «يحسبه الظمآن ماء».

أى : يظن الشخص الذي اشتد به العطش أنه ماء.

وخص ـ سبحانه ـ هذا الحسبان بالظمآن ، مع أن كل من يراه يظنه ماء لأن هذا الذي اشتد به العطش أشد حرصا على طلبه من غيره ، فالتشبيه به أتم وأكمل.

و «حتى» في قوله ـ سبحانه ـ : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) غاية لمحذوف ، والتقدير : هذا السراب يظنه الظمآن ماء فيسرع نحوه ، حتى إذا ما وصل إليه ، لم يجد ما حسبه ماء وعلق عليه آماله شيئا أصلا ، لا ماء ولا غيره.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد شبه ما يعمله الكافرون من أعمال البر في الدنيا ، التي يظنونها نافعة لهم ـ شبه هذه الأعمال من حيث خيبة أملهم فيها بسراب يحسبه الظمآن ماء ، فيذهب إليه ليروى عطشه ، فإذا ما وصل إليه لم يجده شيئا ، فيخيب أمله ، وتشتد حسرته.

قال الإمام الرازي : فإن قيل : قوله : «حتى إذا جاءه» يدل على كونه شيئا ، وقوله : «لم يجده شيئا» مناقض له؟

قلنا : الجواب عنه من وجوه ثلاثة : الأول : المراد معناه أنه لم يجد شيئا نافعا ، كما يقال : فلان ما عمل شيئا وإن كان قد اجتهد الثاني : حتى إذا جاءه أى : جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه. الثالث : الكناية للسراب ، لأن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء ، وإذا قرب منه رق وانتثر وصار كالهواء ، (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) معطوف على جملة «لم يجده» فهو داخل التشبيه أى : ووجد الظمآن حكم الله ـ تعالى ـ وقضاءه فيه عند السراب ، فوفاه ـ سبحانه ـ حسابه الذي يستحقه كاملا غير منقوص.

وفي هذه الجملة الكريمة من التصوير المرعب للكافر ما فيها. حيث شبهته بالظمآن الذي ذهب مسرعا ليروى ظمأه مما ظنه ماء فلما وصل إليه لم يجد ماء ، وإنما وجد الله ـ تعالى ـ الذي كفر به وجحد وحدانيته ـ عنده ، فوفاه حسابه الذي يستحقه من العذاب بدلا من وجود الماء الذي أتعب نفسه في السعى إليه.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٢٩٠.

١٣٣

«والله» ـ تعالى ـ «سريع الحساب» ، لأنه لا يشغله حساب عن حساب ولا عمل عن عمل ، بل حساب الناس جميعا عنده ـ عزوجل ـ كحساب النفس الواحدة.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ، يَغْشاهُ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) مثال آخر لأعمال الكافرين التي لا ينتفعون بها مع أنهم يعتقدون أنها ستنفعهم.

فحرف «أو» للتقسيم ، وما بعدها معطوف على قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك ، «كسراب بقيعة».

والمعنى : أو أن الأعمال الحسنة في الدنيا لهؤلاء الكافرين ، مثلها ـ من حيث خلوها عن نور الحق وعن النفع ـ كمثل «ظلمات» كثيفة «في بحر لجي» أى : عميق الماء كثيره ، من اللج وهو معظم ماء البحر.

«يغشاه موج» أى : هذا البحر اللجى. يغطيه ويستره ويعلوه موج عظيم «من فوقه موج» آخر أشد منه «من فوقه سحاب» أى : من فوق تلك الأمواج الهائلة الشديدة ، سحاب كثيف متراكم قائم.

«ظلمات بعضها فوق بعض» أى : هذه الأمواج المتلاطمة ، وتحتها البحر العميق المظلم ، وفوقها السحب الفاتحة الداكنة ، هي ظلمات بعضها فوق بعض ، «إذا أخرج يده لم يكد يراها» أى : إذا أخرج الواقع في تلك الظلمات يده التي هي جزء منه ، لم يكد يراها من شدة تراكم الظلمات.

قال الآلوسى : «إذا أخرج» أى : من ابتلى بهذه الظلمات «يده» وجعلها بمرأى منه ، قريبة من عينيه لينظر إليها «لم يكد يراها» أى : لم يقرب من رؤيتها ، وهي أقرب شيء إليه ، فضلا عن أن يراها .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف فقال : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

والمعنى : وأى إنسان لم يشأ الله ـ تعالى ـ أن يجعل له نورا يهديه إلى الصراط المستقيم فما لهذا الإنسان من نور يهديه إلى الحق والخير ، من أى مخلوق كائنا من كان ، إذ أن الذي يملك منح النور الهادي إنما هو الله ـ تعالى ـ وحده.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٨٣.

١٣٤

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين ما ملخصه : هذان مثلان ضربهما الله ـ تعالى ـ لنوعى الكفار ، فأما المثال الأول ، فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم ، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الأمر على شيء «فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام.

وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب ـ أى الذين يعتقدون الباطل ويزعمون أنه الحق ـ والمثال الثاني لأصحاب الجهل البسيط ، وهم الأغشام والمقلدون لأئمة الكفر فمثلهم كما قال ـ تعالى ـ : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ.). (١).

* * *

وبعد أن أورد ـ سبحانه ـ هذين المثلين للذين كفروا وأعمالهم ، أتبع ذلك ببيان أن الكون كله يسبح بحمد الله ـ تعالى ـ وأن الكون كله في ملكه وقبضته ، فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ)(٤٢)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ.). للتقرير. والرؤية : بمعنى العلم.

والتسبيح : مشتق من السبح ، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء. فالمسبح : مسرع في تنزيه الله ـ تعالى ـ وتقديسه وإثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال.

والمعنى : لقد علمت أيها الرسول الكريم علما يشبه المشاهدة في اليقين ، أن الله ـ تعالى ـ يسبحه ويقدسه وينزهه عن كل ما لا يليق به ـ عزوجل ـ جميع من في السموات ، وجميع من في الأرض.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) برفع ، «والطير» على أنه معطوف على «من» وبنصب «صافات» على أنه حال.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٧٧.

١٣٥

أى : والطير ـ أيضا ـ تسبح لله ـ تعالى ـ حال كونها صافات أجنحتها في الجو ، دون أن يمسكها أحد إلا هو ـ سبحانه ـ.

وخص الطيور بالذكر مع أنها مندرجة تحت من في السموات والأرض لعدم استقرارها بصفة دائمة على الأرض ، فهي ـ في مجموعها ـ تارة على الأرض ، وتارة في الجو.

وذكرها في حال بسطها لأجنحتها لأن هذه الحالة من أعجب أحوالها ، حيث تكون في الجو باسطة لأجنحتها بدون تحريك ، مما يدل على بديع صنع الله في خلقه.

وصدق الله إذ يقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ.). (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) استئناف لبيان مظهر من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وحكمته ، حيث ألهم ـ سبحانه ـ كل مخلوق من مخلوقاته كيفية التسبيح لخالقه ـ عزوجل.

والتنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه ، والضمير المحذوف الذي هو فاعل «علم» يعود على المصلى والمسبح.

أى : كل واحد ممن يصلى لله ـ تعالى ـ ويسبح بحمده ـ سبحانه ـ ، قد علم معنى صلاته ومعنى تسبيحه ، فهو لم يعبد الله اتفاقا أو بلا روية ، وإنما عبده ـ تعالى ـ عن قصد ونية ، ولكن بكيفية نفوض معرفتها إلى الخالق ـ عزوجل ـ وحده.

ومنهم من يرى أن الضمير في «علم» يعود إلى الله ـ تعالى ـ فيكون المعنى : كل واحد من هؤلاء المصلين والمسبحين ، قد علم ـ سبحانه ـ صلاتهم وتسبيحهم له علما تاما شاملا.

قال بعض العلماء ما ملخصه : واعلم أن الأظهر أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) راجعا إلى المصلين والمسبحين أى : كل من المصلين قد علم صلاة نفسه ، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، لأنه على هذا القول يكون قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من باب التأسيس. أما على القول بأن الضمير يعود إلى الله ـ تعالى ـ. أى : كل واحد منهم قد علم الله صلاته وتسبيحه. فيكون قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) من باب التأكيد اللفظي ، والتأسيس للأحكام أولى من التأكيد لها.

والظاهر أن الطير تسبح وتصلى صلاة وتسبيحا يعلمها الله ، ونحن لا نعلمهما كما قال ـ

__________________

(١) سورة الملك الآية ١٩.

١٣٦

تعالى ـ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.). (١).

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ أن جميع مخلوقاته تسبح بحمده وأنه ـ تعالى ـ عليم بأفعالهم لا يخفى عليه شيء منها ، أتبع ذلك ببيان أن هذا الكون ملك له وحده ، فقال : «ولله ملك السموات والأرض» لا لأحد غيره ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، بل هو وحده ـ سبحانه ـ المالك لهما ولمن فيهما «وإلى الله المصير» أى : وإليه وحده مصيرهم ورجوعهم بعد موتهم ، فيجازى كل مخلوق من مخلوقاته بما يستحق من ثواب أو عقاب.

* * *

ثم لفت ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنظار عباده إلى مظاهر قدرته في هذا الكون ، حيث يزجى السحاب ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله ركاما ... وحيث نوع مخلوقاته مع أنها جميعا من أصل واحد فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٥)

قوله ـ تعالى ـ (يُزْجِي) من الإزجاء بمعنى الدفع بأناة ورفق. يقال : زجى الراعي إبله تزجية ، إذا ساقها برفق. وأزجت الريح السحاب ، أى : دفعته.

__________________

(١) تفسير أضواء للبيان ج ٦ ص ٢٤٥ للمرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطى.

١٣٧

والمعنى : لقد علمت ـ أيها العاقل ـ ورأيت بعينيك ، أن الله ـ تعالى ـ يسوق بقدرته السحاب الذي في الجو ، سوقا رفيقا إلى حيث يريد.

(ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أى : يسوق ـ سبحانه ـ السحاب سوقا هادئا سهلا. ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض ، ويجمع بعضه مع بعض ، ثم بعد ذلك (يَجْعَلُهُ رُكاماً) أى : متراكما بعضه فوق بعض. يقال ركم فلان الشيء يركمه ركما ، إذا جمعه ، وألقى بعضه على بعض ، ومنه : الرمل المتراكم ، أى : المجتمع.

وهذا الذي حكاه القرآن من سوق الله ـ تعالى ـ للسحب ثم تجميعها ، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال ، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله ـ تعالى ـ ، الذي أحسن كل شيء خلقه.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق ، والتجمع الدقيق من آثار.

والودق : المطر. وهو في الأصل مصدر ودق السحاب يدق ودقا ، إذا نزل منه المطر. والخلال : جمع خلل ـ كجبال وجبل ـ والمراد بها الفتوق والشقوق.

قال القرطبي : في «الودق» قولان : أحدهما : أنه البرق .. والثاني : أنه المطر. وهو قول الجمهور يقال : ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا. أى : قطر (١).

أى : يسوق الله ـ تعالى ـ السحاب إلى حيث يشاء بقدرته ، ثم يؤلف بينه ، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض ، فترى ـ أيها العاقل ـ المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه ، تارة بشدة وعنف ، وتارة بهدوء ورفق.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.). بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته ـ سبحانه ـ.

أى : وينزل ـ سبحانه ـ من جهة السماء قطعا من السحاب كأنها القطع من الجبال في عظمها وضخامتها ، «فيها من برد» أى : في تلك القطع من السحاب الكثير من البرد ، وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى ، ويسمى حب الغمام : وحب المزن.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما الفرق بين «من» الأولى ، والثانية ، والثالثة في قوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)؟.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٨٩.

١٣٨

قلت الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة للبيان ، أو الأوليان للابتداء. والآخرة للتبعيض.

فإن قلت : ما معنى «من جبال فيها من برد»؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أن يخلق الله في السماء جبال برد. كما في الأرض جبال حجر ، والثاني : أن يريد الكثرة بذكر الجبال ، كما يقال : فلان يملك جبالا من ذهب (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) أى : فيصيب بالذي ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده ، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم ، إذ الإصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). والسنا : شدة الضوء. يقال : سنا الشيء يسنو سنا ، إذا أضاء.

أى : يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف والتراكم .. يخطف الأبصار من شدة إضاءته ، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه.

وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ هذا الدليل العلوي على وحدانيته وقدرته. أتبعه بدليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه في حياتهم فقال : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أى : يعاقب بينهما فيأتى بهذا ، ويذهب بذاك ، وينقص أحدهما ويزيد في الآخر ، ويجعل أولهما وقتا لحلول نعمه والثاني لنزول نقمه ، أو العكس ، فهو ـ سبحانه ـ صاحبهما والمتصرف فيها «إن في ذلك» التقليب والإزجاء والتأليف ، وغير ذلك من مظاهر قدرته المبثوثة في الآفاق «لآيات» عظيمة «لأولى الأبصار» التي تبصر قدرة الله ـ تعالى ـ وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة.

ثم ساق ـ سبحانه ـ دليلا ثالثا من واقع خلق كل دابة ، وبديع صنعه فيما خلقه فقال : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ..).

والدابة : اسم لكل حيوان ذي روح ، سواء أكان من العقلاء أم من غيرهم. وهذا اللفظ مأخوذ من الدبيب ، بمعنى المشي الخفيف.

وتطلق الدابة في العرف على ذوات الأربع ، والمراد بها هنا ما هو أعم من ذلك.

قال بعض العلماء : «وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعنى وحدة العنصر الأساسى في تركيب الأحياء جميعا ، وهو

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٤٦.

١٣٩

الماء ، وقد تعنى ما يحاول العلم الحديث أن يتبعه من أن الحياة خرجت من البحر ، ونشأت أصلا في الماء ، ثم تنوعت الأنواع وتفرعت الأجناس.

ولكنا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل .. لا نزيد على هذه الإشارة شيئا ، مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية ، وهي أن الله ـ تعالى ـ خلق الأحياء كلها من الماء ، فهي ذات أصل واحد ، ثم هي ـ كما ترى العين ـ متنوعة الأشكال .. (١).

وقال الإمام الرازي : فإن قيل لما ذا نكر الماء هنا ، وجاء معرفا في قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٢)؟

والجواب : إنما جاء هنا منكرا ، لأن المعنى ، أنه خلق كل دابة من نوع من الماء يختص بتلك الدابة ، وإنما جاء معرفا في قوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ) لأن المقصود هناك ، كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أن ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.). تفصيل لهذه المخلوقات التي خلقت من الماء.

والضمير في «منهم» يعود إلى «كل» باعتبار معناه ، وفيه تغليب العاقل على غيره.

أى : فمن هذه الدواب من يمشى على بطنه كالزواحف وما يشبهها ، «ومنهم من يمشى على رجلين» كالإنس والطير «ومنهم من يمشى على أربع» كالأنعام والوحوش «يخلق الله» ـ تعالى ـ «ما يشاء» خلقه من دواب وغيرها على وفق إرادته وحكمته «إن الله على كل شيء قدير» فلا يعجزه ـ سبحانه ـ خلق ما يريد خلقه ، ولا يمنعه من ذلك مانع ، بل كل شيء خاضع لقدرته ـ عزوجل ـ.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ. منها ما يتعلق بالكائن العلوي ، ومنها ما يتعلق بالزمان ، ومنها ما يتعلق بخلق أنواع الدواب على اختلاف أشكالها.

* * *

وبعد أن ساقت السورة ما ساقت من الأحكام والآداب ومن الأدلة على وحدانية الله ـ

__________________

(١) في ظلال القرآن ج ١٨ ص ١١١.

(٢) سورة الأنبياء الآية ٣٠.

(٣) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ٢٩٦.

١٤٠