الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

فمن كان عبداً للدنيا فإنه لا يرى غيرها وكأنما يغلق عينه واذنه عن رؤية عواقب الامور ويلقي بنفسه وبدافعٍ من العشق للدنيا والشوق إلى تحصيل زخارفها من موقع العجله والتسرع وهو يتصور إنما يسعى لخيره ومصلحته ولكنَّ الأغلب هو أنّ هذه العجلة تتسبب في تورطه بالمشاكل واصطدامه بالموانع الّتي لم يكن يراها بسبب العجلة ولم يكن مستعداً نفسياً لمواجهتها ، ولهذا السبب فإنه يمنى بالهزيمة والفشل الذريع.

٣ ـ ضيق الصدر وسعته

ومن الدوافع الاخرى للعجلة والتسرع هو ضيق الصدر وافق التفكير ، فالأشخاص الّذين يعيشون ضيق الصدر وضيق الافق هم الّذين يسلكون طريق العجلة في تحصيل مبتغاهم ، واما من كان يعيش سعة الصدر ويتسم بسعة الافق في تفكيره فنجده يخطو في حركته الاجتماعية بتأنٍ ووقار وتدبّر فيما يصدر منه من سلوكيات وأعمال ويتجه لتحصيل مقاصده بعزم قوي وفي نفس الوقت ببرودة أعصاب ، ولهذا فإنه قلما يصاب بالفشل والهزيمة.

إن تسويلات الشيطان وخداع رفاق السوء والمتملقين والكاذبين والحساد والنمامين هي بدورها من العوامل المهمة للوقوع في دائرة الاستعجال والتسرع.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصدد «وَلا تَعجَلَّنَّ الَىَ تَصديقِ ساعٍ فَانَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَان تَشبَّهَ بِالنَّاصِحينَ» (١).

٤ ـ الجهل

وأحد العوامل الاخرى للاستعجال بالامور الجهل والسفه ، فان الشخص الجاهل والسفيه يعيش في الغالب في دائرة الأوهام والخيالات الباطلة فيتصور أن مقدمات هذا العمل الفلاني متهيئة وأنّ الأرضية مساعدة لذلك فيلقي بنفسه في دوامة الحوادث ولا يرجع منها إلّا بخف حنين ولا يكون مصيره منها سوى الفشل ، في حين أنّ الشخص العالِم بالامور والعاقل الذكي فإنه يسعى لبرمجة خطواته العملية في سبيل الوصول إلى هدفه ومقصده وبالتالي فسوف يحصد ثمار هذا التأني والتدبر ولا يصيبه سوى الفلاح.

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٤٠١

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام «مِنَ الْحُمُقِ الْعَجَلَةُ قَبلَ الْامْكانِ» (١).

طرق العلاج :

ولغرض التصدي لهذه الرذيلة الأخلاقية وعلاجها أو الوقاية منها فقبل كلّ شيء يجب التفكر في هذه العواقب الوخيمة والآثار السيئة لحال الاستعجال والتسرع ، فنحن نشاهد الكثير من الوقائع المؤلمة والحوادث والمشاكل الكثيرة الّتي تكون بسبب التسرع ... وهناك نماذج كثيرة من ذلك ذكرها لنا تاريخ الانسانية.

فلو أنّ الشخص تفكر في هذه الامور والآثار السيئة ، فإنه سيدرك حتماً أنّ الاستعجال في العمل مضافاً إلى انه لا يوصله إلى مقصده ولا يحصل على غايته بسرعة فإنه قد لا يحصل عليها أبداً فيما بعد.

وما تقدّم من العبارات العميقة في الروايات الشريفة من قبيل «العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ» و«وَالعَجَلَةُ قَبْلَ الامْكانِ يُوجِبُ الغُصّةَ وَمَعَ العَجَلَةِ تَكوُن النَّدامَةُ» (٢). يجب أن تكون بمثابة الشعار لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية يضعه نصب عينه كي يحد ذلك من عجلته في الامور ، ويضع في خاطره دائماً الحديث الشريف الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «إنّما أهلك الناس العجلة ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يُهلك أحد» (٣).

ومن جهة اخرى يجب عليه أن يمارس عملية التأني ويتمرن عليها ويلقن نفسه بها حتّى يمتزج هذا الخُلق الحسن بروحه ويمتد إلى أعماق وجوده ، فيكون له كالطبيعة الثانية ، لأن كلّ عمل يتبدل بالممارسة والتمرن إلى عادة ، وكلّ عادة تتبدل إلى خُلق وطبيعة في نفس الإنسان.

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٩٣٩٤.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٤٠.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٤٠.

٤٠٢

٢٠

الصبر والتأني

تنويه :

إن الحياة الدنيوية مليئة بالمشاكل والمصائب الّتي تستوعب حياة الإنسان في واقعه الفردي والاجتماعي ، ولو انه تصدى لهذه المشكلات وواجه هذه المخاطر والتحديات للواقع العملي بصبرٍ ومقاومة ومثابرة فإنه سوف يتجاوزها وينتصر عليها قطعاً ، وإلّا فإنه لن يصل إلى مقصوده أبداً ، وسيجد نفسه يعيش الخنوع والخضوع للتحديات الصعبة الّتي يفرضها عليه الواقع.

والمراد من الصبر هو الاستقامة أمام المشاكل والحوادث المختلفة ، والصفة المقابلة له هو «الجزع» ويعني افتقاد عنصر المقاومة والاستسلام أمام تحديات الواقع والمشاكل الاجتماعية والنفسية في حركة الحياة على المستوى المادي والمعنوي ، فلو أنّ الإنسان لم يقف أمام أهوائه الطاغية ونوازعه النفسية ولم يقاوم الجوانب الدنيوية ولم يسلك في طريق «معرفة الله» واطاعته ، فإنه لن يصل إلى أي مرتبة من مراتب الكمال المعنوي والإنساني ، ولذلك قسم علماء الأخلاق الصبر إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الصبر على الطاعة ، أي على المشكلات الّتي تواجه الإنسان في خط التقوى والإيمان وطاعة الله تعالى.

٤٠٣

٢ ـ الصبر على المعصية ، ويعني الصمود أمام النوازع النفسية والأهواء الشيطانية ومقاومتها والتصدّي لها.

٣ ـ الصبر على المصيبة ، ويعني الصمود أمام المصائب والحوادث المرة الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة وعدم الانفعال عند حدوثها والخضوع لتحدياتها وترك الجزع والفزع في عملية مواجهتها.

ويعتبر «الصبر» من أهم أركان الإيمان حيث يشبه الإمام علي مكانة الصبر بالنسبة إلى الإيمان كمكانة الرأس بالنسبة إلى الجسد ، وقد لا نجد في القرآن الكريم مورداً اهتم فيه القرآن من موقع التأكيد والمدح مثل ما نجد ذلك بالنسبة إلى الصبر ، فقد وردت سبعون آية تقريباً في هذا الموضوع ، عشرةٌ منها مختصة بتوصيات القرآن للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه.

ونقرأ في آيات القرآن أنّ الله تعالى وعد الصابرين أجراً عظيماً وبدون حساب (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١).

وأنّ الصبر هو مفتاح الجنّة كما تقول الآية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٢).

وجاء في الحديث النبوي المعروف اشارات إلى هذا المعنى وأنّ الصبر نصف الإيمان ، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم بدراسة هذا الموضوع الأخلاقي المهم من جوانبه وابعاده المختلفة.

آيات الصبر :

١ ـ (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٣).

٢ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ

__________________

١ ـ سورة الزمر ، الآية ١٠.

٢ ـ سورة الرعد ، الآية ٢٤.

٣ ـ سورة ص ، الآية ٤٤.

٤٠٤

الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١).

٣ ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)(٢).

٤ ـ (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)(٣).

٥ ـ (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤).

٦ ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ...)(٥).

٧ ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً)(٦).

٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٧).

٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٨).

١٠ ـ (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٩).

١١ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(١٠).

١٢ ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً)(١١).

١٣ ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ١٨.

٢ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٨٥.

٣ ـ سورة الكهف ، الآية ٦٧.

٤ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٤٩.

٥ ـ سورة الاحقاف ، الآية ٣٥.

٦ ـ سورة المعارج ، الآية ٥.

٧ ـ سورة آل عمران ، الآية ٢٠٠.

٨ ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٣.

٩ ـ سورة الزمر ، الآية ١٠.

(١٠). سورة الرعد ، الآية ٢٤.

(١١). سورة الفرقان ، الآية ٧٥.

٤٠٥

وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(١).

١٤ ـ (.. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٢).

تفسير واستنتاج :

اسوة الصبر والمقاومة

«الآية الاولى» تستعرض حياة أحد الأنبياء العظام الّذي صار مثلاً للصبر والاستقامة في مواجهته للبلايا والمصائب في الحياة ، في حياته الفردية والاجتماعية ، ولهذا فإننا نقرأ في حالاته وسيرته المذكورة في سورة «ص» إن القرآن الكريم يضربه مثلاً للمسلمين في أوائل البعثة الّذين كانوا يعيشون التحديات الصعبة والضغوط المستمرة من قِبل المشركين في مكّة ويتعلموا منه درس الصبر والاستقامة والصمود في مواجهة المشاكل والمصاعب المفروضة عليهم.

وصحيح أنّ اسم النبي أيوب عليه‌السلام أو سيرته قد وردت في عدّة سور في القرآن الكريم ، ولكنَّ ما ورد في سورة «ص» يعدو شرحاً وافياً لسيرته الكريمة حيث تقول الآية ٤٤ من هذه السورة : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(٣).

وهكذا واجه النبي أيوب عليه‌السلام مصائب عظيمة لغرض اختباره وامتحانه لمعرفة درجة شكره وطاعته لله تعالى وليصعد بهذا الطريق إلى مقامات سامية من القرب الإلهي ، فقد كانت له ثروة كبيرة وبساتين وأغنام كثيرة وأبناء صالحون ، ولكن كلّ ذلك فقده بين عشية وضحاها حتّى أبناءه أيضاً ونفس أيوب ابتلي بمرض شديد ومزمن إلى درجة انه كان يتلوى في فراشه من شدّة الالم الّذي أوقعه في الفراش أسيراً ، ولكن أي واحدٍ من هذه الامور لم يستطع أن يقلل من شكره لله تعالى ، ولم يتمكن أن يخدش في صبره واستقامته في

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٥.

٢ ـ سورة العصر ، الآية ٣.

٣ ـ سورة ص ، الآية ٤٤.

٤٠٦

خط الإيمان والطاعة.

هذا وقد سمع أيوب الكثير من التعريض به وبشخصيته ، ولعلّ هذه المصيبة كانت عليه من أعظم المصائب ، وأحياناً كان عُبّاد بني إسرائيل ورهبانهم يأتون لرؤيته ويقولون له بصراحة : ما هو الذنب العظيم الّذي ارتكبته حتّى ابتلاك الله بهذا الابتلاء والعذاب الشديد؟ ولكن هذا النبي العظيم لم يفقد صبره بل كان يعيش الانضباط الأخلاقي أمام نوازعه النفسية ويلهج لسانه بشكر الله تعالى ويتعامل مع كلّ هذه المصائب من موقع الشكر لا من موقع كفران النعمة والشكوى والجزع ، وبعد أن مضت عليه سنوات عديدة وهو يتحدى هذه الصعاب العظيمة دعا الله تعالى لأن يكشف عنه هذا البلاء كما تقول الآية : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

فعند ما ختم هذا النبي العظيم جميع مراحل هذا الامتحان الإلهي الكبير ووقف أمام البلايا والمصائب المختلفة كجبلٍ من الصبر والاستقامة وأخجل الشيطان الرجيم من أن ينال منه ولو كلمة جزع وشكوى واحدة حتّى يئس منه ، عندها فتح الله تعالى أبواب رحمته عليه ، وعاد عليه كلّ ما فقده من المال والأولاد والمواهب الدنيوية الاخرى بل ضاعفها له أضعافاً مضاعفة ، والأهم من ذلك انه نال من ذلك مقاماً عظيماً في دائرة القرب الإلهي ونال وسام (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

وذكر المفسّر المعروف «ابن مسعود» : إن أيوب عليه‌السلام كان «رَأسُ الصَّابِرينَ الَىَ يَومِ القِيامَةِ» (١) وهكذا سجَّل أيوب لنفسه هذا الشرف والافتخار على طول التاريخ البشري.

ولا ينبغي التساهل في المرور على هذا المطلب ، وهو أنّ إنساناً كان يتمتع بجميع الامكانات المادية والدنيوية ، وفجأةً فقد كلّ شيء وجلس صفر اليدين حتّى انه لم يسلم من تعريضات قومه من الأصدقاء والأعداء وكناياتهم الموجعة الّتي كانت تؤلمهُ أكثر من طعنات السيوف والخناجر ومع ذلك لم يصدر منه حتّى كلمة واحدة على خلاف رضى الله تعالى بل كان لسانه لهجاً بذكر الله وشكره ، وفي نهاية أمره قال كلمة واحدة تعبر عن دعاءه

__________________

١ ـ تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ٤٥ ذيل الآية.

٤٠٧

وتضرعه إلى الله تعالى لا غير ، وهي العبارة الّتي تصور البعض أنّها من قبيل الشكوى ، ولكنه خطأ فاحش لأنها لا تتضمن أي نوع وأي أثرٍ للشكوى فيها حيث تقول : (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

وتأتي «الآية الثانية» لتستعرض صبر «النبي يعقوب» الّذي يُعد اسطورة في الصبر والاستقامة ، فقد فَقَدَ ابنه وأعز ما لديه في الحياة ، وهو «يوسف» الّذي كان يحبّه حبّاً جمّاً ، وعاش سنوات مديدة بعينٍ باكية وصبرٍ عظيم حتّى انه عميت عيناه ، ولكن رغم ذلك فإنه لم تفلت منه كلمة مخالفة لرضى الله تعالى وكان شاكراً وصابراً دائماً وكما تعبر الآية على لسان يعقوب نفسه بكلمة «صبرٌ جميل» حيث تقول (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١).

وهكذا نرى إن الاخوة الكذّابين غفلوا عن تمزيق قميص يوسف عند ما جاءوا به ملطخاً بالدم وقالوا لأبيهم إنّ الذئب قد أكل يوسف في غفلة منا ، ولهذا لم يصدق يعقوب كلامهم هذا وقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، ولكن بما انه لم يكن يملك أي شيء اتجاه هذه الحادثة المؤلمة فاكتفى بالبكاء على يوسف وقال : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي الصبر المقترن مع الشكر لله على هذه المحنة دون أن تمتد إلى قلبه حالة الجزع الذميمة.

وبالنسبة لعبارة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فللمفسّرين بيانات مختلفة في تفسيرها ، فذهب البعض إلى أنّ الصبر جميل هو الصبر الّذي لا يخالطه الجزع ولا الشكوى للناس من المصيبة ، وذهب البعض الآخر إلى أنّ الصبر الجميل أن يكون بدافع إلهي وطلباً لرضى الله تعالى ، وقد ورد في الروايات انه سُئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصبر الجميل ما هو؟ وقال هو الذي لا شكوى معه (٢).

وذهب آخرون إلى أنّ الصبر الجميل هو ما لم يقترن مع الشكوى إلى الناس ، وأجمل منه

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ١٨.

٢ ـ تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٣٨.

٤٠٨

أن يعرض حاله على الله تعالى ويلتجي إليه في هذه المصيبة ويؤدي حقّ الطاعة والعبودية له.

فعند ما اعترض أبناء يعقوب على أبيهم بسبب كثرة البكاء على يوسف وتذكره الدائم قال لهم إنني لا أشكو حالي إلى الناس وإليكم بل (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

«الآية الثالثة» تتحدّث عن طائفة اخرى من الأنبياء الإلهيين الّذين سلكوا في دعوتهم لأقوامهم وفي مواجهة المشكلات والمصاعب في خطّ الاستقامة والتحمل ، من أجل ذلك فإنّ الله تعالى أغرقهم برحمته وجعلهم في زمرة الصالحين :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)(٢).

أما صبر إسماعيل فواضح ، وذلك بانه أوّلاً : استعد لأن يضحي بنفسه في طاعة الله وامتثال أمره وامتثل لما أمره به أبوه من ذبحه كما أمر الله ، ولكن الله تعالى شملهما بعنايته وأرسل لإبراهيم خروفاً أو كبشاً ليذبحه بدل إسماعيل.

وثانياً : لبقائه في الصحراء المحرقة في منطقة مكّة وإلى جانب بيت الله الحرام كي ما يقوي ويشتد أمر هذا المركز الإلهي ويشيع أمرهُ بين الناس.

وأمّا بالنسبة إلى صبر إدريس فقيل : أنّه أوّل من بُعث من بين قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ولكنه بالرغم من ذلك واجه صعوبات كبيرة في هذا السبيل ولم يستجب له أحدٌ من قومه.

وأمّا «ذي الكفل» فإنما سمي بهذا الاسم وصار في زمرة الصابرين الكبار من الأنبياء الإلهيين فبسبب انه كان يعيش في بني إسرائيل ، وكان يحكمهم نبيّاً من الأنبياء ، وفي يوم من الأيّام جاء الوحي إلى ذلك النبي وأخبره بحلول أجله وأنّ عليه أن يسلم مقاليد الحكم إلى

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٨٦.

٢ ـ سورة الأنبياء ، الآية ٨٥.

٤٠٩

شخص آخر تتوفر فيه هذه الصفات الثلاثة : أن يقوم في كلّ ليلة بالعبادة والصلاة ، وأن يصوم كلّ يوم ، وأن يحكم بين الناس دون أن يغضب ، فقال شابٌ من المؤمنين : أنا أتكفل بكلّ هذه الامور ، قال ذلك واستمر على الوفاء بعهده والاتيان بهذه الثلاثة (مع جميع ما تتضمنها من مشاكل وصعوبات) وبذلك نال مقام النبي أيضاً فسُمي : ذي الكفل.

أجل ، فإنّ هؤلاء العظماء الثلاثة كانوا اسطورة للصبر والاستقامة بحيث إنّ القرآن الكريم جعلهم اسوة لجميع المسلمين في العالم وأشار إليهم بذلك في هذه الآية الكريمة.

وتتعرض «الآية الرابعة» إلى الحديث عن «قصة موسى عليه‌السلام والخضر عليه‌السلام» ونقرأ في هذه القصة دروساً وعبراً مهمة ونافعة حيث جاء موسى عليه‌السلام إلى الخضر عليه‌السلام لطلب العلم وسأله أن يعلمه من العلوم والأسرار الإلهية ، لأن هذه العلوم والأسرار هي غير «علم الشريعة» الّذي تلقاه موسى عليه‌السلام بطريق الوحي وكان على اطلاع عام به ، ولكنَّ تلك العلوم والمعارف متعلقة بأسرار عالم التكوين والحوادث الواقعة في عالم الوجود ، ولكن على أية حال فإنّ الخضر عليه‌السلام كان قلقاً من عدم تحمل موسى عليه‌السلام بهذه العلوم والمعارف وقال له كما تذكر الآية (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)(١).

فكان أن وعد موسى عليه‌السلام معلمه بأن يصبر ويتريث ولا يعترض على شيء ، ولكن الحوادث والوقائع الّتي رآها فيما بعد كانت عجيبة وغريبة إلى درجة أنّ موسى عليه‌السلام لم يطق صبراً إلى أن يخبره الخضر عليه‌السلام عن أسرارها ، وفتح فمه بالاعتراض على معلمه ، فما كان من الخضر عليه‌السلام إلّا أن ذكره بوعده بالصبر والتريث ، فاعتذر موسى عليه‌السلام بذلك ولكنه في المرّة الثالثة قرر الانفصال إلى الأبد.

وهذه القصة العجيبة تتضمن دروساً ومعارف كثيرة ، ولكن ما يرتبط ببحثنا هذا هو أنّ موسى عليه‌السلام لو صبر أكثر ولم يعترض على الخضر عليه‌السلام لكان يكتشف أسراراً جديدة ويزداد علماً إلى علمه ، ولكن عدم صبره هذا تسبب بأن لا يتعلم سوى ثلاثة امورٍ فقط ، في حين انه

__________________

١ ـ سورة الكهف ، الآية ٦٧ و ٦٨.

٤١٠

وكما يقول بعض المفسّرين المعروفين أنّ موسى عليه‌السلام لو صبر أكثر لكان يتعلم من الخضر عليه‌السلام آلاف الأسرار والمعارف الموجودة في عالم التكوين والخلقة.

وعلى هذا فإنّ الصبر يعد أحد مفاتيح العلوم والمعارف.

ويمكن أن يتساءل البعض : ألم يكن الأنبياء أعلم الناس في زمانهم؟ فكيف طلب موسى من الله تعالى أن يتعلم بعض العلوم من الخضر وحتّى انه فارقه بعد ذلك ولم يتعلم منه سوى بعض الامور والأسرار القليلة؟

والجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّ كلّ نبي يجب أن يكون أعلم الناس بالنسبة إلى دائرة مهمته ووظيفته في تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى الحقّ ، وهكذا كان موسى أعلم الناس بنظام الشريعة والدين ، ولكنَّ مسؤولية الخضر ودائرة علومه ترتبط بعالم التكوين وعمله وهو كعمل الملائكة «المدبرات أمراً» المأمورين بتدبير عالم الوجود ، ولهذا فإنّ الأعمال الّتي صدرت من الخضر قد لا تكون مطابقة لموازين الشرع في الظاهر حتّى أنّ موسى عليه‌السلام اعترض عليه في ذلك ، ولكن عند ما شرح الخضر عليه‌السلام الأسرار الكامنة في أعماله قبل موسى عليه‌السلام منه ورضى بذلك.

وأساساً فإنّ القوانين الحاكمة على عالم التكوين رغم أنّها تصب في نتيجة واحدة مع قوانين عالم التشريع إلّا آنها منفصلة عنها في الظاهر ، ولهذا السبب فإنّ صداقة موسى والخضر عليهما‌السلام لم تدم طويلاً.

ومن الممكن أنّ أن يكون لبعض الأنبياء وكذلك الأئمّة إحاطة بأسرار عالم التكوين أيضاً «كما يستفاد ذلك من الروايات بالنسبة إلى نبي الإسلام والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام» ولكن هذا الأمر لا لزوم له في توكيد مرتبة النبوة للأنبياء وكذلك مرتبة الإمامة للأئمّة لأن ذلك يعد مجرد فضيلة لا شرطاً للرسالة والإمامة.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن أحد أنبياء بني إسرائيل الّذي ورد اسمه في التفاسير والتواريخ انه «اشموئيل» لكي يعين لهم رئيساً وقائداً للجيش ليحاربوا معه جالوت ، فاختار

٤١١

لهم رجلاً يدعى «طالوت» لانه يمتاز ببعض المميزات والصفات الإيجابية الموجودة فيه بتفاصيل قد تخرج عن موضوع هذا البحث.

وعند ما جاء طالوت بذلك الجيش العظيم من بني إسرائيل لحرب جالوت أدرك جيداً بفراسة من الله تعالى أنّ هذا الجيش العظيم غير قابل للاعتماد ، لانه رأى كثيراً من أفراده يعيشون حالة الكسل والخمول وعدم الهمة ، فمضافاً إلى أنّ وجودهم ليس فقط لا يبعث على تقوية الجيش ، بل سيؤدي إلى تضعيف روحية الآخرين أيضاً ، لذا عزم على تصفية جيشه بالعديد من الاختبارات والامتحانات ، وبعد أن نجح في ذلك وأتم اختباره لجيشه لم يبق منه إلّا عدّة قليلة.

وهذه الفئة القليلة كانت تعيش القلق والاضطراب من قلّة الأفراد ، فكان أحدهم يقول للآخر : نحن لا نستطيع مقاومة جيش جالوت العظيم ولا نتمكن من الصمود أمام قوته وجحافله ، ولكنَّ البعض منهم كما يقول القرآن الكريم (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١).

ثمّ إن هذه الفئة القليلة عند ما برزوا لجالوت دعوا الله تعالى أن يرزقهم حسن الصبر كما تقول الآية : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٢).

وعلى هذا فقد اثبتوا أنّ الجماعة الكثيرة للجنود والجيش العظيم إذا كانوا فارغين من الدوافع المعنوية والاستقامة والصبر فإنّهم سينالهم الفشل الذريع في ميدان القتال ، بخلاف الفئة القليلة ، الّتي تعيش الاستقامة والصبر والثبات فإنه يمكنها الانتصار على الجيش العظيم في العدّة والعدد ، وبذلك استطاعت هذه العدّة القليلة مع قائدهم طالوت بالانتصار على جالوت وجنوده الكثيرين ويهزموهم شرَّ هزيمة ، وهناك قتل داود الّذي كان شاباً قوياً في جيش طالوت ، «جالوت» واستطاع بنو إسرائيل العودة إلى ديارهم وأهليهم فتخلصوا من

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٤٩.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٠.

٤١٢

سيطرة عدوهم جالوت وتحرروا من أسره ، وبهذا فقد خلفوا للتاريخ البشري درساً آخر عن أهمية الصبر والاستقامة في سلوكهم العملي.

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ التوكل على الله بالإيمان بالآخرة والثواب الإلهي يشكل دعامة قوية للصبر والاستقامة في واقع النفس ، ونقرأ في بعض الروايات أنّ عدد جيش جالوت ٣١٣ نفراً كما كان أصحاب بدر كذلك في العدد ، واللطيف أنّ داود مع صغر سنه ولكنّه كان مسلحاً بقوّة الإيمان ، وكان قد أخذ معه مقلاعاً وعدّة أحجار ورمى بأحدها باتجاه جالوت فأصابته بجبينه وخرَّ جالوت صريعاً بسبب ذلك ، فلمّا رأى جيشه ذلك أسرعوا بالفرار يحدوهم خوف عظيم وتلاشى ذلك الجيش الكبير الّذي يبلغ عدده كما ورد في بعض الروايات «منه ألف نفر» مسلحين بأنواع الأسلحة.

وتستعرض «الآية السادسة» خطاب الله تعالى للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله موصيةً له بالاستقامة وأن يقتدي بذلك بسيرة الأنبياء اولي العزم من قبله وتقول : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ...)(١).

ورغم أنّ هذه الآية الشريفة تتحدّث عن الصبر والتأني في مقابل طلب نزول العذاب الإلهي على المخالفين والأعداء إلى أن تتم الحجّة عليهم فلعلّه يوجد من بينهم من له رغبة في سلوك طريق الحقّ ويهتدي بالتالي إلى الإيمان ويكون في زمرة السعداء ، ولكن هذا الأمر الإلهي بمثابة دستور عام ودليل واضح على فضيلة الصبر بعنوان منهج عام لجميع الأنبياء من اولي العزم.

أجل فإنّ جميع الأنبياء العظام وأصحاب الشرائع السماوية عند ما كانوا يواجهون أعدائهم المعاندين والأشخاص الّذين يعيشون الجهل والسفه والعناد كانوا يتسلحون بالصبر والاستقامة أكثر ليتمكوا من هداية الامّة إلى ساحل النجاة بصورة أفضل.

النبي نوح عليه‌السلام دعا قومه إلى طاعة الله «٩٥٠ سنة» ليل نهار في الخفاء والاجهار

__________________

١ ـ سورة الاحقاف ، الآية ٣٥.

٤١٣

ووعظهم وحذرهم طيلة هذه المدّة المديدة ولكنه لم يؤمن له سوى بضع أفراد معدودين.

النبي إبراهيم عليه‌السلام أُلقي في النار الملتهبة ، والنبي موسى عليه‌السلام تعرض هو والمؤمنين من قومه إلى أشد العذاب من قبل فرعون وأتباعه ، وكذلك ما واجهه عيسى عليه‌السلام من بني إسرائيل من الأذى والاتهام والطرد إلى أن أرادوا صلبه وقتله ولكن الله تعالى انقذه في اللحظة الأخيرة ، والخلاصة أنّ الحياة الدنيا هي دائماً محل التضاد بين الحقّ والباطل حيث لا يمكن التغلب على المشكلات والمصاعب الّتي يواجهها الإنسان في حركة الحياة إلّا بقوّة الصبر والاستقامة.

امّا المراد من الأنبياء اولي العزم من هم؟ فقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد به هم الأنبياء الّذين يأتون بشريعة جديدة وعددهم مع نبي الإسلام خمسة أشخاص ، وامّا اختيار هذا الأسم والعنوان لهم فهو من أجل ارادتهم القوية وعزمهم القاطع في الدعوة إلى الحقّ وهداية الناس إلى الله تعالى ، ولا شكّ أنّ هذه الفئة من الأنبياء كانوا يواجهون من المشاكل والمصاعب في حركة التغيير بالرسالة الإلهية أكثر من غيرهم ، لأن عرض شريعة جديدة تتقاطع مع كلّ ما يألفه الناس من الشرائع والقوانين السائدة لديهم يتضمّن مشكلات كثيرة وصعوبات يقوم بها المتعصبون من هذه الأقوام البشرية.

وذهب بعضٌ آخر إلى أنّ عددهم «١٨ نفر» حيث ورد اسمهم في الآيات ٨٣ إلى ٩٠ من سورة الأنعام ، وذهب البعض الآخر إلى أنّهم تسعة أشخاص ، وآخرون إلى سبعة أشخاص ، بينما ذهب البعض إلى ستة أشخاص ، وبعض قال بأنّهم خمسة أشخاص ، وذكر آخرون أنّ جميع الأنبياء الإلهيين هم «اولي العزم» ، لأنهم يرون أنّ جميعهم يتمتعون بالعزم الراسخ في أداء المسؤولية الإلهية الملقاة على عاتقهم ، ولكنَّ القول الأخير بعيد حسب الظاهر ، وسائر الأقوال لا دليل عليها سوى ما ورد من الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم‌السلام في تفسير هذه الآية وأنّ عددهم مع نبي الإسلام هو خمسة أشخاص.

وأما «الآية السابعة» فتعود لتخاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من موقع الأمر بالصبر مقابل

٤١٤

استهزاء وتكذيب المشركين واذاهم وتقول : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً)(١).

وقد ذكر المفسّرون في تفسير (صَبْراً جَمِيلاً) تفاسير مختلفة وقد تقدّم البحث عنها في تفسير الآية الثانية في هذا البحث وسنتابع الكلام فيها في حديثٍ آخر لاحقاً ، ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام في الجواب عن معنى الصبر الجميل في هذه الآية ، «صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوىً الَى النّاسِ» (٢).

وفي «الآية الثامنة» يخاطب الله تعالى جميع المؤمنين ويأمرهم بالصبر والمثابرة وأنّ ذلك هو مفتاح السعادة والنجاة ويقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣).

فنقرأ في هذه الآية أربع أوامر تمثل مفتاح السعادة ومصدر الخيرات والبركات على الإنسان في حياته المادية والمعنوية.

الأوّل : الصبر والاستقامة والصمود أمام الحوادث والمشكلات والمصائب والموانع الّتي يجدها الإنسان في حركته الدنيوية لتحديات الواقع وصعوبة الظروف.

الثاني : المصابرة ، وهي من باب «مفاعلة» وتأتي بمعنى الصبر والاستقامة مقابل صبر واستقامة الآخرين ، وفي الحقيقة فإنّ الدستور الأوّل ناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام أنواع المشكلات والحوادث الّتي يفرضها الواقع على الإنسان ، أما الدستور الثاني فناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام الأعداء ، وعليه فكلّما بذل الأعداء جهداً في سبيل المقاومة في ميدان القتال ، فعلى المؤمنين أن يبذلوا جهداً أكبر من ذلك ويعيشوا الصبر بأقوى ممّا لدى العدو كي ينالوا النصر والغلبة عليه.

«رابطوا» من مادّة «مرابطة» وهي في الأصل من «رباط» بمعنى شد الشيء إلى مكان معين ، وتستعمل هذه المفردة «مرابطة» عادّةً بمعنى مراقبة الحدود والثغور لأن جنود

__________________

١ ـ سورة المعارج ، الآية ٥.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٩٣.

٣ ـ سورة آل عمران ، الآية ٢٠٠.

٤١٥

الإسلام يضعون مراكبهم وأدوات حربهم وامتعتهم في ذلك المكان.

وآخر دستور إلهي في هذه الآية هو الأمر بتقوى الله الّذي هو من قبيل الخيمة الّتي تستوعب بظلّها جميع الأوامر والدساتير السابقة ، فعند ما يكون الصبر والمصابرة والمرابطة من أجل الله وبعيداً عن أي أشكال الرياء والأمراض الشخصية وتكون مقترنة بالتقوى فإنّ ذلك سيتسبب في الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.

بعض المفسّرين ذكر في تفسير «المصابرة» أنّها الصمود ومقاومة العادات والأهواء النفسانية ، لانها تقف في المقابل أمام الإنسان لتمنعه من سلوك طريق الهدى والصلاح والسير في خطّ التقوى والإيمان ، فيجب على الإنسان أن يقف في مقابلها بالمثل ، وقالوا في تفسير «المرابطة» أنّ المراد منها هو ربط النفس بطاعة الله أو ربط القلب بالله تعالى.

وقد نقل عن أحد العرفاء انه كان يتجه إلى الحجّ مشياً على الأقدام ، فالتقى بأعرابي راكباً جمله فقال له الأعرابي : أين تذهب يا شيخ؟ فقال له : إلى بيت الله الحرام. فقال : لماذا أنت راجل؟ فقال : بل لدي مراكب كثيرة ، فتعجب الأعرابي من ذلك فسألة : وما هي هذه المراكب؟ فقال العابد : عند ما تنزل عليّ مصيبة فسأركب مركب الصبر ، وعند ما تنزل عليّ نعمة أركب مركب الشكر ، وعند ما يداهمني القضاء والقدر أركب مركب الرضا ، وعند ما تطغى نفسي وتطلب مني شيئاً فأعلم أنّه لم يبق من عمري شيء وما مضى منه أكثر ممّا بقي.

فقال الأعرابي : في الواقع أنت الراكب وأنا الراجل والسلام عليكم ، فودعه وانصرف.

«الآية التاسعة» تخاطب جميع المؤمنين بتعبيرٍ جديد وتتحرك ضمن توصيتهم بأن يلتزموا الصبر ويستعينوا بالاستقامة والتحمل في مقابل تحديات الواقع الصعبة والمشكلات المفروضة عليهم وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(١).

وهذه الآية لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ أشكال الصبر والاستقامة ، سواءٌ الصبر على

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٣.

٤١٦

الطاعة أو الصبر على المعصية أو الصبر على المصيبة ، فتوجب على الإنسان أن يستعين بكلّ عمل مهم بالصبر سواءً كان ذلك العمل هو الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك ، فلا بدّ من الاستعانة بأحد أقسام الصبر بما يتناسب مع المشكلة الّتي تواجه الإنسان.

ولا بدّ من القول في من فسّر الصبر بالصوم أنّ الصوم أحد المصاديق البارزة للصبر لا أنّه يستوعب جميع مفهوم الصبر في هذه الآية الشريفة.

وهنا يثار سؤال ، وهو أنّه ما هي الرابطة بين الصبر بمعناه الواسع ، وبين الصلاة؟

ذكر بعض المفسّرين في مقام الجواب أنّ الرابطة بينهما هو أنّ الإنسان قد يفقد صبره أحياناً أو يتضعضع أمام المشكلات وضغط الواقع الصعب فتأتي الصلاة لتمنحه قوّة القلب الإرادة والعزم والتوكل على الله تعالى ، وبذلك فإنّ الصلاة تزيد الإنسان قوّة في عملية الصبر والمقاومة.

وبتعبير آخر : عند ما يتجه الإنسان إلى الباري تعالى من خلال الصلاة فإنه يجد نفسه مرتبطاً بالقدرة اللامتناهية والحقّ الأزلي ، وهذا العمل يزيد من مقاومة الإنسان في مقابل المشكلات بحيث يبلغ به مرتبة أن يتغلب على جميع ما يواجهه من صعوبات ومشاكل ويستمر في خط الاستقامة والتحمل والمثابرة ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحياناً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكلا الحديثين صحيحان من حيث السند : «اذَا أَهَالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ ، قَامَ الى الصَّلَوةِ ثُمَّ تَلى هَذِهِ الآيَةِ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(١)» (٢).

وعلى أية حال فإنّ هذه الآية من أوضح الآيات القرآنية الّتي تبيّن أهمية الصبر وكونه عاملاً مهماً في نجاح الإنسان في حركة الحياة الفردية والاجتماعية.

«الآية العاشرة» تخاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله «من جانب الله تعالى» بأن يقول لجميع عباده المؤمنين : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٥٣.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٥٤ ، روح البيان ، ج ١ ، ص ٢٥٧.

٤١٧

وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(١).

وهذه الآية الشريفة تدلّ من جهة على أنّ الإنسان يجب عليه أن يستعين بقوّة الصبر والاستقامة في مقابل الصعوبات الّتي يفرضها الواقع وتفرضها عليه عملية الصراع مع الظالمين والجبابرة ، لأنّه بدون ذلك فلا يوجد منفذ أمام الإنسان سوى الاستسلام للظالمين وقوى الإنحراف والخضوع لهم.

ومن جهة اخرى فإنّها تشير إلى ثواب الصابرين عند الله وأنّه لا يقبل العد والحساب.

عبارة «بغير حساب» تشير إلى أنّ الله تعالى سوف يجازي هؤلاء الصابرين بالثواب العظيم إلى درجة أنّ أحداً لا يقدر على عدّه واحصائه إلّا الله تعالى ، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله أنّه قال : «إذا نشرت الدواوين ونُصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»)(٢).

وهذه العبارة «بغير حساب» وردت في آيات متعددة اغلبها يتعلق بالرزق الدنيوي الكثير الّذي يهبه الله تعالى لبعض الناس ، ولكن فقط في هذه «الآية ٤٠ من سورة المؤمن» فتتحدّث عن الثواب الإلهي للمؤمن والصابر يوم القيامة ، ومن المعلوم انه إذا كان الرزق الدنيوي بدون حساب فإنّ ذلك لا يعني انه يتناسب مع كمية العمل أو كيفيته ، بل يتناسب مع لطف الله تعالى وعنايته لعبده ، وبالتالي تكون ثمرته سامية جداً في مقام القرب الإلهي والكمال المعنوي.

ونقرأ في «الآية الحادية عشر» تعبيراً جميلاً جداً عن أهمية الصبر والاستقامة ، وذلك أنّ الملائكة عند ما تستقبل أهل الجنّة من كلّ باب يردون إليها يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ١٠.

(٢) أورد هذا الحديث كلّ من الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، والبرسوئي في روح البيان ، مع تفاوت يسير ذيل هذه الآية.

٤١٨

صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(١).

واللطيف أنّ الملائكة هنا أشاروا من بين جميع الأعمال والطاعات والعبادات الّتي أتى بها أهل الجنّة إلى الصبر والاستقامة لأن ذلك كان سبب دخولهم الجنّة ، ولو دققنا النظر لرأينا أنّ الصبر بحد ذاته له دورٌ مهم في سعادة الإنسان ونجاته في الآخرة ودخوله الجنّة لانه بدون الصبر فلا يستطيع الإنسان أن يتوقى من الذنوب ولا يؤدي العبادات والطاعات ولا جهاد النفس أو جهاد الأعداء ، ولهذا السبب فإنّ الملائكة في أوّل سلامٍ وتبريك لهؤلاء ذكروا مسألة الصبر.

والشاهد على هذا الكلام أنّ جميع الطاعات يأتي بها الإنسان في ظلّ عنصر الصبر ونقرأ في الآية ٢٢ من هذه السورة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ...).

وجاء في تفسير هذه الآية حديثاً جميلاً عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد : ليقم أهل الصبر ، فيقوم جمعي من الناس فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين؟ فيقولون : إلى الجنة. قالوا : قبل الحساب؟ قالوا : نعم ، فيقولون : من أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الصبر ، قالوا : وما كان صبركم؟ قالوا : صبرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبرناها عن معاصي الله ، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا ، قال علي بن الحسين عليه‌السلام : فتقول لهم الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(٢).

وذكر بعض رواة هذا الحديث أنّ الملائكة تقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ)(٣).

«الآية الثانية عشر» تكرر هذا المطلب بصورة جذابة ، وهذه الآية هي استمرار للآيات

__________________

١ ـ سورة الرعد ، الآية ٢٤.

٢ ـ القرطبي ، ج ٥ ، ص ٤٥٣٢.

٣ ـ تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٤٥٣٢.

٤١٩

الّتي تحدّثت عن صفات «عباد الرحمن» واستعرضت في سياقها اثنى عشر صفة ايجابية تبين شخصيتهم السامية في جميع الأبعاد (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً)(١).

«غُرفة» من مادّة «غَرْفَ» على وزن «ظرف» بمعنى حمل الشيء وأخذه باليد ولذلك يقال لمن يتناول الماء من العين بيده انه : اغترف من الماء ، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الأقسام العلوية من البناء فيقال لها «غرفة» وفي هذه الآية اطلقت هذه الكلمة على أعلى المنازل في الجنّة وأنّها من نصيب الصابرين.

ويستفاد من تعبير الآية أعلاه أنّ الصبر هو العنصر المشترك الممتد في جميع الصفات الاثنى عشر لهؤلاء العباد المخلصين «عباد الرحمن».

وتأتي «الآية الثالثة عشر» وهي من الآيات المعروفة في مسألة الصبر لتثير في أجواء الصابرين البشارة بالثواب الإلهي الجزيل وتقول : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(٢).

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تشير إلى غصن واحد من اغصان شجرة الصبر ، وهو الصبر على المصائب والمشكلات ، ولكن تتضح أهمية ذلك من خلال ما يترتب على هذا اللون من الصبر من صلوات الله ورحمته على هؤلاء الصابرين وأنّهم يسيرون في خطّ الهداية والاستقامة والتوجه إلى الله تعالى من خلال حالة الاستقامة والصبر أمام البلايا والمصائب.

فنظراً إلى أنّ الامتحان الإلهي للإنسان في هذا العالم الدنيوي يُعد من السنن الحتمية في عالم التكوين ، وأنّ العبور من هذا النفق والوادي العسير لا يتسنّى ألا بالاستعانة بالصبر ،

__________________

١ ـ سورة الفرقان ، الآية ٧٥.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ١٥٥ ـ ١٥٧.

٤٢٠