الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

هذه المشكلات الكبيرة وقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١).

وهذه الآية توضّح جيداً أنّ الإنسان مهما كان وحيداً فريداً مقابل تحدّيات الظروف الصعبة فإنه إذا كان يعيش التوكل على الله فلا يشعر بصعوبة هذه المشاكل ، لأن الله تعالى هو رب العرش العظيم وذو القدرة اللامتناهية الّتي لا تعتبر القوى الاخرى شيئاً بالنسبة لها ولا تأثير لها في مقابل قدرة الله ومشيئته ، فمن كان العرش والعالم الأعلى في قبضته فكيف يسمح لعباده المتوكلين عليه أن يخوضوا لوحدهم أمواج المشكلات أو يتركهم لوحدهم أمام أعدائهم الشرسين؟

وممّا يجدر ذكره أنّ البعض يرون أنّ هذه الآية والّتي هي آخر آية من سورة التوبة والآية الّتي قبلها هي من آخر الآيات الّتي نزلت على نبي الإسلام ، واللطيف أنّ الآيات الشريفة الّتي نزلت في أوّل البعثة تحوي هذا المضمون أيضاً وتدلّ على أنّ رأس المال الأصلي والدعامة الحقيقية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الزمان هي التوكل على الله ، فنقرأ في الآية ٣٨ من سورة الزمر الّتي نزلت في تلك الأزمنة من بداية البعثة قوله : «... قُلْ حَسْبِىَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكّلُونَ»

وعليه فإنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعيش التوكل في بداية البعثة وفي نهايتها وفي جميع الأحوال ، وهذا الأمر هو السبب الأوّل في حركة النبي الأكرم في خطّ الاستقامة والثبات والنصر.

«الآية التاسعة» تتعرض للحديث عن جميع الأنبياء السابقين من زمان نوح عليه‌السلام إلى الأنبياء الّذين جاءوا بعده وتقول عند ما واجه هؤلاء الأنبياء المخالفة الشديدة لأقوامهم ورأوا أنفسهم لوحدهم وقالوا : («وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى

__________________

١ ـ سورة التوبة ، الآية ١٢٩.

٢٤١

ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١).

ونستوحي من هذه الآية أنّ التمسّك بالتوكل على الله مقابل المشكلات والمصاعب الشديدة الّتي تفرضها الظروف الصعبة كان عمل جميع الأنبياء على طول التاريخ.

وفي الواقع أنّهم كانوا يقفون أمام طوائف الأعداء والمشاكل الكبيرة بالاستمداد من عنصر التوكل وينتصرون في نهاية المطاف ، ومن هنا يتبيّن دور التوكل في حياة البشر وخاصّة على مستوى القادة والمصلحين من الناس.

وفي الحقيقة إنما يمنح الأنبياء القدرة والقوّة رغم عدم وجود العُدة والعدد في مقابل قدرة الحكومات الكبيرة وقوى الإنحراف المختلفة ولا يشعرون مع ذلك بالتراجع والضعف والخوف هو حالة التوكل على الله والّتي تجعل «ما سوى الله» في نظرهم صغيراً وتافهاً.

والملفت للنظر أنّ الآية الواردة قبل هذه الآية (الآية ١١ من سورة إبراهيم) تقول : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

وفي هذه الآية الشريفة محل البحث نقرأ (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

ومن إدغام هاتين الآيتين يستفاد أنّ المؤمن الواقعي هو المتوكل على الله ، وكذلك يستفاد من هذه الآية أنّ التوكل وليد المعرفة والهداية الإلهية كما أنّ الصبر والاستقامة في مقابل اعتداءات الأعداء وتحرّشاتهم وليد التوكل (فتأمل).

وتتعرض «الآية العاشرة» إلى ذكر نتيجة واضحة للتوكل على الله بحيث تعمل على حث الجميع لطلب هذه الحالة في واقعهم ، وتَعِدهم بالنجاة والنصر أيضاً وتقول : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٢)

وفي الواقع فإنّ الله تعالى أوعد جميع المتوكلين عليه بحل مشكلاتهم بشكل حتمي ، ثمّ استعرضت الآية الشريفة الدليل على ذلك وقالت : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

__________________

١ ـ سورة إبراهيم ، الآية ١٢.

٢ ـ سورة الطلاق ، الآية ٣.

٢٤٢

وبديهي فإنّ مثل هذه القدرة المطلقة بإمكانها الوفاء بجميع الوعود وحلّ جميع المشكلات مهما كانت ثقيلة وصعبة ، فكلّها تحت إرادته ومشيئته.

وجملة قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلّ شَىْءٍ قَدْرًا يمكن أن تكون جواباً على سؤال مقدّر ، وهو لماذا نعيش أحياناً غاية التوكل على الله تعالى ولكن الحلّ والنصرة قد يتأخر؟

القرآن الكريم يجيب على هذا السؤال بأنكم لا تعلمون مصالح الامور ، فكلّ شيء يكون بحساب ويتطلب زمان وفرصة مناسبة ، وكلّ حالة تكون مطلوبة في ظرفها الخاصّ ، ولهذا وبمقتضى أنّ «الْامُورُ مَرْهُونَةٌ بِاوْقَاتِهَا» فأحياناً تقتضي المصلحة تأخير النتيجة ، وعليه فإنّ العجلة والتسرع في مثل هذه الامور غير صحيح.

ويشبه هذا المعنى ما ورد في الآية (١٦٠) من سورة آل عمران حيث نجد أنّ القرآن الكريم يقرر بأن النصر والهزيمة كليهما من الله تعالى وأنّ طريق الوصول إلى النصر يمر من خلال التوكل على الله فتقول الآية : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

النتيجة النهائية :

ونستوحي من الآيات المذكورة آنفاً والّتي استعرضت سيرة أقدم الأنبياء الإلهيين إلى أن وصلت إلى نبي الإسلام أنّ مسألة التوكل في حياة البشر وجهاد الأنبياء وانتصارهم على المشكلات والتحديات الصعبة الّتي يفرضها الواقع بمثابة الأساس لكلّ هذه التحركات الإيجابية والمثمرة في سلوك الإنسان على المستوى المادي والمعنوي ، وتدلّ على أنّ هذه الفضيلة الأخلاقية بإمكانها أن ترتفع بالإنسان إلى مستويات عالية في سلّم الكمال المعنوي ، والنقطة المقابلة لها ، أي عدم الاعتماد والتوكّل على الله تعالى يتسبب في السقوط الحضاري والمعنوي للفرد والمجتمع.

٢٤٣

التوكل في الأحاديث الإسلامية :

وتولي الروايات الإسلامية أهمية كبيرة إلى هذه الفضيلة إلى درجة اننا قلما نجد من الآثار الإيجابية والبركات على صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة مثلما ورد في حقّ هذه الفضيلة ، وما سنذكره من الروايات الشريفة عبارة عن نماذج مقتطفة من كثير ممّا ورد في هذا الباب ممّا لا يسمح لنا المجال لاستيعابها جميعاً.

١ ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ سَرَّهُ انْ يَكُونَ اقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ» (١).

٢ ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «فِي التَّوَكُّلِ حَقِيقَةُ الْايقَانِ» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عميق المعنى ما ورد في قصة إبراهيم عليه‌السلام في تفسير علي بن إبراهيم حيث تقول الرواية : أنّه لما وضعوا إبراهيم في المنجنيق ، جاءه عمه آذر وصفعه على وجهه بشدة وقال له : ارجع عما أنت عليه ، ولم يبق شيء إلّا طلب إلى ربه ، أن ينجي ابراهيم وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق ، وقالت الملائكة مثل ذلك وجاء إليه جبرئيل في الهواء ، وقد وضع في المنجنيق ، فقال يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم أما إليك فلا ، وأما إلى ربّ العالمين فنعم. فدفع إليه خاتماً عليه مكتوب : «لَا الَهَ الَّا اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، الْجَأْتُ ظَهْرِي الَى اللهِ ، اسْنَدْتُ امْرِي الَى اللهِ ، وَفَوَّضْتُ امْرِي الَى اللهِ» فأوحى الله إلى النار (كوني برداً وسلاماً) فاضطربت اسنان إبراهيم من البرد حتّى قال (سلاماً على إبراهيم) فهبط جبرئيل وجلس معه يحدثه في النار وفي روضة خضراء ، ونظر إليه نمرود فقال : من اتخذ اله فليتخذ مثل اله ابراهيم (٣).

أجل فإنّ التوكل على الله تعالى قد حوّل النار إلى بستان جميل وجنّة خلابة ، هذا التوكل الّذي منح إبراهيم القوّة على ضبط النفس والهدوء والسكينة حتّى انه لم يجد حاجة إلى

__________________

١ ـ كنز العمال ، ج ٣ ، ص ١٠١ ، ح ٥٦٨٦.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٣٨٥٣.

٣ ـ تفسير علي بن سورة إبراهيم ، الآية ص ٧٢ و ٧٣ (مع التلخيص).

٢٤٤

التوسل بجبرئيل واعتبر ذلك ابتعاداً عن الله وخلافاً لمقتضى الإيمان والتوكل وانه لا بدّ من تحصيل الماء من العين الصافية نفسها.

٤ ـ ويقول الإمام الصادق عليه‌السلام في تعبير آخر : ان الغنى والعز يجولان فاذا ظفرا بموضع التوكل اوطناه (١).

وهذا يعني أنّ القلب الّذي تحوّل إلى مركز للتوكل على الله فإنه يشعر بالغنى وعدم الحاجة لما سوى الله تعالى ، وكذلك فإنّ مثل هذا الإنسان يعيش العزّة والقدرة لأنّه يتحرّك من موقع الاعتماد على القدرة المطلقة الّتي تتعالى على جميع القدرات الاخرى ولا تقبل الضعف والتردد والاهتزاز.

٥ ـ ونقرأ في حديث آخر بهذا المعنى عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ لَا يُغْلَبُ وَمَنْ اعْتَصَمَ بِاللهِ لَا يُهْزَمُ» (٢).

٦ ـ وورد في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ ذَلَّتْ لَهُ الصِّعَابُ وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْاسْبَابُ» (٣).

وكيف لا يكون كذلك في حين أنّ (مسبّب الأسباب) هو الله تعالى وكلّ شيء خاضع وخاشع له.

٧ ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام انه أشار في كلامه إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ التوكل ليس فقط يُعدّ من العوامل الخفيّة في باطن الكون بل من العوامل المؤثرة في نفس الإنسان وباطنه أيضاً حيث يمنحه القوّة الّتي تنجيه من الوساوس والشبهات فقال : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ اضَاءَتْ لَهُ الشُّبَهَاتُ» (٤).

٨ ـ وأيضاً ورد عن هذا الإمام في خطابه للناس جميعاً «يَا ايُّهَا النَّاسُ تَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٥.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ح ٢٢٥٤٧.

٣ ـ غرر الحكم ، ح ٩٠٢٨.

٤ ـ غرر الحكم ، ح ٨٩٨٥.

٢٤٥

واتَّقُوا بِهِ فَانَّهُ يَكْفِي مِمَّنْ سِوَاهُ» (١).

٩ ـ وعن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال : خدمت سيّد الأنام أبا جعفر محمّد بن علي عليه‌السلام ثمانية عشرة سنة فلما أردت الخروج ودعته فقلت له : افدني ، فقال : بعد ثمانية عشر سنة يا جابر؟ قلت : «نَعَمْ انَّكُمْ بَحْرٌ لَا يُنْزَفُ وَلَا يُبْلَغُ قَعْرُهُ».

قال عليه‌السلام : يا جابر بلغ شيعتي عني السلام وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزوجل ، ولا يتقرب إليه إلّا بالطاعة له ، يا جابر من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا ، ومن عصى الله لم ينفعه حبنا. يَا جَابِرُ مَنْ هَذَا الّذي سَألَ اللهَ فَلَمْ يُعْطِهِ؟ اوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْفِهِ؟ اوْ وَثَقَ بِهِ فَلَمْ يُنْجِهِ؟» (٢).

ونجد في هذا الحديث الشريف أنّ التوكل على الله والثقة بوعده وكرمه ، ودعاءه والطلب منه بعنوان ثلاث وسائل للنجاة والفلاح.

أجل فإنّ الإنسان إذا توجّه إلى العين الصافية واغترف منها الماء الزلال فلا حاجة له لأن يمدّ يده إلى هذا وذاك.

١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن لقمان الحكيم رغم وجود أحاديث كثيرة تقرر أهمية التوكل وآثاره الإيجابية الكبيرة على حياة الإنسان المادية والمعنوية ، وذلك عند ما أوصى لقمان ابنه بقوله : «يَا بُنَيَّ! تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ثُمَّ سَلْ فِي النَّاسِ ، مَنْ ذَا الّذي تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟!» (٣).

إن عظمة هذه الفضيلة الإنسانية الكبيرة ، يعني التوكل على الله في الأحاديث الإسلامية والنصوص الدينية الشريفة إلى درجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح أكثر من هذا ، وبخلاف ما يقابلها من الحالة الذميمة الّتي تربط الإنسان بالقوى الاخرى الزائفة وتهبط

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٥٥ ، ص ٢٦٥.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٨ ، ص ١٨٣.

٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ح ٢٢٦٦١.

٢٤٦

به من أوج العزة والافتخار والاستقلال في أبعاد شخصيّته الإنسانية إلى حيث الضعف والذلّة والمهانة وبالتالي عدم القدرة على التغلب على التحديات الّتي يفرضها الواقع وعدم حلّ المشاكل الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة.

وبعد بيان أهميّة التوكل في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية نصل إلى مسألة تحليل هذه الفضيلة في أبعادها المختلفة وتوضيح بعض الزوايا المعتمة منها :

١ ـ حقيقة التوكل

رأينا في ما تقدّم أنّ (التوكل) من مادّة (وكالة) ، بمعنى ايداع الامور إلى الله تعالى والاعتماد على لطفه ورحمته ، وهذا لا يعني أن يعيش الإنسان حالة التكاسل وعدم التحرّك في نشاطات الحياة بل عليه أن يبذل ما امكنه من السعي والجهد في سلوك طريق الحياة بجدّية ولكنه في نفس الوقت يعيش حالة التوكل على الله بالنسبة إلى ما لا يجد في نفسه القدرة على تذليل الصعاب ويستمد من ألطافه الجلية والخفية في ما يمنحه القدرة على الإستمرار في هذا الطريق.

ويقول أحد علماء الأخلاق المعروفين في تفسير التوكّل : «اعلم أنّ التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين ، بل هو من معاني درجات المقربين ، وهو في نفسه غامض من حيث العلم وشاق ، وقال عليه‌السلام : لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، بل انظروا إلى خلقه وعمله.

ووجه غموضه من حيث العلم أنّ ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد ، والتباعد عنها بالكلية طعن في السنّة وقدح في الشرع ، والاعتماد على الأسباب انغماس في غمرة الجهل.

والتحقيق فيه أنّ التوكل المأمور به في الشرع هو اعتماد القلب على الله في الامور كلّها وانقطاعه عمّا سواه ، ولا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يكن يسكن إليها ، وكان سكونه إلى الله تعالى دونها مجوزاً أن يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب دون هذه الأسباب الّتي

٢٤٧

حصلها ، وأن يقطع الله هذه الأسباب عن مسبباتها».

ثمّ يضيف قائلاً : «وليس معنى التوكل ـ كما يظنه الحمقى ـ أنّه ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب ، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة واللحم على الوضم ، فإنّ ذلك جهل محض ، وهو حرام في الشرع ، فإنّ الإنسان مكلف بطلب الرزق بالأسباب الّتي هداه الله إليها من زراعة أو تجارة أو صناعة أو غير ذلك ممّا أحلّه الله» (١).

ونقرأ في (المحجّة البيضاء) في بحث حقيقة التوكّل قوله : «إعلم أنّ التوكّل من أبواب الإيمان وجميع أبواب الايمان لا تنتظم إلّا بعلم وحال وعمل والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل ، ومن عمل هو الثمرة ، وحال هو المراد باسم التوكّل».

ثمّ يشرع بذكر بعض التفاصيل عن عنصر العلم الّذي يمثل الأساس للتوكل ، وبعد بيان مطول يصل إلى ذكر حقيقة التوكل الّتي هي عبارة عن الأساس الّذي يبتني التوكل عليه ، وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلّا الله ، وأن كلّ موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك فالمنفرد بابداعه واختراعه هو الله تعالى لا شريك له ، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره ، وما سواه مسخّرون لا استقلال لهم بتحريك ذرّة في ملكوت السماوات والأرض» (٢).

وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما سُئل : «مَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وجلَّ؟ فَقَال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الْعِلْمُ بِانَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَاسْتِعْمَالُ الْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَاذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ لِاحَدٍ سِوَى اللهِ وَلَمْ يَرْجُ وَلَمْ يَخَفْ سِوَى اللهِ ، وَلَمْ يَطْمَعْ فِي احَدٍ سِوَى اللهِ ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ» (٣).

__________________

١ ـ أخلاق شبّر ، ص ٢٧٥ مع التلخيص.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٢٧٣.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٣٨ ، ح ٢٣.

٢٤٨

ونقرأ في حديث آخر أنّه سُئل الإمام عليه‌السلام عن حقيقة التوكل فقال : «لَا تَخَافُ سِوَاهُ» (١).

ويستفاد من هذه العبارات أنّ روح التوكل هي الانقطاع إلى الله وهجر التعلق بالمخلوقات والأسباب ، وما لم يصل الإنسان إلى هذه المرتبة فهو بعيد عن حقيقة التوكل ، وكذلك يستفاد من الروايات الرفض الأكيد للمفهوم السلبي من التوكل ، أي ترك الاستفادة من الأسباب المادية ، فقد ورد في حديث معروف أنّ رجلاً اعرابياً ترك ناقته وجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ» فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» (٢).

ولهذا السبب ورد في الآيات الكريمة والسنّة النبوية نصوص كثيرة توجب على المؤمنين الأخذ بالأسباب الظاهرية وأنّ ذلك لا يتقاطع مع روح التوكل من قبيل قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ...)(٣).

ومن جهة اخرى نرى أنّ القرآن الكريم يبيّن للمسلمين كيفية صلاة الخوف ويقول : (... وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ...)(٤).

وعلى هذا الأساس نرى أنّ القرآن الكريم يوجب على المسلمين الأخذ بأدوات الحذر والحيطة تجاه العدو حتّى في حال الصلاة ، فكيف الحال في الموارد الاخرى؟

إن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه لم يتحرك في هجرته من مكّة إلى المدينة من موقع اللامبالاة بالخطر وبدون تخطيط مسبق والاكتفاء بقول (تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ) ، بل تحرك على مستوى اغفال العدو بأن طلب من الإمام علي عليه‌السلام من جهة أن ينام على فراشه إلى الصباح ، ومن جهة اخرى خرج من مكّة ليلاً وعلى أتم السريّة والخفاء ، ومن جهة ثالثة لم يتوجه شمالاً صوب المدينة مباشرة ، بل توجه نحو الجنوب قليلاً وبقي في غار ثور لثلاثة أيّام مختفياً عن

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٤٣ ، ح ٤٢.

٢ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٤٢٦ ، كنز العمّال ، ح ٥٦٨٧ و ٥٦٨٩.

٣ ـ سورة الأنفال ، الآية ٦٠.

٤ ـ سورة النساء ، الآية ١٠٢.

٢٤٩

الأنظار ، وعند ما يأست قريش من العثور عليه خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة مستديراً حول مكّة وكان يسير ليلاً وأحياناً يسلك الطرق غير السالكة حتّى وصل إلى المدينة.

إذن ، فروح التوكل الّتي كان يعيشها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع وجوده واحساساته لم تمنعه من الأخذ بالأسباب الظاهرية.

وأساساً فإنّ مشيئة الله تعالى قائمة على أساس أن يأخذ الناس في حركتهم لتحقيق مقاصدهم بالأسباب والوسائل الموجودة كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : «ابَى اللهَ انْ يَجْرِيَ الأَشْيَاءَ الّا بِاسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» (١).

وعليه فإنّ اهمال عالم الأسباب والمسببات ليس فقط لا يعدّ من التوكل ، بل هو في الواقع اهمال للسنن الإلهيّة الموجودة في عالم الخلقة ، وهذا ممّا لا ينسجم مع روح التوكل.

ونختم هذا الكلام برواية تتعلق بزمان النبي موسى عليه‌السلام حيث ورد «أنّ موسى عليه‌السلام اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته فقالوا له : لو تداويت بكذا لبرأت. فقال : لا أتداوى حتّى يعافيني من غير دواء ، فطالت علّته فقالوا له : إن دواء هذه العلّة معروف مجرّب وإنّا نتداوى به فنبرأ. فقال : لا أتداوى ، فدامت علّته فأوحى الله إليه : «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا ابْرَأْتُكَ حَتَّى تَتَدَاوَى بِمَا ذَكَرُوهُ لَكَ» ، فقال لهم : داووني بما ذكرتم ، فداووه فبرأ ، فأوجس في نفسه من ذلك ، فأوحى الله إليه : «ارَدْتَ انْ تَبْطُلَ حِكْمَتِي بَتَوَكُّلِكَ عَلَيَّ ، فَمَنْ اوْدَعَ الْعَقَاقِيرَ مَنَافِعَ الْاشْيَاءَ غَيْرِي» (٢).

هذا الحديث الشريف يوضّح لنا حقيقة التوكل.

وعند ما نرى أنّ إبراهيم الخليل عليه‌السلام لا يمدّ يده إلى الملائكة في اللحظات الحرجة ولا يطلب إليهم انقاذه من نار نمرود فإنّ ذلك لا يتعارض مع مسألة الاستفادة من الأسباب الطبيعية الّتي قرأناها في سيرة النبي موسى عليه‌السلام ، لأن التوسل بالأسباب المادية والطبيعية لم تكن واردة في قصّة إبراهيم عليه‌السلام بل تحكي عن نوع من الاستمداد وطلب النجاة من

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٨٣ ، ح ٧.

٢ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٧ ، ص ٤٣٢.

٢٥٠

الأسباب الغيبية وغير الطبيعية ، ولهذا لم يقبل إبراهيم عليه‌السلام في هذه المرحلة بالذات أن يمد يده إلى ما سوى الله تعالى (فتدبّر).

٢ ـ معطيات التوكل وآثاره الإيجابية

بما أنّ المتوكل على الله في الحقيقة يفوّض أمره وحاله وعمله إلى الله تعالى ، ويعلّق أمله بالقدرة اللامتناهية والذات المقدسة العالمة بكلّ شيء ، ويعتمد على الله الّذي بإمكانه أن يحلّ له جميع المشكلات ويسهل عليه ما عسر من الصعوبات ، فإنّ أوّل أثر إيجابي يخلقه التوكل في واقع الإنسان هو أن يثير في نفسه مسألة الاعتماد على الذات ومقاومة المشكلات والوقوف على قدميه أمام سيل الحوادث الكبيرة في حركة الحياة.

ولو أنّ شخصاً وجد نفسه وحيداً في ميدان القتال مع الأعداء فإنه مهما كان قوياً ومستعداً للقتال فإنه سرعان ما يجد الضعف يدبّ في نفسه ويفقد اعتماده على نفسه ، ولكن إذا أحسّ بأنّ جيشاً قوياً يدعمه من الخلف فإنه سيشعر بالقدرة الفائقة والشجاعة رغم عدم امتلاكه لأدوات القوّة ورغم ضعفه الذاتي.

وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الأحاديث الإسلامية أيضاً ، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «كَيْفَ اخَافُ وَانْتَ امَلِي وَكَيْفَ اضَامُ وَانْتَ مُتَّكَلِي» (١).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ لَا يُغْلَبُ ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِاللهِ لَا يُهْزَمُ» (٢).

أجل فكلّ إنسان يتوكل على الله فإنه يعيش الغنى وعدم الحاجة ويشعر بالعزّة والكرامة كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «انَّ الْغِنَى وَالْعِزَّ يَجُولَانِ فَاذَا ظَفَرَا

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٩١ ، ص ٢٢٩.

٢ ـ ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ٣٦٥٩ ، ح ٢٢٥٤٧.

٢٥١

بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ اوْطَنَا» (١).

ومضافاً إلى ذلك فإنّ التوكل يُبعد عن الإنسان كثير من الصفات الرذيلة من قبيل الحرص والحسد وحبّ الدنيا والبخل وغير ذلك ، لأنّه عند ما يفوض الإنسان أمره إلى الله تعالى ويعلم انه القادر على كلّ شيء والعالم بحاجته وفقره فإنه سوف لا يبقى أثر لهذه الحالات السلبية في واقعه ونفسه.

فعند ما يقرأ المؤمن هذه الآية الشريفة : «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (٢) يجد نفسه غارقاً في أسر التوفيق وغير محتاج إلى أيّ إنسان ، كما ورد في بعض الأدعية قوله : «اللهُمَّ اغْنِنِي بِالْيَقِينِ وَاكْفِنِي بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ» (٣).

ومن جهة رابعة فإنّ التوكل يزرع في قلب الإنسان نور الأمل الّذي بإمكانه أن يمنح الإنسان القدرة والقوّة في حركته ويذهب عنه عنصر التعب المسلط عليه ، ويشعر بالاستقرار والهدوء النفسي في كلّ الأحوال ، ولذلك يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام مختصر وعميق المعنى : «لَيْسَ لِمُتَوَكِّلٍ عَنَاءُ» (٤).

ومن جهة خامسة فإنّ التوكل على الله يزيد من ذكاء الإنسان وقدرة الذهن على التفكير الخلّاب ، ويفتح آفاقه المعرفية ، فيرى الأشياء من موقع الوضوح في الرؤية ، لأنّه ومع غضّ النظر عن البركات المعنوية لهذه الفضيلة الأخلاقية فإنّ التوكل يتسبب في أنّ الإنسان لا يجد في نفسه قلقاً واضطراباً مقابل المشكلات الّتي تفرزها الظروف الصعبة في حركة الواقع ، وبذلك تحفظ له قدرته على التصميم الجدّي والهادف الّذي ينطلق من موقع التفكير المتّزن بحيث يجد طريق الحلّ أمامه بسهولة.

ومن ذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ١٢٦.

٢ ـ سورة الطلاق ، الآية ٣.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٨٧ ، ص ١٤.

٤ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ٧٢ ، ح ٧٤٥١.

٢٥٢

اضَاءَتْ لَهُ الشُّبُهَاتِ وَكَفَى الْمَؤُونَاتِ وَامِنَ التَّبِعَاتِ» (١).

٣ ـ أسباب التوكل

إن التوكل كسائر الفضائل الأخلاقية له أسباب ودوافع عديدة ، ويمكن القول أنّ أهمّ الأسباب والعوامل الّتي تمثل البنى التحتية لصرح التوكل هو الإيمان واليقين بالذات المقدسة والمعرفة بصفات الجمال والجلال الإلهية.

عند ما يقف الإنسان على قدرة الله وعلمه الواسع من موقع الوضوح والإدراك التام وأنّ جميع المخلوقات في عالم الوجود ما هي إلّا أدوات مسخرة للقدرة الإلهية المطلقة ، ويدرك جيداً مفهوم «لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا الله» ، فإنه يرى نفسه وقلبه معلّقاً بهذا الواقع الغيبي ، ويرى عالم الوجود ميدان واسع للألطاف الإلهية العظيمة ، ومن هذا المنطلق يجد في نفسه حالة التوكل على الله تعالى ويفوض أمره إليه ويطرق بابه في الأزمات والشدائد والمشكلات الّتي تواجهه في واقع الحياة ، ويطلب منه أن يعينه في حلّها والتغلب عليها (مع اقتران ذلك بسعيه وعمله).

وبعبارة اخرى إن التوكل هو ثمرة لشجرة (التوحيد الأفعالي) هذه الشجرة المباركة الّتي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربها ، ومن أهم ما يتناول الإنسان منها هو ثمرة التوكل.

وقد أشارت الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية كراراً إلى هذه العبارة الشريفة ، ومن ذلك انها وردت في سبع آيات من القرآن الكريم وهي : «وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

أي إن الإنسان الّذي يعيش الإيمان يجب عليه أن يتوكل على الله فقط ، وهذه العبارة تبين جيداً الرابطة الوثيقة بين الإيمان والتوكل.

ويقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام «التَّوَكُّلُ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ» (٢).

__________________

١ ـ شرح غرر الحكم ، ج ٥ ، ص ٤١٤ ، ح ٨٩٨٥.

٢ ـ غرر الحكم ، ح ٦٩٩.

٢٥٣

ويقول في حديث آخر : «اقْوَى النَّاسُ ايمَاناً اكْثَرُهُمْ تَوَكُّلاً عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ» (١).

وقد ورد في الحديث الشريف عن الأصبغ ابن نباتة عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في ما يقرأه الإنسان في سجوده يقول : «وَاتَوَكَّلُ عَلَيْكَ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْلَمُ انَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ» (٢).

وممّا يجدر ذكره أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الخوف والجبن ليسوا من أهل التوكل ، لأن التوكل على الله يُزيل من روح الإنسان ونفسه ظلمة الخوف والجبن ويمنحه الشجاعة والشهامة في التصدي لمعالجة الظروف الصعبة.

عند ما نتأمل جيداً في هذه المسألة يتضح لنا دور اليقين والإيمان بصورة أكبر في منح الإنسان عنصر التوكل وتطهير نفسه من شوائب الخوف والجبن ، لأنّه كلّما كان إيمان الفرد أقوى وأشد ابتعد عنه الخوف والجبن مسافات أكبر.

ولا ينبغي إهمال هذه الملاحظة ، وهي أنّ مطالعة معطيات التوكل والتدبر في آثاره الإيجابية وقراءة حالات المتوكلين على الله وتاريخ حياتهم بإمكانه أن يورث الإنسان روح التوكل على الله ويقوي في وجوده وقلبه هذه الشجرة الطيبة المثمرة.

٤ ـ درجات التوكل

رأينا ممّا تقدّم من البحوث السابقة السبب الّذي يدفع بعض الناس لأن يعيشوا التوكل في مرتبته الشديدة والبعض الآخر في مرتبة أدنى ، حيث تبين لنا أنّ التوكل هو وليد الإيمان ، وكلّما اشتد إيمان الفرد بالله تعالى وصفاته واسمائه الحسنى فإنّ ذلك من شأنه أن يزيد من نسبة توكله بهذا المقدار ، فالتوكل الّذي كان يعيشه إبراهيم كان وليد إيمانه الراسخ ، وكذلك التوكل العجيب لأمير المؤمنين عليه‌السلام الّذي تجلّى في (ليلة المبيت) (الليلة الّتي نام فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهاجر فيها النبي إلى المدينة). كذلك وليد إيمانه القوي والراسخ ، وهذه الحالات من التوكل نجدها لدى المؤمنين في مراتب متوسطة أو أقل

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ٣١٥٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٨٣ ، ص ٢٢٧.

٢٥٤

من ذلك بنسبة إيمانهم بالله تعالى.

وقد سأل شخص الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن مفهوم هذه الآية : «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»

فقال له الإمام عليه‌السلام : «لِلتّوَكُّلِ دَرَجَاتٌ» ثمّ أضاف : «مِنْهَا انْ تَثِقَ بِهِ فِي امْرِكَ كُلِّهِ فِي مَا فَعَلَ بِكَ فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ رَاضِياً وَتَعْلَمَ انَّهُ لَمْ يَأْلُكَ خَيْراً وَنَظَراً ، وَتَعْلَمَ انَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ لَهُ ، فَتَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِتَفْويِضِ ذَلِكَ الِيْهِ» (١).

وقد ذكر بعض علماء الأخلاق للتوكل ثلاث مراتب :

الاولى : أن يعيش الإنسان الاعتماد والاطمئنان والثقة بالله تعالى كما يطمئن الإنسان ويثق بوكيله عند ما يجده لائقاً ومخلصاً فيفوض اموره إليه (دون أن يفقد اصالته واستقلاله بهذا الاعتماد والثقة) وهذه هي أضعف مراتب التوكل.

الثانية : أن يكون حاله في اعتماده على الله وثقته بنفسه كحال الطفل بالنسبة لُامّه ، فالطفل في بداية الأمر لا يرى شيئاً سوى امّه ولا يعتمد على غيرها إطلاقاً ، فما أن يراها حتّى يتعلق بها ، وعند ما يجد نفسه لوحده فإنه بمجرد أن يصيبه شيء أو حادثة فإنه يطلب امّه فوراً ويبكي أيضاً في طلبها.

ولا شكّ أنّ هذه المرتبة من التوكل أعلى من السابقة ، لأن الإنسان في هذه الحالة يجد نفسه غارقاً في تجليات الحقّ ولا يرى أحداً غيره ولا يطلب من أيّ أحد حلّ مشكلاته إلّا من الله تعالى.

المرتبة الثالثة : وهي بدورها أعلى من المرتبة الثانية في سُلّم الكمال المعنوي ، وهي أن يجد الإنسان نفسه عديم الإرادة والاختيار ، فكلّما أراد منه الله شيئاً ورضي به كان رضاه بذلك الشيء وتعلّقت إرادته بذلك الشيء أيضاً ، وكلّما عَلِم أنّ الله لا يريد ذلك الشيء فإنه لا يُريده أيضاً.

بعض العلماء يرى أن توكل إبراهيم عليه‌السلام كان يحكي عن هذه المرتبة الثالثة ، عند ما

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٣٦.

٢٥٥

وضعوه في المنجنيق وأرادوا قذفه في النار المهيبة ، ولكنه مع ذلك لم يطلب شيئاً من الملائكة على مستوى انقاذه من الهلكة ، وعند ما قالت له الملائكة : هل لك حاجة؟ قال : لي حاجة ولكن ليست إليكم ، وعند ما قيل له : اطلب حاجتك من الله لينقذك من هذه النار المحرقة ، فقال : «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» (١).

وهذه الدرجة العالية من التوكل يندر وجودها بين الناس ، وهي من خواص مقام الصديقين الّذين يعيشون الذوبان والعشق للذات المقدسة والغرق في صفات جماله وجلاله.

٥ ـ طرق تحصيل التوكل

لقد ذكر علماء الأخلاق طرقاً للتوصل إلى حالة التوكل وكلّ منها بمثابة عامل مؤثر لاكتساب هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة ، ومن ذلك : التوجه إلى حالة (التوحيد الأفعالي) وأن يعلم الإنسان يقيناً بأن كلّ شيء في عالم الوجود متصلاً بذاته المقدسة ومرتبط بها وأنّ الله تعالى هو مصدر عالم الوجود والعلّة التامة لوجوده ووجود الكائنات وانه مسبّب الأسباب ، فلا مؤثر في الوجود إلّا بأمره وكلّ المخلوقات إنما تقتات من صفات مائدة فضله ورحمته وكرمه.

فبعد التأمل والتدبر في هذه الامور يعود ينظر إلى حالاته الذاتية ليرى كيف أنّ الله تعالى اخرجه من صقع العدم والظلمة إلى نور الوجود وألبسه رداء الوجود ومنحه كلّ تلك القوى والمواهب الكثيرة المادية والمعنوية ورعاه عند ما كان في رحم امّه في (ظلمات ثلاث) حيث لم تكن تصل إليه يد إنسان ، ومع ذلك فإنه كان يتقلب في نعمة الله وفضله ولم يحتج إلى شيء إلّا وأنعم الله به عليه.

وبعد أن خرج من عالم الرحم إلى فضاء هذه الدنيا فإنّ الله تعالى وهب له كلّما يحتاجه من شرائط الحياة وما يفتقر إليه في بقائه وسلامته ، من لبن الامّ إلى محبتها ورعايتها والسهر

__________________

١ ـ اقتباس من معراج السعادة ، ص ٧٨٦.

٢٥٦

عليه ودفع الخطر عنه وأمثال ذلك.

لقد وهب له الله تعالى معرفة كيف يرتضع من صدر امّه وهداه إلى معرفة الطريق إلى تفعيل عواطفها وتسيير محبتها وحنانها تجاهه بحيث جعلها تخدمه ليل نهار في حين انها لا تجد في نفسها التعب من ذلك بل تحسّ باللّذة وتشعر بالرضا بهذه الخدمة الشاقة والمتواصلة.

وعند ما بلغ به العمر سنّ الرشد تواترت عليه نعم الله ومواهبه المختلفة من السماء والأرض واغرقته في ألطافه وعناياته اللامتناهية.

أجل عند ما يتفكر الإنسان بكلّ هذه الامور يتبين له جيداً أنّ كلّ شيء في عالم الوجود خاضع ومطيع لله تعالى ، وينبغي عليه أن يفوض جميع اموره إلى الذات المقدسة ويتوكل عليه كما هو مضمون الآية الشريفة : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١).

إن الإيمان الراسخ بهذه الحقائق بإمكانه أن يوصل الإنسان إلى مرتبة (التوكل) ويصعد به في هذه الصفة الكمالية إلى مراتب اخرَى ويجعله في زمرة المتوكلين الحقيقيين.

__________________

١ ـ سورة يونس ، الآية ١٠٧.

٢٥٧
٢٥٨

١٣ و ١٤

الشهوة والعفاف

تنويه :

«الشهوة» في اللغة لها مفهوم عام يطلق على جميع اشكال الرغبات النفسانية والميل إلى التمتع واللّذة المادية وأحياناً تطلق كلمة الشهوة على العلاقة الشديدة بأمرٍ من الامور المادية.

إن مفهوم الشهوة مضافاً إلى المفهوم العام يطلق أيضاً على خصوص «الشهوة الجنسية» ، وأما في القرآن الكريم فنلاحظ أنّ مفردة «الشهوة» استعملت بالمعنى العام وبالمعنى الخاص ، وفي هذا البحث فإنّ مقصودنا من هذه الكلمة هو المعنى الخاص لأن تأثيراتها المخربة والمدمرة أكثر من سائر أشكال الرغبات الجسدية الاخرى.

«الشهوة» تقع في مقابل «العِفة» والعفة أيضاً لها مفهوم عام ومفهوم خاصّ ، فاما المفهوم العام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات والميول النفسانية والأفراط في اتباعها ، واما المفهوم الخاصّ فهو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية والتحلل الأخلاقي.

«العفة» تعتبر من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي تساهم في ترشيد وتكامل المجتمعات البشرية بعكس الشهوة الّتي تقع في مقابلها والّتي يوجب اتباعها سقوط الفرد أخلاقياً وانحطاط المجتمع في حركته الحضارية.

٢٥٩

إن التحقيقات التاريخية تشير إلى أنّ المجتمعات الّتي كانت تتمتع بمقدار كافٍ من العفة كانت تتمتع بطاقات وقدرات حضارية وإنسانية وتعيش حالة من التقدّم والتكامل على المستوى الفردي والاجتماعي وتعيش الأمن والهدوء والاستقرار في مستويات عالية ، ولكن وبعكس ذلك الأشخاص أو المجتمعات الّتي كانت غارقة في مستنقع الشهوات فإنّها فقدت طاقاتها البنّاءة وقواها الحيوية وبالتالي أضحت مستسلمة لتداعيات قوى الإنحراف والسقوط الحضاري.

وطبقاً لنظر الحقوقيين فإنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر دعامة رئيسية في التورط في الجريمة والعدوان إلى درجة أنّه قيل : إنّ في كلّ جريمة هناك عنصر «الشهوة الجنسية» ، ولعلّ هذا التعبير مبالغٌ فيه ، ولكن الحقيقة أنّ طغيان «الغريزة الجنسية» وطلب الشهوة يعتبر منشأً ومصدراً للكثير من الجرائم والانحرافات الفردية والاجتماعية ، فقد سفكت بسببها الكثير من الدماء واتلفت الكثير من الأموال والثروات ، وتم تسريب الكثير من الأسرار المهمة للحكومات والدول بواسطة النساء الجاسوسات من خلال استخدامهن لعنصر الجمال والجاذبية الجنسية ، وبالتالي كانت هذه الغريزة هي السبب في التورط في الفضائح الأخلاقية على مستوى الشخصيات والدول.

ومن خلال الآيات والروايات الشريفة ، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة ، وهي أنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر إحدى الوسائل والأدوات المهمة للشيطان ، ونجد في القرآن الكريم اشارات متعددة لمفهوم العفة والشهوة في موارد مختلفة ، وفيما يلي بعض الآيات الكريمة الّتي تستنطق هذا المفهوم القرآني :

١ ـ (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا* إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً)(١)

٢ ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(٢).

__________________

١ ـ سورة مريم ، الآية ٥٩ و ٦٠.

٢ ـ سورة النساء ، الآية ٢٧.

٢٦٠