التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٠

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0682-5
الصفحات: ٤٥٠

الشيطان ، فإن الشيطان وظيفته الإغراء بالشر لا بالخير ، والأمر بالفحشاء والمنكر ، وليس بالفضائل والمعروف.

وجواب الشرط في قوله : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) محذوف ، والتقدير : ومن يتبع خطوات الشيطان يقع في الضلال والعصيان ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.

وخاطبهم ـ سبحانه ـ بصفة الإيمان ، لتحريك قوة الإيمان في قلوبهم ، ولتهييجهم على الاستجابة لما أرشدهم إليه ـ سبحانه ـ.

وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً.). بيان لمظاهر فضله ـ تعالى ـ ولطفه بعباده المؤمنين.

والمراد بالتزكية هنا : التطهير من أرجاس الشرك ، ومن الفسوق والعصيان.

أى : ولو لا فضل الله عليكم ـ أيها المؤمنون ـ ورحمته بكم ـ ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب والمعاصي طول حياته ، ولكن الله ـ تعالى ـ بفضله ورحمته يطهر من يشاء تطهيره من الأرجاس والأنجاس. بأن يقبل توبته. ويغسل حوبته.

«والله» ـ تعالى ـ «سميع» لدعاء عباده ومناجاتهم إياه «عليم» بما يسرونه وما يعلنونه من أقوال وأفعال.

ثم حض ـ عزوجل ـ أصحاب النفوس النقية الطاهرة ، على المواظبة على ما تعودوه من سخاء وسماحة ، فقال : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ، أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ. وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقد صح أن هذه الآية الكريمة نزلت في شأن أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ عند ما أقسم أن لا يعطى مسطح بن أثاثة شيئا من النفقة أو الصدقة.

وكان مسطح قريبا لأبى بكر. وكان من الفقراء الذين تعهد ـ أبو بكر رضى الله عنه ـ بالإنفاق عليهم لحاجتهم وهجرتهم وقرابتهم منه.

وقوله : (وَلا يَأْتَلِ) أى : ولا يحلف. يقال : آلى فلان وائتلى. إذا حلف ومنه قوله ـ تعالى ـ : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ.). (١) أى : يحلفون.

أى : ولا يحلف «أولوا الفضل منكم والسعة» أى أصحاب الزيادة منكم في قوة الدين. وفي سعة المال «أن يؤتوا أولى القربى ..» أى : على أن لا يعطوا أولى القربى والمساكين

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢٦.

١٠١

والمهاجرين في سبيل الله ، شيئا من أموالهم.

فالكلام في قوله : «أن يؤتوا» على تقدير حرف الجر ، أى : لا يحلفوا على أن لا يؤتوا ، وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد ، ومفعول «يؤتوا» الثاني محذوف. أى : أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ، النفقة التي تعودوا أن يقدموها لهم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) تحريض على العفو والصفح. والعفو معناه : التجاوز عن خطأ المخطئ ونسيانه ، مأخوذ من عفت الريح الأثر ، إذا طمسته وأزالته.

والصفح : مقابلة الإساءة بالإحسان ، فهو أعلى درجة من العفو.

أى : قابلوا ـ أيها المؤمنون ـ إساءة المسيء بنسيانها ، وبمقابلتها بالإحسان.

وقوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أى : ألا تحبون ـ أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم ذنوبكم ، بسبب عفوكم وصفحكم عمن أساء إليكم؟

فالجملة الكريمة ترغيب في العفو والصفح بأبلغ أسلوب ، وقد صح أن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ لما سمع الآية قال : بلى والله يا ربنا ، إنا لنحب أن تغفر لنا ، وأعاد إلى مسطح نفقته ، وفي رواية : أنه ـ رضى الله عنه ـ ضاعف لمسطح نفقته.

قال الآلوسى : «وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق ـ رضى الله عنه ـ لأنه داخل في أولى الفضل قطعا ، لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول ، ولا يضر في ذلك الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر ..» (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يرفع من شأن العفو والصفح فقال : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أى : والله ـ تعالى ـ كثير المغفرة ، وواسع الرحمة بعباده ، فكونوا ـ أيها المؤمنون ـ أصحاب عفو وصفح عمن أساء إليكم.

وبعد أن أمر ـ سبحانه ـ المؤمنين بالعفو والصفح عمن استزلهم الشيطان ، فخاضوا في حديث الإفك ثم ندموا وتابوا ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة المصريين على خبثهم وعلى محبة إشاعة الفاحشة في صفوف الجماعة الإسلامية فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٢٦.

١٠٢

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

والمعنى : «إن الذين يرمون» بالفاحشة النساء «المحصنات» أى : المانعات أنفسهن عن كل سوء وريبة «الغافلات» أى : الغافلات عن أن تدور الفاحشة بأذهانهن ، لأنهن طبعن على التخلق بالأخلاق الفاضلة الكريمة ، فهن فوق كونهن محصنات ، لا يخطر السوء ببالهن لطهارة معدنهن.

«المؤمنات» أى : الكاملات الإيمان بالله ـ تعالى ـ ، وبصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكل ما يجب الإيمان به.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أى : طردوا من رحمة الله ـ تعالى ـ في الدنيا وفي الآخرة ، وفوق كل ذلك «لهم» منه ـ تعالى ـ «عذاب عظيم» لا تحيط العبارة بوصفه.

وجملة «يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون» مقررة لمضمون ما قبلها ، مبينة لحلول وقت ذلك العذاب بهم.

أى : لهم عذاب عظيم يوم القيامة ، يوم يقفون أمام الله ـ تعالى ـ للحساب فتشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، بما كانوا يعملونه في الدنيا من أعمال سيئة ، وبما كانوا يقولونه من أقوال قبيحة.

فالمراد بشهادة هذه الجوارح ، نطقها وإخبارها عما كانوا يعملونه في الدنيا.

١٠٣

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ، قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.). (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

والمراد بالدين في قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ.). الجزاء الذي يستحقونه بسبب آثامهم. ويوفيهم : من التوفية بمعنى إعطاء الشيء كاملا ووافيا. وقوله : «يومئذ» ظرف ليوفيهم.

أى : في هذا اليوم العظيم وهو القيامة. الذي تشهد فيه الجوارح على صاحبها ، يجازى الله ـ تعالى ـ هؤلاء الفاسقين الجزاء الحق العادل الذي يستحقونه بسبب رميهم النساء المحصنات الغافلات المؤمنات بالفاحشة.

«ويعلمون» علما لا مجال معه للشك أو الريب عند ما يشاهدون العذاب «أن الله» ـ تعالى ـ هو الإله «الحق» في ذاته وصفاته وأفعاله ، وأنه ـ عزوجل ـ هو «المبين» أى : المظهر لما أبطنته النفوس ، وخبأته الضمائر ، والقادر على مجازاة الذين أساءوا بما عملوا ، وعلى مجازاة الذين أحسنوا بالحسنى.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآيات التي نزلت في حديث الإفك بتقرير سنته الإلهية ، التي نشاهدها في واقع الناس ـ وهي : أن شبيه الشيء منجذب إليه ، وأن الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف. وما تناكر منها اختلف». ـ كما جاء في الحديث الشريف ـ فقال ـ تعالى ـ : «الخبيثات للخبيثين» أى : الخبيثات من النساء ، مختصات بالخبيثين من الرجال «والخبيثون» من الرجال مختصون «بالخبيثات» من النساء ، «والطيبات» منهن «للطيبين» منهم. «والطيبون» ـ أيضا ـ منهم «للطيبات» منهن.

وهكذا يألف الشكل شكله ، والطيور على أشكالها تقع ، وإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أطيب الطيبين ، فلا يمكن أن تكون زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رأسهن عائشة ، إلا من أطيب الطيبات من النساء ، وأطهر الطاهرات منهن.

ثم جاءت شهادة الله ـ تعالى ـ وهي تغنى عن كل شهادة ـ بما يثبت براءة عائشة ـ

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٢٠ ، ٢١.

(٢) سورة يس الآية ٦٥.

١٠٤

رضى الله عنها ـ من كل ما افتراه عليها المفترون ، جاء قوله ـ سبحانه ـ (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

أى : أولئك ، الطيبون والطيبات ، وعلى رأسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته. وعلى رأس أهل بيته عائشة ـ رضى الله عنها ـ مبرءون مما يقولون أى : مما يقوله الخبيثون والخبيثات في شأنهم.

وأولئك الطيبون والطيبات «لهم مغفرة» عظيمة من الله ـ تعالى ـ ولهم «رزق كريم» هو جنة عرضها السموات والأرض ، جزاء إيمانهم وعملهم الصالح وصبرهم على الأذى.

هذا هو حديث القرآن عن حديث الإفك ، الذي أشاعه الفاسقون عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ وكان مقصدهم الأكبر من وراء ذلك هو الطعن في نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكن الله ـ تعالى ـ رد عليهم بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم.

هذا ، ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة جملة من الأحكام والآداب من أهمها ما يأتى :

١ ـ غيرة الله ـ تعالى ـ على حرمة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفاعه ـ سبحانه ـ عن أوليائه ، ورده لكيد المنافقين في نحورهم.

قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : «هذه الآيات نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين. بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله ـ تعالى ـ لها ولنبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فأنزل الله ـ سبحانه ـ براءتها ، صيانة لعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

٢ ـ تسلية الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث المفترى على الصديقة بنت الصديق ـ رضى الله عنهما ـ ، وقد ظل هذا الحديث يتردد في جنبات المدينة ، حتى نزلت هذه الآيات الكريمة ، لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

ومن مظاهر هذه التسلية قوله ـ تعالى ـ (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.).

قال صاحب الكشاف : ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم ، لأنه كان بلاء .. ومحنة ظاهرة. وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية ، كل واحدة منها مستقلة ، بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له. وتنزيه لأم المؤمنين ـ رضوان الله عليها ـ وتطهير لأهل البيت. وتهويل لمن تكلم في ذلك ، أو سمع به فلم تمجه أذناه ، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة. وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمليها» (٢).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ١٧.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢١٧.

١٠٥

٣ ـ إرشاد المؤمنين إلى أن من أنجع الوسائل لمحاربة الإشاعات الكاذبة ، أن يحسن بعضهم الظن ببعض ، وأن يكتموا هذه الإشاعات حتى تموت في مهدها ، وأن يزجروا من يتفوه بها. أو من يعمل على ترويجها. وأن يظهروا له احتقارهم ، ونفورهم من مجرد سماعها.

وهذا الإرشاد الحكيم ، نراه في آيات متعددة من هذه القصة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ).

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ).

٤ ـ بيان جانب من مظاهر فضل الله ـ تعالى ـ ورحمته بعباده المؤمنين ، الذين سبقتهم ألسنتهم بالخوض في حديث الإفك ، أو في سماعه .. ثم تابوا بعد ذلك مما وقعوا فيه.

ويتجلى هذا الفضل العظيم ، في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

٥ ـ تحذير المؤمنين تحذيرا شديدا ، عن مغبة الوقوع مرة أخرى. فيما وقع فيه بعضهم من الخوض في حديث الإفك ، وفيما يشبهه من أحداث ، وبيان أن ما حدث من بعضهم يتنافى مع ما يقتضيه الإيمان ، ومع آداب الإسلام.

ومن الآيات التي وردت في هذا التحذير قوله ـ تعالى ـ : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

٦ ـ تهديد الذين افتروا حديث الإفك بخبث وبسوء نية ، وبإصرار على نشر قالة السوء في صفوف المؤمنين .. تهديدهم بأشد ألوان العذاب في الدنيا والآخرة ، ووصفهم بأقبح الصفات التي تدعو إلى نبذهم والبعد عنهم.

ومن الآيات التي وردت في ذلك قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ). وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ).

قال صاحب الكشاف ـ رحمه‌الله ـ عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه : «ولو فليت

١٠٦

القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة ، لم تر الله ـ تعالى ـ قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك على عائشة ـ رضوان الله عليها. وأنزل ـ سبحانه ـ من الآيات القوارع ، المشحونة بالوعيد الشديد. ما أنزل في حديث الإفك ، ولو لم ينزل الله إلا هذه الثلاث ـ يعنى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ.). إلى قوله ـ سبحانه ـ (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) لكفى بها. حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا ، وبأن جوارحهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا .. فأوجز ـ سبحانه ـ في ذلك وأشبع ، وفصل وأجمل ، وأكد وكرر ... وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفى التهمة عن حرمته ..» (١).

٧ ـ توجيه المؤمنين الصادقين إلى العفو والصفح ، عمن شارك في حديث الإفك بالقول ، أو بالسماع ، أو بالرضا به ، ما دام هؤلاء المشاركون قد تابوا وندموا على ما وقع منهم ، ندما يدل على حسن توبتهم ، كأن يعترفوا بخطئهم أو يعتذروا عما فرط منهم.

ويشهد لهذا التوجيه قوله ـ تعالى ـ في شأن أبى بكر الصديق ، بعد أن أقسم أن لا ينفق على مسطح ـ (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٨ ـ تكريم السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ تكريما يظل ملازما لها إلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الأرض ومن عليها. فقد برأها ـ سبحانه ـ مما افتراه عليها المفترون ، وشهد بحصانتها وغفلتها عن السوء ، وقوة إيمانها ، وطيب عنصرها ، وأنزل في شأنها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ، ويكفيها فخرا قوله ـ تعالى ـ : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

وقد ساق بعض العلماء كثيرا من الأحاديث التي تدل على فضلها وعلى حب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، فقال ما ملخصه : «وفي الجملة فإن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة. وعلى محبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، ففي الصحيح عن عمرو بن العاص قال : قلت يا رسول الله. أى النساء أحب إليك؟ قال : «عائشة».

وثبت في الصحيح ـ أيضا ـ أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة لما يعلمون من محبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها .. وكان في مرضه الذي مات فيه يقول : أين أنا اليوم؟ استبطاء ليوم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٢٣.

١٠٧

عائشة. ثم استأذن نساءه ـ رضى الله عنهن ـ أن يمرّض في بيتها ، وفيه توفى في حجرها» (١).

هذه بعض الأحكام والآداب التي تؤخذ من هذه الآيات ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى أمهات كتب التفسير ، ففيها ما يشبع وينفع.

* * *

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ قبح جريمة الزنا ، وشناعة جريمة القذف ، وعقوبة كل من يقع في هاتين الجريمتين ، أتبع ذلك ببيان الآداب التي تحمل المتمسك بها على التحلي بالفضيلة والنقاء والطهر ... وبدأ ـ سبحانه ـ بآداب الاستئذان فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات ، أن امرأة من الأنصار جاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنى أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، لا والد ولا ولد ، فيأتى الأب فيدخل على وإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلى وأنا على تلك الحال ، فكيف أصنع؟ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا).

فقال أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ يا رسول الله ، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق

__________________

(١) راجع تفسير القاسمى ج ١٢ ص ٤٤٩٤.

١٠٨

الشام ، ليس فيها ساكن ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) (١).

والمراد بالبيوت في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً.). البيوت المسكونة من أصحابها ، بدليل قوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ).

وقوله ـ تعالى ـ : (تَسْتَأْنِسُوا) ، من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف ، فهو من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً.). (٢) أى : قال لأهله إنى رأيت نارا.

ويصح أن يكون من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش ، لأن الذي يقرع باب غيره لا يدرى أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له أهل البيت في الدخول ، زالت وحشته ، ودخل وهو مرتاح النفس.

وعلى هذا المعنى يكون الكلام من باب المجاز ، حيث أطلق اللازم وهو الاستئناس ، وأريد الملزوم وهو الإذن في الدخول.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم التي تسكنونها ، والتي هي مسكونة لسواكم «حتى تستأنسوا» ، أى : حتى تعلموا أن صاحب البيت قد أذن لكم ، ورضيت نفسه بدخولكم «وتسلموا على أهلها» أى : وتسلموا السلام الشرعي على أهل هذه البيوت الساكنين فيها.

وعبر ـ سبحانه ـ عن الاستئذان في الدخول بالاستئناس ، لأنه يوحى بأن القادم قد استأنس بمن يريد الدخول عليهم وهم قد أنسوا به ، واستعدوا لاستقباله ، فهو يدخل عليهم بعد ذلك وهم متهيئون لحسن لقائه. فإذا ما صاحب كل ذلك التسليم عليهم. كان حسن اللقاء أتم وأكمل.

وقوله (ذلِكُمْ) : أى الاستئناس والتسليم قبل الدخول (خَيْرٌ لَكُمْ) من الدخول بدون استئناس أو استئذان أو تسليم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) متعلق بمحذوف ، ولعل هنا للتعليل. أى : أرشدناكم إلى هذا الأدب السامي ، وبيناه لكم ، كي تعملوا به ، وتكونوا دائما متذكرين له ، وتتركوا اقتحام

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢١٣.

(٢) سورة القصص الآية ٢٩.

١٠٩

بيوت غيركم بدون استئذان منهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ حالة أخرى توجب عليهم الاستئذان ، فقال : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ..).

أى : فإن لم تجدوا في هذه البيوت أحدا ، بأن كانت خالية من سكانها لظرف من الظروف ، فلا يصح لكم ـ أيضا ـ أن تدخلوها ، حتى يؤذن لكم في دخولها ممن يملك الإذن بذلك.

قال صاحب الكشاف : «وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر ـ أى الداخل بغير إذن ـ على عورة ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط ، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ، ولأنه تصرف في ملك غيرك ، فلا بد من أن يكون برضاه. وإلا أشبه الغصب والتغلب» (١).

فالآية الأولى لبيان حكم دخول البيوت المسكونة بأهلها ، وهذه لبيان حكم دخول البيوت الخالية من سكانها.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) بيان لما يجب عليهم في حالة عدم الإذن لهم بالدخول.

أى : وإن قيل لكم من جهة أهل البيت ارجعوا ولا تدخلوا ، فارجعوا ولا تلحوا في طلب الدخول ، فإن هذا الرجوع هو أطهر لأخلاقكم ، وأبقى لمرءوتكم. من الإلحاح في الاستئذان ، ومن الوقوف على أبواب أصحابها قد تكون أحوالهم لا تسمح لكم بالدخول عليهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تذييل قصد به التحذير من مخالفة ما أمر الله ـ تعالى ـ به ، وما نهى ـ سبحانه ـ عنه.

أى : والله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، فأصلحوها ، والتزموا باتباع ما أمركم به ، وما نهاكم عنه ، فإنه ـ سبحانه ـ سيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

فالمقصود من هذا الإخبار : إفادة لازمه وهو المجازاة على هذه الأعمال.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) بمنزلة الاستثناء من الأحكام التي اشتملت عليها الآيتان السابقتان.

فقد ذكر المفسرون أنه لما نزلت آية الاستئذان ، قال بعض الصحابة يا رسول الله. كيف

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٢٨.

١١٠

بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ، وهي على ظهر الطريق ، وليس فيها ساكن من أربابها ، فنزلت هذه الآية.

والمراد بالمتاع : التمتع والانتفاع بها.

أى : ليس عليكم ـ أيها المؤمنون ـ حرج أو إثم في أن تدخلوا بغير استئذان بيوتا غير معدة لسكنى طائفة معينة من الناس ، بل هي معدة لينتفع بها من يحتاج إليها من دون أن يتخذها مسكنا له ، كالرباطات ، والفنادق ، والحوانيت ، والحمامات ، وغير ذلك من الأماكن المعدة للراحة المؤقتة لا للسكن والإقامة.

وقوله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أى : فيها حق تمتع وانتفاع لكم ، كالوقاية من الحر والبرد. وكتبادل المنافع فيما بينكم بالبيع أو الشراء ، وغير ذلك مما يتناسب مع وظيفة هذه البيوت غير المسكونة.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) وعيد وتحذير آخر لأولئك الذين يدخلون البيوت ولا يرعون حرمتها ، بل يبيحون لعيونهم ولجوارحهم ، ما لم تبحه آداب الإسلام ، وتعاليمه ، كالتطلع إلى العورات. وما يشبه ذلك من المقاصد السيئة.

أى : والله ـ تعالى ـ وحده يعلم ما تظهرونه وما تخفونه من أقوال وأعمال ، وسيحاسبكم عليها ، فاحذروا أن تسلكوا مسلكا لا يرضى خالقكم عنكم.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ أن على كل إنسان ـ سواء أكان رجلا أم امرأة ـ أن يستأذن ويسلم قبل الدخول على غيره في بيته ، لأن الله ـ تعالى ـ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ..). فهذا نهى صريح عن الدخول بدون استئذان.

إلا أن جمهور الفقهاء يرون أن الطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب وفي السلام على سبيل الندب ، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن.

٢ ـ يرى بعض العلماء أن القادم يبدأ بالاستئذان قبل السلام ، كما جاء في الآية الكريمة ، ويرى كثير منهم تقديم السلام على الاستئذان ، لأن الواو لا تستلزم الترتيب ، ولأن هناك أحاديث متعددة ، تفيد أن السلام مقدم على الاستئذان ، ومنها ما أخرجه الترمذي عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السلام قبل الكلام» (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٩.

١١١

وبعض العلماء فصل في هذه المسألة فقال : إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت ، سلم أولا ثم استأذن في الدخول ، وإن كان لا يرى أحدا منهم قدم الاستئذان على السلام.

وهذا الرأى وجاهته ظاهرة ، لأن فيه جمعا بين الأدلة.

٣ ـ لا صحة لما ذكره بعضهم من أن أصل الآية «حتى تستأذنوا» ، وأن الكاتبين أخطئوا في كتابتهم فكتبوا «حتى تستأنسوا» ، وذلك لأن جميع الصحابة أجمعوا على كتابة «حتى تستأنسوا» في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوة الآية بلفظ «تستأنسوا» ومضى على ذلك إجماع المسلمين في كل مكان ، سواء في كتابتهم للمصحف أم في قراءتهم له.

قال القرطبي : إن مصاحف الإسلام كلها ، قد ثبت فيها «حتى تستأنسوا» وصح الإجماع فيها من لدن عثمان ، فهي لا تجوز مخالفتها. وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح .. وقد قال الله ـ تعالى ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وقال ـ سبحانه ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢). سورة الحجر الآية ٩.

٤ ـ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا.). أن الاستئذان غير مقيد بعدد ، إلا أن السنة الصحيحة قد بينت أن الاستئذان يكون ثلاث مرات فإن لم يؤذن له بعدها انصرف.

ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما رواه البخاري عن أبى سعيد الخدري قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار ، إذ جاء أبو موسى ـ كأنه مذعور ـ فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال : ما منعك ـ أى من الدخول ـ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال لي : لتأتين بالبينة. فهل منكم أحد سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك؟ فقام معه أبى بن كعب ، فأخبر عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك.

قال بعض العلماء : «والراجح أن الواجب إنما هو الاستئذان مرة. فأما كمال العدد ثلاثا فهو حق المستأذن إن شاء أكمله ، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين. فقد ثبت أن عمر بن الخطاب استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرتين ، فلم يؤذن له فرجع ، فتبعه غلام فقال له : ادخل فقد أذن لك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

٥ ـ ظاهر قوله ـ تعالى ـ (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) يفيد أنهم

__________________

(١) سورة فصلت الآية ٤٢.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢١٤.

(٣) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ١٤٩ لفضيلة الشيخ محمد على السائس ـ رحمه‌الله ـ.

١١٢

ليس عليهم استئذان في دخول بيوتهم. إلا أن هذا الظاهر يصح حمله على الزوجة. لأنه يجوز بين الزوج وزوجته من الأحوال ما لا يجوز لأحد غيرهما ، ومع ذلك فإنه ينبغي أن يشعر الرجل زوجته بقدومه ، حتى لا يفاجئها بما تكره له أن يطلع عليه.

ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات : وهذا ـ أى عدم الاستئذان على الزوجة ـ محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها .. ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا (١).

وأما بالنسبة لغير زوجته ، كأمه ، وأخواته ، وبنيه وبناته البالغين ، فإنه يلزمه أن يستأذن عليهم ، لأنه إن دخل عليهم بدون استئذان ، فقد تقع عينه على ما لا يصح الاطلاع عليه.

ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى. ما أخرجه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار ، أن رجلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أأستأذن على أمى؟ قال : «نعم قال : ليس لها خادم غيرى ، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتحب أن تراها عريانة؟ قال : لا .. قال : فاستأذن عليها» (٢).

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم ، لم يدخل عليه إلا بإذن.

٦ ـ وردت أحاديث متعددة في كيفية الاستئذان ، وفي التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن.

فمن آداب الاستئذان أن لا يقف المستأذن أمام الباب بوجهه. ولكنه يجعل الباب عن يمينه أو عن يساره ، ومن الأحاديث التي وردت في ذلك ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن بشر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : السلام عليكم.

كذلك من آداب الاستئذان أن لا يقول المستأذن «أنا» في الرد على رب المنزل ، وإنما يذكر اسمه ، ففي صحيح البخاري عن جابر قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دين كان على أبى ، فدققت الباب ، فقال : من ذا؟ قلت : أنا. فقال : أنا ، أنا ، كأنه كرهها» (٣).

ولعل السر في النهى عن الرد بلفظ «أنا» أن هذا اللفظ يعبر به كل واحد عن نفسه ، فلا تحصل به معرفة شخصية المستأذن ، والمقصود بالاستئذان الإفصاح لا الإبهام.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٠.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢١٩.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٣٨.

١١٣

أما التحذير من التطلع إلى بيوت الغير بدون إذن ، فيكفى لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذنك فحذفته ـ أى : ـ رميته ـ بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح».

هذه بعض الأحكام والآداب التي تتعلق بالاستئذان ، ومنها نرى كيف أدب الإسلام أتباعه بهذا الأدب العالي ، الذي يؤدى التمسك به إلى غرس الفضائل ومكارم الأخلاق في نفوس الأفراد والجماعات.

* * *

وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن دخول البيوت بدون استئذان. أتبع ذلك بالأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، وعدم إبداء الزينة إلا في الحدود المشروعة ، فقال ـ تعالى ـ :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ.). شروع في

١١٤

بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة ، يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخول البيوت اندراجا أوليا (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (يَغُضُّوا) من الغض بمعنى الخفض. يقال : غض الرجل صوته إذا خفضه. وغض بصره إذا خفضه ومنعه من التطلع إلى ما لا يحل له النظر إليه. قال الشاعر :

وأغض طرفي إن بدت لي جارتى

حتى يوارى جارتى مأواها

وهو جواب الأمر «قل» أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ للمؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم عما يحرم أو يكره النظر إليه وبأن يحفظوا فروجهم عما لا يحل لهم ، فإن ذلك دليل على كمال الإيمان! ، وعلى حسن المراقبة وشدة الخوف من الله ـ تعالى ـ.

وجمع ـ سبحانه ـ بين غض البصر وحفظ الفرج ، باعتبارهما كالسبب والنتيجة. إذ أن عدم غض البصر كثيرا ما يؤدى إلى الوقوع في الفواحش ، ولذا قدم ـ سبحانه ـ الأمر بغض البصر ، على الأمر بحفظ الفرج.

وجاء التعبير بقوله ـ سبحانه ـ (قُلْ) للإشعار بأن المؤمنين الصادقين ، من شأنهم إذا ما أمرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر ، فإنهم سرعان ما يمتثلون ويطيعون ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبلغ عن الله ـ تعالى ـ الذي يجب الامتثال لأمره ونهيه.

وخص ـ سبحانه ـ المؤمنين بهذا الأمر ، لأنهم أولى الناس بالمخاطبة. وبالإرشاد إلى ما يرفع درجاتهم ، ويعلى أقدارهم.

قال صاحب الكشاف : و «من» للتبعيض .. فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر ، دون حفظ الفروج؟ قلت : للدلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ... والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها ... وأما أمر الفرج فمضيق (٢).

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) يعود إلى ما ذكر من الغض والحفظ.

أى : ذلك الذي كلفناك بأمر المؤمنين به ـ أيها الرسول الكريم ـ أزكى لقلوبهم ، وأطهر لنفوسهم ، وأنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) تحذير من مخالفة أمره ـ سبحانه ـ.

أى : مرهم ـ أيها الرسول الكريم ـ بالتزام ما أمرناهم به وما نهيناهم عنه ، لأننا

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ١٨ ص ١٣٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٢٩.

١١٥

لا يخفى علينا شيء من تصرفاتهم ، ولأننا أعلم بهم من أنفسهم ، وسنحاسبهم على ما يصنعون في دنياهم ، يوم القيامة.

ثم أرشد ـ سبحانه ـ النساء إلى ما أرشد إليه الرجال فقال : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ، وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها).

أى : وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ للمؤمنات ـ أيضا ـ بأن الواجب عليهن أن يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن ، وأن يحفظن فروجهن عن كل ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه ، ولا يظهرن شيئا مما يتزين به ، إلا ما جرت العادة بإظهاره. كالخاتم في الإصبع ، والكحل في العين ... وما يشبه ذلك من الأمور التي لا غنى للمرأة عن إظهارها.

ومع أن النساء يدخلن في خطاب الرجال على سبيل التغليب ، إلا أن الله ـ تعالى ـ خصهن بالخطاب هنا بعد الرجال ، لتأكيد الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ولبيان أنه كما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ـ إلا في حدود ما شرعه الله ـ فإنه لا يحل للمرأة كذلك أن تنظر إلى الرجل ، لأن علاقتها به ، ومقصده منها كمقصدها منه ، ونظرة أحدهما للآخر ـ على سبيل الفتنة وسوء القصد ـ يؤدى إلى ما لا تحمد عقباه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) بيان لكيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهى عن إبدائها.

والخمر ـ بضم الخاء والميم ـ جمع خمار. وهو ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها وصدرها ، والجيوب جمع جيب ، وهو فتحة في أعلى الثياب يبدو منها بعض صدر المرأة وعنقها.

والمراد به هنا : محله وهو أعلى الصدر ، وأصله : من الجب بمعنى القطع.

أى : وعلى النساء المؤمنات أن يسترن رءوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن ، حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شيء من ذلك.

قالوا : وكان النساء في الجاهلية يسدلن خمرهن من خلف رءوسهن ، فتنكشف نحورهن وأعناقهن وقلائدهن ، فنهى الله ـ تعالى ـ المؤمنات عن ذلك.

ولقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث ، منها : ما رواه البخاري عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ـ لما أنزل الله ـ تعالى ـ : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أخذن أزرهن فشققنها فاختمرن بها.

وفي رواية أنها قالت : إن لنساء قريش لفضلا ، وإنى ـ والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، لما نزلت هذه الآية. انقلب إليهن

١١٦

رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابة ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها ـ وهو كساء من صوف ـ فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الصبح معتجرات كأن رءوسهن الغربان» (١).

والمقصود بزبنتهن في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) الزينة الخفية وهي ما عدا الوجه والكفين ، كشعر الرأس والذراعين والساقين.

فقد نهى الله ـ تعالى ـ النساء المؤمنات عن إبداء مواضع الزينة الخفية لكل أحد ، إلا من استثناهم ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، وهم اثنا عشر نوعا ، بدأهم بالبعول وهم الأزواج لأنهم هم المقصودون بالزينة ، ولأن كل بدن الزوجة حلال لزوجها.

أى : وعلى النساء المؤمنات أن يلتزمن الاحتشام في مظهرهن ، ولا يبدين مواضع زينتهن الخفية إلا «لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن» فهؤلاء الأصناف السبعة الذين ذكرهم الله ـ تعالى ـ بعد الأزواج ، كلهم من المحارم الذين لا يحل للمرأة الزواج بواحد منهم ، وقد جرت العادة باحتياج النساء إلى مخالطتهم ، كما جرت العادة بأن الفتنة مأمونة بالنسبة لهم ، فمن طبيعة النفوس الكريمة أنها تأنف من التطلع إلى المحارم بالنسبة لها. ويلحق بهؤلاء المحارم الأعمام والأخوال والمحارم من الرضاع. والأصول وإن علوا ، والفروع وإن سفلوا.

وقوله ـ تعالى ـ : (أَوْ نِسائِهِنَّ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) بيان لبقية الأفراد الذين يجوز للمرأة أن تبدى زينتها الخفية أمامهم.

أى : ويجوز للنساء المؤمنات أن يبدين زينتهن ـ أيضا ـ أمام نسائهن المختصات بهن بالصحبة والخدمة ، وأمام ما ملكت أيمانهن من الإماء لا من العبيد البالغين ، وأمام الرجال التابعين لهن طلبا للإحسان والانتفاع ، والذين في الوقت نفسه قد تقدمت بهم السن ، ولا حاجة لهم في النساء ، ولا يعرفون شيئا من أمورهن ، ولا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ، ولا يصفونهن للأجانب.

فقوله ـ سبحانه ـ : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) أى : غير ذوى الحاجة من الرجال في النساء يقال : أرب الرجل إلى الشيء يا رب أربا ـ من باب تعب إذا احتاج إليه.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٤٩.

١١٧

ويجوز لهن كذلك إظهار زينتهن أمام الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، أى : الذين لم يعرفوا ما العورة ، ولم يستطيعوا بعد التمييز بينها وبين غيرها ، ولم يبلغوا السن التي يشتهون فيها النساء.

يقال : ظهر على الشيء إذا اطلع عليه وعرفه ، ويقال : فلان ظهر على فلان إذا قوى عليه وغلبه.

فهؤلاء اثنا عشر نوعا من الناس ، ليس عليهم ولا على المرأة حرج ، في أن يروا منها موضع الزينة الخفية ، كالرأس والذراعين ، والساقين ، لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء. فأما الزوج فله رؤية جميع جسدها.

ثم نهى ـ سبحانه ـ النساء المؤمنات عن إبداء حركات تعلن عن زينتهن المستورة ، بل عليهن أن يلتزمن من خلال خروجهن من بيوتهن الأدب والاحتشام والمشي الذي يصاحب الوقار والاتزان ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ).

أى : ولا يصح للنساء المؤمنات أن يضربن بأرجلهن في الأرض ، ليسمعن غيرهن من الرجال أصوات حليهن الداخلية ، بقصد التطلع إليهن ، والميل نحوهن بالمحادثة أو ما يشبهها.

فالمقصود من الجملة الكريمة نهى المرأة المسلمة ، عن استعمال أى حركة أو فعل من شأنه إثارة الشهوة والفتنة كالمشية المتكلفة ، والتعطر الملفت للنظر ، وما إلى ذلك من ألوان التصنع الذي من شأنه تهييج الغرائز الجنسية.

ثم ختم ـ سبحانه ـ تلك الآية الجامعة لأنواع من الأدب السامي ، بدعوة المؤمنين إلى التوبة الصادقة. فقال ـ تعالى ـ : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون والمؤمنات ، توبة صادقة نصوحا تجعلكم تخشونه ـ سبحانه ـ في السر والعلن ، لكي تنالوا الفلاح والنجاح في دنياكم وأخراكم.

قال القرطبي : «ليس في القرآن الكريم آية أكثر ضمائر من هذه الآية. جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات ما بين مرفوع ومجرور ..» (١).

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي اشتملت عليها هاتان الآيتان ما يأتى :

١ ـ وجوب غض البصر وحفظ الفرج ، لأن الإسلام يهدف إلى مجتمع طاهر من الدنس ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٣٨.

١١٨

نظيف من الخنا ، مجتمع لا تمنع فيه الشهوات الحلال وإنما تمنع منه الشهوات الحرام ، مجتمع لا تختلس فيه العيون النظرات السيئة ولا تتطلع فيه الأبصار إلى ما لا يحل لها التطلع إليه ، فالله ـ تعالى ـ يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١) ويقول : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٢).

وقد وردت أحاديث متعددة في الأمر بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه.

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظر الفجأة ـ أى البغتة من غير قصد ـ فقال : «اصرف بصرك» (٣).

٢ ـ أنه لا يحل للمرأة أن تبدى زينتها لأجانب ، إلا ما ظهر منها ، لأن الله ـ تعالى ـ يقول : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها).

قال الإمام القرطبي ما ملخصه : «أمر الله ـ تعالى ـ النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين ، إلا ما استثناه من الناظرين في باقى الآية ، حذارا من الافتتان ، ثم استثنى ما يظهر من الزينة ، واختلف الناس في قدر ذلك.

فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب .. وقال سعيد بن جبير والأوزاعى : الوجه والكفان والثياب .. وقال ابن عباس وقتادة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب .. ونحو هذا ، فمباح أن تبديه لكل من ظهر عليها من الناس.

وقال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية ، بأن المرأة مأمورة بأن لا تبدى ، وأن لا تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر ، بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، «فما ظهر» على هذا الوجه مما تؤدى إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.

قلت : أى القرطبي ـ : وهذا قول حسن ، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما ، عادة وعبادة ، صح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما.

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٣٦.

(٢) سورة غافر الآية ١٩.

(٣) راجع كتاب «رياض الصالحين» ص ٥٨٦ للإمام النووي.

١١٩

يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة ، أن أسماء بنت أبى بكر ، دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه».

وقال بعض علمائنا : «إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك» (١).

هذا ، وفي هذه المسألة كلام كثير للعلماء فارجع إليه إن شئت (٢).

وإلى هنا ترى السورة الكريمة قد نهت عن الزنا ، ووضعت في طريقه السدود الوقائية والنفسية. حيث حرمت الاختلاط ، وأمرت بالاستئذان ، وبغض البصر ، وبحفظ الفرج ، وبعدم التبرج ، وبالإكثار من التوبة إلى الله ـ تعالى ـ.

ثم أتت بعد ذلك بالعلاج الإيجابى ، الذي من شأنه أن يصرف الإنسان عن فاحشة الزنا المحرمة ، لأنه سيجد فيما أحله الله ـ تعالى ـ ما يغنيه عنها ، وذلك عن طريق الأمر بتيسير الزواج ، والحض عليه. قال ـ تعالى ـ :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٢ ص ٢٢٨.

(٢) راجع ـ على سبيل المثال ـ أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ج ٦ ص ١٩٢ وتفسير آيات الأحكام للشيخ السائس ج ٣ ص ١٥٥.

١٢٠