الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

وحينئذٍ يتضح دور الصبر والاستقامة في حركة الحياة الدنيوية والنتائج المترتبة على ذلك ، فما أعظم أن يجد الإنسان نفسه مشمولاً بثلاث عنايات إلهية في مقابل الصبر وهي :

الاولى : الصلوات والتحيات الإلهية من النوع الّذي يصلي فيه الله تعالى على نبيّه الكريم ، ثمّ شمول رحمته الواسعة لهذا الإنسان ودخوله في دائرة اللطف الإلهي ، والأهم من ذلك أنّ الهداية الإلهية ستكون من نصيب هؤلاء والّتي هي مصدر جميع النعم والمواهب وأشكال السعادة الدنيوية والاخروية.

وأما لماذا وردت كلمة «صلوات» بصورة جمع؟ هنا ذكر تفسيران كلّ منهما محتمل في معنى الآية ، الأوّل أنّ ذلك إشارة إلى أنواع الاكرام الإلهي والاحترام الرباني لهؤلاء ، والآخر انه إشارة إلى تكرار هذه العملية وأنّ الله يصلّي عليهم عدّة مرّات ، اما التعبير بالرحمة بصورة نكرة فهو إشارة إلى الأهمية والعظمة لهذه النعمة.

واما الفرق بين الصلوات والرحمة فقد ذكر البعض أنّ الصلوات إشارة إلى مدح الله ولطفه ومغفرته ، في حين أنّ الرحمة إشارة إلى النعم المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة.

«الآية الرابعة عشر» والأخيرة من الآيات مورد البحث والّتي وردت في سورة العصر فإنّها ضمن بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ جميع الناس سيكون مصيرهم إلى الخسران حتماً ما عدا الأشخاص الّذين يتمتعون بأربع صفات ، وأحدها : الصبر والاستقامة وتقول (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(١).

جملة (تَواصَوْا) من مادّة «تواصي» وتشير إلى انه ينبغي على المؤمنين بعد الإيمان والمعرفة والعمل الصالح أن يتحركوا من موقع التكاتف والتعاون لاحقاق الحقوق والانصاف والعدالة في التعامل مع الغير والتوصية بذلك فيما بينهم ، لأنّ إحقاق الحقّ واجراء العدالة في المجتمع الإنساني لا يتسنّى إلّا بالاستقامة والصبر أمام تحديات الواقع الصعبة

__________________

١ ـ سورة العصر ، الآية ١ ـ ٣.

٤٢١

والموانع العسيرة ، ولذلك أوصت الآية الشريفة بالصبر على مستوى العامل الرابع من العوامل المؤدية إلى النجاة ، وفي الحقيقة أنّ هذا العامل هو دعامة وأساس للعوامل الثلاثة الاخرى ، وعليه فإنّ الصبر يعد أحد الأركان الأصلية لسعادة الناس وتحركهم في خطّ الإيمان وتعميق شجرة الأخلاق والصلاح في قلوبهم ، وبدونه سوف لا تثمر القيم الأخلاقية والأعمال الصالحة في واقع الإنسان والمجتمع شيئاً ، ولا يمكن احقاق الحقوق واجراء العدالة في المجتمع البشري ، ولا شكّ أنّ احقاق الحقوق واجراء العدالة يعد من أهم الامور والوظائف ، لأنّه أحياناً يكون الحقّ في الطرف المقابل للإنسان أو لأحد أحبته وأقربائه ، وهنا تكون اجراء العدالة والعمل بالحقّ بحاجة إلى الاستمداد والاسترفاد من عنصر الصبر.

ومن مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة تتضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ أهمية الصبر والاستقامة والمثابرة في خطّ العدالة والحقّ إلى درجة من الأهمية أكثر ممّا نتصور ، وكما يقول بعض المفسّرين أنّ الصبر في القرآن الكريم ورد أكثر من سبعين مرّة أو تكرر بما يقرب من مئة مرة ، في حين اننا لا نجد فضيلة من الفضائل الأخلاقية والإنسانية قد وردت بمثل هذا التأكيد في الكتاب العزيز ، وهذا إنما يدلّ على أنّ القرآن الكريم يولي هذه الفضيلة الأخلاقية أهمية كبيرة ويعدها عصارة جميع الفضائل والأساس لجميع أشكال السعادة الدنيوية والاخروية والاداة الحاسمة للوصول إلى أي نوع من أنواع الفلاح والنجاح والموفقية.

الصبر في الأحاديث الإسلامية :

وكما يقول بعض علماء الأخلاق أنّ الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام في فضيلة الصبر والاستقامة أكثر من أن تحصى ، وقد ورد في بعض الكتب الأخلاقية ما يقرب من

٤٢٢

تسعمائة حديثاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في هذا الموضوع ، ولذلك نختار بعض النماذج من هذه الأحاديث الشريفة لنستوحي منها دورساً في هذه الفضيلة :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر خير مركب ما رزق الله عبدا خيرا له ولا اوسع من الصبر (١).

وعبارة خير مركب الواردة في هذا الحديث الشريف تشير إلى أنّ الصبر هو أفضل وسيلة للوصول إلى السعادة والنجاة وأنّ الإنسان بدونه لا يصل إلى شيء من المقامات الاجتماعية والمعنوية في الدنيا والآخرة.

٢ ـ وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «عَلَيْكُم بِالصَّبْرِ فَانَّ الصَّبْرَ مِنَ الْايمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ» (٢).

وهذا الحديث يدلّ على أنّ الصبر يعد مفتاحاً لجميع الأبعاد الحيوية في حركة الإنسان المادية والمعنوية ، ولهذا ورد في ذيل الحديث المذكور «لا ايمانَ لِمَنْ لا صَبْرَ لَهُ».

٣ ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام أيضاً أنّه قال : «لا يَعْدِمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وانْ طَالَ بِهِ الزَّمانُ» (٣).

ومع الالتفات إلى أنّ الصبر ذكر هنا بشكل مطلق وكذلك الظفر والنصب ، فهذا يدلّ على أنّ هذه الحكم يستوعب جميع الأبعاد المادية والمعنوية في حياة الإنسان.

٤ ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في باب الصبر «الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمانِ» (٤).

وجاء في بعض الروايات الاخرى أنّ نصف الإيمان هو الشكر والنصف الآخر هو الصبر.

أي الصبر والاستقامة للوصول إلى النعم والمواهب الإلهية ثمّ الشكر على هذه النعمة ، أي الاستفادة الصحيحة من المواهب والنعم الإلهية.

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ح ١٠٠٢٥.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ٨٢.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة ١٥٣.

٤ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ١٠٦.

٤٢٣

ومن الواضح أنّ هذا الحديث لا يتنافى مع الأحاديث السابقة ، لأنّه كما تقدّم أنّ المؤمن إذا لم يتمسك بالصبر فإنّ إيمانه سوف يتعرض للاهتزاز والارتباك بسبب الموانع الكثيرة الّتي يجدها في طريقه ، وكذلك لو لم يكن شكوراً على نعم الله تعالى ، فإنّ هذه النعم ستزول وتهرب من يده كما ورد في الآية : «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَديد».

٥ ـ وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «الصَّبْرُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» (١).

٦ ـ ودليل هذا المعنى ما ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يوضح هذا المعنى ويقول «الصَّبْرُ عَوْنٌ عَلى كُلِّ امْرٍ» (٢).

لأنّه كما تعلمون أنّ نظام الحياة في الدين والدنيا يضع أمام كلّ عملٍ مهم بعض الموانع الّتي لا يتجاوزها ولا يعبرها إلّا بالاستعانة بالصبر والاستقامة.

٧ ـ اما بالنسبة للصبر عند المعصية فورد في الحديث الشريف «وَمَنْ صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَهُوَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللهِ» (٣).

أجل فكليهما مجاهد في سبيل الله ، مع فارق أنّ أحدهما يجاهد العدو الخارجي «الجهاد الأصغر» والآخر يجاهد العدو الداخلي «الجهاد الأكبر».

٨ ـ وورد في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين قوله : «انْ صَبَرْتَ ادْرَكْتَ بِصَبْرِكَ مَنازِلَ الابْرارِ وَان جَزَعْتَ اوْرَدَكَ جَزَعَكَ عَذابَ النّارِ» (٤).

٩ ـ وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال في الصبر في مقابل البلايا والمصائب «مَن ابْتُلي مِنَ المُؤمِنينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيهِ كَان لَهُ مَثلُ اجرِ الْفِ شَهِيدٍ» (٥).

ويقول العلّامة المجلسي بعد ذكر هذا الحديث في الجزء ٦٨ من بحار الأنوار انه كيف يعقل أنّ للصبر مثل هذا الثواب في حين أنّ للشهيد بنفسه أحد الصابرين لانه صبر أمام

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ١٠٧.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٧٦٥.

٣ ـ جامع الأحاديث الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٢٥٣.

٤ ـ شرح غرر الحكم ، ح ٣٧١٣.

٥ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٢.

٤٢٤

العدو حتّى استشهد؟

ويمكن في مقام الجواب عن هذا السؤال أن نقول : إنّ الشهيد يصبر أمام هجوم الأعداء ، وهؤلاء الصابرون إنما يصبرون في مقابل الصعوبات المرة الّتي تعترضهم في الحياة من قبيل أنواع المرض ، الفشل ، وفقد الأحبّة وأمثال ذلك.

والدليل الآخر على أفضلية الصابر بالنسبة إلى الشهيد هو أنّ الشهادة تحدث مرة واحدة للإنسان ، ولكنَّ صعوبات الحياة تتكرر آلاف المرات.

١٠ ـ ويقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى الثواب المعنوي للصابرين «مَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَاعْطِيَ فَشَكَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ اولَئِكَ لَهُم الْامْنُ وَهُم مُهتَدونَ» (١).

١١ ـ ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً : «الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ العِبادِ مِنَ النُّورِ وَالصَّفاءِ والْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِم مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ» (٢).

١٢ ـ ونختم هذا البحث عن أحاديث الصبر بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول «الصَّبْرُ مَطَيِّةٌ لا تَكبُوا وَالقَناعَةُ سَيفٌ لا يَنْبُوا» (٣).

معطيات الصبر ونتائجه :

كما تقدّم في المباحث السابقة فإنّ طبيعة الحياة الدنيا تقترن بالموانع والمشكلات والبلايا ، فلو أنّ الإنسان لم يلتزم بالمقررات والقوانين الّتي تنسجم مع هذه الحياة ويحل بذلك ما يواجهه من مشكلات فإنّه سوف لا يصل إلى مقصده ولا يحقق غايته ، وكذلك فإنّ الآفات والمصائب موجودة في ضمن النعم والمواهب وتتسبب في فقدها أو الاضرار بها من

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٥٢٦ ، ح ٨٣٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٩٠ ، ح ٤٤.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٩٦.

٤٢٥

قبيل المصائب الّتي تواجه الإنسان في أولاده وأقربائه وأمثال ذلك.

فالإنسان بدون الاستعانة بالصبر والاستقامة سوف لا يتمكن من سلوك طريق الكمال والسعادة في بعده الإيجابي ، وكذلك لا يتمكن من الصمود أمام عناصر الشَّر في حركة الحياة ، ولهذا السبب فإنّ المفتاح الأصلي للموفقية والنجاح في الحياة هو الاستعانة بالصبر والاستقامة ، وبما أنّ الدين هو عبارة عن مجموعة الواجبات والمحرمات ، أو الطاعات وترك المعاصي ، فإنّ الإيمان والالتزام بالدين لا يكون ولا يتحقق بدون الصبر والاستقامة ، لانه وطبقاً لما تقدّم من البيان فإنّ الصبر بالنسبة للإيمان كالرأس بالنسبة إلى الجسد ، ولذلك ورد في بعض الأحاديث الإسلامية «ومنها الأحاديث الواردة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام» أنّ الصبر قرين الظفر «الصَّبْرُ الظَّفَرُ» (١).

ونقرأ أيضاً في الآيات القرآنية أنّ الشرط المهم لإنتصار المجاهدين في سبيل الله هو الصبر والاستقامة في هذا الطريق ومن ذلك قوله تعالى (... إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٢).

ما هذه القوّة الّتي تمنح رجلاً واحداً القدرة على مقابلة عشرة أشخاص ، وتمنح مئة شخص القدرة على مقابلة ألف شخص؟

إن هذه القوّة هي قوّة الصبر والاستقامة الّتي ورد التصريح بها في الآية الشريفة.

فالأشخاص الّذين يعيشون ضعف الإرادة وقلّة العزيمة سوف يواجهون الحوادث والمشاكل من موقع الاذعان والخنوع أو يديرون ظهورهم لها ويجمحون عن مقاومتها ، ولكنه لا الدنيا تتحقق للإنسان بدون الصبر والاستقامة ولا الآخرة ، ولهذا السبب فان الشعوب الّتي حقّقت تقدماً علمياً وتطوراً حضارياً فإنما تحقق لها ذلك بواسطة الاستقامة والمثابرة والصبر ، ويذكر في حالات العلماء الكبار ، سواءاً الشخصيات الدينية الّتي فتحت أبواب العلوم والمعارف الدينية أمام الناس ، أو علماء العلوم الطبيعية الّذين حققوا للبشرية

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٢١٣.

٢ ـ سورة الأنفال ، الآية ٦٥.

٤٢٦

اكتشافات واختراعات مهمّة ، أنّهم كانوا يعيشون قبل كلّ شيء حالة الصبر والاستقامة والمثابرة في أعمالهم ودراساتهم ، فأحياناً يضطر أحد العلماء للكشف عن قانون علمي إلى اختيار العزلة والانزواء في المكتبة أو المختبر لعدّة سنوات حتّى يوفق أخيراً إلى هدفه واكتشافه.

وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله «مَنْ رَكِبَ مَراكِبَ الصَّبْرِ اهْتُدِىَ الَىَ مَيْدَانِ النَّصْرِ» (١).

وكذلك ورد عن هذا الإمام قوله «مِفْتَاحُ الظَّفَرِ لُزُومِ الصَّبْرِ» (٢).

ومن جهة اخرى نجد أنّ الأشخاص الّذين يشكون ضعف العزم وقلّة الصبر والاستقامة فإنّهم يتلوثون بسرعة بأنواع الذنوب ، لأنّ الذنوب لها جاذبية قوية للنفس الأمارة في الإنسان ، فلو لم تكن في الإنسان قدرة على مقاومتها لأسرع الإنسان الخطى في منزلقات الانحطاط والرذيلة.

وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله «كَمْ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ فَرَحَاً طَويلاً وَكَمْ مِنْ لَذَّةِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ حُزْناً طَويلاً» (٣).

ومن الممكن أن يبتلي الإنسان في مسيرة حياته بأنواع الضرر والخسارة المادية والمعنوية والاجتماعية ، مثلاً بالنسبة إلى موت الأحبّة يجب القول : إن هؤلاء الأحبّة من الأصدقاء والاقرباء لم يتولدوا في وقت واحد وسوف لا يرحلون من هذه الدنيا في وقتٍ واحد أيضاً ، فهناك من يرحل قبل الآخر وهناك من يتأخر ، والأشخاص الّذين يرحلون من هذه الدنيا أسرع سوف يخلفون في قلوب أحبتهم حالات الغم والحزن على فراقهم ، فلو أنّ الإنسان لم يتحل بالصبر فسوف يفقد سلامته النفسية وصحّته الجسمية ويعيش اليأس في الحياة ويتأخر عن القافلة.

__________________

١ ـ كنز الفوائد ، ص ٥٨.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٩٨٠٩.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٩ ، ح ٤٥.

٤٢٧

أجل فإنّ الصبر مع وجود جميع هذه الحوادث والمصاعب يمنح روح الإنسان وقلبه القدرة على الاستمرار في حركة الحياة وإدامة السلوك في خطّ التكامل الإنساني.

وقد رأينا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام يقول إنّ ثواب الصبر لدى الشيعة مقابل المصائب والبلايا يعادل ثواب ألف شهيد ، وهذا المعنى يدلل على ما تقدّم آنفاً من أهمية الصبر.

والخلاصة هي إننا كلّما تحدّثنا عن أهمية الصبر ودوره في الصعود بالإنسان في مدارج الكمال المادي والمعنوي ، الدنيوي والأخروي ، فلا نصل إلى غاية الكلام ولا نحيط بتمام الموضوع ، ولهذا فلا ينبغي أن نتصور أنّ ما ورد في الروايات الشريفة عن ثواب الصابرين هو مبالغة في الكلام ، وبعبارة اخرى : يمكن التمسك بالحديث الشريف الوارد عن الإمام الباقر عليه‌السلام حيث قال «انَّهُ مَنْ صَبَرَ نَالَ بِصَبْرِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقائِمِ ، وَدَرَجَةِ الشَّهيدِ الّذي ضَرَبَ بِسَيفِهِ قُدّامَ مُحمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

أقسام الصبر :

وقد ورد في الكثير من كتب الأخلاق وكلمات علماء الأخلاق أنّ الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الصبر على الطاعة.

٢ ـ الصبر على المعصية.

٣ ـ الصبر على المصيبة.

والمراد من «الصبر على الطاعة» هو مقاومة المشكلات الّتي تعترض طريق الطاعة لله تعالى وامتثال أوامره من قبيل أداء الصلاه والصوم والحجّ والجهاد ودفع الحقوق المالية مثل الخمس والزكاة ، وكذلك الصبر والاستقامة مقابل المشكلات الّتي تقع في طريق طاعة الأوامر الاستحبابية والّتي تستوعب دائرة عريضة ، والمقصود من «الصبر على المعصية» هو

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، كتاب الجهاد ، ص ٢٠٩ ، ح ٥.

٤٢٨

الوقوف أمام الأهواء والدوافع النفسية والنوازع الدنيوية الّتي تستعر في قلب الإنسان وباطنه ، وقد تستعر نيرانها إلى درجة أن تتحول إلى اعصار يدمر جميع عناصر الخير في الإنسان ، ويتلف ما لديه من الإيمان والتقوى والطهارة والصدق والصفاء وأمثال ذلك.

والمقصود من الصبر على المصيبة هو أن يتحلّى الإنسان بالصبر في حياته مقابل الحوادث المؤلمة من قبيل فقد الأحبّة ، الخسارة المالية الكبيرة ، وقوع شخصيته وسمعته الاجتماعية في الخطر ، وقوع الإنسان في مخالب المرض العسير والمؤلم ، والابتلاء برفاق السوء أو الشريك الخائن أو الحكومة الظالمة وأحياناً الزوج والزوجة الفاسدة وأمثال ذلك.

وقد أورد علماء الأخلاق هذا التقسيم للصبر اقتباساً من الروايات الشريفة كما ورد في الحديث الشريف النبوي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ ، صَبْرٌ عَلَى الْمُصيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المُصيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزائِهَا ، كَتَبَ اللهُ لَهُ ثَلاثَ مِائةٍ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَىَ الدَّرَجَةِ كَما بَينَ السَّمَاءِ الَى الارضِ ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّ مائةِ دَرَجَةٍ ، مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومُ الْارضِ الَى الْعَرْشِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصيةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ تِسْعَ مِائةِ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومِ الارْضِ الَىَ مُنْتَهَى الْعَرْشِ» (١).

ويستفاد من عبارات هذا الحديث الشريف الصبر على المعصية أهمّ من الجميع ، ثمّ الصبر على الطاعة ، ثمّ الصبر على المصيبة الّذي يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية والثواب.

ويقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث آخر بعد أن يقسم الإيمان إلى أربع «الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى ارْبَعِ شُعَبٍ ، عَلَى الشَّوْقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرَقُبِ» (٢).

ومع قليل من التأمل يتضح أنّ هدف الإمام عليه‌السلام من هذا البيان هو شرح دوافع الصبر والاستقامة لا فروعه وأغصانه ، وهو مثل ما تقدّم من الحديث النبوي الشريف.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٧٧ ، في اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩١ بهذا المعنى.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح ٣١.

٤٢٩

دوافع الصبر والاستقامة :

إن العوامل والعناصر الّتي تمنح الإنسان القدرة على الصبر مقابل مشكلات الطاعة وترك المعصية أو مقابل المصائب هي كثيرة ، ولكلٍّ واحدٍ منها تأثير خاصّ في تقوية وتعميق هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع النفس ، وأهمها :

١ ـ تقوية دعائم الإيمان واليقين في القلب ، وخاصّةً مع ملاحظة هذه النكتة ، وهي أنّ الله تعالى هو أرحم الراحمين وهو المتكفل لرعاية مصالح عباده والعناية بهم ، ومن هذا المنطلق قد يبتلي الإنسان ببعض الحوادث الّتي تكون أسرارها ومنافعها خفية على الإنسان ليقوي به روح الصبر ، وهنا ينبغي الالتفات والتفكر بالثواب العظيم الّذي أعده الله تعالى للمطيعين والورعين عن ارتكاب المعاصي فإنّ ذلك من شأنه أن يرسخ في عزم الإنسان عنصر الصبر والاستقامة.

ومن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «أَصْلُ الصَّبْرِ حُسْنُ الْيَقِينِ بِاللهِ» (١).

وبديهي انه كلّما اشتد إيمان الإنسان وكثرت معرفته بحكمة الله ورحمته فإنّ صبره سيزداد تبعاً لذلك ، وبتعبير آخر : أنّ تحمل الصبر سيكون أسهل وأيسر ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال لبعض أصحابه «انَّا صُبَّرٌ وَشِيعَتُنا اصْبَرُ مِنّا» فقال له الراوي : جعلت فداك كيف يكون شيعتكم أصبرُ منكم؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام «لَانّا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ وَشيعَتُنا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا لا يَعْلَمُونَ» (٢).

٢ ـ إن تحصيل ملكة الصبر واكتساب هذه الفضيلة حاله حال الفضائل الأخلاقية الاخرى لا بدّ فيه من الممارسة والتمرن ومقابلة الحوادث الصعبة ومواجهة التحديات المفروضة على الإنسان ، ولهذا ورد عن أمير المؤمنين قوله «مَنْ تَوالَتْ عَلَيهِ نَكَباتُ الزَّمانِ اكْسَبَتْهُ فَضيلَةُ الصَّبْرِ» (٣).

وبعبارة اخرى : إن الإنسان في بداية مواجهته للمصيبة قد يصرخ ويحزن بشدّة ، وكذلك

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٣٠٨٤.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٣ ، ح ٢٥.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٩١٤٤.

٤٣٠

عند ما يتحرّك في خط الطاعة والاتيان بالعبادة فإنه قد يواجه مشكلة من ثقل هذه العبادة ويشعر بالتعب ، ولكن تكرار هذه الحوادث وممارسة هذه العبادات سوف تكسبه بالتدريج فضيلة الصبر وتمنحه القوّة في ذاته على الاستمرار في خطّ الاستقامة.

٣ ـ ومن العوامل المهمة في تقوية ملكة الصبر في الإنسان أن يلتفت الشخص إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدنيا دار الحوادث والمشكلات ، ولا يتسنّى له الحصول على أية موهبة من المواهب المادية والمعنوية من دون عبور هذه الموانع المختلفة والتغلب على تلكم المشكلات ، وأيضاً يلتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأفراد الّذين يعيشون النزق وقلة الصبر وسرعة الانفلات لا يصلون إلى مرتبة من مراتب الكمال النفسي والاجتماعي ، كلّ ذلك من شأنه أن يقوي في الإنسان العزم والإرادة والصمود أمام المشكلات والحوادث.

وكما تقدّمت الإشارة إليه انه لا بدّ لقطف الوردة من تحمل ألم الوخزة ، ولتناول جرعة من العسل لا بدّ من تحمل لسع النحل ، وأنّ الكنوز موجودة عادّةً في الخرائب ، والجنّة كامنة في أعماق المشاكل والحوادث المؤلمة.

ومن المعلوم أنّ كلّ إنسان يتفكر جيّداً في هذه الامور فإنه سيجد في نفسه القدرة على الصبر أكثر وتتعمق فيه هذه الفضيلة الأخلاقية ، ومن ذلك ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لِكُلِّ نِعْمَةٍ مِفْتاحٌ وَمِغْلاقٌ وَمِفتاحُهَا الصَّبْرُ وَمِغلاقُها الْكَسَلْ» (١).

٤ ـ وأحد العوامل والدوافع الاخرى للصبر وسُبل تقويته في وجود الإنسان هو أن يتشبه الإنسان بالصابرين ، وهذا الأمر يصدق على جميع الفضائل الأخلاقية ، فكلّما تحلّى الإنسان في الظاهر بصفة معيّنة فسوف تنفذ وتمتد إلى باطنه بالتدريج ويكتسب بذلك هذه الملكة.

وورد في حديث شريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِف يَعُفَّهُ اللهُ ، وَمَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهُ اللهُ وَمَا اعْطِي عَبْدٌ عَطاءً هُوَ خَيرٌ وَاوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» (٢).

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٢٠ ، ص ٣٢٢.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ح ١٠١٢٨.

٤٣١

٥ ـ الصبر له علاقة وثيقة بسعة وجود الإنسان وشخصيته ، فكلّما اتسعت ظرفية الإنسان وقويت شخصيته فإنه يعيش الصبر والاستقامة أكثر وأشد ، ولهذا السبب فإنّ الأطفال وكذلك الكبار الّذين يعيشون حالة الطفولة يجزعون لأقل حادثة ، في حين أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بشخصية قوية وسعة صدر فإنه يهضمون المشكلات ويتغلبون عليها.

إن المسبح الصغير قد يتماوج بأدنى نسيم وأقل ريح بينما البحر الكبير لا يتماوج بهذه السهولة ، وإنما سمّي أكبر المحيطات في الدنيا بالمحيط الهادي لأن هيجان أمواجه هي أقل من هيجان الأمواج في المحيطات الاخرى.

إن مطالعة سيرة الشخصيات المهمة في التاريخ البشري وخاصّة الأنبياء والأولياء الإلهيين الّذين وصلوا إلى مقامات عالية ومراتب سامية في دائرة الكمال المعنوي بسبب الصبر والاستقامة ، يمكنها أن تكون من العوامل المؤثرة في تقوية هذه الملكة الحميدة في الإنسان ويكون دافعاً له على التحلي بهذه الفضيلة أسوةً بهؤلاء العظام.

إن مسألة الصبر والاستقامة مقابل الحوادث المؤلمة والمشكلات الكبيرة الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة لا تقتصر على البعد الأخلاقي والمعنوي فحسب بل هي مؤثرة بالنسبة إلى سلامة البدن وقواه الحيوية ، فالأشخاص الّذين لا يملكون حالة الصبر أمام الحوادث فإنّ حياتهم عادةً تكون مقترنة بأنواع الأمراض وأهمها الأمراض القلبية والعصبية ، في حين أنّ الصابرين يتمتعون بعمرٍ طويل مع سلامة بدنية نسبية ، ولذلك فإنّ علماء النفس يرون أنّ الدين بصورة عامة «والّذي يقوي في الإنسان حالة الصبر أمام المشكلات» يعد أحد شروط سلامة الجسم والصحّة النفسية.

وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «مَن احَبَّ الْبَقاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصائِبِ قَلْباً صَبُوراً» (١).

«الجزع» يقع في النقطة المقابلة للصبر ، وهو الحالة النفسية الّتي لا تنضبط فيها النفس أمام الحوادث والمشاكل بحيث يعيش الإنسان الرضوخ والإذعان بالأمر الواقع وتحدياته

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٨١ ، ح ٧١.

٤٣٢

الصعبة وتتملكه حالة اليأس من الخلاص ، أو تمنعه هذه الحالة من التحرّك والسعي نحو المقصود والهدف.

إن الجزع يعد من اشنع الصفات الأخلاقية وأسوأ الحالات النفسية للإنسان حيث تفضي به إلى الشقاء في الدنيا والآخرة وتمنعه من تحصيل المقامات والمراتب العالية في معراج الكمال ، وتؤدي كذلك إلى فقدان شخصيته وحيثيته في المجتمع وتكون حياته مليئة بالمنغصات والمؤلمات فلا يرى للراحة والسعادة وجهاً.

وقد وصف القرآن الكريم الإنسان في سورة المعارج بأنه موجود حريص وقليل الصبر عند ما يدهمه بلاءٌ وسوء ، وعند ما يحصل على شيء من النعمة والخير فإنه يتحرك فيه عنصر البخل ويمنعه من البذل والعطاء كما تقول الآية : «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَاذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» (١).

والمراد من الإنسان في هذه الآية «كما وردت هذه الكلمة في آيات قرآنية اخرى تصف الإنسان بصفات سلبية مشابهة» هو الإنسان الّذي لم يصل بعد إلى مستوى النضج الأخلاقي والعاطفي ولم يسلك في خطّ تهذيب النفس ، ولذلك ورد في ذيل هذه الآيات استثناء الأشخاص الّذين يعيشون الإيمان ويسلكون في خطّ الصلاة ومساعدة المحرومين ومراعاة اصول العفة والأمانة كما تقول الآيات «الَّا الْمُصَلِّينَ ..... والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ» (٢).

إنّ تعبير الآيات أعلاه لعلّه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الجزع وقلّة الصبر هم عادةً من البخلاء أيضاً ، كما أنّ البخلاء يتسمون بالجزع أيضاً ، وبعبارة اخرى : أنّ هاتين الصفتين يرتبطان برابطة وثيقة ويجتمعان في دائرة مفهوم «هلوع».

وقد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً بحوث عميقة وجذابة تتضمن ملاحظات دقيقة في هذا المجال ، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها :

__________________

١ ـ سورة المعارج ، الآية ١٩ ـ ٢١.

٢ ـ سورة المعارج ، الآية ٢٢ ـ ٣٤.

٤٣٣

١ ـ ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذمّ الجزع قوله «ايَّاكَ وَالْجَزَعَ فَانَّهُ يَقْطَعُ الامَلَ وَيُضَعِّفُ الْعَمَلَ وَيُورِثُ الهَمَّ» (١).

٢ ـ وقد ورد أيضاً عن هذا الإمام يقول في حديث آخر ضمن الإشارة إلى نكتة لطيفة اخرى : «الْجَزَعُ اتْعَبُ مِنَ الصَّبْرِ» (٢).

والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ الجزع وقلّة الصبر لا يحل أيَّة مشكلة وليس له أثر سوى أن يحطم عناصر القوّة والاستقامة في روح الإنسان وجسمه ، ولهذا فإنّ الّذي يعيش الجزع يوقع نفسه في التعب أكثر من الصابر ، مثلاً عند ما يفقد الإنسان عزيزاً له يمكن أن يصرخ ويلطم وجهه ويضرب رأسه بالجدار أو ينتحر أخيراً ، ولكن أية واحدة من هذه السلوكيات لا تعيد له عزيزه ، بل من شأنها أن تدمر دعائم الإيمان في قلبه وتحطيم أركان سلامته البدنية والروحية ، مضافاً إلى انه سيتلف ثوابه الأُخروي.

٣ ـ ويقول الإمام علي عليه‌السلام أيضاً «الْجَزَعُ لا يَدْفَعُ الْقَدَرَ وَلَكِنْ يُحْبِطُ الاجْرَ» (٣).

وبالنسبة إلى سبب احباط الأجر فلا بدّ من القول : أنّ الجزع وعدم الصبر علامة على عدم الرضا وعدم التسليم لقضاء الله وقدره ، فهو في الواقع اعتراض على عدل الله وحكمته حتّى لو كان الجازع غافلاً عن هذا المطلب.

٤ ـ وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الهادي عليه‌السلام وضمن الإشارة إلى نكتة اخرى «الْمُصِيبَةُ لِلصَّابِرِ وَاحِدَةٌ وَلِلْجَازِعِ اثْنانِ» (٤). وكما تقدّم أنّ الجزع وعدم الصبر من شأنه مضافاً إلى زوال أجره وانعدام ثوابه أن يزيد في مشكلته ، وعليه فإنّ المصيبة على الجازع مضاعفة.

٥ ـ ويقول الإمام الكاظم عليه‌السلام في بيانه لأحد وصايا المسيح عليه‌السلام «وَلَا تَجْعَلُوا قُلُوبَكُم مَأْوىً لِلشَّهَواتِ انَّ اجْزَعَكُم عِنْدَ الْبَلاءِ لَاشَدُّكُم حُبّاً لِلدُّنيَا وَانَّ اصْبَرَكُمْ عَلَى الْبَلاءِ

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ١٤٤.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ١٣١ ، ح ١٦.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ١٨٧٦.

٤ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ١٤٤.

٤٣٤

لَازْهَدُكُم فِي الدُّنيَا» (١).

ويستفاد من هذه الرواية أنّ المصدر الأساس للجزع وعدم الصبر هو الحرص وحبّ الدنيا ، ولأجل أن يخفف الإنسان من شدّة الجزع عليه أن يخفف من حبّه للدنيا وتعلقه بزخارفها.

٦ ـ ونقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «انْ تَحْتَسِبُوا وَتَصْبِرُوا تُوجَرُوا ، وَانْ تَجْزَعُوا تَأْثِمُوا وَتُوزَرُوا» (٢).

٧ ـ وفي حديثٍ مختصر وعميق المعنى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول «مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ اهْلَكَهُ الْجَزَعُ» (٣).

ونختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان «مسك الختام» فقد ورد في هذا الحديث أنّ رسول الله كتب إلى بعض أصحابه يعزّيه بابنه : «أما بعد فعظم الله جلّ اسمه لك الأجر والهمك الصبر ... فلا تجمعن أن يحبط جزعك أجرك وأن تندم غداً على ثواب مصيبتك وانك لو قدمت على ثوابها علمت أنّ المصيبة قد قصرت عنها واعلم أنّ الجزع لا يرد فائتاً ولا يدفع حزن قضاء فليذهب أسفك ما هو نازل بك مكان ابنك والسلام» (٤).

وينقل المرحوم المحدّث القمّي في «سفينة البحار» قصة جميلة عن «بزرجمهر» وزير كسرى تتعلق بمسألة الصبر هذه ويقول : «حكي عن بعض التواريخ أنّه سخط كسرى على بزرجمهر ، فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد ، فبقي أياماً على تلك الحال ، فأرسل إليه من يسأله عن حاله ، فإذا هو منشرح الصدر مطمئن النفس ، فقالوا له : أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال : اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي الّتي ابقتني على ما ترون.

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦ ، ص ١٦٩.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٩٦.

٤ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٥٦٣ ، ح ١٠١١٨.

٤٣٥

قالوا : صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال : نعم ، أما الخلط الأوّل فالثقة بالله عزوجل.

وأما الثاني : فكلّ مقدّر كائن.

وأما الثالث : فالصبر خير ما استعمله الممتحن.

وأما الرابع : فإذا لم أصبر فما ذا أصنع ولا أعين على نفسي بالجزع.

وأما الخامس : فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.

وأما السادس : فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزّه (١).

علاج الجزع وقلّة الصبر :

إن هذا المرض النفسي والأخلاقي مثل بقية الأمراض الاخرى له طرق للعلاج ونشير إليها فيما يلي :

١ ـ تشخيص المرض

عند ما يتوجه المريض إلى الطبيب الروحاني يقوم هذا الطبيب بالفحص عن علامات المرض الأخلاقي والروحي من قبيل : الضرب على الرأس والوجه ، عض الأنامل ، الصراخ والعويل ، سوء الأخلاق والجفاف في التعامل مع الآخرين ، سوء المعاملة مع الزوجة والأطفال وكذلك الشكوى وعندها يدرك هذا الطبيب وجود مرض الجزع في مثل هذا الشخص وبالتالي يقوم بعلاجه بطرق مختلفة.

٢ ـ التفكير بالعواقب السلبية للجزع وقلّة الصبر

إن تفكير المريض بعواقب الجزع الوخيمة والآثار السلبية لقلّة الصبر له دورٌ مهم في علاج هذا المرض الروحي ، وقلما يسمع الإنسان بعواقب هذا المرض الوخيم ولا ينزجر لهذه الحالة ويتصدّى لرفعها من نفسه وإزالتها من أخلاقه.

__________________

١ ـ سفينة البحار ، مادّة صبر.

٤٣٦

أجل ، فعند ما يعلم الإنسان أنّ الجزع يذهب بأجره وثوابه عند الله تعالى من دون أن يحل له أية مشكلة ، وكذلك يحطم أعصابه وقواه النفسية ويسلب منه سلامته البدنية والروحية ، والأسوأ من ذلك انه يوصد أمامه أبواب حلّ المشكلة ، لأن الإنسان إذا احتفظ ببرودة أعصابة عند بروز المشكلات والمصائب وتسلط على نفسه فإنّ ذلك من شأنه أن يفتح أمام عقله أبواب الحلّ لذلك المشكل أو على الأقل يقلل من شدّة المصيبة ، ولكنَّ الإنسان وبسبب حالة الجزع والاضطراب وعدم التسلط على الأعصاب وبالتالي عدم تمركز الفكر فإنه لا يجد أمامه نافذة مفتوحة للأمل والحلّ ، بل حتّى لو فتحت له الأبواب والنوافذ ليرى حلاً لهذه المشكلة فإنه وبسبب ما يعيشه من حالة الأضطراب والتوتر لا يرى هذه الأبواب والنوافذ ، بخلاف ما إذا هدأ لحظة وضبط نفسه لفترة وجيزة ونظر إلى ما حوله فسيجد طريق النجاة والحلّ أمامه يسيراً.

إن النظر الدقيق إلى هذه الحقائق والتدبر فيها له تأثير مهم في تغير حالة الجزع لدى الإنسان وبالتالي مع تكرارها سينطوي الشخص تحت لواء الصابرين.

٣ ـ مطالعة الآيات والروايات الواردة في هذا الباب

إن مطالعة الآيات والروايات الشريفة الّتي تتحدث عن أجر الصابرين وثوابهم ومقامهم عند الله له دور مهم في تقوية عناصر الصبر والاستقامة في روح الإنسان ، ومن ذلك ما ورد في الآية الشريفة الّتي تبشر الصابرين بأعظم بشارة وتقول : «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للهِ وَانَّا الَيهِ رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (١).

وعبارة «أُولئك هم المهتدون» تتضمن معنىً عميقاً ولها تفاسير مختلفة ، وأحدها هو ما ذكر آنفاً من أنّ الصابرين سيجدون حلاً لمشكلاتهم أسرع من الآخرين وتفتح أمامهم أبواب النجاة والخلاص من الأزمات والبلايا ، لأن أحد العوامل الأصلية للجزع هو «ضعف النفس» فكلّما سعى الإنسان في تقوية معنوياته وتكريس عناصر الشد والقوّة في نفسه فإنّ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٥٥ ـ ١٥٧.

٤٣٧

ذلك من شأنه أن يمنحه التوفيق لإزالة عناصر الجزع وقلّة الصبر من نفسه.

٤ ـ مطالعة حالات الأنبياء والأولياء

وأحد الطرق لعلاج حالة الجزع هي مطالعة حالات الأنبياء والأولياء في دائرة صبرهم واستقامتهم أمام المصائب والبلايا الكثيرة وما كانوا يتحملونه من أعدائه وأقوامهم ، وتذكر هذه الحالات ومطالعتها يلهم الإنسان القوّة في الصمود أمام حجم التحديات المفروضة عليه من الواقع الخارجي والداخلي.

٥ ـ تلقين الاعتماد على النفس في تحمّل الصعاب

ولا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة ، وهي أنّ التلقين سواءً كان من طرف الشخص نفسه أو من قبل الآخرين فإنه يشكل عاملاً مؤثراً في إزالة الأخلاق السيئة والصفات الذميمة من واقع النفس ، فلو أنّ الشخص الّذي يعيش قلّة الصبر والجزع يلقن نفسه كلّ يوم بضرورة أن يتحلّى بالصبر ، وكذلك يسعى ممن حوله من افراد الاسرة أو الأصدقاء في تعميق هذا التلقين لديه ، فلا شكّ في ظهور آثار الصبر على سلوكياته وحالاته النفسية.

ونختم هذا البحث بدعاء شريف للإمام زين العابدين عليه‌السلام يقول فيه : «اللهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ يَوْمِي هَذَا صَلاحاً وَاوسَطَهُ فَلاحاً وَآخِرَهُ نَجاحاً واعُوذُ بِكَ مِنْ يَومٍ اوَّلُهُ فَزَعُ وَاوسَطَهُ جَزَعٌ وَآخِرُهُ وَجَعٌ»

ويستفاد من هذا الحديث أنّ الجزع يورث الإنسان الألم والوجع ، فمضافاً إلى انه لا يزيل همه وألمه فإنه من شأنه أن يزيده ألماً وهمّاً.

الفرق بين الجزع والعواطف المعقولة :

إن قلب الإنسان هو مركز العواطف والاحساسات الإنسانية ، وكلّما فقد الإنسان عزيزاً له فإنه يتألم لذلك ويجري دمع عينه من شّدّة التأثر ، ولكن لا ينبغي الخلط بين إظهار التأثر والحزن مع الجزع وقلّة الصبر ، لأن قلب الإنسان يتأثر بالحوادث المؤلمة بطبيعة الحال ، ويمكن أن تعكس عينه حالة التأثر هذه وتبكي بسبب ذلك.

٤٣٨

وعليه فإنّ البكاء والحزن على فقد الأحبّة يعد أمراً طبيعياً وإنسانياً.

فالمهم هو أنّ الإنسان لا يسلك في المصيبة في خطّ الجزع والشكوى وعدم الشكر ويتكلّم بكلمات لا تنسجم مع الإيمان والعبودية لله تعالى والرضا بقضائه ، وفي هذا المجال نقرأ حديثاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعا بِدَعْوَىَ الجَاهِليَّةِ» (١).

وقد ورد في سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله انه عند ما توفي ولده إبراهيم عليه‌السلام بكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه بحيث جرت دموعه على خديه وصدره الشريف فقالوا : يا رسول الله أنت تنهانا عن البكاء ولكنك تبكي لوفاة إبراهيم؟ فقال ليس هذا بكاء وان هذه رحمة ومن لم يرحم لا يرحم (٢).

أي هذا نوع من إظهار المحبة والرحمة الصادرة من العاطفة الإنسانية الّتي يعيشها الإنسان الواقعي.

وقد ورد هذا الموضوع بتفصيلٍ أكثر في كتاب «بحار الأنوار» حيث ذكر المجلسي أنّه عند ما اتَى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فوضعه في حجره فقال له : يا بني أنّي لا أملك لك من الله شيئاً وذرفت عيناه ، فقال له عبد الرحمن : يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء ، قال : إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعم لعب ولهو ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبةٍ خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان إنّما هذه رحمة ، من لا يرحم لا يرحم ، لو لا أنّه أمر حقّ ووعد صدق وسبيل بالله وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً أشد من هذا وأنا بك لمحزونون» ، «وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ تَبْكِيَ الْعَينُ وَدْمَعُ الْقَلْبُ وَلا نَقولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ عَزَّوَجَلَّ» (٣).

وأحياناً يمكن أن يفقد الإنسان انضباطه وإلتزامه ويشق جيبه ويخمش وجهه ولكن كلّ ذلك يكون بالمقدار المعقول والطبيعي لغرض إيجاد الهيجان العام وتعبئة العواطف

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٥ ، ص ٩٣.

(٢) أمالي الطوسي ، ص ٣٨٨.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ٩٠.

٤٣٩

والاحساسات في مقابل الأعداء فإنّ ذلك قد يكون ضرورياً أيضاً ويستثنى من الأصل ، إذاً فما ورد من بعض الحالات الاستثنائية لبعض العظماء يكون من هذا الباب.

ونختم هذا الحديث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «النِّياحَةُ عَمَلُ الجَاهِلَيَّةِ» (١).

والمراد من النياحة هنا ليس إقامة المآتم أو ذكر المصيبة والبكاء على الميت بصورة فردية أو جماعية بل هو إشارة إلى ما كان مرسوماً ومتداولاً في زمان الجاهلية بين العرب عند ما كان يفقدون أحد الأحبّة ، فإنّهم يدعون نسوة لإقامة النياحة والتحدّث بكلمات لزيادة النوح والبكاء على الميّت ، وفي الغالب يصفونه بأوصاف كاذبة ومبالغ فيها وقد يعملن على تمزيق ثيابهنَّ فيلطمن وجوههن ويخدشن خدودهن ، وبذلك يسعين إلى تثوير عواطف أهل العزاء وتفعيل حرارة المجلس.

نهاية الجزء الثاني :

اللهمّ! أنت تعلم جيداً بأننا إذا وفقنا لسلوك طريق أوليائك في تهذيب النفس وحسن الأخلاق وصفاء الباطن فانّا نطلب ذلك ونتعشقه من صميم القلب ، فزدنا توفيقاً في سلوك هذا الطريق وأعنا في سلوك خطّ الإيمان والتقوى وحسن الأخلاق والحقنا بجماعة من انعم الله عليهم واجعلنا من جملة (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

(آمين يا ربَّ العالمين)

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ١٠٣.

٤٤٠