الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

في تلوث الإنسان بظاهرة الإنحراف وعبادة الشهوة ، ولهذا نرى أنّ أغلب الأشخاص الّذين كانوا يعيشون الأمان والطهر في حياتهم عند ما يلج في مثل هذه البيئة الفاسدة والمحيط المنحرف سوف يتلوثون بالخطيئة ويفقدون إيمانهم السابق ويغرقون في بحر الذنوب والمفاسد الأخلاقية.

وبما إننا بحثنا هذا المطلب في الجزء الأوّل في موضوع «كليات المسائل الأخلاقية» بشكل مفصل ، فلذلك نكتفي بهذا المقدار من الإشارة إلى هذا المطلب المهم.

طرق علاج اتباع الشهوات :

إن الطرق الكفيلة بعلاج المفاسد الأخلاقية تكاد تكون متشابهه في الاصول في جميع الموارد ، وتتلخص هذه الطرق بنحوين : علمي وعملي.

ألف) الطريق العلمي

والمراد من الطريق العلمي هو أن الإنسان يفكر ويتدبر بالنتائج والآثار السلبية لطلب اللّذة واشباع الشهوة ويرى كيف إن الإنسان المستسلم لشهواته يعيش الذلّة والأسر وانهزام الشخصية والشعور بالدونية والحقارة والابتعاد عن الله تعالى ، وهذا المعنى نجده واضحاً على سلوك اتباع الشهوة وطلاب اللّذة الرخيصة وأنّهم كيف يعيشون الضعف والوهن في شخصيتهم الإنسانية وكرامتهم الاجتماعية.

وعلى هذا الأساس فإنّ التأمل في هذه الظاهرة النفسية والاجتماعية وكذلك التفكر في حال وسيرة «اولياء الله» واتباعهم المخلصين وكيف أنّهم وصلوا مقامات سامية من التكامل الإنساني والأخلاقي بسبب محاربتهم للشهوات وامتناعهم عن سلوك طريق الخطيئة وصمودهم أمام تحديات الشهوة ، مضافاً إلى ذلك فإنّ تقوية أركان العقل ودعائم الإيمان في قلب الإنسان يجعله قادراً على كبح جماع شهواته وغرائزه ، وفي هذا المجال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام «مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ استِهَانَ بِالشَّهَوَاتِ» (١).

__________________

١ ـ شرح غرر الحكم ، ح ٨٢٢٦.

٢٨١

وفي حديث له عليه‌السلام «مَنْ غَلَبَ شَهْوَتَهُ ظَهَرَ عَقْلُهُ» (١).

وكذلك قال عليه‌السلام «كُلَّمَا قَوِيَتِ الْحِكْمَةُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ» (٢).

وفي حديث آخر يقول عليه‌السلام «اذْكُرْ مَعَ كُلِّ لَذَّةٍ زَوَالَهَا وَمَعَ كُلِّ نِعْمَةٍ انْتِقَالَهَا وَمَعَ كُلِّ بليَّةٍ كَشْفَها ، فَانَّ ذَلِكَ ابْقى لِلنِّعمَةِ ، وَانْفى لِلشَّهْوةِ ، وَاذْهَبُ لِلبَطَرِ ، وَاقرَبُ الَى الْفَرَجِ وَاجْدَرُ بِكَشفِ الغُمَّةِ وَدَرْكِ الْمَأمُولِ» (٣).

وعليه فإنّ التفكر في العاقبة السيئة والآثار المخربة لاتباع الشهوات بإمكانه أنّ يصد الإنسان عن سلوك هذا الطريق ، ولذلك نجد أنّ الأنبياء والقادة الإلهيين بذلوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل ليخلصوا الناس من التورط في الخطايا والذنوب وينقذوهم من أسر الشهوات والأهواء.

وفي حديث شريف عن رسول الله يقول «خَمْسٌ انْ ادْرَكْتَمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُّوا بِاللهِ مِنْهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوهَا ، الّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالاوَجَاعُ الَّتي لَمْ تَكُنْ فِي اسْلافِهِم الَّذِينَ مَضَوُا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكيَالَ وَالْميزانَ الّا أُخِذُوا بِالسِّنينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلطانِ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا الزَّكاةَ الَّا مُنِعُوا الْمَطَرَ مِنَ السَّماءِ ، وَلَوْلا البَهَائِمُ لمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ الّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيهِمْ عَدُوَّهُم وَاخَذُوا بِعضَ مَا فِي ايْديهِمْ ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِغَيرِ مَا انْزَلَ اللهُ الّا جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (٤).

ولا شكّ أنّ التأمل والتدبر في هذه المعطيات والنتائج الخطيرة لها تأثير مستمر أو مؤقت في منع الإنسان عن ممارسة الخطيئة لارتكاب الذنب.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ح ٧٩٥٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ح ٧٢٠٥.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ٣٤٨٤ ، ح ٢١٥٠٧.

٤ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٧٣.

٢٨٢

ب) الطريق العملي

ومن جهة اخرى فإنّ الطريق العملي لعلاج حالة «عبادة الشهوة» له وجوه وانحاء مختلفة منها :

١ ـ إن أفضل الطرق العملية للنجاة من مستنقع الشهوة هو الاشباع الصحيح للغرائز البدنية والرغبات الجنسية بالخصوص ، لأنّه إذا تم اشباع هذه الرغبات الباطنية والميول البدنية من طرق سليمة وبأدوات صحيحة فإنّ بإمكانها أن تنقذ الإنسان من النتائج السلبية والمخربة المترتبة على اتباع الشهوات ، وبعبارة اخرى انه لا ينبغي للإنسان كبت هذه الغرائز والرغبات والتغافل عن ارضائها بل يجب أن يسير بها المسار الصحيح والبنّاء لتكون مفيدة ونافعة في حركة الحياة ، وفي غير هذه الصورة يمكنها أن تتبدل إلى سيل مدمر ومخرب يهلك الحرث والنسل ولا يبقى للإنسان أي أثر من آثار الخير والصلاح.

ولهذا السبب نرى أنّ الإسلام لم يهتم بالتسلية والترفية السليم والمعتدل فحسب بل عمل على حث الناس وترغيبهم في هذا الطريق لارضاء الغرائز ، ومن ذلك ما ورد في خطبة معروفة للإمام الجواد الّتي قرأها عند عقد زواجه حيث قال «امّا بَعْدُ فَقَدْ كَانَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْانَامِ انْ اغْناهُم بِالْحَلالِ عَنِ الْحَرامِ» (١).

وفي هذا الحديث المعروف هناك إشارة إلى هذا المعنى أيضاً حيث تقول «لِلْمُؤمِنِ ثَلاثُ سَاعَاتٍ ، فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يَرُمَّ مَعَاشَهُ ، وَساعَةٌ يُخَلّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبينَ لَذَّتِهَا فيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ» (٢).

٢ ـ ومن الطرق الاخرى للنجاة من قيود الشهوات هو أن يضع الإنسان لنفسه برنامجاً دقيقاً لحياته ، لأنّه كلما سعى لبرمجة أوقاته في اليوم والليلة «حتّى لو كان البرنامج يتضمّن جانب الترفية والرياضة البدنية» فإنه لا يكاد يجد برنامج للإنسياق وراء طلب اللّذة وفراغاً كافياً لسلوك طريق الشهوة.

٣ ـ ومن العناصر الاخرى لعلاج هذه الظاهرة أو الوقاية منها هو إزالة عوامل التلوث

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٥٠ ، ص ٧٦.

٢ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ٣٩٠.

٢٨٣

بالخطيئة ، لأن إمكانية التلوث بالشهوات في البيئة الملوثة يكون أكثر ، أي لو كانت أسباب المعصية متوفرة وطرق الإنحراف مفتوحة ووجود الحرية النسبية في ارتكاب الذنوب واتباع الشهوات فإنّ النجاة من التلوث بالخطيئة ولا سيّما للشباب الّذين لا يمتلكون من المعرفة الدينية إلّا القليل سيكون أمراً عسيراً للغاية.

٤ ـ احياء الشخصية المعنوية والإنسانية لأفراد المجتمع يعد من الطرق المهمة للعلاج أو الوقاية من التلوث بالشهوات ، لأنّه عند ما يدرك الإنسان قيمة وجوده واعتباره وشخصيته ويعلم بانه يمثل عصارة الخلقة والغاية العليا بعالم الكائنات وخليفة الله في الأرض فلا يبيع نفسه بسهولة ولا يسلمها إلى عناصر الشهوة وقوى الإنحراف.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ» (١) وفي حديث آخر يقول عليه‌السلام «مَنْ عَرَفَ شَرَفَ مَعْنَاهُ صَانَهُ عَن دَنَائَةِ شَهْوَتِهِ ...» (٢).

وآخر ما يقال في هذا المجال هو انه لا بدّ من الاهتمام بالطريق العملي ليس للتصدّي إلى الشهوات فحسب بل في جميع موارد مكافحة المفاسد الأخلاقية لدى الفرد والمجتمع ، بمعنى انه كلّما سلك الإنسان طريق مكافحة أهوائه الفاسدة وأخلاقه المنحرفة وسار في الطريق القويم فإنّ هذه القوى والعناصر السلبية ستخف وستندثر في وجوده ونفسه وسوف ينتقل الإنسان في هذا السلوك إلى أن يعيش الحالة النفسية السليمة ، ومن هذه الحالة ينتقل إلى العادة ، ومن العادة ينتقل إلى الملكة حيث تتحول هذه الحالة والعادة إلى ملكة راسخة في نفسه وتكون بمثابة الطبع الكامل له ، وعلى سبيل المثال إذا تحرّك الإنسان البخيل في علاج هذا المرض الأخلاقي نحو البذل والعطاء في دائرة الفعل والعمل ، فإنّ نار البخل ستضعف وتخبو تدريجياً في باطنه إلى أن تنطفىء تماماً.

فإذا تحرّك اتباع الشهوة أيضاً في هذا الطريق وسلكوا مسلك التصدي والمقاومة أمام طغيان الشهوات ، فإنّ هذه الشهوات والقوى المنحرفة الموجودة في باطنهم ستضعف وتخبو

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ٧٨ ، ص ٧١.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٩٠٦٩.

٢٨٤

تدريجياً ويحل بدلها عنصر العقيدة ويعيش الإنسان حينئذٍ روح الطهارة والنقاء والانفتاح على الله والمعنويات السامية.

وهذا المعنى نجده واضحاً بكلام أمير المؤمنين عليه‌السلام «قَاوِمِ الشَّهْوَةَ بِالْقَمْعِ لَهَا تَظْفُرْ» (١).

شهوة الأكل والجنس :

لقد أورد الأعاظم من علماء الأخلاق كالفيض الكاشاني في «المحجّة البيضاء» والمحقّق النراقي في «معراج السعادة» والعلّامة السيّد شبّر في كتاب «الأخلاق» كلاً من شهوة البطن وشهوة الجنس بصورة مستقلة وبحثوهما كلاً على انفراد ، وفي الحقيقة اتبعوا في ذلك ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في هذا المجال حيث ورد الاهتمام الكبير بهاتين الغريزتين.

الفيض الكاشاني يذكر في كتابه «المحجّة البيضاء» هاتان الشهوتان ويقول : «أما بعد ، فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن ، فبها أخرج آدم عليه‌السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذلّ والافتقار ، إذ نهيا عن أكل الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما ، والبطن على التحقيق مصدر الشهوات ومنبت الأدواء والآفات. إذ يتبعها شهوة الفرج وشدّة الشبق إلى المنكوحات ، ثمّ تتبع شهوة المطعم والمنكح شدّة الرغبة في المال والجاه اللذين هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات ، ثمّ يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسبات ، ثمّ يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء ، ثمّ يتداعى إلى ذلك الحسد والحقد والعداوة والبغضاء ، ثمّ يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء.

وكلّ ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء ، ولو ذلّل العبد نفسه بالجوع وضيّق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله ولم تسلك سبيل البطر والطغيان ولم

__________________

١ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٤ ، ص ٥١٤ ، ح ٦٨٠٣ (بالفارسية).

٢٨٥

ينجر به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وايثار العاجلة على العقبي ، ولم يتكالب كلّ هذا التكالب على الدنيا.

وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحدّ وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها ، ووجب ايضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها» (١).

والأخطر من ذلك أنّ الأشخاص من اتباع شهوة البطن والفرج يفقدون دينهم ويتركون إيمانهم في هذا السبيل حيث نقرأ في ذيل الآية القرآنية (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)(٢).

إنّ الله تعالى يذم اليهود الّذين كانوا يشترون بآيات الله ويبيعونها بثمن بخس ، فقد كانت هناك مجموعة من علماء اليهود وأحبارهم يقومون بتحريف آيات الله من أجل اشباع نهم شهواتهم لغرض دعوتهم لمجالس البذخ وموائد الترف الّتي كان يقوم بها اليهود اتجاه علمائهم ، وبهذا فهم باعوا عملياً آيات الله بثمن بخس «ولهذا انكروا وجود ذكر النبي الّذي يظهر آخر الزمان والّذي كان ينتظره اليهود والمذكور عندهم بالتوراة».

وفي الروايات الإسلامية نجد بحوثاً واسعة عن اخبار هاتين الشهوتين حيث تشير إلى بعض هذه الموارد :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ثَلاثٌ اخَافُهُنَّ بَعدي عَلَى امَّتي الضَّلالَةُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ وَمُضِلّاتُ أَلْفِتَنِ وَشَهْوَةُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ» (٣).

المقصود من الضلالة بعد المعرفة هو أن يترك الإنسان الحقّ والطريق المستقيم بسبب وساوس المنحرفين وشبهات المخالفين ويسلك سبيل الانحراف والزيغ والضلالة ، وهذا المعنى موجود دائماً وفي كلّ زمان وخاصة في زماننا هذا.

والمقصود من «مضلات الفتن» هو اشكال الامتحان الإلهي والاختبار الرباني لعباده

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ١٤٥.

٢ ـ سورة البقرة ، الآية ٤١.

٣ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٧٩.

٢٨٦

حيث يقع الإنسان أحياناً بسبب اتباعه للشهوات والأهواء في الخطيئة ويسقط في الامتحان ، والمراد من «شهوة البطن والفرج» هو الأفراط في الأكل وطلب اللّذة والأفراط في طلب اللّذة الجنسية.

إن سياق الحديث الشريف يوحي لنا بهذه الحقيقة ، وهي أنّ الخطر المتوجه للناس والّذي يهدد وجودهم بسبب هذه الامور الثلاثة هو خطر عميق وجدي.

٢ ـ يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث آخر «اكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ امَّتي النَّارَ الْاجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ» (١).

٣ ـ ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام «اذا شَبَعَ البَطْنُ طَغى» (٢).

٤ ـ وأيضاً يقول هذا الإمام في حديث آخر «مَا مِنْ شَيءٍ ابْغَضُ الَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بَطْنٍ مَمْلُوءٍ» (٣).

٥ ـ وورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لا يُفْسِدُ التَّقوى الّا بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ» (٤).

٦ ـ وورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لا تَجْتَمِعُ الحِكْمَةُ وَالشَّهْوَةُ» (٥).

٧ ـ وقال هذا الإمام عليه‌السلام أيضاً في حديث آخر «مَا رَفَعَ امَرءاً كَهِمَّتِهِ وَلَا وَضَعَهُ كَشَهْوَتِهِ» (٦).

__________________

١ ـ المصدر السابق.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٦ ، ص ٢٧٠ ، ح ١٠.

٣ ـ سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٢٥ ، واژه اكل.

٤ ـ شرح غرر الحكم ، ح ١٠٦٠٦.

٥ ـ غرر الحكم ، ح ١٠٥٧٣.

٦ ـ غرر الحكم ، ج ٦ ، ص ١١٤ ، ح ٩٧٠٧.

٢٨٧
٢٨٨

١٥

العفة من أكبر الفضائل الأخلاقية

تنويه :

تقع «العفة» في النقطة المقابلة ل «شهوة البطن والفرج» وتعتبر من أهم الفضائل الإنسانية والأخلاقية على السواء.

ويقول الراغب الاصفهاني في كتاب «المفردات» في معنى العفة أنّها حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة ، والمتعفف المتعاطي لذلك.

ويقول صاحب مقاييس اللغة في معنى العفة : «العفة في الأصل تأتي لمعنيين ، الأول ، الاجتناب عن القبائح ، والآخر قلّة الشيء ، ولذا يقال للبن المتبقي في الرضع ـ عُفّة ـ على وزن مدّة».

ويقول مؤلف كتاب «التحقيق» عن مفهوم العفة : «مادة عفّة في الأصل بمعنى حفظ النفس من الميول والشهوات النفسانية ، كما أنّ التقوى بمعنى حفظ النفس من ارتكاب الذنوب ، وعلى هذا فالعفة صفة باطنية ، في حين أن التقوى ناظرة إلى الأعمال الخارجية».

وقد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفة انها الحدّ الوسط بين الشهوة والخمود.

وما ذكرنا آنفاً من معنى العفة كان في مفهومها العام ، لأن البعض قد أورد في تعريف العفة النقطة المقابلة لها ، أي الوقاحة وتمزيق ستار الحياء ، ولهذا السبب نجد أنّ أكثر موارد

٢٨٩

استعمال مفردة «العفة» تختص للمسائل الجنسية.

وعلى أي حال فإنّ المستفاد من آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية أنّ العفة (بكلا المعنيين) تعد من أعظم الفضائل الأخلاقية والإنسانية ، ولا يمكن لأي شخص أن يسير نحو الكمال الإلهي ويسلك مسلك الانفتاح على الله من دون التحلي بهذه الخصلة الشريفة ، ونجد في حياتنا الدنيوية أنّ كرامة الإنسان وشخصيته وسمعته رهينة بالتحلي بهذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة هذا المفهوم السامي :

١ ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(١).

٢ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢).

٣ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٣).

٤ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ* قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ* فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٤).

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٢.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٢٣.

٣ ـ سورة يوسف ، الآية ٢٤.

٤ ـ سورة يوسف ، الآية ٣٢ ـ ٣٤.

٢٩٠

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(١).

٦ ـ (... وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ...)(٢).

التفسير :

الفقير المتعطش

في «الآية الاولى» يتحدّث القرآن الكريم عن أفضل موارد الانفاق ويقول مخاطباً المؤمنين بأن انفاقكم يجب أن يختص بالفقراء الّذين هاجروا من بيوتهم واوطانهم ولم يستطيعوا تأمين نفقاتهم واحتياجاتهم عن طريق الجهاد في سبيل الله أو السفر للكسب والتجارة (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ)(٣).

ثمّ يشير إلى خصوصية مهمة اخرى من خصوصيات هؤلاء الفقراء ، وهي أنّهم لشدة تعففهم وضبطهم لأنفسهم يحسبهم الناس أغنياء («يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ...)(٤).

أجل فإنّ هؤلاء يعيشون الضبط الأخلاقي لنوازع النفس ولا يرسلون السنتهم بالشكوى رغم احتياجهم الشديد ، ويسلكون مسلك الأغنياء بين الناس ولكن المطلع على أحوالهم يعرف حاجتهم ومسكنتهم من سيماهم.

ويبين القرآن الكريم سمة اخرى من سماتهم ويقول (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ...)(٥).

فهؤلاء لا يطلبون قضاء حاجتهم من الآخرين مهما أمكنهم ذلك ، ولو اشتد بهم الحال واضطروا إلى المسألة ، فإنّهم يفضلون اقتراض ما يحتاجونه من المال على السؤال من دون

__________________

١ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٥ ـ ٧.

٢ ـ سورة الأحزاب ، الآية ٣٥.

٣ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٣.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٣.

٢٩١

أن يكون لديهم اصرار على الآخرين.

وفي ختام الآية يقول تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)(١).

أجل ، فإنّ الأنفاق عملٍ إنساني وفضيلة أخلاقية وخاصة على من يتمتع بعزّة النفس وعلو الطبع وعفة الروح.

وبديهي أنّ المراد من «العفة» في هذه الآية هي العفة في المسائل المالية لا الامور الجنسية ، وقد ذكر بعض المفسّرين في شأن نزولها انها نزلت في «أصحاب الصفة» هؤلاء كانوا جماعة يبلغ عددهم أربعمائة نفر تقريباً من المسلمين المهاجرين من مكّة وضواحي المدينة الّذين لم يكن لديهم دارٌ في المدينة ولا معارف وأقرباء فيها ولا عملٍ يتكسبون فيه ، ولكنهم في نفس الوقت يعيشون في غاية التعفف في مكانٍ خاص إلى جوار مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان هؤلاء يتحركون نحو الجهاد في سبيل الله متى ما أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا يتمتعون بعزّة النفس والتعفف الشديد بالرغم من حاجتهم الشديدة وما يشعرون به من جوع.

وعلى أي حال فالقرآن الكريم ذكر هؤلاء في الآية محل البحث بتعبيرات مختلفة من المدح والثناء وجعلهم اسوة لجميع المسلمين.

في «الآية الثانية والثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن عفّة يوسف وطهارة ذيله في أحلك الظروف الّتي توفرت فيها جميع أسباب التورط في الإثم والمعصية ولكنَّ يوسف حفظ نفسه أمام تحديات الواقع وضغوط الحالة واستعاذ بالله تعالى ، فنجح في هذا الامتحان الإلهي الكبير وخرج منه مرفوع الرأس ، وكما يذكر القرآن الكريم واصفاً هذه الحالة والحادثة الّتي حدثت ليوسف وامرأة العزيز فيقول : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢).

__________________

١ ـ سورة البقرة ، الآية ٢٧٢.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٢٣.

٢٩٢

فلم تجذب ملامح يوسف ووجهه الجميل عزيز مصر فحسب ، بل احبته زوجة العزيز أيضاً وعشقته بشدّة إلى درجة أن هذا العشق أثَّر اثَرُهُ في نفس هذه الامرأة وامتد إلى أعماق قلبها ، وشيئاً فشيئاً تعمق في وجودها إلى درجة انها لم تعد تُطيق كبته ، ولكن النبي يوسف الّذي كان يعيش العفة والطهارة والتقوى كان قد عشق الله تعالى ولا غير.

هذا وقد استخدمت امرأة العزيز الشابة الجميلة شتّى الطرق بمختلف الوسائل للوصول إلى هدفها ، هذه الوسائل الّتي كان يكفي بعضها في تحريك أي شابٍ أعزب في عمر النبي يوسف ، ولكنَّ يوسف عاش حالة الصمود أمام تحديات الشهوة الشديدة وفوّض نفسه وسفينة حياته إلى ذكر الله تعالى ورحمته ، وإلّا لكان الغرق في الخطيئة من نصيبه كما تصرّح الآية الّتي تليها (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(١).

إن عبارة «من عبادنا» وكذلك «مخلصين» من العبارات العميقة المعنى والّتي وردت في هذه الآية بعنوان اوسمة افتخار ليوسف على موقفه الشجاع هذا.

ورغم أنّ يوسف كان قد اتهم من قبل زوجة عزيز مصر بالخيانة مع عفته وطهارته بحيث يمكنها أن تودي بحياته ، إلّا أنّ الله تعالى قد وعد المؤمنين الطاهرين بالنجاة وانقذ يوسف بواسطة شهادة طفل رضيع في المهد ببراءته وطهارته من التهمة بصورة إعجازية.

وهناك مسطورات لبعض الأفراد الجهلة والمغرضين الّذين ذكروا في تفسير هذه الآيات أنّ المقصود بقوله «همَّ بها» هو أنّ يوسف بدوره همَّ بالمعصية ومقاربة زليخا ، وكما هو المعلوم أنّ هذا المعنى لا يليق بمقام عصمة الأنبياء ولا ينسجم مع سياق الآيات المذكورة أعلاه بل إن القرآن الكريم يصرّح بأنه لو لا برهان الله الّذي أعان يوسف في وقت الشدّة لكان قد همَّ بها ، ولكن بما إن برهان الرب حلَّ في الوقت المناسب فإنه لم يقصد الخطيئة.

وللفخر الرازي تعبير جميل في تفسير هذه الآية حيث يقول : «وأما أنّ إبليس أقرّ بطهارته ، فلأنه قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلّا عبادك منهم المخلصين ، فأقر بأنه لا

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٢٤.

٢٩٣

يمكنه اغواء المخلصين ، ويوسف من المخلصين لقوله تعالى : «انه من عبادنا المخلصين» فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى ، وعند هذا نقول : هؤلاء الجهال الّذين نسبوا إلى يوسف عليه‌السلام الفضيحة إن كانوا من اتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته» (١).

«الآية الرابعة» تتحدّث عن سيرة النبي يوسف المليئة بالأحداث بعد ما حصل بينه وبين امرأة العزيز ما حصل ، وتشير إلى محنة اخرى وامتحان آخر للنبي يوسف (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) فعند ما امتد خبر وقوع هذه الحادثة ليشمل جميع بيوت المدينة وعلم الناس بقضية العشق الملتهب الّذي ألَمَّ بقلب امرأة العزيز اتجاه غلامها ، فإنّ نسوة مصر اطلقن السنتهنَّ باللوم والتوبيخ لامرأة العزيز ، ولكنها لما رأت ذلك أرادت إثبات براءتها فأعدت مائدة كبيرة واستضافت النسوة المعروفات ونساء الشخصيات الكبيرة في مصر ، ثمّ طلبت من يوسف أن يخرج عليهن ويدخل عليهنَّ ذلك المجلس الحافل.

وعند ما وقعت أعينهنَّ على الجمال العجيب ليوسف ارتبكن بشدّة وفقدن اختيارهُنّ وجرحنَّ أيديهنَّ بالسكين الّتي كانت بأيديهنّ لتقطيع الفاكهة وقلن جميعاً (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ)(٢).

فعند ما رأت امرأة العزيز منهن ذلك ورأت انها قد انتصرت في هذا الموقف ، توجهت إليهنّ بالخطاب وقالت (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(٣).

وكان هو ثاني امتحان صعب يمر بيوسف حيث وقع بين أمرين وطريقين ، فاما أن

__________________

١ ـ التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٨ ، ص ٨٢ و ٨٣ ذيل الآية محل البحث.

٢ ـ سورة يوسف ، الآية ٣١.

٣ ـ سورة يوسف ، الآية ٣٢.

٢٩٤

يستسلم لنوازع امرأة العزيز ويُرضي هيامها وعشقها منه ، وبالتالي يعيش حالة الترف والدلال والنعمة الدنيوية ، واما أن يقاوم هذه الرغبة الممنوعة ويكون مصيره السجن وتحمل أنواع الضغوط والصعوبات.

ولكن يوسف ومن دون أي ترديد انتخب الطريق الثاني وسأل الله تعالى أن يوفقه لذلك وقال (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)(١).

ويتضح من سياق هذه الآية أنّ نسوة مصر اللواتي حضرن في مجلس امرأة العزيز قد دعون يوسف إلى التسليم لامرأة العزيز والرضوخ لطلبها ، فكلّ واحدة تحدثت معه بأنواع الوسوسة فأحداهنَّ تقول : ايها الشاب ألم تر الجمال الآسر لامرأة العزيز ، ألست تلتذ بالجمال وممارسة العشق معها؟ والاخرى تقول : إذا لم يؤثر في قلبك جمال هذه المرأة فلا ينبغي أن تنسى انها زوجة عزيز مصر ، فلو استطعت أن تكسب قلبها فسوف يكون بإمكانك التمتع بالثروة والمقام وتمام ما تريد في الحياة.

الثالثة تحذره من أنك لو لم يؤثر فيك جمال هذه المرأة ، ولم تكن تهم بمقامها ومكانتها الاجتماعية ولكنك يجب أن تعلم بأن هذه المرأة سوف تغضب عليك وتتحول إلى موجود خطر يهدد حياتك ، وسوف تنتقم بنفسها وترسلك إلى قعر السجون المظلمة حيث تنسى إلى الابد.

وبما أنّ الطريق الأخير الّذي يقف أمام يوسف وهو الوقوع في السجن الموحش فإنّ يوسف طلب من الله تعالى ذلك فوراً ، وخاطب ربّه بأن السجن احبُ إليَّ من الوقوع بالمعصية والإثم ، فانا مستعد لدخول السجن اطاعة لأمره وحفظاً لحدوده ومن أجل المحافظة على شرفي وعفتي في مقابل طلب هؤلاء النسوة ، وكان تهديد هؤلاء النسوة ليوسف بصورة جدية ، وقد تمّ ذلك عملياً وأُلقي يوسف في السجن ، وبذلك انقذ نفسه وشرفه من تلوثات القصر ومفاسد المحيط حيث تذكر الآيات الّتي تلي هذه الآية أنّ ذلك السجن

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٣٣.

٢٩٥

الموحش كان في الحقيقة سُلَّماً لنيل يوسف مراتب سامية من الكمال الإلهي والمعنوي ، وأخيراً تمكن يوسف بمشيئة الله أن يجلس على عرش مصر واستطاع بمحافظته على تقواه وعفته وشرفه أن ينال كلّ شيء ، في حين أنّ جميع الملوثين افتضحوا ولم ينالوا مرادهم ، فكان هذا هو جزاء الله تعالى وثوابه الدنيوي للشرفاء والمخلصين من عباده ، ويقول القرآن الكريم في سياق هذه الآيات (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»)(١).

العفة السمة الأخلاقية للمؤمن :

«الآية الخامسة» من الآيات محل البحث تتحدّث عن الصفات البارزة للمؤمنين حيث يذكرها القرآن الكريم بعبارات قصيرة ومليئة بالمعنى ضمن بيان قسم مهم من صفات المؤمنين ، ويذكر صفة العفة والطهارة بأنّها إحدى الصفات والخصال الممتازة لهؤلاء المؤمنين ويقول (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٢).

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يذكر من ضمن الصفات الممتازة للمؤمنين صفة العفة بعد الصلاه والزكاة والامتناع من اللغو وحتّى انه يذكرها قبل صفة الأمانة والوفاء بالعهد أيضاً.

العفة مفتاح النجاة :

وفي (آخر آية) من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم عشرة طوائف من

__________________

١ ـ سورة يوسف ، الآية ٣٤.

٢ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٥ ـ ٧.

٢٩٦

الرجال والنساء الّذين نالوا المغفرة من الله تعالى والأجر العظيم ، فتذكر الآية في سياقها أنّ الطائفة التاسعة من هؤلاء الرجال والنساء هم الّذين يعيشون العفة والطهارة من التلوث بالذنوب والّذين حفظوا اذيالهم وشرفهم من وحل الخطيئة.

وتشير الآية الكريمة إلى الطائفة العاشرة من هؤلاء في سياق بيان أوصافهم أنّهم كثيراً ما يذكرون الله تعالى ولا يصعب أن تكون هذه الصفة مرتبطة مع الصفة السابقة ، وهي العفة لوجود الارتباط الوثيق بين العفة وذكر الله تعالى ، فتكون من نتائج التحلّي بهذه الصفات هي المغفرة الإلهية والأجر العظيم الّذي لا يعلم عظمته إلّا الله تعالى.

وقد وردت في النصوص الدينية إشارة اخرى إلى أحد الطرق لحفظ النفس أمام تحديات الشهوة وطغيان الغريزة الجنسية ، وهو «الصوم» ، فعليه يكون بين العفة والصوم ارتباط وثيق ومباشر حيث يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر واحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم (١).

العفة في الروايات الإسلامية :

وقد ورد في المصادر الروائية الاهتمام الشديد بالعفة حيث نشير إلى بعض ما ورد فيها :

١ ـ ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «افْضَلُ الْعِبادةِ الْعِفافُ» (٢).

٢ ـ يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «مَا عُبِدَ اللهُ بِشيءٍ افْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنِ وَفَرْجٍ» (٣).

٣ ـ وفي روايةٍ اخرى عن هذا الإمام في تفسيره للرواية السابقة انه جاء رجل إلى الإمام عليه‌السلام وقال : إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً. فقال له الإمام عليه‌السلام : «ايُّ الإجْتَهَادِ افْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بِطْنٍ وَفَرْجٍ» (٤).

__________________

١ ـ تفسير المراغي ، ج ٢٢ ، ص ١٠.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ص ٧٩.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ المصدر السابق.

٢٩٧

٤ ـ ويقول الإمام علي عليه‌السلام : «اذا أَرادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيراً اعَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ» (١).

٥ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول للمفضل في وصف الشيعي الواقعي : «انَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ وَاشْتَدَّ جَهَادَهُ وَعَمَلُ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوابِهُ وَخَافَ عِقَابَهُ ، فَاذَا رَأَيْتَ اولئكَ فَاولئكَ شِيعَةُ جَعْفرٍ» (٢).

٦ ـ ويقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوَّتِهِ ، وَشُجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ انْفَتِهِ وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ» (٣).

النتيجة :

لقد تحصّل لدينا من خلال الآيات والروايات الشريفة أنّ الإسلام يهتم اهتماماً بالغاً بمسألة عبادة شهوة البطن والفرج وجعل من مسألة الغيرة على العرض علامة الشخصية المؤمنة وظاهرة من ظواهر سلوك الإنسان الشيعي الموالي لأهل البيت عليهم‌السلام ، والتاريخ البشري حافلٌ بالحوادث المأساوية الّتي تمتد جذورها إلى هذين العاملين «شهوة البطن والفرج» لأن شهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع لتحصيل الغذاء ورعاية حقوق الآخرين وسلوك طريق العدالة في تحصيله ، ولهذا السبب فإنّها تدفع الإنسان إلى أنواع الخطايا والذنوب في سبيل ارضائها ، مضافاً إلى ذلك فإنّ شهوة البطن تعدُ مصدراً وسبباً أكيداً إلى الكثير من الأمراض الجسمية والأخلاقية إلى درجة أنّ هذه الغريزة تصبح بمثابة الوثن الّذي يدعو صاحبه إلى عبادته وطاعته في جميع سلوكياته في حركة الحياة والواقع الاجتماعي.

وفي هذا المجال يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في معرض حديثه عن آخر الزمان «يَأْتِي عَلَى النّاسِ زَمانَّ بُطُونُهُمْ آلِهَتُهُمْ وَنِسَائُهُم قِبْلَتُهُمْ وَدَنَانِيرُهُمْ دِينُهُمْ ، وَشَرَفُهُمْ مَتَاعُهُمْ ، لا يَبْقى مِنَ

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٤١١٤.

٢ ـ وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ١٩٩.

٣ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٤٧.

٢٩٨

الايمَانِ الّا اسْمَهُ وَلا مِنَ الاسلامِ الّا رَسْمَهُ وَلا مِنَ القُرآنِ الّا دَرْسَهُ ، مَسَاجِدُهُمْ مَعْمُورُةٌ مِنَ الْبَنَاءِ وَقُلُوبُهُمْ خَرَابٌ عن الْهُدى» (١).

وقد ورد في ذيل هذا الحديث أنّ الله تعالى سوف يبتلي هؤلاء الناس بأربع بلايا : جور السلطان ، وقحط الزمان ، وظلم الامراء والحكّام.

والفرق بين الظلم والجور «كما ورد التقابل بينها في الكثير من الروايات» يمكن أن يكون من جهة أنّ مفردة الجور في الأصل تعني الإنحراف عن طريق الحقّ ، وعليه فإنّ جور السلطان يطلق على إنحراف سلوكيات أصحاب السلطة ، في حين أنّ الظلم يعني عدم العدالة.

وفي حديث آخر عنه يقول «ايّاكَ وَادْمَانَ الشَّبَع فَانَّهُ يُهَيّجُ الاسْقَامَ وَيُثيرُ العِلَلَ» (٢).

وروي عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من وُقي شرّ بطنه ولسانه وفرجه فقد وُقي من جميع البلايا» (٣).

طرق الوقاية من التحلل الأخلاقي :

ومن أجل الوقاية من التحلل الأخلاقي وضبط الشهوات وخاصةً الشهوة الجنسية وشهوة البطن ، هناك عدّة طرق عامة وكلية ، أي سارية في عملية الوقاية من جميع المفاسد الأخلاقية من قبيل تطهير المحيط الاجتماعي ، دور الرفاق والأصدقاء ، تربية الاسرة ، العلم والمعرفة بنتائج وآثار الرذائل الأخلاقية ، المسائل الثقافية وأمثال ذلك.

وقد تحدّثنا في هذا المجال بصوره مفصلة وكاملة في الجزء الأوّل من هذه الدورة الأخلاقية تحت عنوان الشرائط اللازمة لتربية الفضائل الأخلاقية وهناك طريق آخر خاصّ

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢٢ ، ص ٤٥٣.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ص ٣٠٠ ، ح ٢٦٨١ ، الجملة ١.

٣ ـ معراج السعادة ، ص ٣١٠ (نقلاً بالمضمون).

٢٩٩

يتعلق بمسألة «العفة» في المسائل الجنسية وسائر الشهوات النفسانية حيث يمكن استعراض عدّة امور للوقاية من استفحال وطغيان هذه الغريزة وضبط النفس على مستوى السلوك الأخلاقي :

١ ـ الحجاب وترك الزينة أمام الأجانب

لا شكّ أنّ أحد الامور الّتي تفعِّل الغريزة الجنسية وتزيد من ضراوتها هو «التعري والتزين بالنسبة للرجال والنساء» حيث يقع تأثير أحدهما بالآخر بشدّة وخاصة بالنسبة إلى الشباب العزاب بحيث يمكن القول أنّ التلوث بالخطايا الجنسية والانحراف الجنسي يرتبط مباشرة بعدم الحجاب والتعري والتزين أمام الأنظار حتّى انه طبقاً لبعض الأحصائيات أنّ هناك علاقة طردية بين زيادة واشتداد هذا العامل وبين زيادة التلوث الجنسي والتحلل الأخلاقي ، مثلاً في فصل الصيف وبسبب حرارة الجو فإنّ النساء يخففن من البستهنّ ، وبهذه النسبة يتعرضن إلى التحرشات اللاأخلاقية من قِبل الشباب ، وعلى العكس من ذلك فإنّ النساء في فصل الشتاء وبسبب الملابس الشتوية وارتداء الثياب الّتي توفر لهنّ الحماية من برودة الجو فإنّ التعرض والتحرش بهنَّ يقل عن فصل الصيف ، ولهذا فقد ورد التأكيد في الشريعة الإسلامية على الحجاب حيث يذكر القرآن الكريم في آيات متعددة منها الآيات ٣١ و ٦٠ من سورة النور ، والآيات ٣٣ و ٥٣ و ٥٩ من سورة الأحزاب على مسألة الحجاب ويخاطب أحياناً النساء المؤمنات ، وأحياناً اخرى نساء النبي ، وثالثة يستثني العجائز والمسنات منهنّ حيث يتضح من ذلك التكليف الشرعي لسواهن ، وعلى هذا يبين القرآن بعبارات مختلفة أهمية هذه الوظيفة الشرعية في حركة الحياة والمجتمع الإسلامي.

وبديهي أن ترك الحجاب أي السفور والتبرج هو مقدمة للتعري والتحلل الجنسي الّذي يترتب عليه نتائج وخيمة ومفاسد كبيرة في كلّ عصر وزمان.

إن التبرج وعدم الإلتزام بالحجاب يسبب أن تتحرك بعض النسوة في حالة منافسة ومسابقة مستمرة لابداء وعرض مكامن اجسادهن وتحريك الشبان من هذا الطريق ، وهذه

٣٠٠