الأخلاق في القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأخلاق في القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8139-26-1
ISBN الدورة:
964-8139-27-X

الصفحات: ٤٤٨

تلك النعمة؟ وأين العدالة؟ وأين الحكمة؟ ولما ذا لا تعطيني مثله؟ بل قد يتصور نسبة العجز إلى الله تعالى عند ما يعطي غيره ولا يعطيه هو ولهذا يفضل أن تسلب تلك النعمة من ذلك الشخص وتصل إليه.

وعلى هذا الأساس فالحاسد في الحقيقة يعيش في حالة من اهتزاز دعائم الإيمان والتوحيد الأفعالي في واقعه الروحي ، لأن الإنسان المؤمن بأصل التوحيد الأفعالي يعلم جيداً أن تقسيم النعم الإلهية على العباد لا يكون اعتباطياً ، بل وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية ، ويعلم كذلك أنّ الله تعالى يملك القدرة في أن يرزقه أكثر وافضل من ذلك الشخص فيما لو كان يتمتع باللياقة لمثل هذه النعم والمواهب ، إذن عليه أن يسعى لتحصيل القابلية واللياقة لذلك.

ولهذا نقرأ في الحديث القدسي حيث يخاطب الله تعالى نبيه زكريا : «الْحَاسِدُ عَدُوٌّ لنِعْمَتِي ، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي ، غَيْر رَاضٍ لِقِسْمَتِيَ الَّتِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي» (١).

وقد ورد شبيه هذا المضمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : «إنّ الله تعالى أوحى إلى موسى بن عمران : «لَا تَحْسُدَنَّ النَّاسُ عَلَى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي ، وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الَى ذَلِكَ ، وَلَا تَتَّبِعُهُ نَفْسَكَ ، فَانَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي ، ضَادٌّ لِقَسْمِيَ الّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي وَمَنْ يَكُ كَذَلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنّي!» (٢).

والخلاصة أنّ الحسود لا يتمتع في الحقيقة بدعائم إيمانية وعقائدية راسخة وإلّا فإنه يعلم أنّ حسده ما هو إلّا نوع من أنواع الإنحراف عن خط التوحيد وعن الحقّ.

ويقول الشاعر في هذا المجال :

الا قل لمن كان لي حاسداً

أتدري على من اسأت الأدب؟!

اسأت على الله في فعله

إذا أنت لم ترض لي ما وهب! (٣)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٦.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧.

٣ ـ سفينة البحار ، مادّة حسد.

١٢١

٣ ـ علامات الحسد

إنّ هذه الصفة الرذيلة كسائر الصفات الأخلاقية الذميمة الاخرى تارة تكون صريحة واخرى خفية ، ولهذا لا بدّ من تتبّع كلمات علماء الأخلاق وعلماء النفس في استعراضهم لحالات الحسد وعلاماته أو ما استفدناه بالتجربة ، فلا بدّ من معرفة الحسد ووجوده في مراحله الأوّلية قبل أن يتجذّر في باطن الإنسان وتستحكم دعائمه ويصعب علاجه حينئذٍ.

ومن جملة العلائم الّتي ذُكرت للحسد امور :

١ ـ أنّ الحاسد يحزن ويتألم عند ما يسمع بنعمة تصيب الآخر حتّى لو لم تظهر آثار الحزن على محياه.

٢ ـ أحياناً يتجاوز هذه المرحلة وينطلق لسانه بالتعرض للطرف الآخر بذكر معايبه وانتقاده من موقع التنقيص والتسقيط.

٣ ـ وأحياناً يتجاوز هذه المرحلة أيضاً ويتحرّك في تعامله مع الآخر من موقع الخصومة والعداوة.

٤ ـ وأحياناً يكتفي هذا الشخص بإظهار عدم اهتمامه للطرف الآخر أو يقطع رابطته وعلاقته معه ويسعى إلى اجتنابه وعدم رؤيته وأن لا يسمع شيئاً عنه ، فلو اتفق وأن دار الحديث عنه سعى لتغيير موضوع الحديث وقطع على القائل مقولته ، وإذا اجبر يوماً على التحدّث عنه بأمر من الامور فإنه يسعى لإخفاء صفاته البارزة ونقاط قوّته أو اكتفى بالسكوت.

وكلّ واحدة من هذه الامور تدلّ على وجود حالة الحسد الخبيثة.

وفي الأحاديث الشريفة الواردة ، من مصادر أهل بيت العصمة والطهارة اشارات واضحة على هذا المعنى ، ومن ذلك ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله «يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ انَّهُ يَغْتَمُّ فِي وَقْتِ سُرُورِكَ» (١).

__________________

١ ـ سفينة البحار ، مادّة حسد (ويحتمل أن يكون المراد أنّه يكفي في عقوبة الحاسد أنّه يغتم في حين أنك مسرور والاحتمال الأوّل كان حزن الحاسد مجرد علامة على وجود الحسد في نفسه).

١٢٢

وبعكس ذلك عند ما يواجه الطرف الآخر ضرراً أو يقع في مشكلة فإنّ الشخص الحسود سيفرح لذلك كما ورد في الآية ٥٠ من سورة التوبة (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ).

وهناك آيات متعددة اخرى تشير إلى هذا التصرّف السلبي والسلوك الذميم من قِبل الكفّار الّذين يواجهون ما أنعم الله تعالى على المؤمنين من موقع الحسد والكراهية.

وقد وردت في الأحاديث الشريفة اشارات مكررة إلى هذه المسألة وأنّ الحاسد يفرح من زوال النعمة على المحسود ويغتم لما يصيبه من النعم ، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الْحَاسِدُ يَفْرَحُ بِالشُّرُورِ وَيَغْتَمُّ بِالسُّرُورِ» (١).

٤ ـ النتائج السلبية للحسد

إن الحسد يتميز بنتائج سلبية كثيرة على المستوى الفردي والاجتماعي والمادي والمعنوي في حركة حياة الإنسان ، بحيث يقلّ نظيره من الصفات الأخلاقية السلبية الّتي تترتب عليها مثل هذه النتائج السلبية والأضرار الكثيرة ، وأهمها :

الأوّل : إن الحسود يعيش الغم والهم دائماً ، وهذا الأمر يتسبب في أن يبتلي بالأمراض الجسمية والنفسية. فكلّما ينال الطرف الآخر من التوفيق والنعمة أكثر فإنّ الحاسد يتألم لذلك أكثر حتّى قد يناله الأرق الشديد ويسلبه ذلك هدوئه واستقراره وبالتالي تضعف بنيته ويغدو نحيفاً مريضاً ، في حين انه يتمتع بامكانات مادية جيّدة ولو انه أبعد هذه الصفة الرذيلة عن نفسه لأمكنه أن يعيش عيشة طيبّة ومرفّهة.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذه النكتة بالذات حيث حذّر الأئمّة المعصومين من هذه الحالة ، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله «اسْوَأُ النَّاسِ عَيْشاً الْحَسُود» (٢).

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ١٤٧٤.

٢ ـ تصنيف غرر الحكم ، ص ٣٠٠ و ٣٠١ ؛ شرح غرر الحكم ، ح ٢٩٣١.

١٢٣

ونفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه‌السلام حيث قال : «لَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ» (١).

ونجد هذا التعبير أيضاً في حديث آخر عنه عليه‌السلام «الْحَسَدُ شَرُّ الْامْرَاض» (٢).

وجاء في تعبير آخر : «الْعَجَبُ لِغفلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْاجْسَادِ» (٣).

ونختم هذا الكلام بحديث آخر عن هذا الإمام رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب حيث قال «الْحَسَدُ لَا يَجْلِبُ الّا مَضَرَّةً وَغَيْظاً ، يُوهِنُ قَلْبَكَ ، وَيَمْرُضُ جِسْمَكَ» (٤).

والآخر : أنّ الأضرار المعنوية للحسد أكثر بمراتب من الأضرار المادية والبدنية للإنسان ، لأن الحسد يأكل دعائم الإيمان ويمزق علاقة الإنسان مع ربّه بحيث يجعل الإنسان يُسيء الظنّ بالله تعالى وحكمته ، لأن الحسود في أعماق قلبه يعترض على الله تعالى على ما وهب للآخرين من نعمه ورزقهم من فضله.

ونقرأ في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «لَا تُحَاسِدُوا فَإنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْايمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» (٥).

ونفس هذا المعنى ورد عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً وعن حفيده الإمام الباقر عليه‌السلام كذلك.

وقد أورد المرحوم الكليني في الكافي حديثاً آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث يقول : «آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَالْعُجْبُ وَالْفَخْرُ» (٦).

وورد عن هذا الإمام أيضاً قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبِطُ وَلَا يَحْسُدُ ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَلَا يَغْبِطُ» (٧). ويُستفاد جيداً من هذا الحديث أنّ الحسد يتقاطع مع روح الإيمان ويتناغم مع

__________________

١ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٥٦.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ص ٣٣١.

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٥٦.

٤ ـ المصدر السابق.

٥ ـ تصنيف غرر الحكم ، ص ٣٠٠ ؛ شرح غرر الحكم ، ح ١٠٣٧٦.

٦ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٠٧.

٧ ـ المصدر السابق.

١٢٤

النفاق في واقع الإنسان.

وقد سبق وإن ذكرنا في الأبحاث الماضية الحديث القدسي الشريف حيث خاطب الله تعالى نبيه زكريا وقال : «الحاسد عدوّ لنعمتي ، متسخّط لقضائي ، غير راضٍ لقسمتي الّتي قسمت بين عبادي».

الثالث : من الآثار السلبيّة والنتائج المضرة للحسد هو انه يسدلّ على عقل الإنسان وبصيرته حجاباً سميكاً يمنعه من إدراك حقائق الامور ومعرفة الواقعيات ، لأن الحسود لا يستطيع أن يرى نقاط القوّة في المحسود حتّى لو كان استاذاً كبيراً ومصلحاً اجتماعياً جليلاً بل انه يبحث دائماً عن نقاط ضعفه وعيوبه ، وأحياناً يرى نقاط قوّته بمنظار نقاط ضعفه ويشاهد ايجابياته من موقع النظر السلبي ، ولهذا السبب قال أمير المؤمنين عليه‌السلام «الْحَسَدُ حَبْسُ الرُّوحِ» (١) فإنّ الإنسان يحبس روحه في حالة الحسد عن إدراك حقائق الامور.

الرابع : من أضرار الحسد هو انه يسلب الإنسان اصدقائه ورفاقه ، لأن كلّ فرد من الأفراد يتمتع بنعمه أو نعم خاصّة قد لا تكون لدى الآخرين ، فلو عاش الإنسان هذه الحالة الرذيلة وهي الحسد بالنسبة إلى ما يراه من نعمة على الآخرين فانه سيحسد جميع الناس ، وهذا الأمر يتسبّب في أن يبتعد الناس عنه ويعمل على تمزيق روابط المحبة والمودة معهم.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الْحَسُودُ لَا خُلَّةَ لَهُ» (٢).

الخامس : من الآثار السيئة للحسد هي انّ الحسد يمنع الإنسان من الوصول إلى المقامات العالية والمراتب السامية في حركة التكامل الأخلاقي والمعنوي والاجتماعي ، بحيث إنّ الشخص الحسود لا يستطيع أبداً أن يحصل على منصب خطير من المناصب والمقامات الاجتماعية ، لأنّه بحسده هذا سيعمل على تفريق الآخرين وإبعادهم من حوله ، والشخص الّذي تقوى فيه القوّة الدافعة لا ينال مرتبة عالية في الدائرة الاجتماعية.

__________________

١ ـ شرح غرر الحكم ، ح ٣٧١.

٢ ـ شرح غرر الحكم ، ح ٨٨٥.

١٢٥

والشاهد على ذلك هو قول أمير المؤمنين عليه‌السلام «الْحَسُودُ لَا يَسُودُ» (١).

السادس : هو أنّ الحسد يؤدي إلى تلوث صاحبه بأنواع الذنوب الاخرى ، لأن الحسود ولغرض الوصول إلى مقصده وهدفه أي إزالة النعمة عن الآخرين يستخدم كلّ الوسائل ويرتكب أنواع الظلم والعدوان من الغيبة والتهمة والكذب والنميمة وغيرها لتسقيط الطرف الآخر ، وبذلك يفتح الحسد له أبواب السلوكيات الخاطئة والتحرّك في خط الظلم والباطل.

وهنا يوجد شاهد آخر على هذا الكلام وهو ما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «الْحَسُودُ كَثِيرُ الحَسَرَاتِ ، وَمُتَضَاعَفُ السَيِّئَاتِ» (٢).

السابع : إن من شقاء الحسود انه يضر بنفسه أكثر ممّا يضر الطرف الآخر لأنّه يعيش حالة من العذاب النفسي والروحي في حياته الدنيا بغض النظر عمّا يترتب على ذلك من العذاب الأخروي يوم القيامة.

وقد أشارت الأحاديث الإسلامية إلى هذه الحقيقة ، فعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «الْحَاسِدُ مُضِرٌّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْ يَضُرَّ بِالْمحْسُودِ ، كَابْلِيسِ اورِثَ بِحَسَدِهِ بِنَفْسِهِ اللَّعْنَةُ ، وَلِآدَمَ الْاجْتِبَاءُ وَالْهُدَى» (٣).

٥ ـ مراتب الحسد :

لقد ذكر علماء الأخلاق للحسد مراتب ومراحل مختلفة ، ومن ذلك أنّ الحسد يمرّ بمرحلتين متميّزتين تماماً :

١ ـ وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يسيطر عليه الإنسان فلا يظهر في كلماته وأفعاله وسلوكياته.

٢ ـ وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يخرج عن سيطرة الإنسان ويظهر في أقواله

__________________

١ ـ غرر الحكم ، ح ١٠١٧.

٢ ـ تصنيف غرر الحكم ، ص ٣٠١ ، شرح غرر الحكم ، ح ١٥٢٠

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٢٥٥.

١٢٦

وأفعاله من موقع السعي للانتقام من المحسود وإزالة النعمة الّتي عليه.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ جميع الناس (أو غالبيتهم) يعيشون الحسد في نفوسهم ، ولكن ما لم يظهر على أقوالهم وأفعالهم فإنه لا يترتب على ذلك إثم ومعصية.

ومن ذلك ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «ثَلَاثٌ لَا يَنْجُو مِنْهُنَّ احَدٌ : الظَّنُّ ، وَالطِّيَرَةُ ، وَالْحَسَدُ ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ ، اذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّق ، وَاذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ ، وَاذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» (١).

وورد في حديث آخر قوله : «قَلّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُنَّ» (٢).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ هذا الحكم ليس عاماً ولا يشمل الأنبياء والأولياء ، لأنهم ما لم يطهر ظاهرهم وباطنهم من الحسد فإنّهم لا يصلوا إلى المقامات السامية ولا يصعدون في معارج الكمالات المعنوية ، ولذلك ورد في تفسير الحديث الشريف الّذي يقول (إنّ الحسد لا يخلو منه أيّ إنسان حتّى الأنبياء) فقد فُسّر بعنوان (محسود) أيّ انّ الحسّاد يحسدون كلّ شخص حتّى الأنبياء الإلهيين فيحسدونهم على مقامهم العالي ومرتبتهم المعنوية السامية لدى الله تعالى.

وعلى أيّة حال فلا شكّ في أنّ صفة الحسد هي من الرذائل الأخلاقية سواءً وصلت إلى مرحلة الظهور والبروز أم لا ، والكلام هنا في انه هل يترتب على الحسد إثم وعقوبة فيما لو لم يصل إلى مرحلة الظهور والبروز أم لا؟ والظاهر انه لا دليل على كون هذه الحالة من الإثم والذنب رغم انها من الصفات الذميمة.

ولكن المرحوم النراقي في (معراج السعادة) يقول : (إذا دفع الحسد صاحبه لأن يرتكب بعض الأفعال والأقوال الذميمة من قبيل الغيبة والشتم للطرف الآخر فإنه يرتكب بذلك إثماً ، وكذلك إذا امتنع من إظهار مثل هذه السلوكيات وتجنّب الأفعال الّتي تدلّ على الحسد ولكنه كان طالباً في باطنه زوال نعمة المحسود وراغباً في ذلك ولم يشعر بالامتعاظ من

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٥.

٢ ـ المصدر السابق.

١٢٧

وجود هذه الحالة في نفسه ولم يغضب عليها فإنه مذنبٌ أيضاً) (١).

ولكن الظاهر انه لا دليل على حرمة القسم الثاني من حالات الحسد هذه.

وعليه فإنّ مرحلة عدم الظهور والبروز بدورها لها حالتين : الاولى الحالة الّتي لا يشعر الشخص فيها بالتأثر والانزعاج من وجود هذه الحالة في نفسه ولا يسعى لرفعها بل ينسجم معها أيضاً ، والثانية : أن لا يكون كذلك. ولا يبعدُ أن يأثم الشخص في الحالة الاولى رغم عدم وجود الدليل القاطع على ذلك.

٦ ـ علاج الحسد :

رأينا في الأبحاث السابقة أنّ (الحسد) عبارة عن مرض أخلاقي خطير بحيث انه لو لم يتحرّك الإنسان لعلاجه فإنه سيتلف ويدمّر دينه ودنياه.

وعلاج هذا المرض الأخلاقي كسائر علاج الصفات الرذيلة الاخرى يقوم على دعامتين :

١ ـ الطريق العلمي.

٢ ـ الطريق العملي.

امّا بالنسبة إلى الطريق (العلمي) فينبغي للشخص الحسود أن يتأمل جيداً في أمرين : أحدهما النتائج السلبيّة والعواقب الضارة للحسد على المستوى الروحي والبدني ، والآخر يتأمل في جذور ودوافع حصول هذه الحالة في النفس.

إن على الحاسد أن يرى نفسه كالشخص المعتاد على المخدرات والمدمن على الهيروئين ، فعليه أن يتدبر في أمر هؤلاء المدمنين وكيف أنّهم فقدوا سلامتهم البدنية والنفسية وفقدوا حيثيّتهم الاجتماعية واسرتهم وابناءهم ، وكيف أنّهم يعيشون في أسوء الحالات النفسية ويموتون في سن الشباب ولا يحزن عليهم أيّ شخص لموتهم بل إنّ موتهم يتسبب في سعادة أسرتهم واصدقائهم ، فكذلك يجب على الحسود أن يعلم انّ هذا

__________________

١ ـ معراج السعادة ، ص ٤٢٩.

١٢٨

المرض الأخلاقي سوف يعمل على إهلاكه ، فيأكل معنوياته ويُحرق نقاط قوته وصفاته الايجابية ويسلب منه راحته ونومه ويهيمن بسحابة من الحزن على قلبه وروحه ، بل سيؤدي به إلى ما هو اشنع من ذلك حيث يكون طريد رحمة الله ويكون مصيره مصير إبليس وقابيل ، وبالتالي مع كلّ ذلك فسوف لن يصل إلى هدفه ومقصوده وهو زوال النعمة عن المحسود.

ولا شكّ أنّ التفكّر بهذه الآثار والعواقب السلبيّة ومشاهدة الحوادث ذات العبرة وقراءة الأحاديث الشريفة في هذا الباب ، والّتي مرّت الإشارة إليها آنفاً ، سيكون له تأثير ايجابي كبير في علاج هذا المرض الأخلاقي.

إن (الحسود) يجب أن يعلم أنّه إذا كانت المواد المخدرة كالهيروئين تهدد سلامة الروح والجسم للشخص وتُسرع في أجله ، فهو أيضاً يمرّ في هذه الحالة الذميمة ويورثه الحسد الأمراض الجسمية والنفسية ويخسر بذلك دنياه وآخرته ، لانه يعترض عملاً على حكمة الله تعالى ، وبذلك يسقط في وادي الشرك والكفر ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى عليه أن يتفكر في بواعث الحسد وجذوره ويسعى إلى قطعها وإزالتها ، فلو كان من ذلك اختلاطه ومجالسته مع رفاق السوء وتأثّره بوساوسهم ، فعليه أن يقطع الإرتباط معهم ، وإذا كان الباعث لذلك حالة البخل وضيق النظر فعليه أن يسعى لعلاج هذه الحالة في نفسه ، وإذا كان السبب هو ضعف الإيمان بالله وعدم معرفته بالتوحيد الأفعالي فعليه أن يتحرّك من موقع تقوية مباني الإيمان وتعميق أُسس التوحيد في قلبه ، وإذا كان الباعث لذلك انه يعيش الجهل بطاقاته وامكاناته الذاتية وبالتالي فإنه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة الّتي من شأنها أن تفضي به إلى الحسد فعليه أن يسعى لعلاج ذلك في ظلّ التوكل على الله تعالى والاعتماد على النفس والقضاء على عقدة الحقارة هذه ، وبذلك سيتحرّك بعيداً عن حالة الحسد تجاه الآخرين.

والأفضل أن يسجّل الحسود خلاصة هذه الامور على صفحة أو صفحات ويحاول قراءتها كلّ يوم مرّة واحدة ، بل يقرأها بصوت عالٍ عبارةً عبارة ويتفكّر في كلّ عبارة منها

١٢٩

ويمعن النظر خاصّة في الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام في هذا الباب والّتي سبقت الإشارة إلى جملة منها ، ولا شكّ أنّ كلّ إنسان يعيش حالة الحسد في نفسه إذا تابع هذا السلوك والبرنامج بشكل جدّي فإنه سيرى آثاره الإيجابية في مدّة قصيرة ، وستتخلص روحه وجسمه من شر الحسد تدريجياً ، وتنفتح أمامه افق السلامة والسعادة في حركة الحياة والواقع.

وينبغي على الحسود خاصّة التفكير في هذه النقطة بالذات ، وهي أنّه لو صرف وقته وطاقاته الّتي يهدرها بالحسد في ترميم شخصيته وتقوية بُنيته النفسية والاهتمام بموفقّيته وتكامله فإنه من المحتمل جدّاً أن يتساوى أو يتفوق على المحسود وينال بذلك الراحة والرضا.

وبتعبير آخر : يجب عليه أن يستبدل دوافع الحسد بدوافع الغبطة ويعمل على تبديل القوى المخربة إلى قوى بنّاءة في حركة الذات والشخصية.

وقد ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : «احْتَرِسُوا مِنْ سُورَةِ البُخْل وَالْحِقْدِ وَالْغَضَبِ وَالْحَسَد وَاعِدُّوا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةً تُجَاهِدُونَ بِهَا مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَاقِبَةِ وَمَنْعِ الرَّذِيلَةِ وَطَلَبِ الْفَضِيلَةِ» (١).

أمّا من الناحية (العملية) فتعلم أنّ تكرار العمل المعيّن يؤدي تدريجياً إلى صيرورته عادة في النفس ، والاستمرار على العادة يبدّلها إلى ملكة وصفة باطنية ، فلو أنّ الحسود وبدلاً من سعيه إلى تسقيط اعتبار وشخصية الغير تحرّك على مستوى تقوية شخصيته هو ، وبدلاً من التحدّث بالغيبة وذم الطرف الآخر يسعى إلى ذكر صفاته الإيجابية ومدحه أمام الآخرين ، وبدلاً من السعي في تخريب حياة الطرف الآخر المادية يسعى إلى بذل المعونة والمساعدة له ويذكره بالخير ما أمكنه ذلك ، أو يتحرّك من موقع المحبة والمودة تجاه ذلك الشخص ويريد له الخير والسعادة ويدعو له بالموفقية ويوصي الآخرين بذلك أيضاً ، فمن المعلوم أنّ تكرار مثل هذه الأعمال والسلوكيات بإمكانه إزالة آثار الحسد من واقع النفس

__________________

١ ـ تصنيف غرر الحكم ، ص ٣٠٠ ، ح ٦٨٠٦.

١٣٠

والروح وتثبيت النقطه المقابلة لها وهي حالة (حبّ الخير للآخرين) فيعيش الإنسان في أجواء النور والصفاء والمعنويات الإنسانية.

علماء الأخلاق يوصون الشخص الجبان بأن يتحرّك لإزالة هذه الرذيلة الأخلاقية من نفسه من موقع التواجد في ميدان الخطر ليكتسب بذلك حالة الشجاعة ويحمّل نفسه هذه الصفه الإيجابية حتّى ترتفع من نفسه حالة الخوف والجُبن وتكون الشجاعة بصفة عادة وحالة في نفسه وبالتالي تكون ملكة.

فكذلك الحسود يجب عليه الاستفادة لعلاج هذه الحالة من ضدّها ، فكلّ حالة معينة تُعالَج بضدّها.

وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله «اذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» (١).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «انَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ» (٢).

ومن جملة الامور المؤثرة كثيراً في علاج الحسد هو أن يرضى العبد برضى الله تعالى ويسلّم لمشيئته ويقنع من حياته بما أنعم الله عليه ، فقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله «مَنْ رَضِىَ بِحَالِهِ لَمْ يَعْتَوِرَهُ الْحَسَد» (٣).

٧ ـ النُصح وحبّ الخير للآخرين

النقطة المقابلة للحسد هي (النصح وحبّ الخير للآخرين) بمعنى أنّ الإنسان ليس فقط لا يحبّ زوال النعمة من الآخر بل يطلب بقائها وزيادته عليه وعلى جميع الناس الأخيار والصالحين ، أو بتعبير آخر : إنّ ما يحبّه لنفسه ويطلبه لذاته من السعادة والخير المعنوي والمادي يريده ويحبّه للآخرين ، وهذه الصفة والحالة النفسية تعد من الفضائل الأخلاقية

__________________

١ ـ تحف العقول ، ص ٥٠.

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٥٥ ، ص ٣٢٣ ، ح ١٢ ؛ الكافي ، ج ٨ ، ص ١٠٨.

٣ ـ تصنيف غرر الحكم ، ص ٣٠٠ ، ح ٦٨٠٨.

١٣١

المعروفة والّتي وردت الإشارة إليها في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية.

إنّ الأنبياء كانوا ناصحين مشفقين على أقوامهم وكانوا يحبّون الخير لهم ، وهذه الحالة تعتبر من صفاتهم البارزة كما يقول القرآن الكريم على لسان (نوح) شيخ الأنبياء : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١).

فهنا نرى انه بعد مسألة إبلاغ الرسالة تتحدّث الآية الكريمة عن النُصح وحبّ الخير للُامّة وهي النقطة المقابلة للحسد والبخل والخيانة.

ونفس هذا المعنى مع تفاوت يسير ورد عن النبي هود عليه‌السلام حيث يقول : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ)(٢).

وهذا المعنى ورد أيضاً عن النبي صالح (الأعراف الآية ٧٩) والنبي شعيب (الأعراف الآية ٩٣).

ومن البديهي أنّ حبّ الخير للآخرين لا ينحصر بهؤلاء الأنبياء الأربعة ، بل يشمل جميع الأنبياء الإلهيين والأولياء المعصومين الّذين كانوا يتّصفون بهذه الصفة الإيجابية ، وكذلك يجب على أتباعهم أيضاً أن يكونوا من محبي الخير للآخرين ويطهرون أنفسهم من الحسد والبخل.

وفي حديث شريف عميق المضمون ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال عن رجل من الأنصار انه من أهل الجنّة ، وعند ما تحقّقوا في سيرته وعمله فلم يروا انه كان كثير العبادة مثلاً ، بل كان حينما يأخذ مضجعه في منامه يذكر الله تعالى ثمّ ينام حتّى صلاة الصبح ، فأثار فيهم حاله هذا التساؤل والاستغراب ، فسألوا منه عن السبب في أنّه صار من أهل الجنّة فقال «مَا هُوَ الّا مَا تَرَوْنَ غَيْرَ انِّي لَا اجِدُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشّاً وَلَا حَسَداً عَلَى خَيْرٍ اعْطَاهُ اللهُ ايَّاهُ» (٣).

__________________

١ ـ سورة الأعراف ، الآية ٦٢.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية ٦٨.

٣ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٣٢٥.

١٣٢

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ان اعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة امشاهم في ارضه بالنصيحة لخلقه (١).

وفي رواية اخرى وردت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ذكر فيها المعيار لحبّ الخير للناس وأنّه أن يرى منافع الآخرين كمنافع نفسه ويدافع عنها كما يدافع عن منافعه حيث قال «لَيَنْصَحُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ اخَاهُ كَنَصِيحَتِهِ لِنَفْسِهِ» (٢).

ويقول الراغب في كتابه (مفردات القرآن) : النصح ، تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه ، وهو من قولهم نصحت له الودّ ، أي أخلصته ، وناصح العسل أي خالصه أو من قولهم : نصحت الجلد خطته ، والناصح يقال للخياط. (لأنّه يصلح القماش ويخيطه) وبما أنّ الشخص الخيّر يسعى إلى اصلاح عمل الآخرين من موقع الاخلاص والخلوص استعملت في حقّه هذه المفردة ، وأساساً فإنّ كلّ شيء خالص من الشوائب سواءاً في الامور المادية أو المعنوية ، في الكلام أو العمل ، يقال له : ناصح.

وعلى هذا الأساس فعند ما يرد بحث النصيحة في أجواء البحوث الأخلاقية فإنّ المقصود منه ترك أيّ شكل من أشكال الحسد والحقد والبخل والخيانة.

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ص ٢٨ ، ح ٤ و ٥.

٢ ـ المصدر السابق.

١٣٣
١٣٤

٧

الغرور والعُجُب

تنويه :

إن أحد الرذائل الأخلاقية المشهورة ليس عند علماء الأخلاق فحسب بل عند سائر أفراد الناس هي (الغرور) ، وهذه الصفة الرذيلة تتسبّب في انفصام الشخصية والجهل بالنسبة إلى الذات والآخرين والغفلة عن مكانته الفردية والاجتماعية والتخبّط في دوّامة الجهل والعجب وعدم الإطلاع على حقائق الامور.

إنّ الغرور يفضي بالإنسان أن يبتعد عن الله تعالى ويسير في خطّ الشيطان ، ويقلب الواقعيات في نظره ، وهذا الأمر يتسبب في اضرار كثيرة على المستوى المادي والمعنوي للإنسان.

الشخص المغرور يعيش في المجتمع مكروهاً من الآخرين حيث يتعامل معهم من موقع التوقعات الكثيرة الّتي تُفضي به إلى الإنزواء والعزلة الإجتماعية.

والغرور يُعتبر من الدوافع والمصادر لصفات رذيلة اخرى من قبيل التكبّر والانانية والعُجب والحقد والحسد بالنسبة إلى الآخرين والتعامل معهم من موقع التحقير والازدراء.

ونعلم أنّ أحد العوامل الأصلية لطرد الشيطان الرجيم من مرتبة القرب الإلهي هو (الغرور) الّذي كان يعيشه الشيطان ، وأحد الأسباب في عدم انقياد الكثير من الأقوام السالفة

١٣٥

لدعوات الأنبياء السماوية وجود هذه الصفة الذميمة في واقعهم وأنفسهم.

إن الفراعنة والنماردة ابتعدوا عن الله تعالى بسبب غرورهم وبالتالي أصبح مصيرهم الأسود عِبرة للبشرية.

(الغرور) أحياناً يتجلّى في فرد معين ، واخرى في قوم ومجتمع أو عِرقٍ بشري ، ولا شكّ أنّ القِسم الثاني اخطر على واقع الإنسان والمجتمع لأنّه قد يدمّر بلد كامل أو يُحرق العالم بناره ، كما حصل في الحرب العالمية الاولى والثانية حيث كان الغرور والتعصّب العِرقي للألمان على الأقل أحد العوامل المهمّة لنشوب هذين الحربين

وبهذه الإشارة نستعرض أوّلاً تفسير مفردة (الغرور) ومفهومها في منابع اللغة وكتب علماء الأخلاق ، ثمّ نعود إلى الآيات والروايات الشريفة لإستجلاء أسباب الغرور وآثاره وافرازاته وطرق علاجه والوقاية منه.

١ ـ مفهوم الغرور

إن هذه المفردة وردت بشكل واسع في كلمات العرب ولا سيّما في الآيات القرآنية الكريمة والروايات الإسلامية.

يقول الراغب في مفرداته عن هذه الكلمة : فالغرور (بفتح الغين ليتضمن معنىً وصفياً) كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان ، وقد فسّر بالشيطان إذ هو أخبث الغارّين.

وفي (صحاح اللغة) عن كلمة (غُرور) انها بمعنى الامور الّتي تجعل الإنسان غافلاً (سواءاً المال والثروة أو الجاه والمقام أو العلم والمعرفة).

ويقول بعض أرباب اللغة كما يذكر الطريحي في (مجمع البحرين) : إن الغُرور هو ما كان جذاباً وجميلاً في ظاهره ولكنه مظلم ومجهول في باطنه.

وجاء في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) بعد نقل كلمات أرباب اللغة : أنّ الجذر الأصلي لهذه المفردة هي بمعنى اصول الغفلة بسبب التأثر بشيء آخر لدى الإنسان ومن لوازمها وآثارها الجهل والغفلة والنقصان والانخداع و...

١٣٦

وجاء في (المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء) الّذي يُعتبر من أفضل كتب الأخلاق وعبارة عن تهذيب لكتاب (إحياء العلوم) للغزالي : «فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة فاسدة فهو مغرور ، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه ، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم» (١)

جاء في (التفسير الأمثل) في معنى هذه المفردة أنّ (غَرور) على وزن (جسور) ، صيغة مبالغة بمعنى الموجود الشديد الخُداع والحيلة والمكر ولذلك سُمّي الشيطان ب(غَرور) حيث يوسوس للإنسان ويخدعه ويستغفله ، وفي الحقيقة هو من قبيل بيان المصداق الواضح ، وإلّا فإنّ كلّ إنسان أو كتاب يمكن أن يقع في مقام الوسوسة وكلّ موجود إذا عمل على إضلال الإنسان فإنه يدخل في مصاديق كلمة (غَرور).

الغَرور في القرآن الكريم :

لقد وردت هذه المفردة في القرآن الكريم مرّات عديدة ، وكذلك ورد مضمونها في آيات اخرى أيضاً :

١ ـ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٢).

٢ ـ (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ .... قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»)(٣).

٣ ـ (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٩٣.

(٢) المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٩٣.

(٣) سورة الأعراف ، الآية ١٢.

(٤) سورة هود ، الآية ٢٧ ـ ٣٢.

١٣٧

لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(١).

٤ ـ (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)(٢).

٥ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٣).

٦ ـ (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٤).

٧ ـ (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٥).

٨ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٦).

٩ ـ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)(٧).

١٠ ـ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). (٨)

١١ ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ...)(٩).

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٩١.

(٢) سورة الزخرف ، الآية ٥١ و ٥٢.

(٣) سورة آل عمران ، الآية ٢٤.

(٤) سورة الأعراف ، الآية ٧٧.

(٥) سورة الحديد ، الآية ١٤.

(٦) سورة المنافقون ، الآية ٧ و ٨.

(٧) سورة الفجر ، الآية ١٥.

(٨) سورة القمر ، الآية ٤٤ و ٤٥.

(٩) سورة الأنعام ، الآية ٧٠.

١٣٨

١٢ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ .... إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(١).

تفسير واستنتاج :

إن أوّل شرارة للغرور كما أشرنا إلى ذلك سابقاً كانت في بداية خلق الإنسان وتجلّت في إبليس كما تتحدّث عن هذه الواقعة «الآية الاولى» من الآيات مورد البحث عند ما سَأل الله تعالى إبليس عن السبب في امتناعه عن السجود لآدم (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ...)(٢).

قال الشيطان الّذي تملّكه الغرور والعُجب (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٣).

أجل فإنّ حجاب الغرور والعجب قد أسدل على عين بصيرته حجاباً سميكاً إلى درجة أنّه لم يسوّغ له سلوك طريق السعادة وامتثال الأمر الإلهي الصريح ، فسقط في هُوَّة العصيان والتمرد وأصبح مطروداً وملعوناً إلى الأبد ، وعلى هذا يمكن القول انه كما أنّ قائد المستكبرين في العالم هو إبليس ، فكذلك قائد المغرورين في العالم إبليس أيضاً ، وهذان المفهومان أيّ الغرور والاستكبار بمثابة اللازم والملزوم.

إن إبليس وبسبب الغرور والاستكبار لم يستطع أن يرى حقيقة كرامة التراب على النار وأفضلية التوبة على العناد والإصرار على الذنب ، فكان من ذلك أن سلك في خط الضلال والتيْه وبقي كذلك إلى الأبد.

«الآية الثانية» تتحدّث عن قصة نوح أيْ أوّل أنبياء اولو العزم وتوضح جيداً أنّ أحد العوامل المهمّة في عناد قومه ووقوفهم ضد دعوته وارشاداته المخلصة من موقع الغرور هو

__________________

(١) سورة لقمان ، الآية ٣٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٢.

(٣) سورة الأعراف ، الآية ١٢.

١٣٩

هذه الصفة الرذيلة (الغرور) حيث تقول الآية (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ)(١).

وبعد عدّة آيات يستعرض القرآن الكريم حالة الغرور والعُجب أكثر لدى هؤلاء الضالين حيث قالوا لنوح بصراحة (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢).

عادّة يتخذ الإنسان طريقاً يُبعده عن الأضرار المحتملة بحكم العقل ويتجنب عن سلوك الطريق الّذي يُحتمل أن يواجه الخطر فيه ، ولكن هؤلاء القوم المغرورين وبالرغم من مشاهدتهم لآثار حقّانية دعوة هذا النبي الكريم من خلال معجزاته ووجود احتمال نزول العذاب الإلهي فإنّهم لم يكتفوا بعدم الإهتمام والاعتناء بدعوته بل تحرّكوا مع دعوة نوح من موقع طلبهم لنزول العذاب الإلهي.

أجل فإنّ ذلك الغرور الّذي صار حجاباً على بصيرة الشيطان قد أصبح حجاباً لقوم نوح عن رؤية الحقيقة ، وبالتالي ذاقوا العذاب الإلهي الشديد وهلكوا عن آخرهم ، وهذا هو مصير المغرورين على طول التاريخ.

وتأتي «الآية الثالثة» لتتحدّث عن قوم شعيب الّذين جاءوا بعد قوم نوح وتورطوا في الغرور والعُجب أيضاً فكان مصيرهم هو نفس ذلك المصير المؤلم حيث تقول الآية (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ)(٣).

هؤلاء في الحقيقة لن يجدوا جواباً منطقياً أمام البراهين العقلية والدعوة السماوية الحكيمة والمعجزات الإلهية الّتي جاء بها شعيب ، ولكنّ غرورهم وأنفتهم لم تبح لهم

__________________

١ ـ سورة هود ، الآية ٢٧.

٢ ـ سورة هود ، الآية ٣٢.

٣ ـ سورة هود ، الآية ٩١.

١٤٠